العلاقات النصيّة في القرآن
الصلة والتماسك والبنية
سلوى العوا

كتاب العلاقات النصيّة في القرآن، هو رسالة دكتوراه حاولَت فيها سلوى العوا تطبيق نتائج نظريات الصلة والتماسك اللغوية على القرآن لكشف تماسك سوره بصورة منهجية دقيقة، يقدم جونز عرضًا لأهم مرتكزات الكتاب النظرية والمنهجية لا يخلو من نظرات نقدية مهمّة.

  هذا الكتاب في الأصل رسالة دكتوراه مقدَّمة إلى جامعة لندن. وهو يقدّم نفسه بوصفه إسهامًا في الدراسات القرآنية المعنية بفهم السورة كوحدة، وهذا نوع من المقاربات للقرآن انتقل للصدارة في مجال الدراسات القرآنية منذ منتصف القرن العشرين. تستعمل الكاتبة نظرية متداولة الآن في اللغويات المعاصرة من أجل ابتكار تقنية توضح من خلالها -بناء على معايير موضوعية- الوحدةَ العضوية للسور الطويلة ذات الموضوعات المتعدّدة؛ ولذلك فالكتاب يستحقّ دراسة وثيقة ومتفهمة.

يتضمن كتاب «العلاقات النصيّة في القرآن» مقدمة [ص1-25]، تُرسِي فيها الكاتبة ملاحظتها عن مدى الحاجة لمثل هذا العمل وطريقة العمل والمصطلحات التي تستعملها، وتشرح سبب كون المقاربة التي اختارتها هي (الأكثر ملائمة) [ص7]، وتقدّم نظرة تاريخية عامة على مقاربات التماسك (المناسبة) في السورة (الفصل الأول، ص9-25)، وعرضًا للنظرية اللغوية التي ستوظفها كأداة للاستقصاء (الفصل الثاني، ص26-44) وتطبيقها على سورة الأحزاب (الفصل الثالث، ص45-100)، وسورة القيامة (الفصل الرابع، ص101-159)، وخاتمة (ص160–163).

الفصل الأول له ثلاثة محاور: أفكار (التماسك) في السورة في التقليد التفسيري السابق على الحداثة، خاصّة تفسير الرازي والزركشي والبقاعي، والموقف السائد للرؤى حول ذلك التماسك -أو بالأحرى غيابه- بين غير المسلمين الغربيين في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الذين عرض لهم ريتشارد بيل[1]، والذين اعتبروا توزيع المواضيع في السور عشوائيًّا. وختامًا عرض أفكار وحدة السورة التي طوّرها سيد قطب وإصلاحي[2] ونيل روبنسون[3] منذ منتصف القرن العشرين.

وخلال عرض كلّ محور من تلك المحاور، تنتقد الكاتبة كُلًّا من تلك المقاربات. وفي رأيها، فالتقليد قبل الحداثي -باستثناء جزئي ومحدود لتفسير البقاعي- لا يتعدَّى تتبع علاقة متسلسلة بين آيات سورةٍ ما. وعلى الرغم من تسجيل ذلك التتبع، إلا أنّ تلك التفاسير تقصر عن مواكبة تحوّل المواضيع داخل السورة بكفاءة؛ وهذا لأن مقاربتها للنصّ في غالبها حدسيّة، وتفتقر للخلفية النظرية الكافية التي تمكنها من كشف الاستمرارية الضمنية الكامنة وراء مثل تلك التحولات، والنتيجة هي ضعف تقدير الجمال الكامن في السورة [ص16، 17].

ومقاربة بيل وأولئك الغربيين الذي يتبعون منهجه في جوهرها (قائمة على الموضوع)، وبما أنه يظهر في عدد من الحالات أنه لا صلة بين الموضوعات المتعددة الموجودة، فإنهم يعتبرون أنّ التنظيم الداخلي للسورة قد داخلته أخطاء وقعت من قِبَل محرري المصحف الأوائل، في جمعهم وترتيبهم لشذرات النصّ، وبالتالي يُقْدِمون على تصحيح النصّ بإعادة تنظيمه (منطقيًّا). وتُعَلِّق العوّا أن بيل لا يولي كبير اعتبار للأدلة حول (التاريخ الموثق لكتابة القرآن في مرحلة مبكرة جدًّا)، وتلاحظ أن إعادة ترتيبه النقدي للسور يضيف القليل لتطوير فهم النص [ص19، 20]، وضمنيًّا يستبعد احتمال أن الترتيب الذي تتم به معالجة المواضيع وصلتها ببعضها قد يكون جزءًا من معنى السورة.

وفيما يتعلق بالمحور الثالث، تشرح العوّا مقاربات سيد قطب وإصلاحي ونيل روبنسون؛ يُعْنَى كلّ مِن سيد قطب وإصلاحي بالمعنى الديني والتأثير الأدبي للسور ذات المواضيع المتعددة، التي تعزّزها بنية وحدوية، وكلّ منهما ينطلق من منظور أنّ في لُبّ كلّ سورة موضوعًا رئيسًا، يصفه قطب بـ(المحور)، وإصلاحي بـ(العمود). وأقسام السورة التي قد تتطرق لمواضيع أخرى كبرى وظيفتها تعزيز فهم القارئ لذلك الموضوع الرئيس؛ (المحور) أو (العمود). وترى العوّا أن مقاربة روبنسون تثري تحليلات أولئك الكُتّاب كثيرًا.

على الرغم من الإقرار بأن هذه التفسيرات الحديثة تستفيد استفادة وافية من المصادر التقليدية الأصلية للمعلومات (الخارج نصية) -أدبيات السنة وأسباب النزول- والتي يمكن أن تكون مسائل القرآن متصلة بها، تزعم العوّا أنّ الحديثِين ليسوا أقل من التقليديين افتقارًا للقاعدة النظرية التي يبنون عليها أحكامهم، وأن مقارباتهم كذلك حدسية إلى حدٍّ كبيرٍ. تتساءل العوّا: (ما الأداة المستعملة لاكتشاف الموضوع الرئيس للمحور المركزي؟) [ص21]. حتى لو أنها مستمدة من (القراءة الدقيقة) و(التفكر العميق)، فهذان وحدهما لا يمكن أن يُثمرا نتائج موضوعية موثوقًا بها، وما زلنا متروكين مع عدد لا حصر له من المقترحات الممكنة حول ماهيتها كلما بزغت محاولات جديدة.

تجد العوّا القاعدة النظرية المحتاج إليها في فرع اللغويات المعنِيّ بدراسة (العلاقات النصية)، وتلخصها بأنها محكومة بمقاربتين: (نظرية التماسك) و(نظرية الصلة)؛ وتشرح (نظرية التماسك) على أنها اعتبار المعنى المنبثق من العلاقة بين العناصر اللغوية. أمّا (نظرية الصلة) فتبحث بالإضافة لذلك عن معنى خارج النصّ [ص27]، ويمكنها أن تملأ الفراغات وتزيل المبهمات التي خلّفتها نظرية التماسك، وبالتالي يمكن أن توفر وسيلة موثوقة للتحكم في العمليات الاستنتاجية، اللازمة لاستعادة معنى المسائل المعرب عنها في النصّ، وهذا إجراء (ضروري للغاية لتحقيق رسالة التواصل) [ص32].

تقرأ العوّا السورتين اللتين اختارتهما بعناية في ضوء هذه النظرية، وتَستخدم لتقسيمهما إلى وحدات -من (مقاطع) و(أقسام) [ص40]- حروفًا مَعْلَمِيّة مثل أوائل الجمل، حروف الابتداء، حروف الاستئناف، وصيغ النداء [ص51]. وتحاجج بأن تلك الحروف تكون في كثير من الأحيان إشارات لانعطاف الموضوع، وتخدم في وصل محتوى وحدةٍ ما في السورة بأخرى.

باتخاذ حرف النداء الرسمي (أيها) بوصفه مَعْلَمًا رئيسًا، تقسِّم العوّا سورة الأحزاب لعشرة مقاطع، كلها باستثناء العاشر مُعلَّمَة بذلك الحرف. والمقاطع مقسَّمة داخليًّا إلى أقسام وأقسام فرعية بعلامات ثانوية، مثل: (وإذ، لقد، و، يا). وبالأخذ في الاعتبار خصائص أخرى للنصّ مثل التنقّل بين المتكلم والمخاطب، المعلومات (الخارج نصية)، السياقات الاستدلالية والبيئات السياقية، تكشف العوّا عن عدد من روابط (التماسك) التي تشد أزر الفقرات الثلاث الأولى؛ الأولى: [33: 1-8] هي خطاب افتتاحي للنبي يتضمن إنكار حقيقة صِلات التبني [33: 4]. الثانية: [33: 9-27تعرض آثار غزوة الخندق على المنافقين وغير المؤمنين والمسلمين على السواء. الثالثة: [33: 28-40] تتضمن آيات التخيير الموجّهة لنساء النبي، ترسم الخطوط العريضة لمعايير السلوك المتوقّع منهن، وتذكر زيد (بن ثابت). وتتبين العوّا عددًا من مؤشرات التماسك تتضمن: الدور المحوري لمحمد في كلّ منها، والإشارة الضمنية لزيد في الآية الرابعة (مقطع 1)، والإشارة الصريحة لزواجه بزينب في الآية [37] (مقطع 3)، وفضح انتهازية وتمرد المنافقين والكفار في الثلاث. وتستمر هذه العملية خلال السورة.

وتعالج سورة القيامة بطريقة مشابهة، بتقسيمها لسبعة مقاطع، في كلّ منها إشارات تغيير الضمائر والمخاطَبِين، خاصّة بالإدراج الإستراتيجي لحروف (بل وكَلّا). وبعد مناقشة مطولة لتوزيعهم ووظائفهم في العربية القرآنية وغير القرآنية، تحاجج العوّا بأنهم ليسوا ببساطة أدوات وصل أو ابتداء خطاب بين الجمل، كما يذهب لذلك النحاة التقليديون، لكن وظيفتهم هي تعليم الفقرات أو الخطاب، وقد يشيرون إلى الاستمرارية الكامنة على الرغم من تحولات الموضوع. ويظهر بجلاء ضمن حجاجها حقيقة أنّ مثل تلك التحولات لافتة، مما يدلّ على أنها مقصودة إلهيًّا وبالتالي جوهرية في بِنية السورة.

التفاني الواضح في العمل مثير للإعجاب، لكِنْ ثمة أسباب ينبني عليها التقييم المعتبر لمدى نجاح أهدافها وتنفيذها. من جهة الأسلوب فالكتاب مزعج، إِذْ يتخلّل العرض عبر الكتاب إقحام الكاتبة لضمير المتكلم: «باعتباري قارئة أتوقع...»[ص46]، «خلال ذلك سألقي بعض الضوء...»[ص53]، «دَعُونا نقرأ الآيات...»[ص68]، «لنلقي نظرة على...»[ص74]، «والآن أعود إلى...»[ص76]، «في هذه الدراسة آخذ في الاعتبار...»، «سأبين أن الصلات...»، «كما سأظهر على مدى هذا الفصل...»، «إنني أختبر هذه الملاحظة...» (كلّها في ص107)، «سأحقق في هذا أكثر في القسم التالي...)[ص115]-هذه بعض الأمثلة من كثير، كما لو أن الكتاب تسجيل لمحاضرة مصحوبة بعرض مصور (power pointلشرائح الفقرات القرآنية التي تشرحها، والتي يمكن أن تلفِت الانتباه إليها أثناء كلامها. هذا النمط متكرّر؛ وكثيرٌ من تفسير النظرية اللغوية إسهابٌ لا يُفضي لأيّ نتيجة. الاختلاف في تنظيم الفصلين المحوريين للكتاب: (الفصلان الثالث والرابع)، لدرجة أنهما يمكن أن يكُونَا ورقتين بحثيتين منفصلتين. الفصل الثالث خاصّة يصعب تتبعه: أربع عشرة صفحة من مناقشة سورة الأحزاب، جنبًا إلى جنب مع جداول تحليلية شاملة، قبل تقديم كتل من الترجمة القرآنية تكفي القارئ لتتبع خط الحجاج. يترأّس الفصل الرابع نصّ سورة القيامة، إلا أن مسار الشرح يقاطعه ملاحق استطرادية عن لغويات حروف (كَلّا) و(بَل).

وكان من النافع لو أنّ الناشر ضمّن الكتاب نسخة من النصّ العربي للمصحف. كذلك فإنّ النمط المعقد والاستدعاء المؤدلج لرسالة القرآن لمحمد أسد -الذي هو مرجع العوا الأساسي للقرآن- غالبًا مستعصيان على القارئ الذي لا يعرف العربية، ومُحبطان لمن يعرفها.

لا ينبغي أن يكون تجاهل القراءة في ذاته أمرًا منتقدًا، لكن نظرًا لمدى وثاقة الدراسة النصيّة المطلوبة لمقاربة العوا، فالقراءة المتبنّاة يمكن أن تكون ذات صلة بتمييز بناء السورة، العنصر الذي لا يعتد به هاهنا. فأحد خطوط المحاجّة التي تطورها الكاتبة من المقطع الأول في سورة الأحزاب [33: 2] تقبل قراءة حفص: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، في حين أن قراءة أبي عمرو: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. وتلك القراءة الأخيرة تسلط الضوء على نمطين متناقضين: النبي من جهة، والكافرين والمنافقين من جهة أخرى، وهو الأمر البارز على مدى السورة.

لكن الأكثر خطورة هو سوء عرض معنى آية الأمانة [33: 72]؛ فتكتب (العوا) أن الإنسان قَبِلَها «لأنه كان دائمًا ظلومًا جهولًا» [ص98، التأكيد من عندي]. لكن ليس ثمة إيحاء في المصحف بعلاقة سببية بين عبارتي: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}، و{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. وتفسير الجلالين يعبر عن المعنى بدقة ووضوح مميزين: «قَبِلَ آدم الأمانة حين عرضت عليه؛ وبذلك آذى نفسه لكونه جاهلًا بالمسؤولية التي يضعها ذلك القَبُول على عاتقه».

على الأقلّ في مناسبة واحدة في مناقشة سورة القيامة، تسقط المؤلِّفة الإشارة لمعلومة (خارج-نصية) مهمة تؤثّر على معنى السورة؛ فكلمة الإنسان في الآية [3] مأخوذة على أنها تخص النوع: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ [أي جنس البشر] أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}، وتُفهم على أنها كذلك حيثما وردت. إلّا أن التقليد التفسيري يَعتبر أن لفظة (الإنسان) تشير إلى شخص الكافر، وبعضهم يعرّفه على أنه أبو جهل. وإذا كان التقليد مقبولًا-ويجب تقديم دعوى لرفضه إذا لم يكن- فإن لفظة الإنسان المتكرّرة على مدى السورة تشير للكفار وليس لجنس البشر عمومًا[4].

يتوقع من المرشّح في رسالة دكتوراه أن يثني عضلاته -أو عضلاتها- ليجتذب الأنظار، وليعرف أن هذا العمل المقدم إسهامة مميزة في الحقل. وفَرْدُ العضلات ذاك واضح في هدف الكاتبة المعلن في نقدها للعمل السابق؛ فهي تستخدم (نظرية الصلة) لإزالة (الالتباس العام المتعلق بالعلاقات النصيّة في نصّ القرآن) [ص4]، ولتحل إشكالية الوحدة داخل السورة، بعيدًا عن الإبهامات الناشئة من الطبيعة الحدسية للمقاربات الحالية، و(لتحررنا من السؤال التقليدي عمّا يمكن أن تكون الفكرة المحورية التي تنتظم كلّ المواضيع في السورة الواحدة) [ص39].

أهميةُ المعلومات (الخارج-نصية) في فك شفرة النصّ محوريةٌ في نظرية الصلة. ولبيان ذلك، تقتبس العوّا مقطعًا من القرآن [28: 11-13]: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}، وتشير إلى أنه بدون تطبيق نظرية الصلة، فإن هذا المقطع لن يكون مفهومًا.

والأشخاص المذكورون في المقطع لا أسماء لهم فعلًا، لكن ليس ثمة شيء (غير مترابط) فيه. فأول خيط السرد في السورة التي اقتطف منها المقطع، بدءًا من الآية الثانية، يقدّم كلّ ما يلزم لمعرفتهم. والمفسرون الحديثون وما قبل الحديثِين على السواء يوفِّرون كلّ المعلومات السياقية الإضافية اللازمة لإنشاء ترابطها؛ فنظرية الصلة لا تضيف شيئًا لما يُقِر بلزومه ويقدمه بالفعل التقليد التفسيري. وكما لاحظ عبد الحليم[5] في (1993): «راعى اللغويون المسلمون أهمية السياق (المقام) وصاغوه في دراسة القرآن، وأعمالهم في هذا الصدد سبقت بقرون الكثير من التفكير اللغوي الحديث»[6].

تقدّم الكاتبة إسهامة مقنعة في رؤية كِلتا السورتين باعتبارهما وحدتين، وتنجح في تحرير المفسر من هيمنة الموضوع -إذا كان ذلك في الحقيقة ما يزال قضية حية- في حالة سورة الأحزاب؛ بإزالة أيّ حاجة لتبرير تنوع المواضيع في السورة. والقضية التي تعرضها هي أن البنية الوحدوية تكمن في تقدم تدريجي من مقدمتها لخاتمتها (المُلَخِّصة)، وكلّ مقطع يقدم جوانب معرفية إضافية عن -أو أمثلة عن- مكانة وامتيازات النبوة، واجبات ومسؤوليات المسلمين والمسلمات، الأحكام التي يعيشون وَفْقَهَا، العقوبات التي تحلّ بالكفار والمنافقين.

وفي حين أنّ الانتباه المُولَى لوظيفة علامات التقسيم في تفكيك النصّ يمكن أن يكون قد أسهم في هذه النتيجة، فلعل مدى إسهام (نظرية الصلة) مبالغ فيه. الجلالين على سبيل المثال يجعل عبارة {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}[33: 4] تستبق الإشارة لزيد في الآية [37] مع تعقيبهما، -وبذلك يقرّان ضمنيًّا بترابطٍ بين المقطعين-: «عندما تزوج النبي زينب قال اليهود والمنافقون: لقد تزوج محمد زوجة ابنه. وكذّبهم الله في دعواهم تلك».

وفي ضوء هذا، يمكن أن نسأل عمّا إذا كانت نظرية الصلة قد قدمت الأساس الموضوعي لتحليلٍ تعتبره الكاتبة مرغوبًا، وما الذي تقدمه إسهاماتُها أكثر من (القراءة بدقّة) و(التفكّر بعمق). ينبغي أن تختبر هذه المقاربة في مقابل مقاربات أخرى، ويتم تقييم النتائج وإبداء الأسباب لتفضيلها على غيرها.

إنّ البنية مفهوم متلوّن ليس سهلًا أو ممكنًا أو حتى مرغوبًا تعريفه بدقّة. غالبًا يجب أن يتم استشعار كيانه قبل إمكان محاولة شرحه. وكلّما كان العمل قيد الدراسة عظيمًا، تنوعت جوانب بنائه وعمق معانيه ومدى تكرّر المجابهة بغير المتوقع. يعرض القرآن روابط صوتية معقدة: تركيب الصورة والجملة، وتركيب الموضوع، وثمة سبل عديدة يمكن بها استنباط العلاقات بين أجزاء السورة (حروف العطف والقافية والتركيب الحلقي ومواضع الكلمات المفتاحية)[7]. ومن المنطقي أن يرى أفرادٌ مختلفون تراكيب وتوكيدات مختلفة في السورة، ويكون لهم أفكار مختلفة حول الطريقة التي تم ترتيبها بها. فالمصحف في النهاية هو المكان الذي يلتقي فيه الوحي الإلهي مع مُستَقبِل النصّ.

إنّ هدف اكتشاف أساس موضوعي لإثبات وحدة السورة هو بصورة عامة مطلبٌ غير ذي جدوى. رغم ذلك، فبينما تم الإقرار بدور السياق والمعلومات (الخارج-نصية) في فهم القرآن منذ زمن، تظلّ ثمة مساحة تحتاج لدراسة عن كثب، وهي مقترح المؤلِّفة أنّ بعض الحروف قد تكون ذات وظيفة تتجاوز كونها ببساطة حروف عطف أو أدوات ابتداء بين الجمل، لتكون علامات مقاطع وخطاب. هذه إعادة تقييم كبيرة لوجهة نظر النحاة التقليديين، وينبغي أن تؤخذ كنظرية تستحق الاختبار. في سورة الأحزاب على سبيل المثال، يعمل حرف النداء {يَا أَيُّهَا} كدلالة على المقاطع التسعة الأولى في السورة. وفي العاشر مع ذلك عندما ترِد في الآيتين [69 و70] لا تؤدِّي تلك الوظيفة. إذا برهنَت المؤلِّفة أن هذا هو الحال في بعض الحالات فثمة مجال لاختبار أوسع لهذه الفرضية، وإذا تم التحقّق من صحتها وجب تحديد الظروف والحيثيات لذلك التحقّق.

إنّ القرآن ذو وجوه. والسعي لتشكيل أساس موضوعي بسيط لإثبات البنية العضوية للسورة لَهُــوَ حقًّا وهمٌ وسوءُ فهم لعبقرية هذا الكتاب. وربما الكلمة التي ينبغي أن نختم بها هي المقولة المأثورة عن وليّ الدين المولوي، والتي اقتبسها مستنصر مير[8] في (السورة وحدة نصيّة): «في الوقت الذي قرّرت فيه الظروف التاريخية الترتيب الذي نزل فيه الوحي القرآني، فإن اعتبارات الحكمة هي التي حدّدت النظام الذي بموجبه تم ترتيب هذا الوحي»[9].

 

[1] ريتشارد بيل (1876-1952)، مستشرق بريطاني، أستاذ اللغة العربية بجامعة أدنبرة، له اهتمام كبير بالقرآن؛ حيث كتب حول أسلوب القرآن ومتشابه القرآن، كما أنه اهتم لعلاقة القرآن وعلاقة النبي بالمسيحية، كما أنه ترجم القرآن في ترجمة وإعادة ترتيب (1937-1941). (قسم الترجمات).

[2] أمين أحسن إصلاحي (1904-1997) أحد أبرز تلاميذ الإمام الفراهي، وأحد أهم رواد مدرسته الإصلاحية، وأشهر كتبه تفسيره الكبير «تدبر القرآن» المكتوب في تسعة مجلدات، والذي استغرق في كتابته اثنين وعشرين عامًا، وسار فيه على منهج شيخه في تتبع «نظام القرآن»، وله كتب أخرى، مثل: «حقيقة التوحيد»، «حقيقة الشرك»، «تزكية النفس»، وكلّ كتبه بالأردية، وهو مترجم كتب الفراهي للغة الأردية. (قسم الترجمات).

[3] نيل روبنسون (1948-)، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ليدز، من أهم أعلام الاتجاه السانكروني في دراسة القرآن، من أشهر كتبه في هذا السياق كتابه الصادر في (1996) عن منشورات جامعة جورج تاون: اكتشاف القرآن، دراسة معاصرة في نصّ مقنع. (قسم الترجمات).

[4] ليس دقيقًا ما يذكره الكاتب من كون التراث التفسيري يخصّص المراد بالإنسان في الآية بالكافر، وأن القول بأن المقصود بالإنسان في الآية هو جنس الإنسان يعدُّ قولًا مرفوضًا من قِبَل التراث التفسيري ويحتاج ترجيحه لبيان كيفيات التعامل مع هذا التراث؛ لأن الأصل في اللفظ العموم، وحتى مَن يخصصه بالكافر تبعًا لبعض الاعتبارات من أحوال النزول وغيرها فإنه لا يجعل هذا التخصيص نافيًا لدلالة العموم، فكما تقرّر في التقليد التفسيري فإن خصوص السبب لا ينفي عموم اللفظ وقصد دلالته، مما يجعل الدلالة العامة واردة دومًا وغير منفية، ولا يمثل اللجوء لها أيّ تعارض مع هذا التقليد. (قسم الترجمات).

[5] محمد عبد الحليم، من مواليد مصر، قرية الأسدية التابعة لمحافظة الشرقية، وهو أستاذ الدراسات الإسلامية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، ورئيس تحرير مجلة الدراسات القرآنية الشهيرة «journal of Quranic studies»، ومن أهم وأبرز أعماله: ترجمته للقرآن الكريم، والصادرة في أكسفورد عام 2004. (قسم الترجمات).

[6] محمد عبد الحليم سعيد، (السياق والعلاقات الداخلية في القرآن)، جيرالد هوتنج وعبد القادر أ. شريف (محررون)، في (مقاربات للقرآن) (روتليدج: لندن، 1993)، ص71.

[7] للمزيد حول ذلك، طالع أ.هـ. زاهنيسر، (أهم الانتقالات والحدود الموضوعية في سورتي البقرة والنساء) في عيسى ج. بلاطة (محرر)، (البُنى/ الهياكل الأدبية للمعنى الديني في القرآن) (ريتشموند، سري: كرزون 2000)، ص43.

[8] مستنصر مير (1949-)، باحث باكستاني، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة يونغستاون بالولايات المتحدة الأميركية، تتركز اهتماماته في دراسات القرآن والتفسير المعاصر، كما له اهتمام خاص بمحمد إقبال، من كتبه في هذا السياق: إقبال، 2006، والتماسك في نصّ القرآن، دراسة في مفهوم السورة عند الفراهي وإصلاحي، 1986، فهم الكتاب المقدّس الإسلامي، دراسة لمقاطع مختارة من القرآن، 2008. (قسم الترجمات).

[9] مرة أخرى في هوتنج وشريف (محررون)، (مقاربات للقرآن)، ص112.

المؤلف

أ.هـ. جونز - A.H. JOHNS

رئيس قسم اللغات والأدب الإندونيسي، والمشرف على الدراسات الإسلامية بجامعة أستراليا.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))