التمثيل في المَثَل القرآني

التمثيل في المَثَل القرآني[1]
أَوْلَى البلاغيون الأمثالَ عنايةً كبيرة في مصنّفاتهم، وأفردوها بالدرس والاستقصاء، والتحليل الأدبي، والتوضيح البلاغي، والتعليل المنطقي والنفسي؛ إدراكًا منهم لِما لهذه الأمثال من عظيم الأثر في النفوس، وما تتمتع به من إسهام في إحكام المعاني وتمكُّنها من القلوب. «فأمّا الحكماء والأدباء فلا يزالون يضربون الأمثال ويبيّنون للناس تصرف الأحوال بالنظائر والأشباه والأشكال، ويرون هذا النوع من القول أنجح مطلبًا، وأقرب مذهبًا... وإنما فعلت العلماء ذلك لأنّ الخبر في نفسه إذا كان ممكنًا فهو يحتاج إلى ما يدلّ عليه وعلى صحته، والمثل مقرون بالحُجّة... فلذلك جعلت القدماء أكثر آدابها وما دوَّنته من علومها بالأمثال والقصص عن الأمم، ونطقت ببعضه على ألْسُن الوحش والطير؛ وإنما أرادوا بذلك أن يجعلوا الأخبار مقرونة بذِكْر عواقبها، والمقدّمات مضمونة إلى نتائجها وتصريف القـول فيها؛ حتى يتبيَّن لسامعه ما آلت إليه أحوال أهلها عند لزومهم الآداب أو تضييعهم إياها»[2].
والأمثال في انتشارها وذيوعها وشدّة تأثيرها تعتمد على تمكُّن المشبه به من معنى المشبه وتقريبه إلى النفس وتقوية مضمونة، «والمثل تشبيه سائر، ومعنى سائر أن يكثر استعماله على معنى أن الثاني بمنزلة الأول كأنه يسير في الناس على هذا الوجه. والأمثال كلّها حكايات لا تُغيَّر وهي من أحسن الطرق دلالة على المعنى؛ لأنها تتضمّن حُسْن البيان مع شدة الاختصار... فما وقع منها في النثر فينبغي لمستعمِله أن يوقعه في المعنى الذي يناسبه، والحال التي يشابهها، ويُورده بعبارته التي سبق المتمثِّل به إلى التعبير عنه بها»[3].
وأفضل الأمثال أوجزها؛ لسيطرة ألفاظها القليلة على المعاني الكثيرة، وسهولة حِفْظها وانتشارها والتمثّل بها، وانبعاث النفوس في رحابها الفسيحة متأمّلة مراميها، وهذا الإيجاز أيسر على الأديب وأهون من الأمثال الطوال التي تتطلّب إحكامًا في نسجها، وبراعة في التأليف بين أجزائها؛ حتى تبدو صورتها وثيقة الأواصر محكمة الأمشاج، دون اهتزاز يخلّ بالتركيب الذي لا يكون المثل إلا باجتماع أجزائه على هيئة منسّقة. وهذا ما لا يبرع فيه إلا المبرزون من الفصحاء.
«والمثَل والمِثل الشبيه والنظير وقيل: إنما سمِّي مثلًا لأنه ماثل لخاطر الإنسان أبدًا؛ يتأسّى به، ويعظ ويأمر ويزجر... وقال قوم: إنما معنى المثل المثال الذي يُحذى عليه كأنْ جعله مقياسًا لغيره... وقد تأتي الأمثال الطوال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس، فأمّا ما كان منها في القرآن فقد ضمن الإعجاز»[4].
وقد أفاض الإمام عبد القاهر الجرجاني في التفريق بين التشبيه والتمثيل من جهة العموم والخصوص، والإفراد والتركيب في الصورة، والحسِّي والعقلي في الإدراك، وغير ذلك في مبحث ممتع، وأسلوب شائق ومنطق رصين. والذي يعنينا مما أفاض فيه أنه جعل كلّ ما لا يصح أن يسمَّى تمثيلًا فلفظ المثل لا يستعمل فيه أيضًا[5]، وبذا ربط بين المثل والتمثيل ربطًا يؤكّد التلازم الحاصل بينهما، بحيث يصبح التمثيل وسيلة تكوين المثل وعنوان تميزه. ثم يذكر أنّ «مما اتّفق العقلاء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هى باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبّهة، وكسّبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكَلَفًا، وقَسَر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفًا. فإنْ كان مدحًا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس، وأعظم وأهزّ للعطف، وأسرع للإِلف، وأجلب للفرح... وأيْسَر على الألْسُن وأَذْكَر، وأَوْلَى بأن تعلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذمًّا كان قسُّه أوجع، ومِيسمه ألذع، ووقعه أشدّ، وحَدّه أحَدّ. وإن كان حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر... وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلي الغيابة، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل»[6].
ثم يعلّل عبد القاهر لذلك بأن «أُنْس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردّها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم... نحو أن تنقلها من العقل إلى الإحساس، وعمّا يُعلم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع؛ لأنّ العلمَ المستفاد من طرق الحواس، أو المركوز فيها من جهة الطبع -وعلى حدّ الضرورة- يفضلُ المستفاد من طرق النظر والفكر في القـوة والاستحكام؛ فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأُنس؛ أعني الأُنس من جهة الاستحكام والقوة»[7].
وقد يقع التمثيل في صدر القول أو عقبه، «فإذا وقع التمثيل في صدر القول بعث المعنى إلى النفس بوضوح وجلاء مؤيّد بالبرهان ليقنع السامع: وإذا أتى بعد استيفاء المعاني كان إمّا دليلًا على إمكانها، مثل:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ** ولكن معدن الذهب الرّغام
وإمّا تأييدًا للمعنى الثابت، مثل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ** إن السفينة لا تجري على اليبس»[8].
وصنف ابن أبي الإصبع المصري (ت: 654هـ) كتابًا سمّاه (درر الأمثال)، وصفه في كتابه (بديع القرآن) بأنه استقصى فيه جميع أمثال الكتاب العزيز من السور على ترتيبها، وأتبعها أمثال الدواوين الستة في السُّنة ثم أمثال الأشعار المشهورة والمختارة[9]. وهذا فرط عناية ومزيد رعاية لهذا الفنّ، وغيره كثر في بابه.
وقد وردَت الأمثال القرآنية في الذروة من جهة التمثيل وتنوّع المعاني التي يتّصل بعضها بالعقيدة، وبعضها بأحوال الناس في دينهم ودنياهم؛ فللمؤمنين أمثالهم وهم في رحاب إيمانهم، وللكافرين أمثالهم وهم يخبطون في ضلالات كفرهم، وكذا التناقض بين المعتقد والسلوك، كما يتصل بعضها بحقيقة الحياة والكون.
وتلفتنا كثيرًا تلك الصورُ الفنية المعجزة التي يعرضها المثل القرآني وهو يناقش أو يقنع أو يوضح أو ينذر ويتوعّد أو يبشِّر ويَعِد، تلك الصور التي لا تقف عند حدّ تقرير المعاني والأحكام بل تتعدّاه إلى التمثيل الرائع الذي يأخذ بالألباب، فلا تملك النفوس إلا التسليم بالمقاصد العظمى المنشودة من سوق المثل.
ولسنا في هذا الصدد إلا مغترفين من فيضٍ غير محدود، آخذين منه جانبًا هو قطرة في بحره الذي لا يُدرَك، منعمين النظر في التركيب الفني لصورة المثل القرآني، وهو جانب معجز لا يتمثل بصورته تلك إلا في القرآن الكريم الذي أنزله الله رحمةً للعالمين، ونورًا يهتدي به مَن قصد الحق غير مكابر أو معاند.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الروم: 58].
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: 89].
1- وأوّل ما نلقاه في الأمثال القرآنية ما يتعلق بالتوحيد والقُدرة الإلهية، وهي آيات أساسها التمثيل بالمعهود للبشر في دنياهم، والمألوف للناس في اجتماعهم وتعاملهم، والأخذ بالأسباب المقنعة والبراهين الملزمة لذوي العقول والبصائر الواعية.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: 27- 28].
فالقضية تتناول التوحيد الذي هو أساس العقيدة وركيزتها، والذي تتأسّس عليه شُعَب الإيمان المجتمعة في (لا إله إلا الله). وقد عرض المولى سبحانه هذه القضية في تمثيل هو مما يجري بين ظهرانينا؛ لتكون أقرب إلى الفهم، وأجدر بالتسليم، وأبعد عن المكابرة: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾، فقد سأل اللهُ عبادَه المنكرين سؤالًا هو النفي الموجب للتوحيد، هل تشركون عبيدكم في أملاككم وأرزاقكم كما تكون الشركة من أندادكم الأكْفَاء لكم؟ فالعبد لا يُخشى طمعه في مال سيده، ولا تجوز خشيته للاستحالة التي تفرضها عليه عبوديته، وعلى هذا القياس لا يجوز للكافرين إشراك عباد الله مع ربّهم وخالقهم في الملك، وهذا ما يقتضيه مفهوم المخالفة في الاستفهام مما لا يجادل فيه الكافرون.
والتمثيل هنا واقع بين طرفين: المالك الحر وعبده من جانب، والمولى -عـزّ وجلّ- وعباده من جانب آخر، ولمّا كان رفض الجانب الأول (المشبه به) من قِبَل الكافرين ممتنعًا، كان الجانب الثاني (المشبه) مستوجبًا لثبوت الحكم لــه بالتفرد والوحدانية ثبوتًا عقليًّا: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. وقد سبق هذا التمثيلَ حكمٌ تقريري: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، ثم جاء التمثيل بعد ذلك إثباتًا لقدرة الخالق، ودليلًا على وحدانيته وتفرّده: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾. وقد سلك هذا التمثيل صورة من الإقناع بالمشاهدات، والتدليل بالأعراف المألوفة الثابتة، وهو طريق العليم الخبير بضعف النفوس، وشرود صوابها، واشتداد عِنادها عندما تزلزل فيما ران على قلوبها موروثًا عن آبائها وأجدادها، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 58- 59].
فالآيات الربانية المعجزة كانشقاق القمر يقابلها الكافرون بالرفض على أنها سحر وباطل لخروجها عن الممكن البشري؛ لذلك يؤكد المولى على أهمية التمثيل الذي يخاطب العقول ويصنعها. فإذا أوصَدَ الكافرون قلوبهم دون الآيات المعجزة، وغلقوا عقولهم دون الأمثال المقنعة، فقد طبع اللهُ على قلوبهم وأفقدهم رحمة هدايته.
وبذلك يكون التمثيل نعمة مهداة، وشاهدًا لا إرهاق فيه لإرادة الإنسان على الإيمان. فقد تكون بعض الآيات المعجزة محتاجة أحيانًا إلى إيمان تستقر في كنفه مقبولة مطمئنة، لكن الغارقين في خضم الحياة ومعامعها تفجؤهم تلك المعجزات الباهرة على غير تهيُّؤ منهم فيرتبكون ويتخبطون، وقد تجنح بهم نفوسهم الكليلة إلى الرفض وتلمس الأسباب المنبئة عن صدودهم وإعراضهم، إلا مَن هدى الله وأضاء بصيرته للإيمان فأولئك هم الراشدون.
2- وكما يرِد المثل للإقناع بالحجة والبرهان، يُساق كذلك لدحض مزاعم الكفار والمشركين وتسفيه أحلامهم، بتمثيلٍ هادئِ التصوير للمعنويات حتى تبدو مجسَّمة للعيان، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 41].
فالعنكبوت يأوِي إلى بيته الواهي الضعيف وقد أجهد نفسه في صنعه مقتنعًا بأنه يحميه، مطمئنًا إلى وقايته إياه من غوائل الطبيعة، وهو في حقيقته هَشّ لا ثبات له، ضعيف لا قوة تسانده، وساكنه مخدوع بجدواه في حمايته، وسرعان ما يدرك العنكبوت هذه الحقيقة عندما تدهم النوازلُ صغيرُها أو كبيرُها، وحينئذ لا ينفعـه إدراكه المتأخر بعد وقوع الواقعة. هذا في أمر العنكبوت وهو الأمر نفسه في شأن المشركين الذين يتّخذون من دون الله أولياء، يركنون إليهم متوهِّمين قدرتهم على حمايتهم، وجلب النفع لهم، ودفع الضّر عنهم، يخشونهم كخشية المؤمن ربّه، ويحلّونهم في قلوبهم محلّ خالقهم كافرين بمن عداهم حتى غدا هؤلاء الأولياء، قِبلتهم، وملاذهم، ومحطّ آمالهم ورجائهم، ومثلهم هذا كمثل العنكبوت في توهّم وغفلة عمّا ركن إليه واطمأن، ولا يفيق الكافرون على تفاهة معتقدهم إلا عندما يحيق بهم شركهم، فيأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ويومها يدرك المشركون أن أولياءهم كانوا سرابًا خدعوا به أنفسهم، وملجأ ركنوا إليه وهو أتفه وأضعف من أن يقي نفسه عوادي الزمن. وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 165- 167].
3- ومع التوجّه القرآني لتقرير التوحيد بالأمثال، ينهي المولى -عز وجل- عبادَه عن ضرب الأمثال له؛ لتنزهه سبحانه عن كلّ ما يتصوّره الناس في ذاته، فهو يعلم ما يليق بجلاله، ويمثل له بما يقدر الناس على تمثله وفق طاقتهم. وهم لا يعلمون من أمره إلا الآثار الدالة عليه، وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 74].
ومن التمثيل القرآني ما جاء على هيئة صورة فسيحة الأرجاء، رحبة العناصر، متأنية في رسم دقائقها، مكتملة التركيب بتناسق وتناسب أجزائها، وذلك ما يكون غالبًا في أمور العقيدة وما يتفرّع عنها، في مثل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]. وللمفسِّرين اجتهادات في تأويل المعنى وردّه عن ظاهر اللفظ، مما حَدَا بالقاضي أبي بكر بن العربي إلى القول: «وهذا كلّه عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه»[10].
وأيًّا كانت هذه الاجتهادات فالصورة في مجملها تجسيم وتقريب لأمرين: أولهما عظمة الخالق في خلقه، وثانيهما أثر الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد جرى الأمران في الآية الكريمة على التمثيل المركّب الذي يوضح انتقال النور الإلهي إلى القلوب المؤمنة، وقوّة هذا النور في أثره وعدم مماثلته؛ وهنا نجد التجانس الرائع بين وحدانية الخالق ووحدانية الأثر؛ فالكوكب الدري يوقد من شجرة مباركة زيتونة ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾، وهذا ما لا مثيل له ولا شبيه، ثم يكاد زيتها يضيء ﴿وَلَوْ لَـمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾، وهذا أيضًا من التفرّد الذي لا يُدْرَك؛ لأن منبعه ومصدره هو الفيض الإلهي، وما التمثيل إلا لبيان وتوضيح ذلك النور الذي لا يُدرَك ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلا بالنظائر والأشباه والأشكال على قدر التصوّر البشري مما هو بين أيدينا؛ تقريبًا للمعاني لا إدراكًا لحقيقتها وكنهها كما أوجدها الله، ثم يختم التمثيل بنتيجة موجزة: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾، أي: إنه نور القرآن وقد ملأ القلوب بالإيمان وعمرها بالتوحيد جاء بعد الدلائل والإعلام قبل نزوله فازداد المؤمنون نورًا على نور، وهدايةً على هداية، وذلك ما لا يناله إلا مَن أراد اللهُ هداه[11]. وهكذا يقرِّب الله المعاني الإلهية إلى الأفهام بالتمثيل والتصوير حتى لا تضل بجهلها وضيق عطنها فيما لا تدركه من الأمور العلوية: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
4- ومن التمثيل القرآني ما جاء لوصف أحوال الكافرين، وعاقبة تقلُّبهم في كفرهم وعنادهم، فيصف أعمالهم في الدنيا وعدم جدواها بقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ [إبراهيم: 18].
فأعمال الكافرين مهما عَلَت قيمتها وعظمَت درجة نفعها، فلا جدوى تُرجى منها، ولا نفع يعود على أصحابها. وقد مثّلتها الآية الكريمة بالرماد المتخلّف عن النار وقد عصفت به الريح؛ مشاكلةً للعمل في قلّة نفعه بعد سعيٍ مجهِدٍ من صاحبه في الحياة الدنيا، ثم هو ضائع لا عائد له، ولا ثمرة تُجنى منه: ﴿لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾؛ لقيامه على كفرٍ يحرم صاحبه من ثماره: ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾.
وإذا كان التمثيل السابق قد اتخذ من الرماد في مهبّ الريح العاصف مشبّهًا به لبيان ما تؤول إليه أعمال الكافرين، فقد اتخذت كثيرٌ من الآيات مظاهرَ الطبيعة ومشاهدها أمثلةً وشواهِدَ للتدليل على فساد حال الكافرين وسوء مآلهم؛ وذلك لافتتانهم بالطبيعة، واستغراقهم في مُتَعِها، وكأنّ الله سبحانه أراد أن يقرع نفوسهم الضالة الهائمة بما ملك عليهم حواسّهم حتى عميَت أبصارهم وبصائرهم عمّا سواها. فتكون الحجةُ ألزمَ وأقنعَ، والزجرُ أوقعَ وأوجعَ، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 117]. فالكافرون في إنفاقهم وسعيهم في هذه الدنيا راجين ثواب أعمالهم، كمَنِ استنبت الأرض حتى أرته خيرها، فلما استوى على عُوده وآنَ حصاده على عينٍ من هذا الكافر، عصفت به ريح باردة فدمّرته، وأذهبت أماني صاحبه. ثم تُزيل الآية بما يوقظ الغافلين، ويمنعهم من تبرئة أنفسهم من الهلاك المحيط بهم وبأعمالهم: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وبهذا يُرَدُّ الكافرون إلى الحقيقة الغائبة عنهم، وتُغلَق في وجوههم المعاذير.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 16- 17]. فإنّ مَثَل هؤلاء الكافرين كمَثل الذي استضاء بنار أضاءت له ما حوله، فلما تأنَّس بها أُطفئت فأَظلمت الدنيا من حوله وصار كالأعمى يتخبط على غير هدى.
ويرِد التمثيل للتوبيخ والسخرية عندما يشبّه الكافر بالحيوان في نقصه وانحطاط رتبته، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]. فالكافر كالبهيمة تُنادى فلا تميز ولا تعقل، ولا تسمع إلّا ما لا تستوعبه لعجز حواسها، أمّا هؤلاء فصوت الإيمان يدعوهم إلى الهدى، والرسول يتوجّه إليهم بالآيات الناصعة لكنهم يُنزِلُون أنفسهم منزلة الحيوان فلا يميزون مِن هذا كله شيئًا، بل يؤثرون الضلالة والغواية بصدودهم عن الحقّ المبين. وفي هذا التمثيل ازدراء وتحقير للكافر وقد عطّل ما منحه الله من حواس هي عُدّته التي تهديه نحو الخير: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
كما يمثّل اليهود في تنكُّرهم لكتابهم وإعراضهم عن اتِّباعه بالحمار يحمل أسفارًا لا يدري مِن أمرها شيئًا لحيوانيته العاجزة، وهذا شأن مَن تجاهلَ معارفه حيث لا فضل له إلا ما يكون للحمار وهو يسعى بالأحمال دون تمييز شيء منها، وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: 5].
وبذلك يكون التمثيل في أمر الكافرين مبيِّنًا لضلالهم، ومصوِّرًا لأحوالهم، ومبدِّدًا لأوهامهم وموبِّخًا لهم على تماديهم في جهالتهم: ﴿وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ [الفرقان: 39].
5- أمّا المؤمنون فقد وردَ التمثيل لهم على وفق إيمانهم، بما يتّفق واجتماعاتهم على التوحيد، قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
وقد مهّدت الآية للتمثيل بذِكْر المعنى الممثّل له ليأتي التمثيل عقبه موضحًا ومبينًا لجوانبه بوضع ألفاظ تدلّ على معنى آخر، وذلك المعنى وتلك الألفاظ مثال للمعنى الذي قصدت الآية الإشارة إليه، والعبارة عنه[12]، فوصفت الآية المؤمنين بالتجمّع حول رسولهم في رحاب ربهم، راكعين ساجدين، أعزّة طائعين يبتغون فضلًا من ربهم، وهذا التجمّع يعنف على الكفار، ويشتد في مواجهتهم، في حين تسري الرحمة بين أفراده، فهم رحماء أشداء، وبنيان يشدّ بعضه بعضًا.
ثم مثّلت الآية بعد ذلك الرسول الكريم بالزرع والمؤمنين بفراخ الزرع (شَطأه) كانوا قليلين مستضعفين ثم ازداد عددهم، وقويت شوكتهم، فقوي الرسول بهم وقد آزروه، وعظم أمر الدعوة وعَلَت راياتها، والكافرون في غيظ شديد. وكذا الزرع يبدو بعد البذر ضعفًا ثم يقوى حالًا بعد حال حتى يغلظ نباته، وتكثر أفراخه من حوله، رقيقة في مبدئها، غليظة يافعة عند استوائها على سوقها.
وإنّ وضوح التماثل المعنوي بين طرفي التمثيل أو بالأحرى الانسجام النفسي بين أطراف الصورة، لشديد الإحكام؛ فالرسول والمؤمنون زرع وأشطاء، وغرس ونماء، وتلاحم يربو من داخله حتى يظهر على الدنيا وقد تواصلت العروق، وتدفّقت فيها قوة الحياة. وكما بُدِئَت الآية بالمؤمنين في شدّتهم على الكفار وتراحمهم فيما بينهم، خُتِمَت بالمقابل الإلهي المتمثّل في إغاظته الكافرين، ومغفرته وعظيم أجره للمؤمنين.
وهذا من قَبِيل الإحكام بين طرفي التمثيل، والتوازن الأمثل المعجز في التمثيل القرآني.
6- وكما وردَ التمثيل لإنفاق الكفار ومصيره، وردَ أيضًا لإنفاق المؤمنين في مثل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
ولمّا كان إنفاق الكفار كزرع أصابته ريح باردة أهلكته جزاء تأسيسهم عملهم على الكفر، فإن إنفاق المؤمنين كبذرة مباركة تفيض على صاحبها أضعاف ما أنفق مرضاة لربه. ولمّا عمدت الآيات إلى التصوير كان ذلك منصبًّا على الزرع والإنبات: فزرع الكفار طال وآنَ حصاده، ثم حصده الكفر فتركه هشيمًا تذروه الرياح، فالخيبة بعد التعب، والحسرة بعد الأمل. أمّا زرع المؤمنين فقد باركه اللهُ ورعاه بذرةً في جوف الأرض حتى نَـمَت سامقةً ذات أفنان تؤتي أُكُلها خيرًا مضاعفًا.
وكما وردَ التمثيل القرآني مُبارِكًا إنفاق المؤمنين، حرص كذلك على نقائه من شوائب الضعف البشري المتمثّل في التباهي والتفاخر والمنّ والأذَى، وذلك في مثلَين متضادَّين متكاملَين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 264- 265].
فالتمثيل في الآية الأُولى بين المؤمن الذي يَـمُنّ على الفقراء ويؤذيهم، والصخرة المتربة، وهنا يظهر وجه التماثل بينهما واضحًا جليًّا، ذلك بأنّ هذا المؤمن الممتنّ صخري الإحساس لم يتغلغل الإيمان في أعماقه ليكبح شهواتها الدنيوية الجامحة من تفاخرٍ ومنٍّ وأذى، ولم يخفت صراخ الدنيا وصخبها في داخله ليتحرك نحو البذل والسخاء الخفي مرضاة لرازقه، بل إنه يفعل الخير إعلانًا عن مفاخره، ليسير ذِكْره بين الناس، فهو كالصخرة الملساء المتربة يخدعنا ظاهرها المترب بخصوبتها، فإذا امتُحنت بالمطر تكشَّفت عن تحجُّرٍ وجَدْبٍ، كهذا المؤمن الذي امتُحن بالصدقة، فسرعان ما انقشعت عنه تلك الغلالة الرقيقة التي كسته مظهرًا من مظاهر الإيمان لا تجدي عليه نفعًا، وكما قالوا: (المِنَّة تهدم الصنيعة).
أمّا الآية الثانية فالتمثيل فيها مضادّ للأول، حيث المؤمنون المنفقون ابتغاء مرضاة الله، رطبة نفوسهم، رقيقة مشاعرهم، عاكفة قلوبهم على حبّ الله واستدامة ذِكْره والتقرّب منه، راغبة نفوسهم عن الدنيا ومتاعها، مُقْبِلة على الأخرى ونعيمها، إنْ أَعْطَوا كثيرًا أو قليلًا زادهم اللهُ من فضله أضعاف ما بذلوا، فهؤلاء كالربوة في خصوبة أعماقها، وثراء نضحها، وسماحة عطائها؛ إنّ أصابها وابل ضاعفت النتاج، وإن بلّلها قطر الندى لم تبخل بعطاء، فهي مباركة في كلّ حال.
7- وتتناول الأمثال القرآنية حقيقة الحياة الدنيا تناولًا تصويريًّا متنوّعًا يُظهِر تفاهتها وزوالها، وغباء العاضّين عليها بالنواجذ.
قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
فقد مثّلت الآية الحياة الدنيا بما تتسم به من لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، وكذا امتلاء النفس عجبًا بمظاهرها الخادعة، مثّلتها بنبات أصابه غيث فهاج عُوده وما لبث أن ذوَى مصفرًا ثم يبس وصار حطامًا، والصفة الجامعة في المثل القرآني هي الاغترار بالمظهر العارض، والغفلة عن الجوهر والحقيقة.
ويؤكّد التمثيل القرآني المعنى السابق في صورة أخرى يتجلى فيها ضعف النفوس أمام مباهج الحياة، وتوهّم الناس أنهم صانعوها ومالكوها وأصحاب القدرة عليها.
يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]. تتجلى عظمة التمثيل في التأكيد على معنى القدرة الإلهية المسيطرة على الحياة وجودًا وعدمًا، وتبديد توهُّم الناس أنهم قادرون عليها، غافلين عن أنّ الخالق هو صاحب الأمر فيها بموجب ربوبيته. والحياة في حقيقتها نماء مصنوع بقدرة الله، بيده أمرها وزينتها وزخرفها، إلا أن الجاهلين يتوهّمون قدرتهم عليها لغفلتهم، ولا يستفيقون إلا على أمر خالقها لها بالزوال وهي بين أيديهم نضرة. وبذا يكون التركيب في المثل معينًا على استيعاب كثير من المعاني من خلال امتداد الصورة وتشعُّب أركانها.
وفي المعنى نفسه يقول سبحانه: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45]. وإنّ التأكيد الأعظم في الأمثال الموضحة لحقيقة الحياة ينصبّ على زوالها وفنائها بعد نضرتها حتى لا تتسرّب مباهجها إلى النفوس فتملكها، وتفتتن بها القلوب فتتلاشى في زخرفها، وتذهل عن الحقيقة الكبرى الماثلة في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [المائدة: 18].
8- وتتناول الأمثال الخير والشر والحقّ والباطل، فتصوّر هذا كلّه بما ينفِّر من الشر والباطل، ويرغِّب في الخير والحقّ، وتتأنّى الأمثال في التمثيل والتصوير، وتفسح للمعاني في أجزاء الصورة وأركانها حتى تستقر المضامين مطمئنة في القلوب.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 24- 26]. فقد صوّرت الآيتان -الأولى والثانية- الكلمة الطيبة في ثباتها وقوّتها وعظيم أثرها وكذا إقبال الناس عليها وحبّهم لها كشجرة طيبة أو كنخلة نرعاها فتجود بثمرها، والكلمة في خلودها وقوّتها كأصل النخلة الثابت في أعماق تربتها، وهي كذلك في ظهورها على الباطل واستعلائها على الخفاء والاستتار كفروع شجرة سامقة فروعها في عنان السماء، وهي في أثرها الطيب في النفوس، المتجدد الدائم عبر العصور والأزمان كثمار شجرة تمنح روّادها من ثمرها في كلّ حين بلا إقناع ولا انقطاع.
أمّا الآية الثالثة فقد مثّلت الكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة منفِّرة لا ثبات لها يخلدها، ولا قرار يعصمها من الاجتثاث والزوال.
فالتمثيل في الآية متنوّع الصور، وكلّ صورة هي حالة مفردة من أحوال المعنى المقصود توضيحه؛ كالثبات، والخلود، وتجدّد الأثر، وشدة الإقبال وعدم النفور، ثم تتصل هذه الصور وتلتحم لتكوّن في النفوس صورة كبيرة ومعنى شامخًا، كاللوحة الفنية تتنوّع مشاهدها ولا تكتمل إلا بمجموعها.
كما تصوّر الأمثال الحق نافعًا راسخًا، والباطل سرابًا خادعًا في تمثيل دقيق غاية الدقة، وتصوير رائع من مشاهد الحياة التي لا تُنكَر إلا من مكابِر أو جاحِد.
يقول عزّ وجلّ: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].
فهذا التمثيل يوضح كيف يجتمع الحقّ والباطل ولا يمتزجان بل يتميز كلّ منهما عن الآخر ليأخذ طريقًا يناسبه يعلن فيه عن حقيقته؛ فالباطل كالزَّبَد الذي يعلو السيل هائجًا مخادعًا، لكنه لا يستقر في أرض، ولا ينتفع به زرع، بل هو رغوة فارغة زائلة، والحق كالماء وجواهر المعادن تستقر في الأعماق مثرية مخصبة لا تتلاشى كالفقاقيع المنتفخة؛ فالباطل لا نفع فيه وإن علا وظهر، والحقّ وفير النفع وإن استتر.
وبذلك تكمن عظمة التمثيل في المثل القرآني في أنّ وراء المعاني الظاهرة كثيرًا من المعاني التي يستدلّ عليها بالتأمل والتدبّر، وإدراك التلاحم بين أجزاء التمثيل، وما يفيض به من صور ودلالات ثرية، نابعة من توازن الألفاظ، ودقّة نظمها، وإحكام توزيعها، والعلاقات المعنوية الناشئة بين أطراف التمثيل. وهذا ما أطلق عليه الإمام عبد القاهر الجرجاني: المعنى ومعنى المعنى، حيث يقول: «تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من معنى اللفظ ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر... وجملة الأمر أنّ صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعَت له في اللغة، ولكن يُشار بمعانيها إلى معانٍ أُخَر»[13].
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (كلية الدعوة الإسلامية) بالجماهيرية الليبية، العدد الثالث، سنة 1396هـ/ 1986م، ص173. (موقع تفسير).
[2] كتاب نقد النثر، لإسحاق بن وهب =(البرهان في وجوه البيان)، بيروت- المكتبة العلمية 1980م، ص66.
[3] مواد البيان، لعليّ بن خلف الكاتب، تحقيق دكتور حسين عبد اللطيف، (منشورات جامعة الفاتح)- دمشق، مطبعة الإنشاء 1982، ص245.
[4] العمدة لابن رشيق القيرواني، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، ط:4 بيروت- دار الجيل 1971- (1/ 280).
[5] أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، تصحيح وتعليق: السيد محمد رشيد رضا، بيروت- دار المعرفة 1978، ص77.
[6] أسرار البلاغة، لعبد القاهر الجرجاني، ص92- 96.
[7] أسرار البلاغة، لعبد القاهر الجرجاني، ص102.
[8] جواهر البلاغة، لأحمد الهاشمي، بيروت- دار إحياء التراث العربي، ص266.
[9] انظر بديع القرآن، لابن أبي الإصبع المصري، تحقيق: دكتور حفني محمد شرف، القاهرة، دار نهضة مصر، ص87.
[10] الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، بيروت- دار إحياء التراث العربي، 1965، (12/ 263).
[11] انظر: الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، (12/ 264).
[12] انظر قانون البلاغة في نقد النثر والشعر، لأبي طاهر محمد بن حيدر البغدادي، تحقيق: دكتور محسن غياض عجيل، بيروت- مؤسسة الرسالة 1981، ص49.
[13] دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق: دكتور محمد رضوان الداية، دكتور فايز الداية، بيروت- دار قتيبة 1983م، ص185.