أثر الإجماع عند الطبري في تفسيره
أثر الإجماع عند الطبري في تفسيره[1]
اعتنَى الطبري في تفسيره بالإجماع اعتناءً ظاهرًا، يشهد لذلك كثرة إيراده له، وتنوّع ما أورده منه، واختلاف أساليبه ومقاصده فيما أورده منه.
ولـمّا كان اهتمام الطبري بالإجماع بهذه المرتبة، فلا شك في ظهور أثرٍ لهذا الاهتمام في تفسيره. وفي هذا المبحث سأبيِّن ما وقفتُ عليه من آثار الإجماع المتعلّقة بالتفسير، فقد بَدَا لي جملة منها، وهي فيما يأتي من نقاط.
أولًا: أثر الإجماع في تخصيص العام:
استدلّ الطبري بالإجماع على تخصيص بعض ما جاء عامًّا من الآيات، فهو بذلك يرى جواز تخصيص عموم القرآن بالإجماع، وهذا أثر من آثار الإجماع في تفسيره، ومن أمثلة ذلك؛ قوله: «وأَوْلَى الأقوال بالصحة قول مَن قال: هما الركعتان بعد المغرب؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ولولا ما ذكرتُ من إجماعها عليه، لرأيتُ أنّ القول في ذلك ما قاله ابن زيد؛ لأنّ الله - جلّ ثناؤه- لم يخصّص بذلك صلاةً دون صلاة، بل عمّ أدبار الصلوات كلّها»[2].
فرجّح الطبري تخصيص قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 40]، بركعتي المغرب؛ وذلك لإجماع الحُجّة على ذلك، مع تقويته للقول بالعموم، ولكن لـمّا أُجمع على التخصيص رجّحه وقدّمه على القول بالعموم.
وقوله: «فأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون مخصوصًا من الآية مَن[3]أجمع الجميع على أنه مخصوص منها؛ وإِذْ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية والأمر بقوله: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35]، إذ كان مُختلفًا بينهما، هل هما مَعنيّان بالأمر بذلك أم لا؟ وكان ظاهر الآية قد عمّهما»[4].
فرجّح الطبري تخصيص الزوجين والسلطان في الآية؛ وذلك للإجماع، حيث أجمعوا على أنّ الأمر في الآية غير خارج عن الزوجين والسلطان. وقوله: «فإنْ قال قائل: إنّ حُكْمَها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها منقولٌ بإجماع، وذلك أنّ الجميع لا خلاف بينهم في أنّ الرفث عند غير النساء غير محظور على مُحرِم»[5].
إلى أن قال: «قيل: إنّ ما خُصّ من الآية فأُبيح خارجٌ من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصّصه الحُجّة من معنى الرفث في الآية»[6].
فبيّن الطبري تخصيص رفث الكلام عند غير النساء من عموم التحريم بالآية، وجعل الإجماع هو المخصّص لهذا العموم.
وكما أنّ الطبري خصص العموم في هذه الأمثلة بالإجماع، فهو في مواضع يرجّح القول بالعموم على القول بالتخصيص، ويعلّل لذلك بعدم ورود دليل على التخصيص كالإجماع وغيره من الأدلة، ومن أمثلة ذلك:
قوله: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يُقال: إنّ الله تعالى حَرَّم قتل صيد البَر على كلّ مُحْرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا... ولم يخصّص به المتعمِّد قَـتْلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئ في قتلِه في حال ذِكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا، وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصِّ كتابٍ، ولا خبرٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا إجماعٍ من الأُمّة»[7].
وقوله: «وأَوْلَى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومَن قال بمثل مقالته؛ لأنّ الله -جلّ ثناؤه- أخبر أنه حَرَّم على اليهود كلَّ ذي ظُفر، فغيرُ جائزٍ إخراج شيء من عموم هذا الخبر، إلّا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه»[8].
وقوله: «ولم يكن الله -تعالى ذِكْره- دلّ بظاهر تنزيله، ولا على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا بحُجّة عقل، على أنه عنَى نوعًا من الحَفَدَة دون نوع منهم، وكان قد أنعم بكلّ ذلك علينا، لم يكن لنا أنْ نوجّه ذلك إلى خاصٍّ من الحفَدَة دون عام، إلى ما أجمعت الأُمّة عليه أنه غير داخل فيهم»[9].
فهذه الأمثلة تدلّ على أنّ الطبري يجعل الإجماع مما يُـخَصّ به العموم، وفيها دلالة على أثر الإجماع في تفسيره وجودًا وعدمًا.
ثانيًا: أثر الإجماع في الدلالة على النسخ:
يُورد الطبري الإجماع دليلًا على القول بالنسخ، فيستدلّ به على القول بنسخ بعض الآيات، وهذا أثر من آثار الإجماع في تفسيره، ومن أمثلة ذلك:
قوله: «وأَوْلَى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول مَن قال: كان ذلك فرضًا فرَضَه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخرجها زروعهم وغروسهم، ثم نسَخه اللهُ بالصدقة المفروضة والوظيفة المعلومة من العُشر ونصف العُشر، وذلك أنّ الجميع مُـجْمِعون لا خلاف بينهم أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدّياس والتّنقية والتّذرية، وأنّ صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف»[10].
وقوله: «وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أنّ مَن كان مطيقًا من الرجال الأصِحَّاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين، كان معلومًا أنّ الآية منسوخة»[11].
ويرجّح الطبري في بعض المواضع القول بعدم النَّسْخ، معللًا لذلك بعدم ورود دليل عليه كالإجماع وغيره من الأدلة، ومن أمثلة ذلك:
قوله: «وإذا لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخِ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفيِ أحد الأمرين حُكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر يصحّ بأنّ أحدهما ناسخ صاحبه، ولا من المسلمين إجماع، صحّ ما قلنا من أنّ كِلا الأمرين يُؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر»[12].
وقوله: «إذ لم يكن في نفس التنزيل دليلٌ على أنه منسوخ، أو وردَ بأنه منسوخ خبرٌ من الرسول، ولا أجمعت عليه الأُمّة، فوجب القول بما قلنا»[13].
فبانَ من هذا أنّ الطبري يُورد الإجماع ليستدلّ به على القول بالنَّسْخ، وهذا أثر من آثار الإجماع عنده، وليس معنى هذا أنّ الطبري يرى جواز نَسْخ الآيات بالإجماع، إنما أورد الطبري الإجماع دليلًا على القول بالنسخ[14].
ثالثًا: أثر الإجماع في صرف الأمر من الوجوب إلى الندب أو الإباحة:
يرى الطبري أنّ الإجماع هو أحد صوارف الأمر في القرآن، فيصرف به الأمر من الوجوب إلى الندب أو الإباحة، وهذا أحد آثار الإجماع في تفسيره، وأمثلة ذلك:
قوله: «وليس قوله: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98] بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب؛ وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنّ مَن قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم قبل قراءته أو بعدها، أنه لم يُضيِّع فرضًا واجبًا»[15].
فجعل الطبري الإجماع صارفًا للأمر في الآية من الوجوب إلى الندب، وقوله: «وهذا الأمر من الله -جلّ ثناؤه- أمر إباحة لا أمر إيجاب؛ وذلك أنه لا خلاف بين جميع الحُجة أنّ ذابح هَدْيهِ أو بَدَنتهِ هنالك، إن لم يأكل من هَدْيه أو بدَنته، أنه لم يُضيِّع له فرضًا لله كان واجبًا عليه، فكان معلومًا بذلك أنه غير واجب»[16].
فاستدلّ الطبري بالإجماع على صرف الأمر بالأكل في قوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 28] من الوجوب إلى الإباحة.
رابعًا: أثر الإجماع في جواز مخالفة ظاهر الآيات:
يجيز الطبري مخالفة ظاهر الآيات إذا دلّ الإجماع على ذلك، ومن أقواله الدالّة على ذلك:
قوله: «فغير جائزٍ أن يُـترَك المفهومُ من ظاهر الكتاب والمعقولُ به ظاهرٌ في الخطاب والتنزيل إلى باطنٍ لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- منقول، ولا فيه من الحُجة إجماع مستفيض»[17].
وقوله: «والثوبُ وما فوقه داخلٌ في حكم الآية؛ إِذْ لم يأتِ من الله تعالى وحي، ولا من رسوله -صلى الله عليه وسلم- خبر، ولم يكن من الأُمّة إجماع بأنه غير داخل في حُكمها، وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حُكم الآية، إلّا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة في ذلك»[18].
فلم يُجِز الطبري مخالفة الظاهر في هذين النقلين، ومفهوم كلامه تجويز المخالفة إذا دلّ على ذلك الإجماع أو غيره من الأدلة التي ذكرها.
خامسًا: أثر الإجماع في جواز مخالفة سياق الآيات:
يرى الطبري أنّ مخالفة السياق غير جائزة ما لم يدل على ذلك دليل، وصرّح الطبري بأنّ الإجماع هو أحد الأدلة التي بها يجيز مخالفة السياق، ومن أقواله الدالة على ذلك:
قوله: «فإلحاق معنى قوله -جل ثناؤه-: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ [النساء: 123] بما قد جرى ذِكْره قبل أحقّ وأَوْلَى من ادّعاء تأويلٍ فيه لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثرَ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا إجماع من أهل التأويل»[19].
وقوله: «وإذا لم يكن بما رُوي من الخبر، بأنّ قائل ذلك كان رجلًا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند، ولا كان على أنّ ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين مِن عبدة الأوثان، وكان قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] موصولًا بذلك غير مفصول منه، لم يَـجُز لنا أن ندّعي أنّ ذلك مصروف عمّا هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبرٍ أو عقل»[20].
سادسًا: أثر الإجماع في جواز مخالفة المشهور من كلام العرب:
لا يجيز الطبري مخالفة المشهور من كلام العرب إلا بدليل يدلّ على ذلك، ومن الأدلة التي بها يُـجِيز الطبري مخالفة المشهور من كلام العرب الإجماع، ومن أقواله الدالة على ذلك[21]:
قوله: «وإنما قلنا: معنى: ﴿وَرَابِطُوا﴾ [آل عمران: 200] ورابطوا أعداءكم وأعداء دِينكم؛ لأنّ ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط، وإنما يُوجَّه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفيّ، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفيّ من معانيه حجةٌ يجب التسليم لها، من كتاب الله عز وجل، أو خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماعٍ من أهل التأويل»[22].
سابعًا: أثر الإجماع في اختيار القول المرجوح:
يرجّح الطبري بين أقوال المفسِّرين حال اختلافهم في الغالب، ويختار ما قوِي في نظره منها، ويخالف الطبري هذا المنهج أحيانًا، فيترك ما قوِي في نظره ويختار القول المرجوح؛ وذلك للإجماع، وهذا أحد آثار الإجماع في تفسيره، ومن أمثلة ذلك:
قوله: «ولولا إجماع مَن وصفتُ إجماعه على أنّ ذلك تأويله، لقلتُ: أَوْلَى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحّاك، مِن أنّ الله عنَى بقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199] من حيث أفاض إبراهيم»، إلى أن قال: «...كانت بيِّـنةُ صحةِ ما قاله -يعني الضحاك- من التأويل في ذلك، وفسادِ ما خالفه، لولا الإجماع الذي وصفناه»[23].
وقوله: «وأَوْلَى الأقوال بالصحة قول مَن قال: هما الركعتان بعد المغرب؛ لإجماع الحُجّة من أهل التأويل على ذلك، ولولا ما ذكرتُ من إجماعها عليه، لرأيتُ أنّ القول في ذلك ما قاله ابن زيد؛ لأنّ الله -جلّ ثناؤه- لم يخصِّص بذلك صلاةً دون صلاة، بل عمّ أدبار الصلوات كلّها»[24].
ثامنًا: أثر الإجماع في ترك الأوجه المحتملة من معاني الآيات:
ذكر الطبري معنى من معاني قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 110]، وبيَّن أن هذا الوجه يحتمله التأويل، وأنه غير بعيد من الصحة، ولكن لم يُـجِز الطبري القول به لمخالفته الإجماعَ، مما يدلّ على أن ما خالف الإجماع من مثلِ هذه الأوجه المحتملة والصحيحة فغير جائز -على رأيه- القول بها.
قال الطبري: «ولولا أنّ أقوالَ أهل التأويل مَضَت بما ذكرتُ عنهم من التأويل -وإنّا لا نستجيز خلافهم فيما جاء عنهم- لكان وجهًا يحتمله التأويل أن يُقَال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار؛ لأنها عجماءُ لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنّها يجهر بها... فكان ذلك وجهًا غير بعيد من الصحة، ولكنّا لا نرى ذلك صحيحًا؛ لإجماع الحُجّة من أهل التأويل على خلافه»[25].
تاسعًا: أثر الإجماع في اختلاف الترجيح في المواضع المتقاربة:
ذكرَ الطبري قولَيْن لمعنى التلاوة في قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121]، حيث قيل: إنّ معنى ذلك: يتّبعونه حق اتّباعه، وقيل: إنّ معنى ذلك: يَقرؤُونه حق قراءته، ثم رجّح الطبري القول الأول لإجماع الحُجّة عليه»[26].
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ [البقرة: 102]، ذكرَ الطبري قولَين لمعنى التلاوة، كالقولين السابقين في معنى قوله:﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121]، ثم قال: «والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إنّ الله -تعالى ذِكْره- أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتّبعوا ما تتلوا الشياطين على عهد سليمان؛ باتّباعهم ما تَلَتْهُ الشياطين، ولقول القائل: هو يتلو كذا في كلام العرب معنيان: أحدهما: الاتّباع... والآخر: القراءة والدراسة... ولم يخبرنا الله -تعالى ذِكْره- بأيّ معنيي التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السِّحْر على عهد سليمان، بخبر يقطع العذر، وقد يجوز أن تكون الشياطين تَلَتْ ذلك دراسةً وروايةً وعملًا به، فتكون كانت له متبعةً بالعمل ودراسةً بالرواية، فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك فعملت به وروته»[27].
ففي الموضع الأول رجّح الطبري أحد معنيي التلاوة للإجماع، وفي الموضع الثاني لم يرجّح أحدهما، بل جوّز الحمل على المعنيين، فاختلف ترجيحه لمعنى التلاوة في الموضعين بسبب الإجماع.
عاشرًا: أثر الإجماع في تعيين ما أُبهم من القرآن:
جعلَ الطبري الإجماع أحد الأدلة التي يُعيِّن بها ما أُبهم من القرآن، فقد عَيَّن به بعض المبهمات، كتعيينه الطائفتين في قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ [آل عمران: 122]، حيث حكى الإجماع على أنهما بنو سلِمة وبنو حارثة[28].
وترك الطبري تعيين بعض المبهمات لعدم ورود دليل على ذلك كالإجماع وغيره من الأدلة، ومن أمثلة ذلك[29]:
قوله: «فغير جائز لأحدٍ أن يقول: عَنَى اللهُ بالكلمات اللواتي ابتلَى بهنّ إبراهيم شيئًا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عَنَى به كلّ ذلك، إلّا بحُجّة يجب التسليم لها، من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحُجّة»[30].
وقوله: «وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إنّ الله -عز وجل- أخبر أنه آتى يوسف لـمّا بلَغَ أَشُدَّه حُكمًا وعِلمًا، والأَشُدّ هو انتهاء قوّته وشبابه، وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولا دلالة له في كتاب ولا أثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا في إجماع الأُمّة، على أيّ ذلك كان، وإِذْ لم يكن ذلك موجودًا من الوجه الذي ذكرتُ، فالصوابُ أنْ يُقال فيه كما قال -عز وجل- حتى تثبت حُجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له، فيُسلّم لها حينئذ»[31].
أحد عشر: أثر الإجماع في قبول ما ضعف في العربية من القراءات:
يقبل الطبري ما رآه ضعيفًا في العربية من أوجه القراءات إذا دلّ على صحة القراءة بها الإجماع، ولا يُـجِيز مخالفتها والخروج عنها، ومن أمثلة ذلك:
ذكر الطبري اختلاف القرّاء في قوله تعالى: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة: 60]، ثم اختار من القراءات ما أُجمع عليه، وقد بَيَّن أنّ الذي اختاره منها أضعف مخرجًا في العربية من بعض القراءات التي أوردها، ولولا الإجماع لقدّم ما رآه أصحّ مخرجًا في العربية، قال الطبري: «ولو كنّا نستجيز مخالفةَ الجماعةِ في شيء مما جاءت به مُجمِعةً عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أنّ ما جاء به المسلمون مستفيضًا فيهم لا يتناكرونه، فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره؛ فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما»[32].
وبعد؛ فهذا بيان لأثر الإجماع عند الطبري... كما أنّ للإجماع آثارًا غير ما ذكرته[33]، وقد اقتصرتُ على ذِكْر ما كان في التفسير منها أو ما كان له تعلّق به.
[1] هذه المقالة من كتاب «الإجماع في التفسير عند الطبري؛ دراسة نظرية تطبيقية»، الصادر عن مركز تفسير سنة 1443هـ، (ص:139) وما بعدها. (موقع تفسير).
[2] جامع البيان (21/ 474).
[3] هكذا في تحقيق د. التركي، والصواب: «ما أجمع الجميع»، قال محمود شاكر: «في المخطوطة والمطبوعة: (من أجمع الجميع) وهو خطأ ظاهر، وفساد، والصواب ما أثبت». جامع البيان، ت: شاكر (8/ 329).
[4] جامع البيان (3/ 469).
[5] جامع البيان (3/ 469).
[6] جامع البيان (3/ 469).
[7] جامع البيان (9/ 641).
[8] جامع البيان (8/ 678، 679).
[9] جامع البيان (14/ 304).
[10] جامع البيان (9/ 611).
[11] جامع البيان (3/ 178).
[12] جامع البيان (8/ 445).
[13] جامع البيان (14/ 285).
[14] قال الغزالي: «الإجماع لا يُنسخ به؛ إِذْ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نسخ بالإجماع، فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول الوحي من كتاب أو سُنّة». المستصفى، ص101. وقد أشار الطبري إلى أن النسخ لا يكون إلا بدليل من كتاب أو سُنّة، قال الطبري: «فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله عز وجل، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم». (جامع البيان 8/ 256).
[15] جامع البيان (14/ 357).
[16] جامع البيان (16/ 523).
[17] جامع البيان (2/ 73).
[18] جامع البيان (8/ 645).
[19] جامع البيان (7/ 514).
[20] جامع البيان (9/ 397).
[21] ينظر أيضًا: جامع البيان (10/ 221).
[22] جامع البيان (6/ 337).
[23] جامع البيان (3/ 530، 531).
[24] جامع البيان (21/ 474).
[25] جامع البيان (15/ 136، 137).
[26] جامع البيان (2/ 493).
[27] ينظر: جامع البيان (2/ 320، 321).
[28] ينظر: جامع البيان (6/ 7).
[29] ينظر أيضًا: جامع البيان (10/ 401).
[30] جامع البيان (2/ 507).
[31] جامع البيان (13/ 68).
[32] جامع البيان (8/ 545).
[33] كأثر الإجماع في تقوية ما ضعف إسناده من الأحاديث. ينظر: جامع البيان (3/ 716) (6/ 557، 558).