كتاب (أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية) د. حسن طبل
عرض وتعريف
%20%D8%AF_%20%D8%AD%D8%B3%D9%86%20%D8%B7%D8%A8%D9%84.jpg)
تمهيد:
إنّ القرآن الكريم هو دستور الأحكام الشرعية، وهو المثل الأعلى في البلاغة بنَظْم حروفه، ورَصْف آياته، وسَبْك سُوَرِه، ومبناه اللفظي، ومعناه اللغوي، واحتوى بين دفّتيه على نكت بلاغية تعنو لها وجوهُ البلغاء، وخرّوا لروعتها ساجدين.
ومن نكتها البديعة وأساليبها الرفيعة أسلوب الالتفات؛ فهو لطيف المسلك، بديع المنزع، سهل المأخذ، ويعدّ «من أجَلِّ علوم البلاغة، وهو أمير جنودها، والواسطة في قلائدها وعقودها»[1]، وقد أَوْلاهُ العلماء الاهتمام منذ بدء التدوين في البلاغة العربية؛ ولهذا كان الحديثُ عن كتاب (أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية) للدكتور/ حسن طبل حديثًا ذا أهمية، فلقد تتبّع فيه تراثُنا بطريقة معجِبة أقوالَ العلماء وآراءهم في مفهوم الالتفات، وأخرج ذلك في بناءٍ محكمٍ تستطيع من خلاله أن تعرف كيف اعتنى العلماء بالبلاغة العربية عمومًا وبالالتفات خصوصًا، وكيف نَظَرُ الأسلوبيين له، وما أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما تنظيرًا وتطبيقًا.
بيانات الكتاب:
اسم الكاتب: دكتور/ حسن الطبل.
عنوان الكتاب: أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية.
عدد الصفحات: 233 صفحة.
سنة النشر: 1990م.
المؤلف في سطور:
الدكتور حسن جاد طبل؛ أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
من أعماله:
حول الإعجاز البلاغي للقرآن.. قضايا ومباحث؛ طبعته الأولى عام 2005م عن مكتبة جزيرة الورد للنشر، وهو مجموعة أبحاث نُشرت في سنوات متباعدة للمؤلِّف.
المعنى في البلاغة العربية؛ طبعته الأولى عام 1998م عن دار الفكر العربي، كشف عن تصوّر البلاغيين للمعنى، منذ عبد القاهر حتى السكاكي، ولطبيعة الدلالة عليه في كلّ مستوى من مستوياته المتعدّدة في نظرهم.
المعنى الشِّعْري في التراث النقدي؛ طبعته الأولى عام 1998م عن دار الفكر العربي، تناول مفهوم نقد الشِّعْر في تراث البلاغة العربية.
الصورة البيانية في الموروث البلاغي؛ طبعته الأولى عام 2005م عن مكتبة الإيمان للنشر، تناول فيه مباحث علم البيان في الدراسة، التشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من المباحث.
محتويات الكتاب:
يتضمّن الكتاب -بالإضافة إلى المقدّمة والخاتمة- ثلاثة فصول، والمؤلِّف لم يقسم فصوله لمباحث ومطالب، وإنما ساق تحتها بعض العناوين بخطوط بارزة، وفيما يأتي نعرض لهذه الفصول والعناوين التي ساقها المؤلِّف تحتها:
الفصل الأول: تناول فيه مصطلح الالتفات وظاهرته في التراث البلاغي؛ فقد دار المعنى اللغوي للالتفات حول الانصراف عن الشيء أَوْ لَيّه. ففي اللسان: «لفت وجهه عن القوم: صرفه، والتفت التفاتًا، والتلفّت أكثر منه، وتلفّت إلى الشيء والتفت إليه: صرف وجهه إليه. قال:
أَرَى المَوْتَ بَيْنَ السَّيْفِ وَالنِّطْعِ كَاِمنًا ** يُلاحِظُنِي مِنْ حَيْثُ مَا أَتَلَفَّتُ
ولفته يلفته لفتًا: لواهُ على غير جهته. ولفته عن الشيء يلفته لفتًا: صرفه.
وتذكر المصادر اللغوية أنّ الأصمعي (ت: 216هـ) أوّل من جاء مصطلح الالتفات على لسانه، فقد روى محمد بن يحيى الصولي عن الأصمعي أنّه قال: «قال لي الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا. فما هي؟ قال:
أَتَنْسَى إِذْ تُوَدِّعُنَا سُلَيْمَى *** بِعُودِ بَشَامَةٍ؟ سُقِيَ البَشَامُ
ألَا تراه مقبلًا على شِعْره ثمّ التفت إلى البشام فدعا له... وقوله:
طَرِبَ الحَمَامُ بِذِي الأَرَاكِ فَشَاقَنِي *** لا زِلْتَ فِي عَلَلٍ وَأَيْكٍ نَاضِرٍ
فالتفت إلى الحمام فدَعَا له»[2].
أمّا مسألة ظهور المصطلح، ففي حقبة مبكّرة من تاريخ البلاغة قد ظهر، لكنه اختلط بغيره من مصطلحات البلاغة، وقد عبّر أبو عبيدة عن ظاهرة الالتفات باسم المجاز عند حديثه عن قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور﴾ [فاطر: 9]، حيث قال: «والمجاز ﴿فَسُقْنَاهُ﴾ مجاز فنسوقه، والعرب تضع (فَعَلْنَا) في موضع (نَفْعَل) قال الشاعر:
إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا *** مِنِّي وَمَا يَسْمَعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
في موضع يطيروا ويدفنوا».
عُولجت صور الالتفات في تلك الحقبة المبكّرة تحت مصطلح المجاز حينًا، ودون مصطلح محدّد يجمعها حينًا آخر. فعبد الله بن المعتز أسماه محاسن الكلام: «انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، ومن الإخبار إلى المخاطبة، وما يشبه ذلك».
وقدامة بن جعفر (337هـ) أسماه الاعتراض والاستدراك، وهو بمعنى الاعتراض: «أن يكون الشاعر آخذًا في معنى، فيعدل عنه إلى غيره قبل أن يتمّ الأول، ثم يعود إليه فيتممه».
وصنفها المؤلِّف في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: عزل المصطلح عن الظاهرة؛ وأبرزُ العلماء فيه الحاتمي (388هـ)، وأبو هلال العسكري (395هـ)، والثعالبي (430هـ).
الاتجاه الثاني: جمع مجموعة من الظواهر البلاغية ضمن الالتفات؛ ومن أبرز روّاده: ابن رشيق القيرواني (جمع بين الضمائر والانتقال من معنى إلى معنى)، وابن أبي الأصبع المصري.
الاتجاه الثالث: خلص فيه مصطلح الالتفات لظاهرة التحوّل الأسلوبي، وكان الزمخشري أول مَن بدأ هذا الاتجاه نحو استقرار المصطلح إزاء الظاهرة، يقول الزمخشري: «وهو -أي الالتفات- فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيًا عن ثالث لكما: إنّ فلانًا من قصته كيت وكيت، فقصصتَ عليه ما فَرَطَ منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث، فقلت: يا فلان، من حقّك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغَيبة إلى المواجهة هازًّا من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغَيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنفٍ إلى صنفٍ، يستفتح الآذان للاستماع ويستهشّ الأنفُس للقبول»، إلا أنّ هؤلاء البلاغيين الذين اتفقوا في هذه الاتجاه قد اختلفت طرائقهم في مجال الالتفات ووظيفته وموقعه على خريطة البحث البلاغي.
ففي مجال الالتفات، منهم من قَصَره على لون واحد من ألوان الظاهرة وهو المخالفة بين الضمائر، وهم جمهور البلاغيين، أمثال الزمخشري والسكاكي والخطيب القزويني، ومنهم من جعل الالتفات ثلاثة أقسام، ومن أبرز أصحاب هذا الاتجاه ابن الأثير، فجعله في مجال الضمائر بمجالين؛ الأول: الرجوع عن الغَيبة إلى الخطاب، والثاني: في الرجوع عن الخطاب إلى الغَيبة، وخصّ الثالث في مخالفة الصيغ: الرجوع عن فعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، والإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالماضي.
أمّا موقع الالتفات في خريطة البحث البلاغي، كان هناك تأرجُح بين العلماء في عدِّه من علم المعاني، أم البيان أو البديع، وإن كانَ بمباحث علم المعاني ألصق؛ ولذلك نجده ضمن أبواب علم المعاني في (مفتاح العلوم)، و(الطراز)، وضمن أبواب علم البديع في كتاب (التبيان) للإمام الطيبي (ت: 743هـ)، ويبيِّن ذلك في (فتوح الغيب) بقوله: «ويمكن أن يُقال: إنّ الالتفات من حيث إنه يفيد التطرية وحسنها من البديع، ومن حيث إفادته التفنّن والإخراج لا على مقتضى الظاهر من المعاني، ومن حيث كونه مستلزمًا لإفادة دقيقة مطلوبة من الكناية التي هي نوع من أنواع البيان»[3].
والفصل الثاني: تناول فيه ظاهرة الالتفات في ضوء معطيات علم الأسلوب، فعالج مفهوم الالتفات ضمن المصطلحات الأسلوبية، وهي:
- الاختيار.
- الانحراف.
- السياق.
فعند النظر إلى الأسلوب من زاوية المرسِل في ثلاثية الاتصال (المرسِل، الرسالة، المتلقي)، فالأسلوب في هذا المنظور هو (إفراز لغوي) لتجربة مبدعة دالّ بخصوصية.
فالاختيار: هو مظهر القول الذي ينجم عن اختيار وسائل التعبير، وهذه الوسائل التي تحدّدها طبيعة ومقاصد الشخص المتكلِّم أو الكاتب.
وهي تعبر عن رؤية تشومسكي في نظرية النحو التحويلي؛ أنّ التركيب المعطى يمكن تحويله إلى تراكيب متعدّدة، فثمة نمط مثالي تجريدي مقدَّر في الذّهن للتركيب سُمِّي البنية العميقة للنصّ، وصورة لغوية محسوسة للتركيب هي بنيته السطحية.
وأعطى هذا النظام في اختيار البدائل للتركيب المعطى إلى تراكيب متعدّدة، مما جعل نظرية النحو التحويلي أكثر حيوية، ومما يشكل ظاهرة أسلوبية فتكون في نظام اللغة بديلًا أو أكثر يؤدّي معناها، وهذه نقطة حريّ بنا الانتباه إليها عند دراسة الالتفات كظاهرة أسلوبية، وهي نقطة تلاقٍ بين البلاغة وعلم الأسلوب ما صاغه ابن يعقوب المغربي عند مقارنته بين الالتفات والتجريد، حيث يقول: «مبنى الالتفات على الاتحاد، ومبنى التجريد على التعدّد».
وهذا دليل واضح على أنّ الالتفات حسب تصوّرهم هو ظاهرة أسلوبية، والتي لا تتحقّق حسب معيار الاختيار إلا إذا كان لها بديل أُوثرت عليه في نظام اللغة.
أمّا الانحراف: فهو التركيز على النصّ أو الرسالة في ثلاثية التوصيل (المرسِل، الرسالة، المتلقي).
والأسلوب من هذه الزاوية هو بناء لغوي متميز يستمدّ مقومات تميّزه من داخله، أي من طبيعة سماته اللغوية وخواصّه النوعية التي يتميّز بها من نمط الخطاب العادي.
في ضوء هذا المنظور كان تعريف الأسلوب هو: «انحراف عن قاعدةٍ ما»، وهذا الانحراف هو مجموع المفارقات اللغوية التي نلاحظها بين نظام التركيب اللغوي للخطاب الأدبي وغيره من الأنظمة.
أمّا عند النظر إلى الأسلوب من جهة المتلقي فنجد رؤية البلاغيين إلى الالتفات بكونه لونًا من ألوان مخالفة مقتضى الظاهر، أيْ ظاهر سوق الكلام، تتشابه مع مقولة (التضاد البنيوي أو الإثنيني) عند ميشيل ريفاتيرا، فالسياق في نظر ريفاتيرا هو القاعدة الداخلية التي ينحرف عنها الأسلوب، فالظاهرة الأسلوبية تمثّل خروجًا أو تحوّلًا عن النمط السائد في السياق.
وهذا يحفز المتلقّي للانتباه إليها والوقوف على عناصر سلسلة الكلام[4].
والفصل الثالث: قَدَّم فيه دراسة تطبيقية على صور الالتفات في القرآن الكريم، وفي نهاية الكتاب أدرج المؤلِّف ثبتًا بمواضع الالتفات في القرآن الكريم.
وأبرز مجالات الالتفات في القرآن الكريم، هي:
الصّيغ: يتحقّق الالتفات في هذا المجال كلّما تخالفت صيغتان في نسق واحد من أصل معجمي واحد، أو بين المخالفة بين صيغ الأفعال (الماضي، المضارع، الأمر)، أو بين صيغ الأسماء، أو بين صيغة من صيغ الأسماء وأخرى من صيغ الأفعال، وقدَّم على ذلك العديد من الأمثلة.
العدد: بين صور المخالفة في العدد بين التحوّل من الإفراد إلى الجمع، وبين الإفراد والتثنية، وبين التثنية والجمع.
الضمائر: يشمل التحول من الغَيبة إلى الخطاب، أو الغَيبة للتكلّم، أو التكلّم والخطاب، أو بين الإضمار والإظهار، أو بين تذكير الضمير وتأنيثه.
وفي مجال الأدوات يتحقّق الالتفات بإحدى صورتين؛ الأولى: المخالفة بين الأدوات المتماثلة، والثانية: في حذف الأداة وذِكْرها.
أهمية الكتاب:
لا شكّ أنّ هذا الكتاب هو دراسة جادّة، ذات منهجية واضحة، ولها إضافتُها العلمية، والتي يمكن أن نبلورها في النقاط الآتية:
1- استطاع المؤلِّف التأصيل لمفهوم الالتفات ومجالاته وصوره؛ فمما يُحْسَب للمؤلِّف أنه جمع ما بين البلاغة والتفسير، وأيضًا استفادته من الدراسات الأسلوبية اللسانية، والتي تنظر إلى اللغة بوصفها بناءً متكاملًا: نحويًّا وصرفيًّا وصوتيًّا ودلاليًّا، مما أعطى الباحث طرائق للتطواف في علوم العربية؛ اللغوية والبلاغية، وهذا كلّه أكسب الدراسة عمقًا وشمولًا، وجعلها تتجاوز الطروحات السابقة.
2- أبانت الدراسة أنّ الالتفات بوصفه مصطلحًا يشملُ كلَّ مظاهر العدول والانصراف في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية؛ فما أسماه البلاغيون بالعدول والالتفات ومخالفة مقتضى الظاهر وشجاعة العربية، هو عين ما يقصد في: الانحراف والاختيار والقاعدة الداخلية عند الأسلوبيين، مما يدعم نقاط التلاقي بين التراث البلاغي والأسلوبية المعاصرة.
3- برز من خلال الدراسة التطبيقية طول نَفَس المؤلّف في مناقشة أقوال المفسِّرين وتحليلها، وقدرته على ضمّ النظير للنظير في جمعِ صور اللفظ القرآني وفق اعتبارات سياقية، كما استثمر بعض الإشارات المتناثرة في أقوال المفسِّرين، للخروج برؤية قرآنية لإيثار بعض الألفاظ والصِّيَغ دون بعض بحسب السياق الوارد في السورة القرآنية.
4- ثَبَتُ صُوَرِ العدول التي وضعها المؤلِّفُ في نهاية الكتاب، يعدّ كشّافًا لصور الالتفات بجميع المجالات التي أوردها المؤلِّف للالتفات في جميع السور القرآنية، مما يجعله مرجعًا قويًّا لكلّ الباحثين عن صور الالتفات في القرآن الكريم عمومًا، وفي بعض سوره خصوصًا.
الخاتمة:
عرضتُ في هذه المقالة للتعريف الموجز بكتاب: (أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية) للدكتور/ حسن جاد طبل -حفظه الله تعالى-، مصدِّرًا ذلك بالتعريف بمؤلِّف الكتاب، ثم البيان المجمَل للمؤلَّف، وذِكْر محتوياته، وجوانب أهميته.
واللهَ أسأل أن يتقبّل من المصنِّف تصنيفَه، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، وينفع به طلبة العلم وعموم الناس. والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.