الاشتراك وعلاقته بتوجيه مشكل القرآن

الاشتراك وعلاقته بتوجيه مشكل القرآن[1]
المُشترَك لغةً: اسم مفعولٍ مِن الفعل اشتُرِك، وهو «يدلّ على مقارَنةٍ وخلافِ انفراد»[2].
واصطلاحًا: ما اتّفق لفظه واختلف معناه؛ كإطلاق (العين) على العين الباصرة وينبوع الماء، فهو عكس المترادف.
وسأشير إلى لمحات مهمّة في هذا الباب على وجهِ الاختصار:
- هناك بعض المصطلحات التي تشتبه بالمُشترَك[3]:
1- المتواطئ: وهو ما اتفق لفظه ومعناه، ولا تفاوت بين أفراده في حصول معناه؛ كإطلاق (الإنسان) على زيد وعمرو، فالمعنى واحد وهو الإنسانية، والاختلاف جاء مِن تَعدُّدِ الأعيان.
2- المشكِّك: وهو ما اتفق لفظه ومعناه، مع تفاوت أفراده في حصول المعنى وتمكُّنِه؛ كإطلاق (الوجود) على وجودِ الله ووجودِ المخلوق.
ومن أهل العلم مَن يستعمل (المتواطئ) بمعناه العام، فيدخل فيه (المشكّك).
3- استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه يفارق المشترك في أنه من استعمال اللفظ في حقيقتيه.
- كتبت مؤلّفات عديدة عن (الوجوه والنظائر في القرآن)، والمقصود بالوجوه: الأسماء المشترَكة، والنظائر: الأسماء المتواطئة[4].
- (الأضداد) نوع من المشترَك، إلا أنّ المعاني فيها متضادة.
- اختلف الناس في وقوع المشترَك: فأثبته الجمهور، وحُكي إنكارُه عن ثعلب وابن درستويه[5].
- لا خلاف أنَّ الاشتراك على خلاف الأصل، والمراد بالأصل هنا الغالب، فإذا جهلنا كون اللفظ مشتركًا أو منفردًا فالغالب عدم الاشتراك، فيُحكم بأنه منفرد، للاستقراء أنَّ أكثر الألفاظ مفردة، وإلا لَمَا حصل التفاهُم في الخطاب دون الاستفسار، وقبولُه دونه معلومٌ[6].
- الصحيح جواز حَمْل المشترك على معانيه إذا لم يكن بينها تعارض، وهو قول أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة[7]، ودليل الجواز: الوقوع، فقد وقع في القرآن في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]. فالصلاة من الله تعالى: الرحمة والمغفرة، ومن الملائكة الاستغفار، وهما معنيان متغايران، واستُعمل لفظ (الصلاة) فيهما دفعة واحدة، فدلّ ذلك على صحة استعمال المشترَك في كلّ معانيه في وقت واحد. وسبب ذلك: أنّ معاني المشترك حقيقة فيه، لا مجاز، والواجب حمل الكلام على الحقيقة، كما أنه أشبه العموم فشمل جميع أفراده، فالواجب حمله على جميع معانيه إلا إذا دلّت قرينة على إرادة أحد المعاني، أو كانت المعاني متضادّة.
- ذكر بعض البلاغيين أنَّ من مخالفة الفصاحة: استعمال المشترَك في معنيين متضادّين، أو أحدهما مكروه، مع عدم نصب قرينة تبيِّن المعنى المراد[8]؛ ولذلك عابوا على الفرزدق قوله:
ومَا مِثْلُه في الناس إلا مملَّكًا ** أبو أمِّهِ حَيٌّ أبوه يُقَارِبُهُ[9]
فلفظة (حَيٌّ) مشتركة بين ضد الميِّت والقبيلة، ولم ينصب قرينةً على المعنى المراد، مع ما في البيت من تعقيدٍ لفظي.
أمّا استعمال المشترك مع وجود قرينة تعيِّن المعنى المراد فهو فصيح، كقوله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 9]. فالتعزير لفظ مشترك بين النُّصْرة والتأديب، والسياق بَيَّن أن المراد المعنى الأوّل.
وقد جعل البديعيّون من فنون البديع: (الاشتراك)، و(المشاركة)، وجعلوه ثلاثة أقسام:
قسمان منها من العيوب والسرقات، وقسم واحد من المحاسن، وهو المقصود هنا، وهو أن يُؤتى بلفظة مشتركة بين معنيين فيسبق ذهن سامعها إلى المعنى الذي لم يُرِده الشاعر فيأتي في آخر البيت أو الأبيات بما يبيِّن أنَّ القصد غيرُ ما توهّمه السامع[10].
- من فوائد المشترك عند البلاغيين:
اتِّكاء العديد من الفنون البلاغية عليه؛ كالجناس التام، والتورية، والاستخدام، والإلغاز، والمغالطة، والتشكيك.
- ومن المشترك: الاشتراك في الصيغ، وهو داخل في مقصود البلاغيين بالاشتراك، وإن كان غير داخل عند اللغويين؛ لأنَّ الاشتراك فيه لا يرجع إلى المعنى بل إلى الصيغة وهي القالب الذي تُصاغ فيه الكلمات، ومن ذلك:
(مُفْعَل) مثل: (مُخرَج) فهي صيغة مشتركة بين المصدر الميمي، واسم المفعول، واسمي الزمان والمكان.
و(مِفْعَال) مثل: (مِضرَاب)، فهي مشتركة بين صيغ المبالغة واسم الآلة.
و(فَعَّل) مثل (سَرَّج) كما في قول العَجَّاجِ:
وفَاحِمًا ومَرْسِنًا مُسَرَّجًا[11]
فالاشتراك جاء من صيغة (فَعَّل)، وهي تدلُّ على نسبة الشيء إلى أصله دون مراعاة المشابهة، وقد لُوحظت هنا المشابهة؛ لذا اختلفوا في معنى الكلمة، فقيل: هو من قولهم للسيوف: سُرَيْجِيَّةٌ، يريد أنه أنفٌ دقيقٌ كالسيف. وقيل: بل من السِّراج، أي هو أنفٌ أبيضُ كالسِّراج.
وهذا البيت معيب عند البلاغيين بسبب ذلك[12]، والأقرب أنَّه ليس بمعيب، بل هو بليغ، ويحمل فيه المشترك على معنييه؛ لعدم المانع من ذلك، فهو أنف أبيض كالسراج، دقيق كالسيف، وهو من الإيجاز، فقد زاد في المعنى دون أن يزيد في اللفظ، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوعِدًا﴾ [طه: 58]. فكلمة (مَوعِد) محتملة للمصدر واسم المكان واسم الزمان، يؤيد المصدر قوله: ﴿لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ﴾، ويؤيد المكان قوله: ﴿مَكَانًا سُوًى﴾، ويؤيد الزمان قوله: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: 59]، فعلم أنّ هذه الكلمة: (مَوعِد) صالحة للمعاني الثلاثة من باب حمل المشترك على معانيه، والمعنى: اجعل لنا وعدًا غير مُـخلَفٍ، ومكانًا معروفًا، ويومًا معلومًا[13].
هذه لمحات مهمّةٌ في (المشترك)، ولنشرع في التطبيق بذِكْر بضعة نماذج:
١- قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 49].
الإشكال ووجهه[14]:
ما المشار إليه في قوله: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ﴾؟
توجيه الإشكال:
البلاء في اللغة مشترك بين النعمة والنقمة أو الخير والشر فهو من الأضداد[15]، فأمّا إطلاقه على الشرّ فمشهور، وأمّا إطلاقه على الخير فمنه قول زهیر:
جَزَى اللهُ بالإحسانِ مَا فَعَلا بكم ** وأَبْلاهُما خيرَ البلاءِ الذي يَبْلُو[16]
وهنا احتمالان:
الأول: أن يكون اللفظ مشتركًا بين النعمة والنقمة أو الخير والشرّ.
الثاني: أن يكون منفردًا، واختلف في أصل معناه:
فقيل: الاختبار، كما قال تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ [النساء: 6]، أي: اختبروهم، وقال: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ [الأعراف: 168]. أي: اختبرناهم. ودلّت هذه الآية على أنَّ الاختبار يكون بالخير والشرّ، كقوله: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]. أي: نختبركم بالشرّ؛ لنعلم كيف صَبْرُكُم، وبالخير؛ لنعلم كيف شُكْرُكُم، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة ووافقه الطبري[17].
وقيل: أصل البلاء يرجع إلى البِلَى والخَلَق، قال الراغب: «يُقَال: بَلِي الثوب بِلًى وبَلاءً، أي: خَلُقَ، ومنه قيل: بَلَوْتُهُ، أي: اختبرته، كأنّي أخلقته من كثرة اختباري له»[18].
وقيل: بل له أصلان؛ قال ابن فارس: «الباء واللام والواو والياء أصلان؛ أحدهما: إخلاق الشيء، والثاني نوع من الاختبار، ويحمل عليه الإخبار أيضًا.. ويكون البلاء في الخير والشر، والله تعالى يُبلِي العبدَ بلاءً حسنًا وبلاءً سيئًا، وهو يرجع إلى هذا؛ لأنّ بذلك يُخْتَبَر في صبره وشكره»[19].
فيلاحظ اتفاقهم على أنَّ البلاء يأتي لهذين المعنيين، وإنما الخلافُ في الاشتراك وعدمه، وفي أصل معناه على القول بأنه منفرد، والأقرب أنه منفرد؛ لأنَّ الاشتراك خلاف الأصل، وقد استقامت المعاني دونه، لا سيما على ما ذكره ابن قتيبة -وهو أحسن ما قيل- أنّ أصل البلاء الاختبار، ثم قد يكون اختبارًا بالخير أو بالشرّ، فيكون اللفظ متواطئًا، والسياق يحدِّدُ المقصود.
وقد اختلف المفسِّرون في معنى (البلاء) في الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه بمعنى النعمة، وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما- واختاره ابن جرير[20]، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾.
القول الثاني: أنه بمعنى النقمة، ونسبه القرطبي إلى الجمهور[21]، ويؤيده:
1- قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾.
2- أنّ النقمة أشهر في البلاء. ويُجاب عنه بأنه إنما يُصار إلى ذلك عند التعارُض، أو ضعف أحد القولين.
3- عَوْد الإشارة إلى أقرب مذكور وهو صحيح، لكنه معارض بالسياق وهو الامتنان، ومراعاته أَوْلى.
4- وَصْفُه بـ﴿عظيم﴾ كما قال ابن عاشور[22]. وفيه نظر، فإنه غير مختصّ بالنقم، بدليل قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 174].
القول الثالث: أنّ البلاء بالمعنيين جميعًا، وهو اختيار الأصمعي، والراغب، والشنقيطي[23]، وهو الأقرب، ويؤيده:
1- مراعاة السياق، وهو الامتنان، والمِنَّةُ بجلب النعم ودفع النقم أعظمُ من المنّة بأحدهما.
2- الجمع بين القولين، وهو أَوْلى من الترجيح؛ إذ الترجيح فيه اطِّراحٌ لأحد القولين، فلا يصار إليه مع إمكان الجمع.
3- أنَّ اللفظ إذا احتمل معاني عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حُمل عليها[24].
4- الإيجاز.
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: 33]، أي: نِعَم ونِقَم، ومِنَح ومِحَن، على ما اختاره ابن جرير، حيث قال: «وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إنّ الله أخبر أنه آتَى بني إسرائيل من الآيات ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء، ويكون بالشدة، ولم يضع لنا دليلًا من خبرٍ ولا عقلٍ أنه عنى بعض ذلك دون بعض، وقد كان اللهُ اختبرهم بالمعنيين كليهما جميعًا، وجائز أن يكون عنى اختباره إياهم بهما، فإذا كان الأمر على ما وصفنا، فالصواب من القول فيه أن نقول كما قال جلّ ثناؤه إنه اختبرهم»[25]. وكذلك نقول في هذه الآية ولا فرق، فقد أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه ابتلاهم بخير وشر؛ أمّا الشرّ فهو ما كان يسومهم فرعون من سوء العذاب، وأمّا الخير فهو إنجاؤه إياهم من ذلك العذاب.
فإن قيل: كيف يعود اسم الإشارة (ذا) إلى الجميع، وقد قال ابنُ مالك:
بـ(ذا) لِمُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ أَشِرْ[26]
فيقال: (ذا) وإن كان لفظه مفردًا، إلا أنَّ معناه هنا جمع، كقول لَبِيد:
ولقد سئمتُ من الحياةِ وطولِها ** وسؤالِ هذا الناسِ كيفَ لَبِيدُ[27]
۲- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115].
الإشكال ووجهه[28]:
أخبَر أنَّ آدم نسي عهدَ الله، ووصيَّتَه، وأكَلَ من الشجرة بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾، وإذا كان فَعَل ذلك ناسيًا فكيف وَصَفَه بالعصيان والضلال بقوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]. وعاقبه عليه بإخراجه من الجنة؟
توجيه الإشكال:
النسيان في اللغة مشترَك بين معنيين متضادّين؛ أحدهما: الذهول والغفلة، وهو الترك بلا عمد. والثاني: الترك عمدًا[29].
وقد اختلف المفسِّرون في معنى قوله: ﴿فَنَسِيَ﴾ على قولين:
فقيل: ترك عمدًا، وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما- وأكثر المفسِّرين[30]. وقد وردَ ذِكر النسيان بهذا المعنى في جملةٍ من آيات القرآن: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 126]، ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: ٥١]، ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ [السجدة: ١٤].
وقيل: نسي؛ أي: ذَهَل وسَهَى، حُكِي عن ابن عباس أيضًا[31]. وهو المعنى المشهور للنسيان.
فأمّا على القول الأول فلا يَرِد الإشكال، وإنما يَرِد على القول الثاني؛ إِذْ كيف يكون ساهيًا ثم يوصف بالعصيان ويُعَاقَبُ عليه؟ أُجيب عن ذلك بعدة أجوبة:
الأول: قال الزمخشري: «يجوز أن يُراد النسيان الذي هو نقيض الذِّكْر، وأنه لم يُعْنَ بالوصية العنايةَ الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولَّد من ذلك النسيانُ»[32]. فيكون -عليه السلام- ناسيًا ساهيًا، ولكن هذا السهو سببه الترك وقلة العناية والتعاهُد، وحينئذ يصدق عليه وَصْفَا النسيان والعصيان. وهذا القول يؤول إلى قول الجمهور.
الثاني: أنه وصف بالعصيان لتعمّده الفعل، وإن كان ساهيًا عن العهد، فالسّهو متعلِّق بالعهد، والعَمْدُ متعلِّق بالفعل، قال ابن العربي: «وقع -عليه السلام- فيها متعمّدًا ناسيًا، فقيل في تعمّده: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾، وقيل في بيان عُذره: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ﴾، ونظيره من التمثيلات أن يحلف الرجل لا يدخل دارًا أبدًا، فيدخلها متعمّدًا ناسيًا ليمينه، أو مخطئًا في تأويله، فهو عامدٌ ناسٍ، ومتعلَّقُ العَمْدِ غيرُ متعلَّق النسيان، وجاز للمولى أن يقول في عبده: (عصى) [تثريبًا][33]، ويعود عليه بفضله فيقول: (نسي) تنزيهًا»[34].
وفي قوله نظر؛ فإنه عَنى بالعمد القصد إلى الفعل، وليس هذا محلّ البحث؛ فإنّ كلَّ أفعال العقلاء لا بد فيها من إرادةٍ وقصدٍ، وإنما البحثُ هل يُسَمَّى بمجرَّدِ قصده عاصيًا؟ ولم يُجِبْ عن ذلك. والتمثيل الذي ذكره غير صحيح؛ فإِنَّ مَن دخل دارًا بعد أن حلف أن لا يدخلها: يُسَمَّى عامدًا لكنه ليس بعاصٍ؛ ولذلك لا تلزمه كفارة حتى عند المالكية ومنهم ابن العربي.
الثالث: ذكر البقاعي أنَّ آدم -عليه السلام- نسي وذهل، وإنما عوقب وَعُدَّ منه النسيان ذنبًا؛ لعلوّ مرتبته عند الله، من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين)[35][36].
قلتُ: المعروف أنَّ الله تعالى قد يغلِّظ العقوبة على بعض خَلْقِه إن عصوه؛ لمكانتهم وعِلْمِهم، كما قال تعالى عن نبيّه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَـبَّـتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ [الإسراء: 74- 75]، وقال تعالى عن أمّهات المؤمنين: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: 30].
فهذا في تغليظ العقوبة فيما ثبت أنه معصية، أمّا أن تكون معصية بسبب وقوعها ممن له منزلةٌ عند الله، فما أعرف دليلًا على ذلك. والله أعلم.
الرابع: أنَّ الأمم السابقة كانت تؤاخذ بالنسيان. قال الشنقيطي: «وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك أنّ آدم لم يكن معذورًا بالنسيان؛ فالعذرُ بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمّة، كقوله هنا: ﴿فَنَسِيَ﴾، مع قوله: ﴿وَعَصَى﴾ فأسند إليه النسيان والعصيان، فدلّ على أنه غيرُ معذورٍ بالنسيان، ومما يدلّ على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قرأ: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]. قال الله: نَعَمْ، قد فعلْتُ[37]. فلو كان ذلك معفوًّا عن جميع الأمم لَمَا كان لذِكْره على سبيل الامتنان وتعظيم المنّة عظيمُ موقع، ويُستأنَسُ لذلك بقوله: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، ويؤيد ذلك حديث: (إِنَّ اللهَ تجاوز لي عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه)[38]. فقوله: (تجاوز لي عن أمّتي) يدلّ على الاختصاص بأمّته، وليس مفهومَ لقب؛ لأنَّ مناط التجاوز عن ذلك هو ما خَصَّه اللهُ به من التفضيل على غيره من الرُّسُل»[39].
وما ذهبَ إليه الشنقيطي قوي، وفيه استعمال المشترك في أشهر معنييه، ولكن مذهب الجمهور أقوى، وهو أنَّ النسيان بمعنى الترك عمدًا، ومَن تأمّل في الآيات انجلى له ذلك، فإن الله تعالى ذَكَر وسوسة الشيطان لآدم، وأنها كانت بتزيين المعصية له لا بمحوها من قلبه: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 20- 22]. ولو كان الشيطان قد أنساه لقال: (فأنساهُ الشيطان)، كما قال عن صاحب يوسف: ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: 42]. وكما قال يوشع بن نون: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣].
فإن قيل: إذا كان النسيان بمعنى الترك فلِمَ لَمْ يُعَبِّر اللهُ بالترك؟
فيقال: سِرُّ ذلك -والله أعلم- رحمةُ الله -سبحانه وتعالى- بعبده آدم عليه السلام، وتلطّفه به، حيث جَعَل معصيته من قَبِيل ما يقع من النسيان الذي لا يخلو منه بشر، وفي ذلك تقديمٌ لِعُذْرِه، وإيماءٌ إلى عظيم مرتبته عند ربه؛ ولذلك وفَّقه -سبحانه وتعالى- للتوبة ثم تابَ عليه، كما قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧]. وهكذا أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- فإنهم معصومون مِن أن يُقَرُّوا على ذنبٍ، بل يوفّقهم الله -سبحانه وتعالى- للتوبة.
٣- قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3].
الإشكال ووجهه[40]:
كيف قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، ولم يقل: (قُلناه) أو (أنزلناه)، والقرآن ليس بمجعول؛ لأنَّ الجَعْل هو الخَلْق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1]، وقوله: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ [القيامة: 39]؟
توجيه الإشكال:
(جعل) لفظٌ مشترَكٌ بين عدّة معانٍ لا ترجع إلى أصل واحد، قال ابن فارس: «الجيم والعين واللام كلمات غير منقاسةٍ، لا يشبه بعضها بعضًا»[41].
وقد وردَت في القرآن لِمَعَانٍ مختلفةٍ تتبّعها العلماء[42]، وأوصلها الفيروزابادي إلى ثلاثة عشر معنًى[43].
وقد اختلف المفسِّرون في معنى (الجَعْل) في قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ على خمسة أقوال:
الأول: الإنزال، وهو قول ابن جرير وابن كثير[44].
الثاني: التبيين، وهو قول سفيان الثوري[45].
الثالث: القول، وإليه ذهب مجاهد[46].
وهذه الأقوال الثلاثة متضمّنةٌ معانيَ صحيحةً متقاربة، وهي الواردة عن السلف، والفعل (جعلَ) معها متعدٍّ إلى مفعولٍ واحدٍ وهو الهاء في ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ وأمّا (قُرْآنًا)، فهو حال.
الرابع: أنه التصيير، أي: صَيَّرْناه قرآنًا عربيًّا، وهو قول الواحدي[47]، وعلى هذا القول فالفعل (جعل) متعدٍّ إلى مفعولين، وهما الهاء في ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ و﴿قُرْآنًا﴾.
الخامس: الخَلْق، وهو قول المعتزلة، ومنهم بِشر المريسي والزمخشري[48].
وهذا القول هو محلّ الإشكال المذكور، وقد استدلّ له الزمخشري بأنّ (الجعل) يأتي بمعنى الخَلْق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1]. وليس هذا موطن النزاع؛ لأنّنا لا نخالف في أنَّ الجعل يأتي بمعنى الخَلْق، وإنما الذي نردُّه أن يكون بمعنى الخَلْق في قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا﴾.
وإذا تقرر أنَّ لفظ (الجعل) مشترك، فإنه لا يجوز تعيين أحد معانيه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ولم يدلّ دليل على أنَّ المراد به هنا الخلق، بل الأدلة على نفيه؛ وذلك من وجوه:
الأول: أنّ القول بخلق القرآن كفر ظاهر؛ لمخالفته إجماع المسلمين، وتكذيبه لنصوص الوحيين، فقد حكى الإمام اللالكائي مقالة السلف الصالح: (القرآنُ كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر)، وأسندها إلى خمسمائة وخمسين إمامًا، سوى الصحابة الأخيار رضي الله عنهم، ثم قال: «ولو اشتغلتُ بنقل قول المحدِّثين لبلغَتْ أسماؤهم ألوفًا كثيرةً، لكني اختصرتُ وحذفتُ الأسانيد للاختصار، ونَقَلْتُ عن هؤلاء عصرًا بعد عصر، لا يُنكِر عليهم مُنكِر، ومَن أنكرَ قولهم استتابوه، أو أَمروا بقتله أو نفيه أو صَلبه»[49]. وقد بسط أهلُ العلم القول في هذه المسألة وتتبّعوا أدلّتها ولوازم القول بها[50].
الثاني: لم ترِد في القرآن آيةٌ فيها التصريح بخَلْقِ القرآن مع كثرة ذِكْره والتنويه بشأنه والامتنان بإنزاله[51].
الثالث: أنَّ هذه الآية: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]، نظير قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]. وهو من تفسير القرآن بالقرآن، فهو يدلُّ على أنّ الجعل هنا هو الإنزال.
الرابع: السياق؛ فإنَّ حَمْل الجعل هنا على الخَلْق «يأباه ذوق المقام المتكلَّم فيه؛ لأنَّ الكلام لم يُسَق لتأكيد كونه مخلوقًا، وما كان إنكارهم متوجهًا عليه، بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنًا عربيًّا مفصلًا واردًا على أساليبهم، لا يعسر عليهم فَهْمُ ما فيه، ودَرْكُ كونه معجزًا، كما يؤذِن به قولُه تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾»[52].
الخامس: قال الزركشي: «هذا القولُ مردودٌ صناعةً؛ لأنه يتعدى لمفعولين، ولو كان بمعنى الخلق لم يتعدّ إلا إلى واحد»[53]. وهذا الوجه يمكن أن يجاب عنه بأنَّه تعدَّى إلى مفعول واحد وهو الهاء في ﴿جَعَلْنَاهُ﴾، وأمّا ﴿قُرْآنًا﴾ فحالٌ منه.
وبذلك يتبيَّن بطلان هذا القول، ولا يخفى ضعفه على من هو في عِلْم الزمخشري، ولكنَّ ذلك من تقديم المقررات السابقة على دلالة النصوص، «وكذلك دأبه كثيرًا ما يُرغِمُ معانيَ القرآن على مسايرة مذهبه، فتنزو عَصَبِيَّـتُه، وتنزوي عبقريته»[54].
وأختم بمسألة مهمّةٍ وهي سِرُّ التعبير بـ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ دون غيرها:
أمّا على القول بأنَّ (الجعل) بمعنى التصيير، فقد بيّنه الواحدي، فقال: «المعنى: صَيَّرْنا قرآنَ هذا الكتاب عربيًّا؛ لأنَّ من القرآنِ العِبرانيَّ والسُّرْيَانيَّ، فما نُقِل منه إلى العربية صار عربيًّا بالتصيير والنقل»[55]. وقال الزركشي: «أي: صيّرناه يُقرأ بلسان عربي؛ لأنَّ غير القرآن ما هو عِبري وسرياني، ولأنَّ معاني القرآن في الكتب السالفة، بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 196]، ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ [الأعلى: 18]»[56].
وهذا المعنى الذي ذكره الواحدي والزركشي قد يكون مبنيًّا على مذهب الأشاعرة في كلام الله، وهو الكلام النفسي، حيث يقولون: (كلامُ الله معنًى واحدٌ قائمٌ بالنفس، إن عُبّر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عُبّر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عُبّر عنه بالعِبرية كان توراةً).
ووجَّهه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: «أي: صَيَّرناه عربيًّا؛ لأنه قد كان قادرًا على أن ينزله عجميًّا، فلمّا أنزله عربيًّا كان قد جعله عربيًّا دون عجميّ»[57].
وأمّا على القول بأنَّ (الجعل) بمعنى الإنزال أو التبيين أو القول، فيمكن أن يكون الغرض الإيجاز، وذلك بحمل المشترك على هذه المعاني معًا. والله أعلم.
٤- قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: 41].
الإشكال ووجهه[58]:
كيف قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ﴾ أي: لأهل مكة، ﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي: ذرية أهل مكة أو ذرية قوم نوح عليه السلام، ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، والذرية اسمٌ للأولاد، والمحمولُ في سفينة نوحٍ آباءُ أهلِ مكة لا أولادُهم؟
توجيه الإشكال:
الذرية في اللغة: الأولاد[59]، وهو معنى متفق عليه بين أهل اللغة.
وقيل: إنها تطلق أيضًا على الآباء، نُقِل ذلك عن الليث[60]، وثعلب[61]، والمنشي[62]، فتكون من ألفاظ الأضداد.
وذكر الفيومي أنّ إطلاق الذرية على الآباء مجاز[63].
قال أبو عليّ الجرجاني: «جعلَ الله تعالى الآباء ذريّةً للأبناء، وجاز ذلك؛ لأنّ الذرية مأخوذة من (ذرأ اللهُ الخَلْق)، فسُمِّي الولد ذرية؛ لأنه ذُرِّيَ من الأب، فكما جاز أن يقال للولد: ذُرِّيَّة لأبيه، لأنه ذُرِّيَ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذريّة للابن؛ لأنَّ ابنه ذُرِّيَ منه، فالفعل يتّصل به من أحد الوجهين، وهذا كما تقول في المصدر، فإنه سُـمِّي به الفاعل مرة والمفعول أخرى، نحو: درهمٌ ضَرْبُ الأمير، ونَسْجُ اليمن»[64].
وهذه الآية من أكثر الآيات إشكالًا عند المفسِّرين؛ فقد اختلفوا في مرجع الضمير في قوله: ﴿لَهُمْ﴾، وقوله: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، كما اختلفوا في معنى: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ وفي عموم ﴿الْفُلْكِ﴾، وحاصل الأقوال خمسة:
الأول: وآيةٌ لأهل مكة أنّا حملنا أولادَ قوم نوح في سفينة نوح. رُوي عن ابن عباس[65]، واختاره الطبري وابن عاشور[66].
الثاني: وآية لأهل مكة أنّا حملنا بني آدم في السفن. رُوي عن ابن عباس أيضًا[67]، واختاره ابن جزي[68].
وعلى هذين القولين يرِد إشكالٌ، وهو أنه لو كان المقصود بالذرية ذرية آدم أو نوح، فما وجه إضافتها إلى ضمير أهل مكة؟
أجاب عن ذلك ابن عاشور فقال: «ضمير ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ﴿لَهُمْ﴾ أي: العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة، لكنهم لُوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنّا حملنا ذريّات البشر في سفينة نوح، وذلك حين أمرَ اللهُ نوحًا بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريّات البشر، فكان ذلك حملًا لذريّاتهم»[69].
وبيان ذلك: أنَّ لفظ ﴿العِبَادِ﴾ في قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ يحتمل العموم والخصوص، فعاد إليه الضمير في ﴿لَهُمْ﴾ باعتبار الخصوص، وهم أهل مكة، ثم عاد إليه الضمير في ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مرادًا به العموم، وهم جنس البشر، وهو من الاستخدام، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ [المؤمنون: 12- 13]. فالإنسان يُراد به آدم عليه السلام، فهو عامّ يُراد به الخصوص، والضمير في ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ يُراد به الجنس، فهو عامّ، لكنه عامّ مخصوص، فقد خُصَّ منه آدم عليه السلام.
الثالث: وآية لأهل مكة أنّا حملنا أولادَهم في السفن، فامتنَّ اللهُ عليهم بذلك، أي: يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا، أو يَبعثون أولادَهم للتجارة لهم فيها. ورجَّحه الشوكاني[70].
الرابع: وآية لأهل مكة أنّا حملنا آباءَهم في سفينة نوح، أي: آباءَهم الأقدمين، وفي أصلابهم هُم وذريّاتهم، عزاه أبو حيان إلى ابن عباس[71]، واختاره الزجاج والزمخشري وابن كثير[72].
الخامس: وآية للعباد أنّا حملنا ذريّات العباد، فقد جوّزه الرازي، وذلك بعود الضميرين إلى العباد في قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، والمراد أشخاصٌ غير معيَّنين، على نحو قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]. أي: لا يقتل بعضُكم بعضًا[73]. وحينئذ يكون المعنى: وآية لبعضٍ منهم أنّا حملنا ذريَّة بعضٍ آخر، وهو من (الاستخدام).
هذه مجمل الأقوال في الآية، فأقول:
أمّا الضمير في قوله: ﴿لَهُمْ﴾، فلا شك أنه يرجع إلى أهل مكة وهم المشركون، فهم العِبَادُ المذكورون في قوله: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، قال بعد ذلك: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ وقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ﴾، ثم قال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.
وأمّا ﴿الْفُلْكِ﴾ فتحتمل اللام أن تكون للجنس، فيكون المراد جميع السفن، ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ [لقمان: 31].
ويحتمل أن تكون اللام للعهد، فيكون المراد سفينة نوح، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ [هود: 37]. وجعلها من آياته في قوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: 15]. والأقرب أنَّ المراد سفينة نوح؛ وذلك لأنه لا يُصار إلى الجنس إلا عند انتفاء المعهود.
ويُلاحظ في الأقوال المتقدمة أمران:
أولهما: أنَّ الضمائر مختلفة على الأقوال الخمسة سوى القولين الثالث والرابع، فالضميران فيهما متّحدان راجعان إلى أهل مكة، واتحاد مرجع الضمائر أَوْلَى من اختلافها.
وثانيهما: أنَّ (أل) في ﴿الْفُلْكِ﴾ للجنس على جميع الأقوال سوى القولين الأول والرابع، فاللام فيهما للعهد الذهني.
وبذلك يظهر أنَّ أقرب الأقوال هو القول الرابع؛ فمعه اتحدت الضمائر، وحُملت اللام على العهد.
فإن قيل: لكن فيه حمل (الذريّة) على الآباء، وهو لا يُعْرَف في اللغة، وإن عُرِف فهو مشترك أو مجاز، فإن كان مشتركًا فالأقرب حمل المشترك على المعنى الأشهر، لا سيما أنه غالب استعمال القرآن، وإن كان مجازًا فالأصل حمل الكلام على الحقيقة.
فيقال: كون (الذرية) تُطلَق على (الآباء) ثابت في اللغة، أثبته الليث وغيره، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 33- 34]، فقد وَصَف جميع المذكورين بكونهم ذريّة، وبعضُهم آباء، وبعضُهم أبناء.
وسواء كان هذا المعنى ثابتًا بطريق الاشتراك أو المجاز فلا ضير في القول به؛ لأنه قد دَلَّ الدليل على رجحانه في هذه الآية، وذلك لقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ [الحاقة: 11- 12]، فقد أجمع المفسِّرون -فيما أعلم- على أنَّ المخاطب هنا هم أهل مكة، والمقصود: حملنا آباءَكم، فكذلك نقول في هذه الآية.
فالقول الرابع أرجح الأقوال، ويليه القول الأوّل، والله أعلم.
ونكتة التعبير بالذرية -وجُلُّ هذه النكات جارٍ على أنَّ الذرية هم الأبناء-:
1- فيه إشارة إلى كمال النعمة، أي: لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة، وذلك أبلغ في الامتنان عليهم[74].
يقول عبد الكريم الخطيب: «وفي الإشارة إلى حمل ذريّاتهم دون حمل آبائهم إلفاتٌ[75] إلى ما تحمِل الفلكُ لهم من فلذات أكباد، ونفائس أموال وأمتعة، فتحفظها، وتصل بها إلى غايتها، وفي هذا ما يريهم فضلَ الله عليهم وإحسانَه بهم، فقد لا يرى الإنسان فضل النعمة، ولا يقدِّرُها قدرها إذا هي لبسته هو، فإذا رآها في غيره عرف لها قدرها، وذكر فضلها»[76].
2- الإيجاز. قال ابن عاشور: «ذِكْر الذريّات يقتضي أنّ أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازًا في الكلام، وأنّ أنفسهم محمولون كذلك، كأنه قيل: إنّا حملنا أصولهم وحملناهم وحملنا ذريّاتهم؛ إِذْ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات»[77].
3- أنه أدخلُ في التعجيب من قدرة الله؛ لأنَّ استقرارَهم في السفن أشقّ، وتماسُكَهم فيها أعجبُ.
٤- قال الرازي: «يحتمل عندي أن يُقال: إنه تعالى إنما خَصَّ الذريّة بالذِّكْر؛ لأنَّ الموجودين كانوا كفارًا لا فائدة في وجودهم، فقال: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، أي: لم يكن الحملُ حَمْلًا لهم، وإنما كان حملًا لِمَا في أصلابهم من المؤمنين، كما أنَّ مَن حملَ صندوقًا لا قيمة له وفيه جواهر، إذا قيل له: لِـمَ تحمل هذا الصندوق وتَتعب في حمله وهو لا يُشتَرى بشيءٍ؟ يقول: لا أحملُ الصندوق، وإنما أحمل ما فيه»[78].
5- قال البقاعي: «لمّا كان مَنْ قَبل نوحٍ -عليه السلام- من أصول البشر لم يُحملوا في الفلك، عُدِل عن التعبير بالضمير والآباء إلى قوله: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾»[79].
٥- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...﴾ [البقرة: 282].
الإشكال ووجهه[80]:
ما فائدة قوله تعالى ﴿بِدَيْنٍ﴾، وقوله: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ مغنٍ عنه؟
توجيه الإشكال:
أجيب عن ذلك بستة أجوبة:
الأول: أنَّ (التدايُن) مشترك بين معنيين؛ أحدهما: التدايُن بالمال. والثاني: التدايُن الذي هو المجازاة. فالأول يُقال فيه: الدَّين بفتح الدال، والثاني يقال فيه: الدِّين بكسره. فجاء قوله: ﴿بِدَيْنٍ﴾ مبينًا أنّ المراد المعنى الأوّل.
قال ابن الأنباري: «التدايُن يكون بمعنيين؛ أحدهما: التدايُن بالمال، والآخر: التدايُن بمعنى المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدِّين: الجزاء، فذكر الله تعالى الدَّيْن لتلخيص أحد المعنيين»[81]. وهو قول أبي جعفر النحاس وابن عطية[82].
وهو من (الاحتراس) المعروف من فنون البلاغة، وهو كما عرّفه القزويني: «أن يؤتَى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه»[83].
وجعل ابن أبي الإصبع هذا الأسلوب نوعًا من أنواع البديع وسمّاه: (التشكيك)، قال: «وهو أن يأتي المتكلّم في كلامه بلفظةٍ تُشَكِّكُ المخاطَب هل هي حشوٌ أو أصليةٌ لا غنى بالكلام عنها، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، فإنَّ لفظةَ ﴿بِدَيْنٍ﴾ تشكِّك السامِعَ هل هي فضلةٌ؛ إِذْ لفظة ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ تُغْنِي عنها، والناظرُ في علم البيان يعلم أنها أصلية؛ لأنَّ لفظة الدَّيْن لها محامل...»[84].
وهذا المصطلح (التشكيك) ينبغي أن يُنَزَّه عنه كتاب الله؛ فإنه جاء بيانًا للناس، والأَوْلَى تسميته (دفع الشكّ) أو (دفع الوَهْم)، وهو الموافق للمثال الذي ذكره، فليس فيه تشكيك بل دفع للشك. وقوله: «فإنَّ لفظةَ ﴿بِدَيْنٍ﴾ تشكِّكُ السامِع»، غير صحيح، بل هي التي دفعت الشكّ، وإنما التشكيك على -اصطلاحه- من لفظة: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾، ثم دفع الشك بلفظة: ﴿بِدَيْنٍ﴾.
وصفوة ما تقدّم أنَّ ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ جيء بها لتعيين أحد معنيي المشترك دفعًا للوَهْم، وقد اعترض عليه باعتراضَيْن:
أولهما: قال الزركشي: «وفيه نظر؛ لأنَّ السياق يرشد إلى إرادة الدَّيْن»[85].
وثانيهما: قال البسيلي: «قيل: هذا مردودٌ بأنَّ الفعل عند البصريين مشتق من المصدر، والمشتق بمنزلة المشتق منه، وكما أنّ التدايُن مشترك فكذلك الدَّين، فلم يزل اللبس.
وأُجيب: بأنَّ مصدر تَدايَنَ إنما هو تَدايُنٌ لا دَينٌ»[86].
الثاني: قال الرازي: «المداينة مفاعلة، وذلك إنما يتناول بيع الدَّيْن بالدَّيْن وهو باطل، فلو قال: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ لبقي النصّ مقصورًا على بيع الدَّين بالدَّين وهو باطل، أمّا لمّا قال: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، كان المعنى: إذا تداينتم تدايُنًا يحصل فيه دينٌ واحدٌ، وحينئذ يَخرج عن النص بيعُ الدَّين بالدَّين، ويبقى بيعُ العين بالدَّين، أو بيعُ الدَّين بالعين، فإنَّ الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دينٌ واحدٌ لا غير»[87].
وهو يوافق القول الأول في أنَّ الغرض: (دفع الوهم)، ويخالفه في تعيينه، حيث يرى أنَّه لو قيل: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ فحسب؛ لأوهم جواز بيع الدَّيْن بالدَّيْن، وهو محرمٌ بإجماع الفقهاء[88]؛ فلذلك قال: ﴿بِدَيْنٍ﴾، والتنكير للوحدة، والمعنى: بدَيْنٍ واحدٍ، فعلم أنَّ المداينة لا يقصد بها المفاعلة من الطرفين، بل هي من طرفٍ واحدٍ فهي على غير بابها، مثل: (تساقط)، و(تعاهد).
ويناقش بأنه يمكن حمل المفاعلة هنا على بابها بالنَّظَر إلى أنَّ المخاطبين هم مجموع الأمّة؛ لأنَّ في المجموع دائنًا ومدينًا، فصار المجموع مشتملًا على جانبين. ذكره ابن عاشور[89].
الثالث: قال الزمخشري: «ذكر ﴿بِدَيْنٍ﴾؛ ليرجع الضمير إليه في قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾؛ إِذْ لو لم يذكر لوَجب أن يُقال: فاكتبوا الدَّين، فلم يكن النظمُ بذلك الحَسَن»[90].
وتعقّبه البسيلي فقال: «لا يتوقف عود الضمير على ذِكْره؛ لجواز إعادته على المصدر المفهوم من الفعل ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾، كما أُعيد في قوله: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]»[91].
الرابع: «قال بيان الحقّ النيسابوري: ذِكْر الدَّيْن بعد التَّدَايُنِ للتقرير والتوكيد»[92].
ومقتضاه: أنَّ التدايُن ليس بمشترك، وإنما يدلُّ على التدايُن بالمال؛ فجاء قوله: ﴿بِدَيْنٍ﴾ توكيدًا لهذا المعنى، كقوله تعالى: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]، وقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [آل عمران: 167]. وهو من الإطناب.
الخامس: أنه جيء بقيد: ﴿بِدَيْنٍ﴾؛ لدفع توهُّم المجاز، فإنَّ التدايُن يُستعمَل مجازًا في الوعد، كقول رؤبة:
دَايَنْتُ أَرْوَى والدُّيونُ تُقضَى ** فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا[93]
نقله الطيبي عن صاحب الفرائد[94].
وهو يرجع إلى القول الذي قبله؛ لأنّ معناه أن (التدايُن) حقيقةٌ في الدَّيْن، فليس بمشترك، وإذا كان كذلك فمجيء القيد بعده توكيد للمعنى الحقيقي.
السادس: قال ابن عرفة: «قيل: ﴿بِدَيْنٍ﴾ ليكون نكرة في سياق الشرط فيفيد العموم»[95].
أي: فيدلّ على «أيّ دَيْنٍ كان صغيرًا أو كبيرًا، وعلى أيّ وجهٍ كان مِن قرضٍ أو سَلَمٍ أو بيعِ عَينٍ إلى أجَلٍ»[96]، ويؤيّده قولُه بعد ذلك: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾.
وهذه الأقوال الستة -مع أنَّ بعضها لا يخلو من مناقشة- لا تعارُض بينها، وحينئذ فلسنا بحاجةٍ إلى ترجيح بعضها على بعض، فيجوز أن تراد جميعًا، وهو من الإيجاز الذي بلغ حدَّ الإعجاز؛ أن تدلَّ لفظة على جميع هذه المعاني والأغراض.
ويستثنى من ذلك: (دفع توهُّم الاشتراك)، فإنها لا تجتمع مع (إرادة التوكيد)؛ لأنَّ الأُولى مبنيَّةٌ على أنَّ اللفظة مشتركة، والثانية مبنيّة على أنَّها منفردة، إلا إذا قلنا: إنَّ لفظة (التدايُن) مشتركة قد دلّ السياق على المعنى المراد، فحينئذ تكون لفظة: ﴿بِدَيْنٍ﴾ توكيدًا لذلك المعنى المقصود. ومثله: (دفع توهّم المجاز)، فهو مبنيّ على أنَّ اللفظة غير مشتركة.
وقد اشتمل قوله: ﴿تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ على التجنيس المُغَايِر، وهو الذي يكون بين اسمٍ وفِعلٍ.
تلك مُثُلٌ من أثرِ الاشتراك في المشكل وتوجيهه[97].
[1] هذه المقالة من كتاب (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن)، الصادر عن مركز تفسير سنة ١٤٤٤هـ، ص١٧٥ وما بعدها. (موقع تفسير)
[2] مقاييس اللغة (٣/ ٢٦٥).
[3] معيار العلم، ص۸۰، مجموع فتاوى، ابن تيمية (٥/ ٣٣٢)، جمع الجوامع (١/ ٢٧٤).
[4] ينظر: مجموع الفتاوى (١٣/ ٢٧٦).
[5] جمع الجوامع (۱/ ۲۹۲)، المزهر (۱/ ۳۷۰).
[6] الإبهاج (١/ ٢٥٣)، البحر المحيط، للزركشي (۲/ ۳۸۱)، المزهر (۱/ ۳۷۱).
[7] مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٤١)، شرح الكوكب المنير (٣/ ١٨٩).
[8] المثل السائر (١/ ٢٠١)، منهاج البلغاء، ص١٤.
[9] ديوان الفرزدق، بشرح الصاوي (١/ ١٠٨).
[10] العمدة (٢/ ٩٦)، تحرير التحبير، ص۳۳۹، شرح الكافية البديعية، ص١٧٥، خزانة الأدب، لابن حجة (٤/ ٤٧).
[11] ديوان العجاج (٢/ ٣٤). وهذا عجز بيت صدره: ومقلةً وحاجبًا مزجَّجًا.
[12] ينظر: الإيضاح (١/ 1١).
[13] ينظر: تفسير القرطبي (١١/ ٢١٢).
[14] أنموذج جليل، ص١٥٥، فتح الرحمن، ص٢٠٦.
[15] ينظر: الأضداد، للأصمعي، ص٥٩، الصحاح (بلا).
[16] شرح شعر زهیر، ص۹۱.
[17] تأويل مشكل القرآن، ص٤٦٩، تفسير الطبري (١/ ٦٥٣).
[18] المفردات، ص١٤٥.
[19] مقاييس اللغة (۱/ ۲۹۲).
[20] تفسير الطبري (١/ ٦٥٣).
[21] تفسير القرطبي (١/ ٣٨٧).
[22] التحرير والتنوير (١/ ٤٩٣).
[23] الأضداد، ص٥٩، المفردات، ص١٤٥، العذب النمير (١/ ٧٣).
[24] ينظر: قواعد التفسير (۲/ ۸۰۷).
[25] تفسير الطبري (٢١/ ٤٧).
[26] الألفية بشرح ابن عقيل (١/ ١٢٤).
[27] دیوان لبيد، ص٤٦. وينظر: التذييل والتكميل (٣/ ٢٠٨).
[28] أنموذج جليل، ص٣٣١، فتح الرحمن، ص٣٦٧.
[29] الأضداد، للأنباري، ص۳۹۹، الصحاح (نسي)، مقاييس اللغة (٥/ ٤٢١).
[30] تفسير الطبري (١٦/ ۱۸۲)، تفسير القرطبي (١١/ ٢٥١).
[31] تفسير القرطبي (١١/ ٢٥١).
[32] الكشاف (۳/ ۹۱).
[33] في المطبوع: (تحقيرًا وتعذيبًا)! والتصويب من المخطوط (٢/ ٢٥٧/ ب).
[34] أحكام القرآن (٣/ ١٢٤٩).
[35] من كلام بعض السلف، وقد شرحه ابن تيمية في جامع الرسائل (١/ ٢٥١).
[36] نظم الدرر (١٢/ ٣٥٤).
[37] صحیح مسلم (۱۹۹، ۲۰۰).
[38] رواه ابن ماجه (٢٠٤٣)، وصححه الألباني.
[39] أضواء البيان (٤/ ١٠٣).
[40] أنموذج جليل، ص٤٥٩، فتح الرحمن، ص٥١١.
[41] مقاييس اللغة (١/ ٤٦٠).
[42] ينظر: الوجوه والنظائر، للدامغاني، ص٢١٦، المفردات، (جعل)، البرهان (٤/ ١٢٨).
[43] بصائر ذوي التمييز (۲/ ۳۸۳).
[44] تفسير الطبري (۲۰/ ٥٤٥)، تفسير ابن كثير (۷/ ۲۱۸).
[45] تفسير الماوردي (٥/ ٢١٥).
[46] تفسير الماوردي (٥/ ٢١٥).
[47] التفسير البسيط (٢٠/ ٧).
[48] الحيدة، للكناني، ص٥٩، الكشاف (٤/ ٢٣٦).
[49] شرح أصول اعتقاد أهل السنّة (٢/ ٣٤٤).
[50] ينظر: تنبيه الإخوان، للشيخ حمود التويجري، مآلات القول بخلق القرآن، للدكتور ناصر الحنيني.
[51] ينظر: الردّ على الزنادقة، للإمام أحمد، ص٢١٤.
[52] روح المعاني (١٣/ ٦٤).
[53] البرهان (٤/ ١٣١).
[54] التحرير والتنوير (٧/ ٢٤٢).
[55] التفسير البسيط (٢٠/ ٧).
[56] البرهان (٤/ ١٢٨).
[57] مجموع الفتاوى (١٢/ ٥٢٢).
[58] أنموذج جليل، ص٤٢٤، فتح الرحمن، ص٤٧٣.
[59] الصحاح (ذرر).
[60] تهذيب اللغة (١٥/ ٦)، اللسان (ذرأ).
[61] نسبه إليه الواحدي في البسيط (١٨/ ٤٨٨). وفي مجالس ثعلب (۱/ ۱۸۸): «﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾: ذرية آبائهم».
[62] الأضداد، للمنشي، ص١٤٠.
[63] المصباح المنير (ذرر).
[64] التفسير البسيط (١٨/ ٤٨٨).
[65] المحرر الوجيز (٤/ ٤٥٥).
[66] تفسير الطبري (١٩/ ٤٤٢)، التحرير والتنوير (٢٣/ ٢٦).
[67] المحرر الوجيز (٤/ ٤٥٥).
[68] التسهيل (٢/ ١٨٣).
[69] التحرير والتنوير (٢٣/ ٢٧).
[70] فتح القدير (٤/ ٤٢٦).
[71] البحر المحيط (٩/ ٦٩).
[72] معاني القرآن، للزجاج (٤/ ٢٨٨)، الكشاف (٤/ ١٨)، تفسير ابن كثير (٦/ ٥٧٩).
[73] تفسير الرازي (٢٦/ ٢٨٣).
[74] الكشاف (٤/ ١٨)، تفسير الرازي (٢٦/ ٢٨٣).
[75] الصواب: (لفت)؛ لأنّ الفعل ثلاثي.
[76] التفسير القرآني (١٢/ ٩٣٥).
[77] التحرير والتنوير (٢٣/ ٢٧).
[78] تفسير الرازي (٢٦/ ٢٨٤).
[79] نظم الدرر (١٣٤/ ١٦).
[80] أنموذج جليل، ص٤٩، فتح الرحمن، ص٧١.
[81] التفسير البسيط (٤/ ٤٨٥).
[82] معاني القرآن، للنحاس (١/ ٣١٤)، المحرر الوجيز (۱/ ۳۷۸).
[83] التلخيص، ص۷۳.
[84] تحرير التحبير، ص٥٦٣.
[85] البرهان (۲/ ۳۹۸).
[86] التقييد الكبير (١/ ٣٧٦).
[87] تفسير الرازي (٧/ ٩١).
[88] المغني، لابن قدامة (٦/ ١٠٦).
[89] التحرير والتنوير (٣/ ٩٨).
[90] الكشاف (١/ ٣٢٤).
[91] التقييد الكبير (١/ ٣٧٦).
[92] باهر البرهان (١/ ٢٦٨).
[93] ديوان رؤبة، ص۷۹.
[94] فتوح الغيب (٣/ ٥٥٣). وصاحب الفرائد هو أبو المحامد فصيح الدین محمد بن عمر المابِرْنَابَازي، عالمٌ بالتفسير، وكتابه (فرائد التفسير) اختصر فيه الكشاف، وزاد عليه وتعقّبه في مواضع كثيرة، والكتابُ لم أقف عليه مخطوطًا، لكن حفظ لنا الطيبي كثيرًا منه في حاشيته على الكشاف، فقد نقل عنه في أكثر من مائتي موضع. ينظر: كشف الظنون (٢/ ١٢٤٢).
[95] تفسیر ابن عرفة (۲/ ۹۷۷).
[96] تفسير الرازي (٧/ ٩١).
[97] وينظر لنماذج أخرى: تأويل مشكل القرآن، ص٤٣٩- ٥١٥، الفوائد في مشكل القرآن، ص١١٤، أنموذج جليل، ص٤٢، ٤٣، ١١١، ١٠٢، ١٨٣، ٣٧٦، ٣٧٩، ٢١٨، ٣٨٤، ٤٦٧، ٤٨٦، ٥٢٥، ٥٣٦، الروض الريان (١/ ٣٥، ٢٩٦)، فتح الرحمن، ص٦٤، ١٣٥، ٢٣٤، ٣٥٥، ٤٢١، ٤٢٦، ٥٢٣، ٥٤٠، ٥٧٨.