السينما الوثائقية في خدمة القرآن الكريم وعلومه
«البقعة المباركة» نموذجًا

تُعَدّ الأفلام الوثائقية من الأدوات الإعلامية الحديثة ذات القدرة على تسليط الضوء على الواقع بلغة احترافية معاصرة، وهي من الأدوات التي ينبغي الحرص على توظيفها في خدمة القرآن الكريم وعلومه، وهذه المقالة تُعرِّف بأهمية السينما الوثائقية في خدمة القرآن الكريم، وتعرض أنموذجًا تطبيقيًّا في هذا المجال.

السينما الوثائقية في خدمة القرآن الكريم وعلومه؛ «البقعة المباركة» نموذجًا[1]

لماذا كلّ هذا الاهتمام العالمي بالفيلم الوثائقي؟!

  يعود تاريخ الفيلم التسجيلي إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث بدأت خطواته الأُولى متوازية تمامًا مع خطوات نشوء فنّ السينما ذاته، وكان ذلك تحديدًا في عام (1895م)؛ حيث وُلدت السينما التسجيلية على يد الأخوَيْن الفرنسيَّين (لوميير).

كان الأخَوان قد قدَّمَا عرضًا وثائقيًّا لمدة دقيقتين، وكان الفيلم يتحدّث عن قطار يدخل المحطة وفي الوقت نفسه نرى عمّالًا يخرجون من المصنع بعد انتهاء عملهم، يتّجهون نحو القطار. كانت السينما أيامها لا تزال صامتة.

وقد سجّل تاريخ الفنّ الإنساني حينئذ ميلاد فنّ جديد يُسَمَّى السينما الوثائقية أو «التسجيلية» لم يكن معنيًّا فقط باستعراض الواقع كما هو، ولكن باختيار ذكيّ لأماكن وزوايا التصوير، وأيضًا باستخدام التوليف «المونتاج» المعبِّر عن إيقاع العمل، يُظهر ذلك الواقع من وجهة نظر صُنّاع الفيلم، والتي تكون ‏ -أحيانًا- مخالفة لذلك الواقع! وهذا لا يُدِين فنّ السينما الوثائقي ذاته، وإنما يُدين مَن يحرّف الحقائق باستخدام أدوات هذا الفنّ الراقي.

وقد أخذَت السينما الوثائقية في النمو والتدرّج، لتأخذ اليوم مساحة غير قليلة من اهتمام المثقفين في العالم كلّه، لا سيما بعد أن ارتَدَت الأفلام حُللًا إبداعية شتى، ومع تقدّم تقنيات التصوير والتوليف (المونتاج)، وأيضًا مع تضافر شريط الصورة وشريط الصوت وتوافقهما وتكاملهما، بقدر إحساس وإبداع المخرج والمؤلّف (المونتير).

وليس السرّ في الإقبال على إنتاج الأفلام الوثائقية في العالم كلّه هو وجود قنوات ومسابقات ومحافل دولية لعرضها فقط؛ بل السبب الأهمّ هو قدرة هذه الأفلام على إلقاء الضوء على الواقع بلغةٍ احترافية معاصرة، وبوسائط عديدة ترتقي بالعمل وتجعل نسبة تأثيره أعلى بكثير من سائر الوسائط الأخرى، حتى إنّ قدرات الأفلام الوثائقية على الترويج والإشهار، فضلًا عن التعبير الفني والجمالي المبهر للواقع المنظور، قد استقطبت كبرى الشركات التجارية والمؤسّسات الحكومية، بل والدول ذاتها، لتروِّج لنفسها باستخدام هذا الفنّ الراقي المتميز.

السينما الوثائقية في خدمة القرآن الكريم:

أمّا عن محور إمكانية نشر القرآن الكريم وعلومه، وتعريف الشعوب والأمم المختلفة به، من خلال الفيلم الوثائقي، فليس هناك ثمة مشروعات عربية تصلح لتكون نماذج مؤثّرة ذات بالٍ في هذا الباب، وإنما أغلب ما تم إنتاجه من أفلام وثائقية تتناول القرآن الكريم، كان من إنتاج الغرب؛ لذا فإنّ الأمر يبدو كأنه أطروحة جديدة مُستحدثة، علينا أن نتمسّك بها، ونستوثق من طرحها على المستوى النظري أولًا، ثم ليبدأ المهتمّون ومحترفو هذا الفنّ في تنفيذ عدد من الأعمال التي ستكون أشبه بالإرهاصات التي يتولّد بسببها -بإذن الله- جيل من المبدعين المسلمين، من الذين يَقْدِرون لكتاب لله تعالى قَدْرَه، وفي نفس الوقت يكونون الأقدر والأجدر على تنفيذ الأفلام الوثائقية القرآنية بمستويات إبداعية متميزة وراقية.

فلا يصح أبدًا أن يصنع المبدعون المسلمون أفلامًا وثائقية عن خير كتب العالمين قاطبة، والذي احتوى بين دفتيه بحارًا زاخرة بالعلوم، بمستوى لا يتميّز عن سائر أفلام العالم الوثائقية.

وهناك عدّة أسباب وسمات في القرآن الكريم يجعله متوافقًا تمامًا مع منهجية صناعة الفيلم الوثائقي، ومساعدًا على نجاح أيّ فيلم يُنفذ عنه أو تكون مادته الأساسية مستمدة منه؛ إنْ أتقن صُنّاعه تنفيذه، وبوجه خاصّ أتقن كاتبوه وضع السيناريو المحكَم له؛ أهم هذه السمات:

أولًا: القرآن الكريم قد احتوى على أحسن القصص على الإطلاق، وهذا بحكم رب العالمين -عز وجل- كما ورد في مطلع سورة يوسف: ﴿الر ‌تِلْكَ ‌آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 1- 3].

ثانيًا: ليس هناك مجرّد شكّ واحد في صحة كلّ ما ورد في القرآن الكريم، فكما قال -عز وجل- في سورة فصلت: ﴿‌وَإِنَّهُ ‌لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41- 42]. فهذا يضمن المصداقية التامّة للأفلام الوثائقية التي تُستمد منه.

ثالثًا: القرآن الكريم بما أمَرَنا الله تعالى مِن ترتيله بإتقان، حين يُتلى بأصوات جميلة رخيمة، فإنه يضيف مادة غنية لشريط الصوت في الفيلم الوثائقي، تعجز كلّ المؤثرات الصوتية الأخرى أن تأتي بتأثير يُضاهِي تأثيره العجيب في النفس البشرية، حتى لدى مَن لا يفهمون كلمة واحدة منه.

رابعًا: لأنَّ القرآن الكريم ليس بكلام البشر، فإنّ مادته لها خصوصية لا توجد في أيّ مصدر آخر، وهي التنوع والثراء وعدم الالتزام بقالب واحد، وعدم الالتزام بصوت واحد يتحدث فيه برغم أنه كلّه كلام الله تعالى يُحدِّث عباده به إلى يوم القيامة، كما أنه ليس مجرّد قصص فقط، ولا تعاليم أخلاقية وسلوكية فقط، وليس منهج حياة متكامل لصالح الإنسان وكل ما يحيط به من مخلوقات فقط، وليس أخبارًا عن أمور غيبية من الماضي وفي المستقبل فقط، ليس القرآن كلّ هذا فقط، بل هو أعمق وأوسع منه بكثير. إنه معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ نزلت عليه ﴿اقْرَأْ﴾ في غار حراء وحتى اليوم. وهذه الميزة الفريدة تشكِّل مَعِينًا لا ينضب لفنّ السينما الوثائقية حين يقرّر بعض صُنّاعها ولوج عالم القرآن الكريم، وإزاحة الستار عن أسراره الدفينة عن طريق هذا الفنّ الراقي.

خامسًا: لأنّ هذا القرآن كتاب هداية وبِشْر للبَشَر أجمعين، كما قال الله تعالى في سورة الإسراء:﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ ‌يَهْدِي ‌لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]، فمَن كانت نيّـته الخير بصنع أفلام وثائقية تعرِّف الأُمم بهذا الكتاب الكريم، وتنشر علومه في سائر أرجاء الأرض، فلن يجد خيرًا من القرآن الكريم ذاته كزادٍ له أثناء قَطْعِه هذا السبيل الطيب النافع، وسيشمل عمله على الحُسنيَيْن إن أتقنه: العمل المحترف الدنيوي، وكذلك الدعوة إلى الله تعالى والتعريف بكتابه العزيز.

فيلم وثائقي يتناول نزول الوحي على سيدنا موسى في طور سيناء.. كنموذج:

عندما نختار موضوعًا قرآنيًّا ليكون هو المصدر لفيلم وثائقي كنموذج لما نطرحه في هذا المقال، وحيث أننا نستهدف من هذا النموذج أن يسهم في التعريف العميق بكتاب الله العزيز بين الشعوب والأمم المختلفة؛ فلزامًا علينا أن نختار موضوعًا متوافقًا مع ثقافة وقناعات شريحة كبيرة من تلك الأُمم.

لذا فسنأخذ قصة نزول الوحي على نبي الله موسى -عليه السلام- في طُور سيناء، بسبب ما لهذه القصة من أثر بالغ القوّة والعمق في تاريخ البشرية كلّها وهي تتوافق مع أصحاب الكُتب السماوية الثلاثة.

فلنتخيّل الحالة النفسية والذهنية التي كان عليها نبي الله موسى وهو عائد من مَدْيَن بعد عشر سنين من الغربة عن مصر، التي عُرف فيها كربيب لفرعون؛ حيث نشأ في قصره، وتغذّى من طعامه! بينما حتفه وهلاكه وهلاك جنده سيكون على يديه بعد حين من الدهر؛ لنعلم جميعًا أنّ رب السماوات العُلا -عز وجل- هو القاهر العظيم القوي العزيز شديد المِحال، فما شاء -عز وجل- كان، وما لم يشأ لم يكن، إنّ القصة كلها عبارة عن سلسلة من الأحداث المفاجئة المباغتة، ومِن أعجبها وأكثرها مفاجأة: لحظات تلقِّي الوحي لأول مرة في طُور سيناء.

لم يكن موسى يعلم مما هو صائر شيئًا، فقط كان يخاف من بطش فرعون وجنده به، بل ومن المصريين مِن آل فرعون كلّهم، لقتله رجلًا منهم حين أراد أن يدفعه عن الإسرائيلي الذي استغاث به، ثم وشى به بعد ذلك!

كان موسى -عليه السلام- قد اشتاق إلى بلده التي وُلِد ونشأ فيها، واشتاق إلى أهله من بني إسرائيل، وإلى امرأة فرعون التي ربّـته وأنقذته من الهلاك، فعزم على زيارتهم، وسار بأهله وما كان معهما من الغنم التي وهبها له صِهره؛ فسلك بهم الطريق من مَدْيَن إلى مصر، في ليالي شديدة الظُّلمة والبرودة، عبر شبه جزيرة سيناء.

وأخيرًا؛ وبعد سير طويل، وتحديدًا عند سفح جبل الطور، كان موسى قد أيقن أنه قد ضلّ الطريق، فأصابته حيرة شديدة أُضيفت لِما هو فيه من تعبٍ وخوف. وكانت الانفراجة أخيرًا، حين لمح موسى نارًا على مسافة بعيدة، فأسرع نحوها رغبةً في السؤال عن الطريق لدى مَن أشعلوها، وأيضًا كي يصطحب جزءًا منها لأهله يستدفئون بها، وهنا حدثت المعجزة التي جعلت من موسى الإنسان الوحيد في تاريخ البشرية، الذي كلّمه الله تعالى بشكلٍ مباشِر، وذلك كما حكى القرآن الكريم في سورة القصص: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص: 30]، ‏أي أنّ الذي يخاطبك ويكلّمك هو ربّ العالمين، الفعّال لِما يشاء، لا إله غيره ولا ربّ سواه.

كم هي لحظات جليلة في تاريخ الإنسانية أن يتمّ تكريم عبدٍ من عباد الرحمن لهذه الدرجة السامقة الرفيعة؛ أن يكلّمه الله تعالى مباشرة فيستحقّ لقب «كليم الله»، ويكلّفه سبحانه برسالة عظيمة لا يستطيع أن يضطلع بها إلا رجل من أُولي العزم من الرسل، بالذهاب إلى فرعون وتوجيهه نحو الحقّ، والتوقف عن ادّعاء الأُلوهية؛ وهو الذي كان ينوي الاختفاء عن أعين فرعون وجنده ومَن يعرفه مِن آل فرعون من غير المؤمنين بالله؛ مخافة القصاص منه بسبب قتله للمصري، تلك الحادثة التي كانت سببًا في هروبه من مصر إلى مَدْيَن، بعد نصيحة أحد المؤمنين من أهل مصر له بالخروج متخفيًا.

فكم تستحق هذه اللحظات المشهودة في التاريخ أن تُخلَّد في فيلم سينمائي وثائقي، يستقي مادته الأساسية من القرآن الكريم، الذي قال عن قصة موسى وفرعون في مطلع سورة القصص: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ ‌مِنْ ‌نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: 3]، وهنا نلاحظ ذكر كلمة ﴿بِالْحَقِّ﴾ لتوحي أنّ هذه القصة قد وردت فيها أنباء أخرى كاذبة ومحرَّفة بفعل أهل الكتاب، قبل أن تتنزل أنباء هذا القرآن الكريم الحق.

هاتان الفقرتان الأخيرتان تُفصِّلان تمامًا الهدف من هذا الفيلم:

التعبير بصدق واحترافية باستخدام فنّ السينما الوثائقية عن تلك اللحظات الخالدة، وما ساق إليها من أحداث سابقة.

فلْنَدَع الآن أسلوب كتابة السيناريو للفيلم الوثائقي هو الذي يقودنا للسبيل الأقوم لوضع خطة هذا الفيلم على الورق (ولنطلق عليه: البقعة المباركة) كنموذج لطريقة إعداد سيناريو فيلم وثائقي يتناول قصةً أو حدثًا من القرآن الكريم.

خطوات بناء السيناريو الأوّلي للفيلم الوثائقي «البقعة المباركة» (the blessing sport) مع خطوات التنفيذ في المراحل الأُولى للفيلم:

إنَّ سيناريو الفيلم الوثائقي هو الأداة التي من خلالها نستطيع التعبير عن العاطفة الجياشة من خلال الأحداث، وتُستخرج بواسطتها العِبرة والـمَثَل من خلال التحاور المتوازي المتناغم بين الصورة والكلمة والمؤثر الصوتي.

ولكي نستطيع بناء سيناريو أوّلي -مبدئي- ناجح ومؤثر لمِثل هذا المشروع، الذي نستهدف منه توثيق أحداث نزول الوحي على نبي الله موسى، علينا أن نحقّق الآتي:

أولًا: يجب قبل كتابة السيناريو النهائي، التحققُ من موقع هذه «البقعة المباركة» من شاطئ -أي: جانب- الوادي المقدس، وإثبات موقع مناسب للتصوير على خط سير موسى -عليه السلام- وأهله مِن مَدْيَن وحتى هذه الشجرة التي رأى موسى النار عندها، في تلك البقعة المجاورة للجهة الغربية من جبل الطور، كما ورَد في سورة القصص: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ‌الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: 44]، والغربي تحتمل أن تكون الجهة التي كانت جذوة النار فيها من الوادي المقدس «طُوى» الذي يقع في سفح جبل الطور مباشرة؛ أو قد يكون مقصود بها غرب مياه خليج العقبة، وإن كان الاحتمال الأوّل أقوى؛ بسبب تكرار ذكر جبل الطور، عندما أعادت آيات سورة القصص الـمَنّ على محمد -صلى الله عليه وسلم- بنزول هذه القصة بتفاصيلها عليه (وحقٌّ لله تعالى أن يَـمُنّ على عباده بفضله وكرمه عليهم)؛ في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 46]، فالمشهد كلّه متعلّق بجبل الطور، الذي شهد تلك الأحداث التي حبَسَ التاريخ لها أنفاسَه.

ثانيًا: تحديد الآيات القرآنية التي تسرد الحدَث بدقة، تلك التي سنعتمد عليها في كتابة السيناريو (والتي وردت في سورتي طه والقصص)؛ والتي ستُتلَى على شريط الصوت للفيلم. كما يمكننا أن نأتي ببعض الأخبار والأنباء غير الموافقة لآيات القرآن الكريم مما لدى أهل الكتاب، لنشير إليها -مرور الكرام- عبر الفيلم، مُثبِتين أنّ هذه الأنباء ليست هي الحقّ؛ لمخالفتها لنبأ القرآن الكريم.

ثالثًا: يجب اختيار قارئ للقرآن الكريم لا يختلف عليه المُشاهِدون من المسلمين، وأيضًا يكون صوته مؤثِّرًا وجاذبًا لغير المسلمين ولِـمَن لا يعرف العربية (مثل الشيخ محمود خليل الحصري أو الشيخ عليّ عبد الرحمن الحذيفي).

رابعًا: الاختيار السليم لكلمات التعليق، وأيضًا لصوت المعلِّق؛ هما من أهم عناصر نجاح الفيلم الوثائقي، فكلّما اتسمت الكلمات بالرصانة والموسيقى الداخلية؛ وكلما تميّز صوت المعلِّق بمخارج الحروف السليمة الفخمة، وكذلك الإيقاع الجميل المتناغم؛ كلما استطاع الفيلم جذب انتباه المُشاهِد أكثر، وحقّق نجاحًا أوسع.

خامسًا: يتم عمل معاينة لأماكن التصوير، تجمع بين كاتب السيناريو والمخرج ومدير التصوير، وبعد تحديد كلّ الأماكن الرئيسة للتصوير، يشرع كاتب السيناريو في كتابة السيناريو الأوّلي.

سادسًا: يتم تصوير كلّ المشاهد المكتوبة في السيناريو الأوّلي بالإضافة لكلّ ما يراه المخرِجُ -بمساعدة مدير التصوير- قيمةً مضافة للفيلم. وكذلك تُجمع في شريط الصوت كلّ الأصوات التي تضيف قيمةً للفيلم من مواقع الأحداث.

الخطوات التنفيذية النهائية للفيلم:

1- بعد تحقيق كلّ النقاط السابقة بدرجة عالية من الدقّة، يشرع كاتب السيناريو في وضع السيناريو التنفيذي النهائي، على ضوء ما تم تصويره من المشاهد الأصلية فى السيناريو الأوّلى، وأيضًا المشاهد الإضافية، وما رآه المخرِج مِن تعديلات لا تؤثِّر سلبًا على السياق العام للعمل.

2- يُستخرج التعليق من السيناريو النهائي، ويتمّ تنفيذه في استوديو صوت متميز (يجب ملاحظة الأثر الكبير لجودة الصوت في نجاح الفيلم الوثائقي، على المستويين الجماهيري والفني).

3- يتمّ تجميع كلّ المشاهد حسب السيناريو النهائي، تجميعًا مبدئيًّا يتعاون فيه مخرج الفيلم مع المؤلّف -المونتير- في تنفيذ الفيلم بصورته النهائية، على هُدى من شريط الصوت الذي يجمع بين التلاوات والتعليق وصوت الممثلين والأصوات الطبيعية والمؤثِّرات الصوتية الآلية (هنا تبزغ قدرات المخرج الإبداعية، فقد يقرّر وهو في حجرة المونتاج تعديل سياق الفيلم بشكلٍ مختلف عن السيناريو المكتوب، وهذا حقّه تمامًا، طالما زاد هذا التعديل من القيمة النوعية للفيلم، ولم يُخرجه عن دائرة الأهداف المرجوة منه).

4- يتم تنفيذ عملية التوليف النهائية مع عملية «المكساج» (دمج الصوت كلّه على شريط واحد، بعد أن يُجمّع من كلّ «تراكات» الصوت المشاركة في العمل)، بحيث يكون التأثير النهائي للفيلم مُريحًا ومبهرًا للمُشاهِد، وتكون كلّ عناصر العمل واضحة، بحيث تعطي التأثير المطلوب في وجدان المُشاهِد، وهو في حالتنا هذه: وضع المشاهد في حالة من الانبهار والروحانية المناسبة لتلك اللحظات التاريخية، التي حدث فيها لأوّل مرة تواصل مباشر من الله تعالى نحو واحد من عباده الصالحين.

نموذج لأول مشهدين من فيلم «بقعة مباركة»:

المشهد الأول:

- لقطة عامة.. وقت الشروق.

الكاميرا تستعرض منطقة الوادي الملاصق لجبل الطور في حركة أفقية -«بان»- ناعمة.

- مزج.

- نار موقدة في الجانب الغربي من الوادي، يجلس بجوارها رجل أعرابي وابنه يلتمسان الدفء، وإلى جوارهما جمل راقد.

- «زووم إن» نحو النار.. بطيء للغاية (يُغلَق معه المشهد).

- صوت ترتيل جميل:

﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ [القصص: 29].

- صوت المعلِّق:

في لحظاتٍ قادمةٍ هي الأكثرُ إثارةً في تاريخ الإنسانية.. تترقبُ تلك النارُ قادمًا من مسافة ليست بعيدة.. سيكون له شأن معها، بل ومع الأرض والسماوات! بعد ساعات معدودة.

- إظلام تدريجي.

المشهد الثاني:

- لقطة قريبة.. عند الغروب.

آثار توحي بأقدام نبيّ الله موسى وهو يسير في الصحراء ومِن خلفه زوجته.. نلمح أقدام أغنام أمامهما.

- قَطْع.

- لقطة متوسطة مع حركة أفقية للكاميرا «بان».

أغنام كثيرة تسير في الصحراء، مِن خلفهم أقدام نبي الله ثم مِن خلفه زوجته.

- صوت المعلِّق:

منذُ اللحظةِ التي انطلقَ فيها موسى بن عمران من مَدْيَن مع أهله وهو حائر مضطرب، وبرغم عودته لمصر غانمًا ذلك القطيع الذي أهداه له والدُ زوجه، إلا أنّ الخوف مما ينتظره في مصر لدى عودته، كان بلا شك يسيطر على نفسه.. كيف لا؟ وصورة خروجه هاربًا خائفًا يترقب، كانت بالتأكيد لا تفارق خياله.

- صوت القارئ:

﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 20- 21].

- مؤثِّر صوتي قوي.

- أصوات القطيع عالية.

- صوت المعلِّق:

وخَرَجَ موسى من مصر.. وعاش في مَدْيَن في خدمة نبيِّ الله شعيب عَشر سنوات؛ بعد أن زوّجَه ابنتَه.. وحانَ وقتُ العودة، وهو لا يعلمُ ما يفعلُ به فرعونُ وجندُه إنْ هُم اكتشفوا أمْرَه.

- أثناء كلمات المعلِّق تستعرض الكاميرا لقطات للسماء.. ولبئر يمرّون بها، فنرى (من الخلف) أقدام نبيّ الله تقف بمحاذاة البئر.. مجموعة من الغنم يقتربون منه ويصدرون أصواتًا عالية، كأنهم يصيحون من العطش.

- أصوات القطيع أعلى.

- النبي موسى يواصل السَّيْر ومِن خلفه الأغنام ثم زوجه (نراهم من الخلف من بعيد).

- صوت المعلِّق:

رغم تلكَ الظروفِ الصعبة في رحلة العودة، إلا أنّ الفكرة التي سيطرت على موسى كانت غالبًا، وكما ذكرَت كتبُ التفسير، هي ضرورة أن يختفي تمامًا عن أنظارِ فرعونَ وهامان! ولكن.. هل هذا هو ما خَطّهُ القلمُ بأمرِ الله تعالى في أقداره التي لا تتبدل؟ تلك التي كُتبت في اللّوح المحفوظ وتسرد كلّ الأنباء، منذُ بدءِ الخليقة وحتى قيام السّاعة؟! (بإيقاع أبطأ، وبإحساس «الحذر» هَل سيختفي مُوسَى بالفعل عَن أنظارِ فرعونَ وآلِه؟!

- إظلام تدريجيّ.

 

[1] نُشرت هذه المقالة ضمن كتاب: «القرآن الكريم وعلومه في الفيلم الوثائقي»، الصادر عن مركز تفسير للدراسات القرآنية عام 1436هـ. (موقع تفسير).

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))