القَسَم بالنجم في سورتي النجم والواقعة
قراءةٌ في التناسب
الحمد لله منزل الكتاب؛ ليُتدبَّر في آياته وليَتذكَّر أولو الألباب، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى آله والأصحاب، أمّا بعد:
فإنَّ التناسب بين آيات القرآن الكريم مِن أرحبِ مجالات التدبُّر في كتاب الله -عز وجل- والتفكُّر فيه، ومن أحسن الطرق الموصلة إلى كشف أسراره والوقوف على لطائفه؛ إِذْ أكثر لطائف القرآن -كما يقول الفخر الرازي- مودعَةٌ في الترتيبات والروابط[1]. وإنَّ مِن أبرزِ مواطن التدبُّر في هذا الأسلوب القرآني البديع النَّظَرَ في وجوه التناسب بين ما يُقسِم الله به وما يُقسِم عليه؛ إِذْ يُعَدّ التناسب بين هذين الطرفين من أهم خصائص القَسَم في القرآن المجيد، وفي ذلك يقول ابن برَّجان الإشبيلي فيما ينقله عنه البقاعي: «واعلم أنّ الله -عز وجل- ما أقسَم بقَسَم إلا مطابقًا معناه لمعانٍ في المقسَم من أجله»[2]. وهذا الذي قاله ابن برَّجان يكاد يُطْبِق عليه كلُّ مَن خَبِرَ أسلوبَ القَسَم في القرآن وأمعنَ فيه النظر، وشحذ فيه الذِّهن، وأعمل فيه الفكر؛ إِذْ إنَّ التوافق الحاصل بين طرفي القسَم -كما يقول الشيخ أبو شهبة- قد يخفى على غير ذي العقل الذكيِّ، والنظر الشفاف، والحسّ الدقيق[3]. وقد اعتنى بإبراز التناسب بين المقسَم به والمقسَم عليه العلَّامة ابن القيم في كتابه: (التبيان في أقسام القرآن)، فذكر في ذلك من اللطائف الحِسَان على بعض أقسام القرآن ما يعدُّ شاهدَ صِدقٍ وحقٍّ على هذا المعنى، ناهيك عمَّا ورَدَ من ذلك في كتب التفسير التي اعتنت بالتناسب بين الآيات؛ كتفسير الفخر الرازي، وبرهان الدين البقاعي، والطاهر ابن عاشور.
وإنَّ مِن أدقِّ النماذج القرآنية الكاشفة عن هذا المعنى من التناسب البديع بين المقسَم به والمقسَم عليه ما وقع من القَسَم بالنجم وبمواقعه في موضعين من التنزيل الحكيم، وهما قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: 1]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: 75]. فهذان النموذجان جديران بالتأمّل والتدبّر لِمَا فيهما من الدلالة على سموّ بلاغة القرآن عن أيِّ بيان، وبلوغها غاية الإحكام في حُسن الربط بين طرفي الإقسام، وهو ما سأحاول بيانه في هذه المقالة بتناول هذين النموذجين من ناحيتين؛ تتعلّق أُولاهما بالكشف عن دلالات القسَم بالنجم في الموضعين ووجه مناسبته لما أُقسم به عليه فيهما، وتتعلّق ثانيتُهما باختلاف صيغ القسَم بالنجم في الموضعين؛ إِذْ جاء بصيغة الإفراد في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: 1]، ثم جاء بصيغة التعدّد والجمع في قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: 75]؛ فلا جَرَم كان في اختلاف الصيغتين في الموضعين سرٌّ ينبغي أن يُلاحَظ، اقتضاه حال المقسَم عليه في كلٍّ من السورتين.
وتأتي هذه المقالة في دراسة هذين القَسَمَيْن في السورتين الكريمتين بناءً على القول بأنّ المراد بالنجم فيهما النجوم الواقعة في السماء؛ إِذْ تعدّدت مذاهب المفسِّرين في المراد بذلك في الموضعين، قال ابن جزيّ ناقلًا أهمَّها في القَسَم في سورة النجم: «﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها الثُّرَيَّا؛ لأنها غلب عليها التسمية بالنجم، ومعنى هَوَى: غَرَب وانتَثَر يوم القيامة. الثاني: أنه جنس النجوم، ومعنى هَوَى كما ذكرنا، أو انقَضَّت تَرجُم الشياطين. الثالث: أنه من نجوم القرآن، وهو الجملة التي تنزل، وهَوَى -على هذا- معناهُ نَزَل»[4]. وأظهر هذه الأقوال عند جمعٍ من المفسِّرين هو القول الثاني[5]، وهو أنّ المراد بالنجم النجوم في السماء، فيكون المقسَم به اسمَ جنس لها، وفي ذلك يقول العلّامة السعدي مرجِّحًا هذا القول ومكتفيًا به: «والصحيح أنّ النجم، اسم جنس شامل للنجوم كلّها»[6]. وهو القول الذي اختاره ابن القيم -قبل ذلك- في (التبيان) وردَّ غيرَه من الأقوال واستبعَدَها، مع اختيار كون هُوِيِّها سقوطها رجومًا للشياطين[7]. والظاهر أنّ هذا القول الثاني هو أحسن الأقوال في تفسير هذا القسَم في سورة النجم، وأنسبُها بالمقسَم عليه، كما سيتبيَّن ذلك من خلال هذه المقالة.
وما قيل في القسَم بالنجم في سورة النجم يُقال مثله في القسَم الواقع في سورة الواقعة؛ إِذْ قيل في تفسيرها: هي نجوم القرآن التي نزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما، بينما قال جمهورٌ كثيرٌ من المفسِّرين -على تعبير ابن عطية-: النجوم هنا الكواكب المعروفة[8]. قال ابن القيم: «ويُرجِّح هذا القول أنّ النجوم حيث وقعَت في القرآن فالمراد منها الكواكب؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ [الطور: 49]، وقوله: ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ﴾ [الحج: 18]»[9]. ومواقعُها: مساقطها عند غروبها، وقيل غير ذلك أيضًا. والأظهر من القولين ما ذهب إليه الأكثرون من كون النجوم هنا هي نجوم السماء، وبمواقعها مساقطها عند غروبها، أو مواقعها عند الانقضاض إثر الشياطين، نظير قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: 1].
فعَلَى هذا الاختيار إذًا من أقوال المفسِّرين في كون المقسَم به من النجم في الموضعين هو النجوم في السماء تنبني هذه المقالة وما يرِدُ فيها من قراءةٍ في التناسب الحاصل في القَسَمين من السورتين الكريمتين.
1- في دلالات القَسَم بالنجم في السورتين الكريمتين:
تقدَّم آنفًا الإشارة إلى مراعاة القرآن التناسب بين المقسَم به والمقسَم عليه، وأنّ ذلك معدود من خصائصه الفريدة وأسراره العجيبة المتعلّقة بهذا الفنّ البلاغي؛ وبناءً على هذا فقد حرص جماعة من نبهاء المفسِّرين على الكشف عن وجه المناسبة بين القسَم بالنجم في سورتي النجم والواقعة وبين المقسَم عليه فيهما، وذلك بناءً على القول الذي اخترناه في المراد بالقسَم في الموضعين، ومُحصِّلة ما ذكروه في ذلك يعود إلى ما في النجم من خاصية الإضاءة والإنارة؛ إِذْ جُعل بذلك مصدر اهتداء للسائرين في ظلمات البرّ والبحر، كما قال تعالى في شأنه ممتنًّا به على عباده: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 97]، وقد ناسَب النجمُ بخاصيته هذه حال المقسَم عليهما في الموضعين من سورتي النجم والواقعة؛ إذ كان المقسَم عليه في الأُولى هو صِدق نبوّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ نفَى الله عنه فيها الضلالة والغواية وأثبت له فيها الرشد والهداية، فقال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 1- 4]، ووجه المناسبة بين النجم والرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنّ النجم جُعل هُدًى للناس في ظُلُمَات الليل الحسيَّة، كما جُعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما معه من الوحي هُدًى لهم في الظُّلُمات المعنويَّة، وهي الكُفر والجهل وسائر ما يعتري القلب من الصفات الدنيَّة، كما قال تعالى في شأن ذلك: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 9]، وفي تأكيد هذا المعنى يقول الفخر الرازي: «والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- لـمّا ظهر قَلَّ الشكّ والأمراض القلبية، وأُدركت الثمار الحِكَمِيَّة والحِلْميَّة، وعلى قولنا: المراد -أي بالنجم المقسَم به- هي النجوم التي في السماء للاهتداء، نقول: النجوم بها الاهتداء في البراري؛ فأقسم الله بها لِمَا بينهما من المشابهة والمناسبة»[10]، بل يزيد الفخر في الكشف عن وطيد المناسبة الموجودة بين طرفي القَسَم المذكورين فيقول مجيبًا عن تساؤل يطرحه في الموضوع: «ما الفائدة في تقييد القسَم به -أي بالنجم- بوقت هُوِيِّه؟ نقول: النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيدًا عن الأرض لا يهتدي به الساري؛ لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال؛ كذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-خفضَ جناحَه للمؤمنين، وكان على خُلُق عظيم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وكما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]»[11]. ولقوّة هذه المناسبة الكائنة بين طرفي القَسَم قال العلّامة أبو السعود: «وفي الإقسام بذلك -أي بالنجم وقت هُوِيِّه- على نزاهته -عليه الصلاة والسلام- عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة، وحسن الموقع ما لا غاية وراءه»[12].
وإنّ مِن تمامِ التناسُب في دلالة القسَم بالنجم حال هُوِيِّه على المقسَم عليه في هذا الموضع تعدُّدَ وجوهِ ذلك؛ إِذْ كان في هذا الإقسام وجهٌ آخر من الدلالة ينضاف لِمَا قيل، نـبّه عليه العلّامة ابن عاشور -على عادته في الإتيان بالدقائق-؛ حيث بَيَّن مناسبة القسَم بالنجم حال هُوِيِّه لنزول القرآن الكريم من السماء، وهو الأمر الذي كان يُـنكره المشركون وينسبون بسببه النبي -صلى الله عليه وسلم- للضلالة والغواية المنفيتين عنه في جواب القسَم؛ إِذ ذِكر مشابهة حال النجم في نزوله من السماء حال نزول أمرٍ منير إنارة معنويَّة منها، وهو القرآن الكريم؛ فيكون ذلك من باب تمثيل المعقول بالمحسوس تقريبًا لإمكان وقوعه في الأذهان كي لا تعتقد استحالته، أو القصد هو الإشارة بذلك إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله، وذلك كلّه مناسب لقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4].
وأمّا فيما يتعلق بمناسبة القَسَم بمواقع النجوم في سورة الواقعة للمقسَم عليه فيها، وهو القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: 75- 77]، فإنَّ وجه المناسبة هنا بين طرفي القسَم لا يخفى على متدبّر هذه الآيات؛ إِذْ ناسَبَت النجوم المقسَم بها بخاصية الإنارة المجعولة فيها لقصد هداية الناس في ظُلُمَات الدنيا ما جُعل في القرآن المقسَم عليه من أنوار الهداية المبدِّدَة لِظُلُمَات القلوب، حتى سمّاه الله -لقوّة هذه الصفة فيه- نورًا في مواضع عديدة من كتابه، كما في قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ [التغابن: 8]، وفي هذا الصَّدد يقول العلّامة ابن القيم: «النجوم جعَلَها اللهُ يُهتدى بها في ظُلُمَات البرّ والبحر، وآيات القرآن يُهتدى بها في ظُلُمَات الجهل والغيّ. فتلك هداية في الظّلمات الحسيّة، وآيات القرآن هداية في الظّلمات المعنوية، فجمعَ بين الهدايتين»[13]. وقد أُضِيفَت النجوم في هذا القسَم إلى مواقعها، أي: مساقطها عند الغروب للإيماء إلى آيات القرآن ومواقعها عند النزول، وذلك مِن تمام المناسبة بين طرفي القَسَم[14].
والذي يتأكّد مما سبق أنّ مغزى القسَم بالنجم على صِدق النبوّة ونزول القرآن عائد لِمَا في كلٍّ من طرفي القسَم من خاصية الإنارة المبدِّدَة للظُّلْمَة، وقد جرَتْ عادة القرآن على ملاحظة هذا المعنى فيما يُقسم به من الكائنات على نزول القرآن؛ إِذْ أقسَم عليه كذلك بالضُّحَى في قوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 1- 3]، قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: «ومناسبة القسَم بـ﴿الضُّحَى وَاللَّيْلِ﴾ أنّ الضُّحَى وقتُ انبثاق نور الشمس، فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به»[15]، ومثله ذكر العلّامة ابن القيم في (التبيان) مع مزيد بيان[16].
2- في دلالات اختلاف صيغ القَسَم بالنجم في السورتين:
إنّ من تمام التناسب الذي ينضاف إلى ما قيل في القسَم بالنجم في السورتين الكريمتين ما صيغ به القسَم في الموضعين صياغة مناسبة لحال المقسَم عليه ودلالاته؛ إِذْ جاء في سورة النجم بصيغة المفرد، وإن كان المعنى المقصود جمعًا، وهي جميع النجوم الواقعة في السماء، في حين جاء القسَم في الواقعة بصيغة الجمع موافقًا لمعناه المراد، وفي كلٍّ من الموضعين سرٌّ اقتضى تلك الصياغة، أُبينه كالآتي:
أمّا في سورة النجم فقد تقدَّم الذِّكْر بأنّ المقصود من هذا القسَم فيه هو إثبات صِدق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: 2]، ومن ثَمَّ فقد ناسَب أن يكون المقسَم به على صيغة المفرد ليكون مناسبًا للمقسَم عليه الذي هو فرد، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإيثار إيقاع المقسَم به وهي النجوم على صيغة الفرد دون الجمع، قُصد به تسهيل استحضار صورة التماثل بينه وبين المقسَم عليه، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- بجماع النور الذي جُعل في كلٍّ منهما. ولو وقع القسَم بالنجم هنا جمعًا على معناه المراد، والمقسَم عليه فردٌ لكان في ذلك نوعُ تنافُرٍ، ولحصل عُسْرٌ في استحضار صورة التماثل بين الطرفين، واقرأ إن شئت هذا النظم هكذا: (والنجوم إذا هوت، ما ضلّ صاحبكم وما غوى)، فلا شكّ ستلاحظ حينئذٍ عدم وجود تناسُب تام بين المقسَم به والمقسَم عليه؛ لاختلاف الصيغتين بينهما إفرادًا وجمعًا، ولفات غرضٌ من أغراض هذا القَسَم، وهو التنويه بالرسول -صلى الله عليه وسلم- بتمثيله بالنَّجم في تبديده للظُّلُمَات.
ومما يزيد هذا التناسب هنا حُسنًا بين طرفي القسَم المذكورين، ويُضفِي عليه رونَقًا وبهاءً هو تطرّق السورة لقصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- للسماوات العُلا ونزوله منها، وتلك حالةٌ مشابهةٌ لحال نزول النجم مِن علُوّه المفتَتَح بالقَسَم به السورة الكريمة، فيكون في هذا القَسَم حينئذ تصديقٌ لخبرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الواقعة، ونفيٌ للكذب عنه بشأنها بطريق الإيماء اللطيف؛ إِذْ دلَّ القَسَم على إمكان وقوعها بشاهدٍ مرئيٍّ محسوسٍ، وفي ذلك ردٌّ على من كذَّبه من قومه في خبرها، والمشار إليه بعدُ بقوله تعالى: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم:12]، ويكون هذا الإقسام حينئذ أيضًا من باب براعة الاستهلال في أحسن صورها وتجلِّياتها؛ فليُتأمَّل ذلك.
وإِذْ قد كان من مقاصد القسَم بالنجم هنا أيضًا -على ما ذكر العلّامة ابن عاشور- تقريب حال نزول جبريل بالوحي من السماء بحال سقوط النجم منه، من باب تمثيل غائب بـمُشاهَدٍ تقريبًا لإمكان نزول الوحي، فقد ناسَب ذلك أيضًا أن يكون المقسَم به على صيغة الفرد تحقيقًا لذلك الغرض؛ لأنّ النازل بالوحي فردٌ، وهو جبريل -عليه السلام-؛ فتتماثل بذلك الصورتان في الذهن ويسهل تصورهما، وهو أمر كان ليبعد تحقّقه لو أقسم بالنجم هنا جمعًا: (والنجوم إذا هَوَت)؛ إِذْ لا يناسب ذلك الإيماءَ إلى نزول جبريل بالوحي، وهو فردٌ. وذِكْرُ جبريل هو من مقاصدِ السورة وأغراضها بدليل تطرقها إليه لاحقًا في قوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ [النجم: 5- 6]، لا سيِّما مع ذِكر تدلِّيه من السماء إلى الأرض، في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ [النجم: 8]، وذلك موافق لصورة هُوِيِّ النجم من السماء الوارد ذكرها في القَسَم المفتَتَح به السورة، فيكون هذا الإيماء الخفيّ إليه في هذا الموضع من السورة من أحسنِ صور براعة الاستهلال أيضًا، على غرار ما تقدَّم آنفًا.
فليُتأمَّل إذًا كيف أفاد هذا القَسَم في مفتتح السورة الكريمة غرضَين أساسَين من أغراض السورة وناسَبَهما، وهما: نزول جبريل -عليه السلام- بالوحي من السماء، وعروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء ونزوله منها.
وأمّا في مجيء القسَم في سورة الواقعة على صيغة الجمع: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: 75]؛ فإنه أيضًا مناسب للحال التي جاء فيها ذِكر المقسَم عليه، وهو القرآن الكريم؛ إذ عدَّد الله أوصافه في جواب القسَم فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 77- 80]، فالتنويه بالقرآن هنا يشمل جميع ما جاء في حقّه مِن ذِكْرِ شرفهِ وكرمهِ: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، ومِن ذِكر رفعته وحصانته: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾، ومِن ذِكر قداسته وطهارته: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، ومِن ذِكر ربوبية مصدره ونزوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ فهذا التعداد في أوصاف القرآن لا يناسبه إلا حصول التعداد في المقسَم به عليه حتى تكون المناسبة بينهما تامّة.
ولعلَّ من الوجوه الأخرى التي يمكن إيرادها أيضًا في سبب ورود صيغة القسَم بالنجم جمعًا في سورة الواقعة، ومناسبة ذلك للمقسَم عليه، هو ما تضمّنته السورة من تعداد دلائل البعث الذي أنكره الكُفّار، حيث تضمّنت السورة التنبيه على قدرة الله على البعث بقدرته على إيجاد الحياة من أمور هي في حكم الموات أو العدم؛ وذلك بذِكْر قدرته على إخراج الإنسان من مَنِيٍّ، والزرع من حَبٍّ، والماء من سحاب، والنار من أعواد شجر؛ ففي ذلك كلّه مماثلة وتقريب لحال إخراج الناس من قبورهم يوم بعثهم. وإِذْ قد كان القرآن متضمِّنًا لهذه الدلائل العديدة التي يكفي كلّ واحد منها أن يكون هاديًا ومرشدًا لحقيقة البعث ناسَب أن يأتي التنويه به بالنجم الذي هو رمز الإنارة والاهتداء، ويكون ذلك بصيغة الجمع ليناسب ما في القرآن من تعداد الدلائل والأنوار الهادية إلى الحقّ، والتي تقدَّم ذكرُ عددٍ منها في هذه السورة الكريمة في شأن إثبات البعث، فتكون الآيات النازلة بذلك بمثابة النجوم النازلة من السماء، فيَصدُق عليها قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾. وقد أومأ إلى نحو هذا المعنى وأنار السبيل إليه ابن عاشور حيث ذكرَ أنّ الفاء في قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾، هي للتفريع على ما سبق من ذكر أدلّة البعث؛ وأنّ المقصود من القسَم التنويه بالقرآن المشتمل على ذِكْرِ تلك الأدلة؛ إِذْ كان مما أغراهم بتكذيب القرآن اشتماله على إثبات البعث الذي عَدُّوه محالًا، زيادة على تكذيبهم به في غير ذلك مما جاء به من إبطال شِركهم وأكاذيبهم[17].
خاتمة:
يمكن القول في ختام هذه المقالة: إنّ القسَم بالنجم في سورتي النجم والواقعة بالمعنى الذي اخترناه في المراد به فيهما، وبالصيغة التي ورَدَ بها فيهما؛ هو من أظهر الشواهد على حُسْنِ التناسب في آيات القرآن الكريم عمومًا، وهو من أظهرِ ما يكون على حُسنه فيما يُقسِم الله به وما يُقسِم عليه؛ انتقاءً وبناءً؛ -أعني بذلك: مراعاة القرآن التناسب في انتقاء طرفي القسَم، وفي بنائهما وصياغتهما أيضًا الصياغة المتناسبة- وفي ذلك كلّه دلالةٌ على إعجاز هذا القرآن الكريم في نَظْمه وبلاغته، وفيه تصديقٌ لِمَا جاء في جوابي القَسَمين من قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ في سورة النجم، وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ في سورة الواقعة.
كما يُستنتج من ذلك أيضًا ضرورة العناية بعلم المناسبة بين الآيات؛ كمفتاحٍ أساسٍ لتدبّر القرآن واستكناه آياته؛ إِذْ هذا العلم -كما يقول الزركشي وغيره- علمٌ عظيمٌ وشريفٌ؛ يتبيَّن به إحكام القرآن، وتُستنبط به لطائفه الحسان، وتَحْزَرُ -أي تشتد وتقوى- به العقول، ويُعرف به قدر القائل فيما يقول.
[1] انظر: التفسير الكبير، لفخر الدين الرازي، (ط3، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1420هـ)، (10/ 110).
[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، لبرهان الدين البقاعي، (د.ط، القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، د.ت)، (18/ 488).
[3] انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم، لمحمد أبو شهبة، (ط2، القاهرة: مكتبة السنة، 1423هـ= 2003م)، ص246.
[4] التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي، (ط1، بيروت: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، 1416هـ)، (2/ 316).
[5] انظر: التفسير الكبير، للرازي (28/ 233)، وروح المعاني، للآلوسي، (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1415هـ)، (14/ 45).
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، (ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1420هـ= 2000م)، ص818.
[7] انظر: التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، (د.ط، بيروت: دار المعرفة، د.ت)، ص244.
[8] انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1422هـ)، (5/ 251).
[9] التبيان في أقسام القرآن، ص220.
[10] التفسير الكبير (28/ 233).
[11] التفسير الكبير (28/ 233).
[12] إرشاد العقل السليم، لأبي السعود، (د.ط، بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ت)، (8/ 154).
[13] التبيان في أقسام القرآن، ص220.
[14] انظر: التبيان في أقسام القرآن، ص221.
[15] التحرير والتنوير، لابن عاشور، (د.ط، تونس: الدار التونسية للنشر، 1974هـ)، (30/ 394).
[16] انظر: التبيان في أقسام القرآن، ص73.
[17] انظر: التحرير والتنوير (27/ 327).