موقف ابن عاشور (ت: 1393هـ) من الإِحداث في التفسير
عرض وبيان
من المسائلِ المهمّة والمثارة منذ قديم = مسألةُ الإِحداث والإتيان بمعاني جديدة في التفسير، وقد اختلفَتْ أنظار المنظِّرين في هذه القضية وتغايرتْ كما هو معلوم، ويعدُّ ابن عاشور أحد الأئمة المحرّرين في التفسير وممن خاضوا عناء كتابة تفسير كامل للقرآن الكريم صارت له شهرة طبقت الآفاق، وهو ينزع في تفسيره -كما سيظهر- لطَرْح وجوه جديدة من المعاني، ما يثير التساؤل حول طبيعة الموقف الذي تبنّاه في مسألة الإِحداث في التفسير، وكيف كانت رؤيته لها وتعامله معها، وهو ما سنحاول في هذه المقالة الكشف عنه وبيانه، وذلك بعد تمهيد نسلِّط فيه الضوء بإيجاز على بعض النقاط في مسألة الإِحداث في التفسير.
تمهيد:
يعاني التفسير من حالة اختلاف ظاهرة في المدوّنة التطبيقية، وقد مرَّت ممارسة التفسير بثلاث مراحل عبر التاريخ[1]؛ فقد بدأ العمل التفسيري مهجوسًا بتبيين المعنى، ثم انتقل لمرحلة أخرى ارتكز فيها هذا العمل على تبيين المعاني إضافةً لأمور أخرى فوق المعنى؛ كبيان الأحكام والحِكَم وذِكر الهدايات والمناسبات بين الآي والسور وغير ذلك، وأخيرًا تحوَّل العمل التفسيري في مرحلته الثالثة للاهتمام رأسًا بما هو فوق المعنى.
وفي ظلِّ هذا الاختلاف في قضية الممارسة التفسيرية فلم يَعُد لدينا ثمرة واحدة للعمل التفسيري وإنما أضحى له أكثر من ثمرة وأكثر من مضمون ومحتوى، والإِحداث في التفسير يرتبط فحسب بالمعنى، وعليه فحين نتكلّم على الإِحداث في التفسير فنحن نتكلّم فقط على الموقف من الإتيان بالمعنى الجديد، والكلام في هذا الصدد خاصّة، دون ما سوى ذلك من مضامين تفسيرية كاللطائف والهدايات... إلخ، مما هو خارج محلّ النزاع أصلًا في النظر لمسألة الإِحداث في التفسير؛ إِذْ ليس ثَمّ مانعٌ أصلًا من الخوض فيما فوق المعنى والإتيان بالجديد فيه.
لقد خَلَّف السَّلَفُ (الصحابة والتابعون وأتباعهم) تركةً كبيرةً من المعاني، والكلام في الإِحداث في التفسير يرتبط بالمعاني الجديدة والمُحدَثة بعد عصر السَّلَف والموقف من هذه المعاني قبولًا وردًّا.
وقد تغايرتْ أنظار المنظِّرين في التعاطي مع الإِحداث ومدى قبول المعنى التفسيري المحدَث بعد السّلَف، وأبرز هذه المواقف تتمثّل في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: قبول الإِحداث ببعض الشروط والقيود: حيث يُجاز المعنى الجديد المحدَث بعد عصر السّلَف في ضوء ضوابط معيّنة؛ كعدم معارضته لأقوال السّلَف، وعدم نفيه لها، وغير ذلك، وهذا رأي تبنّاه عدد من المنظِّرين قديمًا وحديثًا.
الاتجاه الثاني: القبول المطلق للإِحداث: أي: قبول الإِحداث والمعنى الجديد مطلقًا، بدون وضع قيود وضوابط عليه كما في الاتجاه الأول، ولا يعني هذا بطبيعة الحال إهمال الوارد عن السَّلَف ونبذه والتخلِّي عنه مطلقًا، وإنما إجازة وإساغة الإضافة عليه وأن يكون معيار التحاكم في قبول الجديد وردّه هو فقط دليله ومقدار وجاهته في ضوء قواعد وأصول التفسير المعتبَرة دون شروط تتعلّق بموقف هذا الجديد ووضعيته إزاء الوارد عن السّلَف؛ كعدم منافاته لهذا الوارد، وغير ذلك.
ويمكننا القول بأنّ هذا الاتجاه يمثّل جملة كبيرة من المفسِّرين عبر التاريخ؛ فالذي يتأمّل واقع المدوّنة التفسيرية تطبيقيًّا يرى كثيرًا من التفاسير تدرج على هذا، فتأتي بكافة الأقوال والتأويلات دون تنبيه على ما فيه معارضة لأقوال السّلَف، وكذلك يقوم كثير من التفاسير بردّ أقوال السّلَف في بعض المواضع والانتصار لأقوال حادثة؛ كتفسير الماتريدي والزمخشري وابن عطية والماوردي وابن الجوزي والثعلبي والواحدي وغيرهم.
الاتجاه الثالث: رفض الإِحداث بالكلية وردّه، والقول بعدم جوازه من حيث هو، بِغَضّ النظر عن اختلافه مع أقوال السّلَف تنوعًا أو تضادًّا، ومن أبرز ممثّلي هذا الرأي الطبري وابن تيمية.
ومما يلاحظ بشأن هذا الاتجاه أنّ المعدِّدِين لأدلّته يجعلونها متمركزة في أنّ الإِحداث الجديد بعد السلف يعني نقض الإجماع، وأنّ من لوازم ذلك أن نقول بتضييع الحقّ، وتجهيل السّلَف، واجتماعهم على الخطأ، وغير ذلك[2]، وهم يتجاوزون عادة الدليل المركزي الذي يعتمد عليه المانعون من الإِحداث، وهو -كما حرّرناه في غير هذا الموضع[3]- دعوى وجود بيان نبوي للمعاني وأنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- فسّر القرآن كاملًا للصحابة الذين نقلوا تفسيره بدورهم للتابعين الذين أدّوه بدورهم لأتباعهم، فالمانعون من الإِحداث بصورة مطلقة يرون أنّ تفسيرَ السّلف تفسيرٌ نقليّ للتفسير النبوي ولم يكن باجتهاد السّلَف ورأيهم، ومن ثم يترتّب في ضوء ذلك عندهم لزوم التقيّد بهذا التفسير في طلب فهم المعاني ونبذ الخروج عنه بصورة مطلقة، وأمّا الأدلة التي تُساق لهذا القول مما ذكرنا قبلُ فلا يترتّب عليها بناء رأي هؤلاء المانعين من الإحداث، وإلا فيمكن المنازعة فيه بسهولة عندها بأنّ الإِحداث إذا لم يكن معارضًا لما ذكره السّلف فليس فيه نقض للإجماع ولا تجهيل للسّلف، وهو أمر لا يتصوّر غيبته عن القائلين برفض الإِحداث بالكلية.
والآن لنتجّه للإمام ابن عاشور وننظر موقفه من مسألة الإِحداث في التفسير.
يُعَدُّ ابن عاشور أحد العلماء الممارسين للتفسير، وكَتَب تفسيرَه ذائع الصيت (التحرير والتنوير) في القرن الرابع عشر الهجري، ومَكَثَ في كتابة هذا التفسير قرابة الأربعين عامًا كما ذكر في خاتمة تفسيره[4]، وجاء اشتغاله التفسيري غاية في النفاسة والأهمية، وقد تقحّم فيه لجة تحرير المعاني فأجاد فيها وأفاد وأبدع وأضاف، ومن ثَم تبوّأ تفسيره مكانة رفيعة جدًّا بين التفاسير وصار عَلمًا ومرجعًا لا يَستغني عنه أرباب التفسير، وإضافةً لجهد ابن عاشور في تحرير المعاني فقد كان له عناية في مواطن عديدة بطرح المعاني الجديدة وعدم الوقوف على تَرِكة المعاني التي خلَّفَها السّلف بل وجميع المفسِّرين قبله[5]، ما يثير النظر بطبيعة الحال في شأن الموقف المنهجي الذي تبنّاه ابن عاشور من الإِحداث في التفسير.
وإنَّ المتأمّل في موقف ابن عاشور من الإِحداث في التفسير يجده ينخرط ضِمن الاتجاه الثاني الذي يرى جواز هذا الإِحداث بإطلاق، أي: جواز الإتيان مطلقًا بمعانٍ جديدة في التفسير بدون قيود أو ضوابط لقبول المعنى المحدَث، وهو ما سنحاول التدليل عليه من الكلام النظري لابن عاشور في الإِحداث، وكذلك من خلال النظر في بعض تطبيقاته العملية في التفسير.
أولًا: الكلام النظري لابن عاشور في الإحداث:
تكلّم ابن عاشور في المقدّمة الثانية في تفسيره على العلوم الـمُمِدَّة للتفسير، ثم أتى على المقدّمة الثالثة التي جعلها في (صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه)، وقال في مستهلِّها: «إنْ قلتَ أتُراك بما عددتَ من علوم التفسير تُثبِت أنّ تفسيرًا كثيرًا للقرآن لم يَستند إلى مأثورٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، وتُبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظًّا كافيًا وذوقًا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه، أن يفسِّر من آي القرآن بما لم يُؤثَر عن هؤلاء، فيفسِّر بمعانٍ تقتضيها العلوم التي يَستمِدّ منها علمُ التفسير، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن قالَ في القرآنِ برأيه فليتبوّأ مقعدَه من النارِ) ... وكيف محملُ ما رُوي مِن تَحاشِي بعض السّلَف عن التفسير بغير توقيف؟ ... قلت: أَراني كما حسبتَ أُثبِتُ ذلك وأُبيحه...»[6].
وقد انتصر ابن عاشور لإباحته هذه بأنّ التفاسير لم تتسع إلا بهذا الإِحداث، كما أنّه المحقّق للقول بعدم انقضاء عجائب القرآن.
يقول ابن عاشور: «وهل اتسعت التفاسير وتفنّنت مُستنبَطات معاني القرآن إلا بما رُزِقَه الذين أوتوا العلم من فهمٍ في كتاب الله؟! وهل يتحقّق قول علمائنا: (إنّ القرآن لا تنقضي عجائبه) إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير؟! ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرًا في ورقات قليلة».
وكذلك بَيَّن ابن عاشور أن التفسير لو اقتصر على بيان المفردات من جهة العربية لكان قليلًا، وأنّ تفسير السّلف تفسير اجتهادي منهم وليس منقولًا عن النبي-صلى الله عليه وسلّم-.
يقول ابن عاشور: «لو كان التفسير مقصورًا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرًا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السّلف من الصحابة فمَن يليهم في تفسير آيات القرآن، وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعِلمهم. قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كلّ ما قاله الصحابة في التفسير مسموعًا من النبي -صلى الله عليه وسلم-...، فتبيَّن على القطعِ أنّ كلَّ مفسِّر قال في معنى الآية بما ظهرَ له باستنباطه...»[7].
وذكر ابن عاشور بعض الآثار المدلّلة على اجتهادية تفسير السلف، ثم أشار للاتفاق على أفضلية قراءة القرآن بتفهُّم وأنها خير من القراءة بلا تفهُّم، ونقل عن الغزالي كلامه عن أهمية التفهُّم للآي وأنّ مِن موانع الفهم اعتقاد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد وأنّ ما وراء ذلك هو اجتهاد بالرأي، وكذلك نقل عن الرازي أنّ المتقدِّمين إذا ذكروا وجهًا في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخِّرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها، وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخِّرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلِّد، ثم قال: «وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42]: هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا؟ فغضب، وقال: إنما قاله مَن عَلِمَه، يريد نفسَه. وقال أبو بكر ابن العربي في (العواصم) إنه أمْلَى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة. وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قَبِيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك؟ وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلَّبتُ دليلًا على حُجّية الإجماع فظفرتُ به في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]»[8].
وأورد ابن عاشور بعد ذلك كلام شرف الدين الطِّيبي على شروط التفسير الصحيح وأن يكون مطابقًا للّفظ من حيث الاستعمال، سليمًا من التكلّف عريًّا من التعسف. وعالجَ القول بعدها في الجواب عن الشُّبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي.
والناظر في كلام ابن عاشور يجد فيه حديثًا عن الإتيان بالجديد في التفسير فيما هو فوق المعنى؛ كالكلام على استنباط الأحكام التشريعية، وهذا خارج محلّ النزاع في مسألة الإِحداث كما ذكرنا، إلا أنّ المتأمل لكلامه خارج ذلك يجده بيِّنًا ظاهرًا في نزوعه لقبول الإِحداث والإتيان بجديد المعاني بإطلاق، وأنه يدعم هذا الرأي وينتصر له، لا سيما حديثه عن أن الكلام في التفسير يجري بالاجتهاد والرأي وأن تفسير السّلف هكذا ومَن بعدهم، فهذا الحديث يفضي صراحة -كما هو بَيِّن- لعدم سواغ لزوم التقيّد في فهم المعاني بكلام واجتهاد أفراد ورجال معيَّنِين، وأن الباب يجب أن يظلّ مفتوحًا دومًا أمام النُّظَّار والمجتهدين، وكذلك ما نقله بعد عن الطِّيبي من شروط التفسير الصحيح التي خلَتْ من وضع أيّ قيود تتعلق بالإِحداث، ففي ظلّ هذه النظرات يبدو موقف ابن عاشور جليًّا في ذهابه لتجويز الإِحداث في التفسير بصورة مطلقة.
وهذا الموقف لابن عاشور ربما يشير له ويؤيّده ما ذكره ابن عاشور في مقدمته العامة لتفسيره وبيانه لأصل رغبته وإقدامه على الكتابة في التفسير، حيث قال: «...أقدمتُ على هذا المهِمّ [يعني: تأليفه لكتاب في التفسير] إقدامَ الشجاع على وادي السباع، متوسّطًا في معترك أنظار الناظرين، وزائرًا بين ضُباح الزائرين، فجعلتُ حقًّا عليّ أن أُبْدِي في تفسير القرآن نكتًا لم أَرَ مَن سبقني إليها، وأن أقف موقف الحَكَم بين طوائف المفسِّرين تارةً لها وآونةً عليها؛ فإنّ الاقتصار على الحديث الـمُعاد تعطيلٌ لفيض القرآن الذي ما له من نفاد»[9].
ثانيًا: الواقع التطبيقي لابن عاشور ومؤشّراته في النظر للإحداث:
إنّ الناظر في الاشتغال التفسيري العملي لابن عاشور يجده يؤيّد بصورة واضحة ما ذكرنا قبلُ من موقف ابن عاشور من الإِحداث، فابن عاشور ينزع تطبيقيًّا في مواضع عديدة لإقرار وتصويب معاني مخالفة لأقوال السَّلَف، وناقضة لها، وهذه المعاني قد تكون قِيلت مِن قَبله وتبنّاها هو، أو أنه أتى بها من إبداعه واجتهاده الخاصّ، وهو ما نبيّنه من خلال النماذج الآتية:
أولًا: في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24]، ذكر المفسِّرون من السّلف أنَّ هَمَّ يوسف هو حَلُّه لسراويله وإقدامه على مواقعة امرأة العزيز[10]، ولم يرِد عنهم غير هذا القول[11]، واستوجه ابن عاشور رأيًا يقول بخلاف ذلك وأنّ يوسف -عليه السلام- لم يخالطه همّ بامرأة العزيز؛ لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان، فقال: «وجملة: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ مستأنفة استئنافًا ابتدائيًّا، والمقصود: أنها كانت جادّة فيما راودته لا مختبرة، والمقصودُ من ذِكر همِّها به التمهيدُ إلى ذِكر انتفاء همِّه بها؛ لبيان الفرق بين حاليهما في الدِّين فإنه معصوم. وجملة: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ معطوفة على جملة: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ كلِّها، وليست معطوفة على جملة: ﴿هَمَّتْ﴾ التي هي جواب القسَم المدلول عليه باللام؛ لأنه لـمّا أُردِفَت جملة: ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ بجملة شرط (لولا) المتمحّض لكونه من أحوال يوسف -عليه السلام- وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعيَّنَ أنه لا علاقة بين الجملتين، فتعيَّن أنّ الثانية مستقلّة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها، فالتقدير: ولولا أنْ رأى برهان ربّه لهمَّ بها، فقدّم الجواب على شرطه للاهتمام به. ولم يقرن الجواب باللام التي يكثر اقتران جواب (لولا) بها لأنه ليس لازمًا، ولأنه لـمّا قُدِّم على (لولا) كُره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط، فيحسن الوقف على قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾؛ ليظهر معنى الابتداء بجملة: ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ واضحًا. وبذلك يظهر أن يوسف -عليه السلام- لم يخالطه همٌّ بامرأة العزيز؛ لأنّ الله عصَمَه من الهمِّ بالمعصية بما أَراه من البرهان»[12]. وتكلّم ابن عاشور على استشكال الطبري لهذا التأويل بأنّ جواب (لولا) لا يتقدّم، وذكر الجواب عليه، وتكلّم كذلك على قول السّلف في الآية وتخريجه وأنه لا ينافي عصمة الأنبياء.
ثانيًا: تتابَع السَّلف على أنّ قوله: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ... وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 52- 53]، هو من قولِ يوسف، وأنّ يوسف بَيَّن أولًا أنه لم يَخُنْ سيّده في بيته، ثم قال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ بعدها لـمّا ذُكِّر بالهَمِّ الذي كان منه وإقدامه على مواقعة امرأة العزيز. وليس هذا القول لبعض السَّلَف دون بعض في الآيات، ولكنه قولهم قاطبةً على اختلاف طبقاتهم، ولا يُعْرَف لهم غيره فيها[13].
وقد استظهر ابن عاشور قولًا على النقيض من ذلك القول للسَّلَف، وأنّ الآيتين من كلام امرأة العزيز، حيث قال: «﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾، ظاهر نَظْم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز، وعلى ذلك حمَلَه الأقلُّ من المفسِّرين، وعزاه ابن عطية إلى فِرقة من أهل التأويل، ونُسب إلى الجبّائي، واختاره الماوردي، وهو في موقع العلّة لِما تضمّنته جملة: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [يوسف: 51] وما عطف عليها من إقرارٍ ببراءة يوسف -عليه السلام- بما كانت رَمَتْه به. فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ﴾، أي: ذلك الإقرار ليعلم يوسف -عليه السلام- أني لم أخنه»[14]، وقال في الآية الثانية: «﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 53]: ظاهر ترتيب الكلام أنّ هذا من كلام امرأة العزيز، مضَت في بقية إقرارها، فقالت: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾؛ وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ [يوسف: 52] من أنّ تبرئة نفسِها من هذا الذنب العظيم ادّعاء بأنّ نفسَها بريئة براءة عامة، فقالت: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾، أي: ما أبرِّئ نفسي من محاولة هذا الإثم؛ لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمَرَتْني بالسوء ولكنه لم يقع...»[15].
ثالثًا: في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها﴾ [النمل: 8]، اختلَف السلف[16] في ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾، فقال بعضهم: عَنى الله -جل جلاله- بذلك نفسَه، وهو الذي كان في النار، وكانت النارُ نورَه، وقال بعضهم: المعنى: بُورِكَت النار[17].
وانتصر ابن عاشور لخلاف هذه الأقوال، حيث قال: «و﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ مرادٌ به موسى؛ فإنه لـمّا حلّ في موضع النور صار محيطًا به، فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف، فعبّر عنه بـ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ وهو نفسُه. والعدول عن ذِكره بضمير الخطاب كما هو مقتضى الظاهر، أو باسمه العَلَم إن أُريد العدول عن مقتضى الظاهر؛ لأنَّ في معنى صِلَة الموصول إيناسًا له وتلطفًا، كقول النبيء -صلى الله عليه وسلم- لعليّ: (قُم أبَا تُراب). وكثيرٌ التلطفُ بذِكر بعض ما التبس به المتلطَّف به من أحواله. وهذا الكلام خبرٌ هو بشارةٌ لموسى -عليه السلام- ببركة النبوءة»[18].
رابعًا: في قوله تعالى: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [القيامة: 9]، ورَد عن السَّلَف عدد من العبارات[19]؛ فقال ابن عباس: يُجعلان في نور الحُجُب، وقال عطاء بن يسار: يُجمعان يوم القيامة، ثم يُقذفان في البحر، فيكون نارَ الله الكُبرى، وقال مجاهد وعبد الملك بن جريج: كُوِّرَا يوم القيامة، وقال مقاتل: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ كالبقرتين المقرونتين يوم القيمة قيامًا بين يدي الخلائق، وقال عبد الرحمن بن زيد: جُمِعَا فَرُمِيَ بهما في الأرض.
وذهب ابن عاشور إلى أنّ المعنى هو ابتلاع الشمس لجِرم القمر، فقال: «ومعنى جمع الشمس والقمر: التصاق القمر بالشمس فتلتهمه الشمس؛ لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب، ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي»[20].
خامسًا: اختلف السَّلَف في المراد بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4] على أقوال[21]؛ الأول: في أعدلِ خلقٍ، وأحسنِ صورة. الثاني: استواء الشباب، واكتمال القوّة. الثالث: أنه قيل ذلك لأنه ليس شيء من الحيوان إلا وهو منكبّ على وجهه غير الإنسان.
وقد ذهب ابن عاشور لخلاف ذلك مبينًا أنّ المراد: ما وهبه الله للإنسان من العقل والفطرة السليمة التي يدرك بها وجود الله ووحدانيته، وذلك حتى يكون الإنسان مناسبًا في خلقه للدور المطلوب منه.
يقول ابن عاشور: «والتقويم: جَعْلُ الشيء في قَوام (بفتح القاف)، أي: عدل وتسوية، وحُسْنُ التقويم أكملُه وألْيَقُه بنوع الإنسان، أي: أحسن تقويم له، وهذا يقتضي أنه تقويم خاصّ بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ويتّضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه مُوقِعةً له فيما يُفسِدُه، ولا يعوق بعضُ قواه البعضَ الآخر عن أداء وظيفته؛ فإنّ غيره من جنسه كان دونه في التقويم...فأفادت الآية أنّ الله كوَّن الإنسان تكوينًا ذاتيًّا متناسبًا ما خلقَ له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته»[22].
وانتقد ابن عاشور ارتباط حُسن التقويم بجسد الإنسان كما في الوارد عن أقوال السَّلَف، فقال: «وليس تقويمُ صورة الإنسان الظاهرة هو المعتبَرَ عند الله تعالى ولا جديرًا بأن يُقسِم عليه؛ إِذْ لا أثر له في إصلاح النفس، وإصلاح الغير، والإصلاح في الأرض؛ ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القسَم بالتين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين. وإنما هو متمِّم لتقويم النفس، قال النبيء -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى أجسَادِكُم ولا إلى صُوَرِكُم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكُم)؛ فإنّ العقل أشرفُ ما خُصّ به نوع الإنسان من بين الأنواع. فالمرضِيُّ عند الله هو تقويم إدراك الإنسان ونظره العقلي الصحيح؛ لأنّ ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد؛ إذ الجسم آلة خادمة للعقل، فلذلك كان هو المقصود من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، وأمّا خلقُ جسدِ الإنسان في أحسنِ تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة...»[23].
وقال أيضًا: «والذي نأخذه من هذه الآية أنّ الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطرَ اللهُ النوع ليتّصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكًا مستقيمًا مما يتأدّى من المحسوسات الصادقة، أي الموافِقَة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤدّيه الحواس السليمة، وما يتلقّاه العقل السليم من ذلك ويتصرّف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمَين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضارّ، أو لو تسلَّطَت عليه تسلُّطًا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحقّ والصواب، لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولَمَا صدرت منه إلا الأفعال الصالحة، ولكنه قد يتعثّر في ذيول اغتراره ويرخي العِنَان لِهَواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلَّب عليه دُعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعًا أو كرهًا، ثم لا يَلبث أن يَستحكم فيه ما تقلَّده فيعتاده وينسى الصواب والرشد. ويفسّر هذا المعنى قولُ النبيء -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن مولودٍ إلا يُولَدُ على الفطرةِ، ثم يكون أبَوَاه هما اللذان يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه)»[24].
سادسًا: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: 5]، ورَدَ عن السَّلَف قولان[25]: أحدهما: رددناه إلى أرذل العُمُر. الثاني: رددناه إلى النار.
وفارق ابن عاشور في تفسيره هذه الأقوال وخالفها، مبينًا أنَّ الرّدَّ المعنِيَّ هو ما يقوم به الإنسان من تغيير فطرته وابتعاده عن الله ومراقبته، حتى صار هذا الإنسان في أحَطِّ الدرجات عقلًا وأخلاقًا.
يقول ابن عاشور: «والردُّ حقيقتُه إرجاعُ ما أُخِذ من شخص أو نُقِل من موضع إلى ما كان عنده، ويُطلَق الردُّ مجازًا على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازًا مرسلًا بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا... فالمراد: أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه؛ بقرينة قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [التين: 6]. وحقيقة السفالة: انخفاض المكان، وتطلق مجازًا شائعًا على الخِسَّة والحَقارة في النفس، فالأسفل الأشدّ سفالة من غيره في نوعه. والسافلون: هم سفلةُ الاعتقاد، والإشراكُ أسفلُ الاعتقاد، فيكون ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ مفعولًا ثانيًا ﴿رَدَدْنَاهُ﴾؛ لأنه أُجري مجرى أخوات صار.
والمعنى: أنّ الإنسان أخَذ يغيّر ما فُطر عليه من التقويم، وهو الإيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته، فصار أسفل سافلين، وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوان الأبكم من بقرٍ أو تماسيح أو ثعابين...»[26].
سابعًا: اختلف السَّلَف في المراد بالبَيِّنة في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4] على قولين[27]؛ فقال بعضهم: أنها النبيُّ محمد صلوات الله عليه وسلامه، وقال بعضهم: القرآن[28].
وخالف ابن عاشور هذه الأقوال منتصرًا -تبعًا لدلائل أبداها- لكون البيِّنة هي عيسى عليه السلام، فقال: «والمراد بهذه البيِّنة الثانية مجيء عيسى عليه السلام؛ فإنَّ الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثالُ إلياس واليسع وأشعياء. وقد أجمع اليهود على النبيءِ الموعودِ به تجديدُ الدين الحقّ وكانوا منتظرين المخلِّص، فلما جاءهم عيسى كذَّبوه، أي: فلا يطمع في صِدقهم فيما زعموا من انتظار البيِّنة بعد عيسى وهم قد كذَّبوا ببيِّنة عيسى، فتبيَّن أنّ الجُحود والعناد شنشنة فيهم معروفة. والمراد بالتفرُّق: تفرق بني إسرائيل بين مكذِّب لعيسى ومؤمِن به، وما آمنَ به إلا نفرٌ قليل من اليهود. وجُعل التفرق كناية عن إنكار البيّنة؛ لأنّ تفرّقهم كان اختلافًا في تصديق بيّنة عيسى عليه السلام، فاستُعمل التفرّق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مَذَمّتهم بالاختلاف بعد ظهور الحقّ، كقوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: 19]...»[29].
ويعلِّق ابنُ عاشور على وجهته في معنى التفرُّق في الآية، فيقول: «وقد أطبقَت كلمات المفسِّرين على أنّ معنى قوله تعالى: ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾؛ أنهم ما تفرّقوا عن اتّباع الإسلام، أي: تباعَدوا عنه، إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا تأويل لِلَفظِ التفرّق، وهو صرفٌ عن ظاهره بعيدٌ، فأشكلَ عليهم وجهُ تخصيص أهل الكتاب بالذِّكْر مع أنّ التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد بـ(البيّنة) الثانية عين المراد بالأُولى وهي بيِّنة محمد صلى الله عليه وسلم...»[30].
ويظهر من خلال ما قدّمنا أنّ ابن عاشور يصحح ويقرّر معاني تناقض ما ذكره السَّلَف، وتخرّج عما فيه إجماعهم واتفاقهم الواضح، وهو ما يبين ذهاب ابن عاشور لتجويز الإِحداث مطلقًا، وأنه يقبل هذا الإِحداث بدون وضعِ قيود وضوابط عليه؛ كاشتراط عدم نقض القول المحدَث للإجماع مثلًا، وغير ذلك.
وكذلك فإنّ ابن عاشور قد يصحِّح خلافَ ما عليه جُلّ المفسِّرين قبله، وليس ما عليه المفسِّرون من طبقة السّلف فقط، وهو ما يظهر من بعض الأمثلة السابقة كـ(تفسير البيِّنة)، ومن أمثلة ذلك أيضًا أنّ جُلّ المفسّرين ذهبوا إلى أنّ الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19- 22]، هو استثناء متصل، وأنّ المصلِّين غير داخلين في عِداد مَن خُلق هلوعًا؛ لأنهم جاهَدوا أنفسهم بالتقوى، أو لأنهم ما خُلقوا كذلك[31].
يقول ابن عطية: «﴿إِنَّ الْإِنْسانَ﴾ عموم لاسمِ الجنس، لكن الإشارة هنا إلى الكفّار[32]؛ لأنّ الأمْرَ فيهم وَكِيدٌ كثير، والهَلَعُ فزعٌ واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع... وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ أي: إلّا المؤمنين الذين أمْرُ الآخرة أوكَدُ عليهم من أمْرِ الدنيا، والمعنى: أنّ هذا المعنى فيهم يقِلُّ؛ لأنهم يجاهِدونه بالتقوى»[33].
وقد ذهب ابن عاشور لكون الاستثناء منقطعًا، وأنه ناشئ عن الوعيد المتقدِّم في قوله: ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ﴾ [المعارج: 11] الآية، وذكر أنّ المعنى: «لكنّ المصلِّين الموصوفين بكَيْت وكَيْت أولئك في جنات مكرمون... والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة. وهذه صفاتٌ ثمانٍ هي مِن شعارِ المسلمين، فعدلَ عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال مِن خصالهم إطنابًا في الثناء عليهم؛ لأن مقام الثناء مقام إطناب...، وهذه الصفات لا يشاركهم المشركون في معظمها بالمرّة، وبعضها قد يتّصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حقّ مراعاته باطراد، وذلك حفظ الأمانات والعهد...، ولـمّا كان وصف المصلِّين غلَب على المسلمين كما دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ الآية [المدثر: 42، 43]، أتبع وصف المصلِّين في الآية هذه بوصف الذين هم على صلاتهم دائمون، أي: مواظبون على صلاتهم لا يتخلّفون عن أدائها ولا يتركونها...»[34].
وجدير بالنظر أن الكتابات التي تعالج أمر الإِحداث في التفسير يجري فيها تجاوُز عدِّ القول بجواز الإِحداث مطلقًا، وإهمال ذِكْره بصورة مستغربة، فقد بنى مثلًا الدكتور أمين المزيني بحثه في مسألة الإِحداث على وجود قولين: التجويز بقيود، والمنع المطلق[35]. وأمّا الدكتور رأفت المصري فنسب التجويز المطلق للإِحداث لبعض من اشتهرت نِسبته إليهم في المدونة الأصولية؛ كبعض الحنفية والظاهرية وغيرهم، كما أنه لـمّا انتصر في بحثه للمنع من الإِحداث إنِ اقتضى رَفْعَ كلِّ ما ذكره السابقون، والتجويز والإباحة إن لم يقتضِ ذلك، ذَكَر في معرض تدعيمه لترجيحه مناسبة هذا الترجيح لطبيعة القرآن وطبيعة التفسير؛ من حيث أنه نضّاح بالمعاني، وساق كلام ابن عاشور السالف، ثم حاول توجيهه، فقال: «وما قاله ابن عاشور هنا ثمين، ونحن نوجّهه باتجاهين: الأول: أن الكلام هذا يصحّ في مجمله على ما لم يَنقُضْ كلَّ كلام المتقدِّمين ولم يرفعه جملة. الثاني: أنه يقصد به ما سوى المعنى الأصيل للآية؛ من اللطائف والمعاني كما هو واضح في كثير من محطّات كلامه»[36]. وصنيع الدكتور رأفت مشكِل، فتخريجه الأول لكلام ابن عاشور فيه إقرار بشكلٍ أو بآخر لاحتمال ذهاب ابن عاشور لتجويز الإِحداث بصورة مطلقة، ما كان يلزم منه ضرورة تحريره موقف ابن عاشور بصورة واضحة، وتقديمه كقول ضمن سياق الأقوال في المسألة باعتباره أحد العلماء الذين خاضوا فيها، وليس إيراد كلامه بهذه الصورة بعد عرض الأقوال ونقاشها[37]، وأمّا تخريجه الثاني لكلام ابن عاشور فلا يتّجه؛ لأن كلام ابن عاشور وإنْ حوى ما هو فوق المعنى مما يعدّ خارج محلّ النزاع كما ذكرنا، إلا أن به ما يتعلّق بوضوح بالمعنى محلّ النزاع في مسألة الإِحداث، وذهابه لجواز إحداث المعنى الجديد بصورة مطلقة، كما أن الواقع التطبيقي للكتاب يدلّ بصورة بيِّنة على هذا التجويز.
خاتمة:
عالجنا في هذه المقالة موقفَ المفسِّر الكبير الطاهر بن عاشور من مسألة الإِحداث في التفسير، وقد بانَ لنا نزوعه لقبول الإِحداث بصورة مطلقة بغير قيود وشروط، وهو نزوع تجلَّى في واقعه النظري التأصيلي في مقدمات تفسيره، وكذلك شهد به واقعه التطبيقي وتعاطيه العملي مع المعاني، وكيف أنه كان يخالف ما أورده السَّلَف من المعاني ويصحّح بعض المعاني التي تتعارض صراحة مع الوارد عن السَّلَف والمفسِّرين قبله.
إنَّ مسألة الإِحداث في التفسير مسألة شائكة وقد احتفّ بها جدلٌ كبيرٌ، وربما اشتهرت فيها بعض النظرات والاتجاهات، ولعلّ ما أبديناه من مذهبِ ابن عاشور يقدِّم نظرةً وموقفًا ليس بالمشتهر في النظر لهذه القضية والتأصيل لها، وإن كان له امتداد تطبيقي بارز في كتب التفسير، وهو موقف يعين بحضوره وحضور أدلّته على تثوير النظر للواقع التفسيري التطبيقي والحاجة لتحرير مواقف المفسِّرين وفهمها، وكذلك تثوير النقاش في مسألة الإِحداث ذاتها وتطوير الجدل فيها، ولعلّ الله تعالى ييسّر لنا في القريب عقدَ بحث لمناقشة مسألة الإِحداث بتوسّع ومناقشة الآراء ودلائلها وبيان أَوْلاها بالصواب، والله الموفِّق.
[1] يراجع: تحقيب الممارسة التفسيرية؛ قراءة في التحقيب المعاصر، وتحقيب معياري مقترح، بحث ضمن كتاب: تأسيس علم التفسير؛ مقاربة تأسيسية مقترحة، خليل محمود اليماني، مركز نماء، 2024م. (تحت الطبع). والكلام في بناء المراحل يكون بحسب الغالب.
[2] يراجع: إِحداث قول جديد في التفسير بين المجيزين والمانعين؛ دراسة تحليلية تطبيقية، أمين المزيني، بحث منشور بمجلة تبيان للدراسات القرآنية، عدد 31، لعام 1440هـ، ص434.
[3] يراجع كتابنا: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة تحليلية نقدية، مركز تفسير، 2021م.
[4] يقول ابن عاشور: «وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف. فكانت مدةُ تأليفه تسعًا وثلاثين سنة وستة أشهر. وهي حقبة لم تخلُ من أشغال صارفة، ومؤلّفات أخرى أفنانها وارفة، ومنازع بقريحةٍ شاربةٍ طورًا وطورًا غارفة، وما خلا ذلك من تشتّت بالٍ، وتطوّر أحوال، مما لم تخلُ عن الشكاية منه الأجيال، ولا كُفران لله فإنَّ نعمَه أَوْفى، ومكاييلَ فضله عليَّ لا تُطفَّفُ ولا تُكْفَا. وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن يُنجِد ويَغُور، وأن ينفع به الخاصّة والجمهور، ويجعلني به من الذين يرجون تجارة لن تبور. وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسَى شرقيّ مدينة تونس». التحرير والتنوير، ابن عاشور، الدار التونسية للنشر- تونس، 1984م، (30/ 636- 637).
[5] للتعرّف على طبيعة التصنيف الذي ينتمي إليه تفسير ابن عاشور ضمن خارطة تصنيف التفاسير وانخراطه في تحرير المعاني مع العناية بطرح المعاني الجديدة، يراجع: التحرير والتنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور (ت: 1349هـ): طبعاته- مصادره- ملامحه- تصنيفه- الدراسات حوله، تقرير منشور على مرصد تفسير للدراسات القرآنية.
[6] التحرير والتنوير، ابن عاشور، (1/ 28).
[7] التحرير والتنوير، (1/ 28- 29).
[8] التحرير والتنوير (1/ 29).
[9] التحرير والتنوير (1/ 6- 7).
[10] ورد تفسير الهمّ بما ذكَرْنا عن عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، والضحاك، والحسن البصري، وابن أبي مليكة، والسدي، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن إسحاق. يراجع: موسوعة التفسير المأثور، (11/ 557- 559).
[11] فلم يَحْكِ الطبري ولا غيره من الكتب المعتنية بذكر المأثور عن السلف غير هذا القول عنهم، وجدير بالنظر أن ابن تيمية رفض هذا القول للسّلف وانتقده، وانتصر للقول بأنّ الهمَّ هو همُّ خطرات لا إصرار، وأنه ليس ذنبًا بل حسنة ليوسف عليه السلام. (يراجع: مجموع الفتاوى، 10/ 297)، والقول الذي اختاره ابن تيمية ليس واردًا عن السّلف، وأشار الطبري لقريب منه وعدّه من المخالف للوارد عن السلف، حيث قال بعد أن أورد تفسير السلف لِهَمّ يوسف: «وأمّا آخرون ممن خالف أقوال السلف وتأوَّلوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالًا مختلفة...»، وبعد أن ذكر هذه الأقوال ونقَدَها بمخالفتها لـ«جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله»، وغير ذلك مما أورَد، قال: «وقال آخرون منهم: بل قد همَّت المرأة بيوسف وهمَّ يوسف بالمرأة، غير أن همّهما كان تمثيلًا منهما بين الفعل والتَّرْك، لا عزمًا ولا إرادة؛ قالوا: ولا حرج في حديث النفس، ولا في ذِكر القلب إذا لم يكن معهما عزم ولا فعل». تفسير الطبري (13/ 86)، ويراجع في تفصيل ذلك الموقف من ابن تيمية وأسبابه: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة تحليلية نقدية، ص206- 207.
[12] التحرير والتنوير (12/ 252- 253).
[13] قد ورَد ذلك عن ابن عباس، وابن أبي الهذيل، وحكيم بن جابر، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة، والحسن، وأبي صالح باذام، وقتادة بن دعامة، والسدي، وكذلك ورد عن مقاتل بن سليمان، وابن جريج، وابن إسحاق. يراجع: موسوعة التفسير المأثور (11/ 649- 653).
[14] التحرير والتنوير (12/ 292).
[15] التحرير والتنوير (13/ 5). وقد أشار ابن عاشور لقول السلف في خاتمة كلامه وتفسيره للآية.
[16] يراجع: موسوعة التفسير المأثور (16/ 437- 439).
[17] هذا القول قال به مجاهد، وقال الواحدي معلقًا على هذا القول: «والتبرك عائد إلى النار. وهذا يكون على قراءة أُبيِّ، فإنه كان يقرأ: ﴿أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، ولا يتوجّه قول مجاهد على قراءة العامة». التفسير البسيط، الواحدي (17/ 167- 168).
[18] التحرير والتنوير (19/ 226). وما رجّحه ابن عاشور هاهنا رجّحه الواحدي كذلك، حيث قال: «فالأحسن: أنّ الآية من باب حذف المضاف على تقدير: بُورك مَن في طلب النار، وهو موسى -عليه السلام-، وكأنّه تحية من الله -عز وجل- لموسى بالبركة، كما حيَّا إبراهيمَ بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: 73]» التفسير البسيط، الواحدي (17/ 164- 165)، ورآه الرازي أقرب الأقوال (تفسير الرازي، 24/ 544)، وذهب الزمخشري لأنّ المراد: «بُورك مَن في مكان النار، ومَن حول مكانها. ومكانها: البقعة التي حصلت فيها، وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾». تفسير الزمخشري (3/ 349).
[19] يراجع: موسوعة التفسير بالمأثور (22/ 456- 457).
[20] التحرير والتنوير (29/ 345).
[21] يراجع: تفسير الطبري (24/ 510)، زاد المسير (4/ 464).
[22] التحرير والتنوير (30/ 423- 424).
[23] التحرير والتنوير (30/ 424).
[24] التحرير والتنوير (30/ 425).
[25] يراجع: تفسير الطبري (24- 513)، زاد المسير (4/ 464- 465)، النكت والعيون (6/ 302).
[26] التحرير والتنوير، ابن عاشور (30/ 427).
[27] يراجع: زاد المسير (4/ 476).
[28] هذا القول قال به أبو العالية.
[29] التحرير والتنوير، ابن عاشور (30/ 478- 479).
[30] التحرير والتنوير (30/ 479).
[31] تفسير الطبري (23/ 267).
[32] ذهب بعضهم أن المراد بالإنسان: الكافر، وذهب بعضهم أن المراد: عموم الجنس.
[33] المحرر الوجيز (5/ 368). ويراجع أيضًا: تفسير الطبري (23/ 267)، وتفسير الماتريدي (10/ 206)، وتفسير الزمخشري (4/ 612)، وتفسير القرطبي (18/ 291)، وتفسير البيضاوي (5/ 246)، وتفسير الإيجي (4/ 372- 373)، وغير ذلك.
[34] التحرير والتنوير، ابن عاشور (29/ 171). جدير بالنظر أن الطِّيبي ذَكَر في حاشيته إمكان اعتبار الاستثناء في الآية منقطعًا، فقال: «ويمكن أن يجعل الاستثناء منقطعًا، وتكون الآيات المذكورة فيها أوصاف المؤمنين المرتَّب عليها الثواب، مقابلة لما ذُكر من أوصاف الكافرين المستحَق بها العقاب، وهو قوله: ﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾، بدليل خَتْم الآيات بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾، ويكون قوله: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ إلى آخره، تعليلًا لقوله: ﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾...». فتوح الغيب (16/ 21). وقد أورده كذلك الآلوسي في تفسيره (15/ 70).
[35] يراجع: إحداث قول جديد في التفسير بين المجيزين والمانعين؛ دراسة تحليلية تطبيقية، أمين المزيني، ص411- 490.
[36] إحداث قول جديد في التفسير بين المانعين والمجيزين، رأفت المصري، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، عدد 105، عام 1437هـ= 2016م، ص169.
[37] وهذا ربما بسبب انحصاره في طرح المسألة من خلال أنظار السابقين -لا سيما الأصوليين- ما جعله يتقيد بأقوال السابقين ولا يكون منفتحًا على غيرها وساعيًا لبناء الأقوال في المسألة بحسب مختلف مَن عالجوها ولهم رأي فيها، سواء أكانوا من المتقدمين أم المتأخرين.