مواقف ابن جرير الطبري النقدية في تفسيره
من أبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن)

يُعَدّ كتاب (مجاز‏‎ ‎القرآن) لأبي عبيدة‏‎ ‎من‎ ‎‎الموارد‎ ‎المهمّة لابن‎ ‎جرير‎ ‎الطبري في تفسيره، وقد‎ ‎تنوّعت‎ ‎مواقفه‎ ‎النقدية‎ ‎منه من موافقةٍ لرأيه أو السكوت عنه أو ردّهِ، وهذه المقالة تُلقِي ضوءًا على هذه المواقف، وهي مستلّة من كتاب: (الصناعة النقدية في تفسير ابن جرير الطبري).

مواقف ابن جرير الطبري النقدية في تفسيره

من أبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن)[1]

  استوعب ابنُ جرير في نقده للتفسير كاملَ عناصر التفسير؛ فأجرى نقده على الأقوال، وعلى الرجال، وعلى الأسانيد، وعلى المناسبات، والنزول، وغيرها.

ولـمّا كان ابن جرير من أوسع المفسِّرين في مصادرِه ومراجعِه؛ نظرًا لشمول نَظَره في التفسير، من جهة: القراءات، والأحاديث، والآثار، والتاريخ، واللغة، وغير ذلك؛ فقد ارتأيت أن أعرض لمنهجه في نقد الرجال من خلال استعراض منهجه في الاستفادة من أهمّ مراجعه اللغوية، وموقفه النقدي من آرائه. وقد تقرّر أنّ ابن جرير استفاد من مصادر لغوية متنوعة، من أهمها:

- معاني القرآن للفراء، يحيى بن زياد (ت: 207).

- مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنّى (ت: 210).

- معاني القرآن، للأخفش سعيد بن مسعدة (ت: 215).

- تأويل مشكل القرآن، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينورِي (ت: 276).

وسيكون الحديث عن أحد هذه الكتب، وهو مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنّى.

يُعَدّ أبو عبيدة وكتابه (مجاز القرآن) من أهمّ موارد ابن جرير في جامعِه، وقد استفاد ابن جرير من كتابه في أبواب متنوّعة، أغلبها في بيان المفردات اللغوية وإيضاح معانيها والاستدلال على ذلك بكلامِ العرب شِعْرِه ونثرِه، وأيضًا في توجيه القراءات وبيانها، كما نقل عنه في تفسير الآيات وبيان معانيها، ونقل عنه بعض الأوجه الإعرابية التي تحتملها الآية وغير ذلك.

وقد تنوّعَتْ مواقف ابن جرير النقدية من أبي عبيدة بحسَب منهجه الذي اختَطّه في كتابه وقواعده النقدية المبنيّة على اعتماد صحيح الرواية، وموافقة أقوال أهل التأويل، وما تقتضيه العربية بحسَب ظاهر القرآن والنَّظْم والسياق القرآني، وغير ذلك من القواعد النقدية =إلى:

1- الموافقة:

وذلك أنّ ابن جرير كان يشير إلى موافقة أبي عبيدة فيما ذهب إليه في تفسيره إذا طابق القواعد النقدية، قال الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ ‌أَنَّ ‌قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31]: «اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَس، فكان بعض أهل البصرة[2] يزعم أنّ معناه: ألم يعلم ويتبيَّن؟ ويستشهد لقِيله ذلك ببيت سُحَيم بن وَثِيلٍ الرِّياحِيّ[3]:

أقولُ لهم بالشِّعبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي .. ألَـمْ تَيْأَسُوا أنِّي ابنُ فارسِ زَهْدَمِ

وأمّا بعض الكوفيين[4] فكان ينكر ذلك، ويزعم أنه لم يسمع أحدًا من العرب يقول: يَــئِسْتُ، بمعنى: عَلِمْتُ، ويقول: هو في المعنى وإن لم يكن مسموعًا (يئست) بمعنى (علمت)، يتوجّه إلى ذلك أنّ الله قد أوقع إلى المؤمنين أنه لو شاء لهدى الناس جميعًا، فقال: ألم يَيْأَسُوا عِلْمًا، يقول: يُؤَيِّسُهُم العلم، فكان فيه العلم مضمرًا».

ثم عقّب ابن جرير فقال: «وأمّا أهل التأويل، فإنهم تأولوا ذلك بمعنى: أفلم يَعْلَمْ ويَتبيَّنْ»[5]، ثم رواه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.

واختار الطبري هذا المعنى لإجماع أهل التأويل على ذلك، وللأبيات التي أنشدها في ذلك، مع بيان معنى الآية، فقد قال: «والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل: إنّ تأويل ذلك: أفلم يَتبيَّنْ ويَعْلَمْ؟ لإجماع أهل التأويل على ذلك، والأبيات التي أنشدناها فيه. فتأويل الكلام إذن: ولو أنّ قرآنًا سِوَى هذا القرآن كان سُيِّرَت به الجبال لسُيِّرَ بهذا القرآن، أو قُطِّعَت به الأرض لقُطِّعَت بهذا، أو كُلِّمَ به الموتِى لكُلِّمَ بهذا، ولم يُفعَل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيُفعل بهذا»[6].

وما ذكره ابن جرير عن الفرّاء هو قول بعض أئمة اللغة من الكوفيين، قال الكسائي: «ما وجدتُ العرب تقول: يَـئِسْت بمعنى عَلِمْت ألبتة»[7]، وأيّده الراغب بقوله: «قيل معناه: (أفلم يعلموا)، ولم يرِد أنّ اليأس موضوع في كلامهم للعِلم، وإنما قصد أنَّ يَأْسَ الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل بعد العلم بانتفاء ذلك، فإذا ثبوتُ يَأْسِهِم يقتضي ثبوت حصول عِلْمهم»[8].

لكنّ أبا حيان ناقش إنكار الكسائي والفرّاء لهذا المعنى، وأنه لم يسمع من العرب بقوله: «وقد حفظ ذلك غيره، وهذا القاسمُ بن مَعْنٍ من ثِقاة الكوفيين وأَجِلَّائهم، نقَلَ أنّها لغة هوازن، وابن الكلبي نقل أنّها لغة لحيٍّ من النخع، "ومَن حَفِظَ حُجةٌ على مَن لم يحفظ"»، ثم بيَّن مراد الفرّاء بتضمّن اليأس معنى العلم قائلًا: «وقيل: إنما استُعمل اليأس بمعنى العلم لِتضمّنه معناه؛ لأنّ اليائِس من الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استُعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك»[9].

كما يستدلّ لهذا القول بقراءة عليّ وابن عباس -رضي الله عنهما- وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعليّ بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وأبي يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعليّ بن بذيمة: (أوَلم يَـتبيَّنْمِن تبيَّـنت كذا: إذا عرفته[10].

وما اختاره ابن جرير هو قول أكثر أهل اللغة -قاله النحاس-، منهم: أبو عمرو بن العلاء -نقله النحاس-، وابن قتيبة، والنحاس، ومكيّ بن أبي طالب، وغيرهم[11].

كما صوّب ابن جرير جمعه بين المعاني المختلفة للكلمة، فقد ذكر الطبري أقوال أهل التأويل في معنى (إِلًّا) في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: 10]:

القول الأول: أنّ معناه: لا يرقبون اللهَ فيكم. ورواه عن مجاهد وأبي مِجْلَز.

القول الثاني: أنّ معناه: القرابة. ورواه عن ابن عباس والضحّاك والسدّي.

القول الثالث: أنّ معناه: الحِلف. ورواه عن قتادة.

القول الرابع: أنّ معناه: العَهْد. ورواه عن مجاهد وابن زيد.

القول الخامس: ما نقله عن أبي عبيدة (غير مصرح باسمه)، فقال: «وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين: العهد والميثاق واليمين: واحد».

ثم قرّر ابن جرير اختياره، فقال: «والإِل: اسم يشتمل على معانٍ ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحِلف، والقرابة، وهو أيضًا بمعنى الله، فإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خصّ مع ذلك معنًى دون معنى، فالصواب أن يعمّ ذلك، كما عمّ بها -جلّ ثناؤه- معانيها الثلاثة، فيُقال: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، ولا قرابة، ولا عهدًا، ولا ميثاقًا»[12]، ثم استشهد لكلّ معنى بما ورَدَ عن العرب، وهو بهذا يوافق أبا عبيدة في تعدّد المعنى.

وهذا القول هو اختيار أبي عبيد القاسم بن سلّام، وابن قتيبة، وابن الأنباري، ومكيّ بن أبي طالب، وابن عطية، والقرطبي، والبيضاوي، ورشيد رضا، وابن عاشور، وغيرهم[13].

ويقوِّي ابن جرير تعليل أبي عبيدة في الإعراب، ففي قوله تعالى: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[المطففين: 27- 28]، فقال: «واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: ﴿عَيْنًا﴾. فقال بعض نحويي البصرة[14]: إن شئت جعلت نصبه على: يُسقَون عينًا، وإن شئت جعلته مدحًا، فيقطع من أول الكلام، فكأنك تقول: أعني عينًا. وقال بعض نحويي الكوفة[15]: نصب العين على وجهين؛ أحدهما: أن ينوي من تسنيم عينٍ، فإذا نُوِّنَت نُصبت، كما قال: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ [البلد: 14- 15]، وكما قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25- 26]».

والوجه الآخر: أن ينوي: من ماءٍ سُنِّم عينًا، كقولك: رفعَ عينًا يشرب بها. وقال آخر من البصريين: ﴿مِنْ تَسْنِيمٍمعرفة، ثم قال: ﴿عَيْنًا، فجاءت نكرة فنصبتها صفة لها.

ثم قال الطبري مختارًا القول الثالث (وهو قول أبي عبيدة): «والصواب من القول في ذلك عندنا: أن التسنيم اسم معرفة والعين نكرة، فنصبت لذلك، إِذْ كانت صفة له؛ وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لما قدّمنا من الرواية عن أهل التأويل[16] أنّ التسنيم هو العين، فكان معلومًا بذلك أنّ العين إذ كانت منصوبة وهي نكرة أنّ التسنيم معرفة»[17].

فقد قدّم ابن جرير قول أبي عبيدة على نظرائه من اللغويين، لموافقته قول أهل التأويل، مع موافقته للأَولى في الصناعة النحوية[18]. وممّن ذكر توجيه كلام أبي عبيدة: النحاس وأبو البركات الأنباري والزمخشري والعكبري والقرطبي وابن عطية والرازي وأبو حيان[19].

بل إنه قد يوافقه مع مخالفة غيره من المفسِّرين، فقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا ‌مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 47]: «وقوله: ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا ‌مَسْحُورًا﴾ يقول: حين يقول المشركون بالله: ما تتبعون إلّا رجلًا مسحورًا. وعنى فيما ذكر بالنجوى: الذين تشاوروا في أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دار الندوة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل...». ثم روى هذا المعنى عن مجاهد وقتادة.

ثم عقّب بقول أبي عبيدة، فقال: «وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة[20] يذهب بقوله: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا ‌مَسْحُورًا﴾ إلى معنى: ما تتبعون إلا رجلًا له سَحْر، أي: له رِئة، والعرب تسمى الرئة سَحْرًا، والسَّحر من قولهم للرجل إذا جَبُنَ: قد انتفخ سَحْرُه، وكذلك يُقال لكلّ ما أكَلَ أو شرب من آدمي وغيره، مسحور، ومُسَحَّر، كما قال لبيد[21]:

فإنْ تسألِينا فيمَ نحنُ فإنّنا .. عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسَحَّر

وقال[22]:

............................ ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرابِ

أي: نُغذَّى بهما، فكأنّ معناه عنده كان: إن تتبعون إلا رجلًا له رِئة، يأكل الطعام، ويشرب الشراب، لا مَلَكًا لا حاجة به إلى الطعام والشراب. والذي قال من ذلك غير بعيد من الصواب»[23]. وقد ذكر هذا القول بعض اللغويين منهم: الزجاج[24].

وقد ردّ تفسيرَ أبي عبيدة هذا جماعةٌ من اللغويين والمفسِّرين، قال ابن قتيبة: «ولستُ أدري ما اضطره إلى هذا التفسير المستكرَه، وقد سبق التفسير من السَّلَف بما لا استكراه فيه»[25]، وقال النحاس -في ترجيح القول الأول-، أي: مخدوعًا: «والقول الأول أنسب بالمعنى، وأعرف في كلام العرب»[26].

وقال ابن كثير: «وقد صوّب ابن جرير هذا القول وفيه نظر؛ لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور، له رئيّ يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه»[27]. وقال السمين: «وأيضًا فإنّ السَّحْر الذي هو الرئة لم يضرب له فيه مثل، بخلاف السِّحْر، فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ لا يناسب إلا السِّحْر، بالكسر»[28]. وقال الآلوسي: «ولا يخفَى ما فيه من البُعد»[29].

2- السكوت:

وقد ينقل ابن جرير كلام أبي عبيدة دون تعقيب، ففي قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ[الذاريات: 39]، قال ابن جرير: «يقول: وقال لموسى: هو ساحر يسحر عيون الناس، أو مجنون به جِنّة. وكان معمر بن المثنى[30] يقول: ﴿أَوْ في هذا الموضع بمعنى الواو التي للموالاة؛ لأنهم قد قالوهما جميعًا له، وأنشد في ذلك بيت جرير الخطفي[31]:

أثعلبة الفوارس أو رياحًا .. عدلت بهم طهية والخشابا[32].

وقد تضمّن كلامُ ابن جرير السابق في معنى ﴿أَوْ في الآية قولَيْن:

القول الأول: أنها على ظاهرها للإبهام[33].

القول الثاني: أنها بمعنى الواو التي للموالاة؛ لأنهم قد قالوهما جميعًا، وهذا رأي أبي عبيدة، ولم يتعقّبه ابن جرير، لكن ردّ قولَ أبي عبيدة جماعةٌ من المفسِّرين وضعّفوه؛ قال ابن عطية: «وقولُ أبي عبيدة ضعيفٌ، لا داعية إليه في هذا الموضع»[34]. قال أبو حيان: «ولا ضرورة تدعو إلى جعلِ ﴿أَوْ بمعنى الواو؛ إِذْ يكون قالهما وأبهم على السامع، فـ(أو) للإبهام»[35]، وقال الآلوسي: «فـ(أو) للشك، وقيل: للإبهام، وقال أبو عبيدة: هي بمعنى الواو؛ لأنّ اللعين قال الأمرين، قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾، وقال: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾: وأنت تعلم أن اللّعين يتلوَّن تلوُّن الحرباء، فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواو»[36].

وقد يقتصر ابن جرير في تأويله الآية أو بيان مفرداتها على النقل عن أبي عبيدة، مشيرًا إليه، أو مصرِّحًا باسمه، أو لا يشير إليه.

فمن الأول: ما ذكر ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾ [الواقعة: 25]، إذ قال: «وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾ والتأثيم لا يُسمَع، وإنما يُسمَع اللغو، كما قيل: أكلتُ خبزًا ولبنًا، واللبن لا يؤكل، فجازت إِذ كان معه شيء يؤكَل»[37].

كما نقل ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ [الحاقة: 8]؛ قول أبي عبيدة من الأقوال المحتملة في تفسير معنى: ﴿بَاقِيةٍ، فقال: «يقول تعالى ذِكْره لنبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: فهل ترى يا محمد لعادٍ قوم هود مِن بقاء؟ وقيل: عني بذلك: فهل ترى منهم باقيًا. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من البصريين يقول: معنى ذلك: فهل ترى لهم مِن بقية؟ ويقول: مجازها مجاز الطاغية، مصدر»[38].

وما ذكره ابن جرير هو ما قرّره الفرّاء، بقوله: «وكلُّ ذلك في العربية جائزٌ حسنٌ»[39]، وتابعه ابن قتيبة، والنحّاس، والزمخشري، وابن عطية، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وغيرهم[40].

ومن الثاني: ما نقله ابن جرير في معنى ﴿حم [غافر: 1]، فقد حكى الأقوال في المعنى، ثم نقل عن أبي عبيدة، فقال: «وقال آخرون: بل هو اسم، واحتجُّوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفى العبسي[41]:

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ[42] .. فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ

وبقولِ الكميت[43]:

وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً .. تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ

وحُدِّثْتُ عن معمر بن المثنى أنه قال: قال يونس -يعني: يونس الجرمي-: ومَن قال هذا القول فهو مُنكَرٌ عليه؛ لأنّ السورة ﴿حم ساكنة الحروف، قخرجت مخرج التهجّي، هذه أسماء سور خرجت متحركات، وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف المجزومة دخله الإعراب فخرجت مخرج التهجّي، وهذه أسماء سور خرجت متحركات، وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف المجزومة دخله الإعراب»[44].

ومن ذلك أيضًا ما ذكره ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25]: «والأساطير جمع إِسطارة وأُسطُورة مثل أُفكُوهَة وأُضحُوكَة، وجائـزٌ أن يكون الواحد أسطارًا، مثل: أبيات وأبابيت، وأقوال وأقاويل. من قول الله تعالى ذِكْره: ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ من سطر يسطُر سطرًا، فإن كان من هذا، فإنّ تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الأوّلون. وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل، ويقولون: معناه: إنْ هذا إلّا أحاديث الأوّلين». ثم أسنده عن ابن عباس، والسدّي. ثم قرّر هذا المعنى من جهة العربية، فنقله عن أبي عبيدة والأخفش، فقال: «وكان بعض أهل العلم -وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى- بكلام العرب يقول: الإِسطارةُ لغةٌ، ومجازُها التُّـرَّهات، وكان الأخفش يقول: قال بعضهم: واحده أسطورة، وقال بعضهم: إسطارة، قال: ولا أراه إلّا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو العبابيد والمذاكير والأبابيل»[45].

وقد تواردت كلمة المفسِّرين واللغويين على هذه المعاني؛ منهم: السمرقندي، والواحدي، والزمخشري، والبغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو حيان، وغيرهم[46].

ومن الثالث: ما اختاره ابن جرير في معنى الصمد، فقد حكى أقوال أهل التأويل، واختار القول الموافق لمعنى (الصَّمَد) في اللغة، ونقله عن أبي عبيدة -دون عزو-، فقال: «الصَّمَد عند العرب: هو السيد الذي يُصمَد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمِّي أشرافها، ومنه قول الشاعر[47]:

ألَا بكَّر الناعِي بخيري بني أسد .. بعمرو بن مسعود وبالسيد الصَّمَد

وقال الزبرقان[48]:

ولا رهينةَ إلا سيّد صَمَد ....................

فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أَولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف مِن كلام مَن نزل القرآن بلسانه»[49].

3- النقد:

وابن جرير كما استفادَ من كتاب أبي عبيدة موافقةً أو سكوتًا لم يُـخْلِ كتابه من آراء نقدية عميقة في تفسير أبي عبيدة. فقد انتقد ابن جرير أبا عبيدة لمخالفته أصوله النقلية في التفسير، ففي تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [هود: 82]، أوردَ ابن جرير اختلاف المفسِّرين من السلف في المراد بـ﴿سِجِّيلٍ، وهي:

القول الأول: هي فارسية معرَّبة أوّلها حَجَرٌ وآخرها طِين، وبعضهم يقول: طِين في حِجَارة، أصلها: سجل إيل، أو: سِنكُ وَكُلْ. ورواه عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة، والسدي، ووهب بن منبه. وردّه الطبري بقوله: «وأنّ ذلك لو كان بالفارسية لكان (سِجْل) لا (سِجِّيل)؛ لأنّ الحجر بالفارسية يُدعَى: (سِج)، والطين: (جل)، فلا وجه لكون الياء فيها، وهي فارسية».

القول الثاني: هي: السماء الدنيا؛ اسمها سجِّيل، وهي التي أنزل اللهُ على قوم لوط[50].

القول الثالث: قال الحسن البصري: كان أصل الحجارة طينًا، فشُدِّدَت، مثل الآجر المطبوخ، فهو طين قد تحَجَّر.

ثم عقّب ابن جرير بقول أبي عبيدة، فقال: «وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين[51] يقول: السجِّيل؛ هو من الحجارة: الصلب الشديد، ومـن الضرب، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر[52]:

ضربًا تَواصَى به الأبطالُ سِجِّيلًا ...................

وقال: بعضُهُم يُحوِّل اللامَ نونًا...».

واختار الطبري ما ذكره المفسِّرون أنّها من طين؛ لأنّ الله وصفها بذلك في موضع آخر، قال تعالى: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ [الذاريات: 33- 34][53].

وقد وافق ابنَ جرير في اختياره: الزجاجُ، والنحاسُ، والأزهري، والسمين، والآلوسي[54]، وقال: «والقرآن يفسِّر بعضُه بعضًا، ويتعيّن إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة».

وهكذا ما ذكره ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: 73]، فقد حَكَى في المراد بالصُّور في الآية قولَيْن:

أحدهما: أنه قَرْنٌ يُـنفَخ فيه نفختان؛ إحداهما لفناء مَن كان حيًّا على الأرض، والثانية لنشرِ كلّ ميّت، واعتَلُّوا لقولهم ذلك بقوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ ‌فِي ‌الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]، وبالخبر الذي رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال إذ سُـئل عن الصور: (هو قرنٌ يُـنفَخ فيه)[55].

القول الثاني: أنّ الصور في هذا الموضع جمع صورة، يُـنفَخ فيها روحُها فتحيَا، وهو قول أبي عبيدة، واختاره البخاري[56]. وحكاه الزجّاج عن أهل اللغة[57].

واختار الطبري القول الأوّل لقيام الدليل على صحته، حيث قال: «والصواب من القول في ذلك عندنا: ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنّ إسرافيل قد التقَم الصُّور وحَنى جبهته، يَـنتظر متى يُـؤمَر فيَـنفُخ)»[58]، وأنه قال: (الصُّور قرنٌ يُـنفَخ فيه)[59]. وتابع ابن جرير في نقده جماعة من المفسِّرين، منهم: النحاس، والبغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو حيان، والخازن[60].

وما اختاره ابن جرير هو قول الجمهور، حكاه عنهم: السمرقندي، والواحدي، وابن عطية، وابن الجوزي[61].

وابن جرير يعتمد أصوله النقدية في نقد أبي عبيدة، ومنها مخالفة قول أهل التأويل، ومن ذلك ما ذكره في تأويل قوله تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ ‌النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11]، فقد رَوَى في تفسير قوله: ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين؛ كابن عباس، وابن المسيب، والشعبي، وقتادة، والسدّي، ومجاهد، وابن زيد، والضحاك، أنّ المعنى: ويثـبّت أقدام المؤمنين بتلبيد المطرِ الرملَ حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابّهم، كما أطفأ الله به الغبار. ثم نقل ابن جرير قول أبي عبيدة متعقبًا له، فقال: «وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة[62]، أنّ مجاز قوله: ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾: ويُـفرِغُ عليهم الصبر وينزله عليهم، فَيثبُتون لعدوِّهم»، ثم قال: «وذلك قولٌ خِلافٌ لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وحَسْبُ قولٍ خطأً أن يكون خلافًا لقول مَن ذَكَرْنَا. وقد بينّا أقوالَهم فيه، وأنّ معناه: ويثـبّت أقدامَ المؤمنين بتلبيد المطرِ الرملَ حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابّهم»[63].

ولم يَخْلُ موقف ابن جرير في نقده لأبي عبيدة من توجيهٍ واحتمال، فقد ذكرَ الطبري في المراد بـ(النَّجْم) في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: 1] أقوالًا، هي:

القول الأول: أنه عنى بالنجم الثريّا، وعنى بقوله: ﴿إِذَا هَوَى إذا سقط، قالوا: تأويل الكلام: والثريّا إذا سقطت. ورواه عن ابن عباس ومجاهد.

القول الثاني: أنّ معنى ذلك: والقرآن إذا نزَل. ورواه عن مجاهد.

القول الثالث: ما نقله الطبري عن بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة[64]، مريدًا بذلك أبا عبيدة الذي قال: «عنى بقوله: ﴿وَالنَّجْمِ﴾: والنُّجُوم، وقال: ذهب إلى لفظ الواحد وهو في معنى الجميع، واستشهد لقوله ذلك بقول راعي الإبل[65]:

فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُستَحِيرَةٍ .. سَرِيعٌ بِأيْدِي الآكلِينَ جُمُودُها»

لكن عقّب ابن جرير مختارًا المعنى الأول، ورادًّا ما ذكره أبو عبيدة حيث لم يقل به أحدٌ مِن أهل التأويل مع توجيهه واحتماله، فقال: «والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله مجاهد، من أنه عنى بالنَّجْم في هذا الموضع: الثريّا، وذلك أنّ العرب تدعوها النَّجْم، والقولُ الذي قاله مَن حَكينا عنه من أهل البصرة قولٌ لا نعلمُ أحدًا من أهل التأويل قاله، وإنْ كان له وجهٌ؛ فلذلك ترَكْنَا القول به»[66].

وما احتمله ابن جرير وقاله أبو عبيدة هو ما اختاره جماعة من المفسِّرين؛ منهم: ابن عطية، وأبو حيان، والآلوسي، والشنقيطي[67].

ومن الجوانب التي أجرَى فيها ابن جرير نقده لأبي عبيدة ما يتعلّق بالقراءات، فقد اعتمد قواعده النقدية في العلاقة بين القراءات والتأويل، واعتبار اللغة في تقرير المعنى؛ ففي تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33]؛ أورَدَ ابن جرير اختلاف القراء في الآية، فقال: «واختلف القَرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قَرأة المدينة والبصرة وبعض قَرأة مكة والكوفة: ﴿إِذْ أَدْبَرَ[68]، وكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر عنه يقول: قريش تقول: دبر الليل، وقرأ ذلك بعض قَرأة مكة وبعض قَرأة المدينة والكوفة: ﴿إِذَا دَبَرَ[69]. والصواب من القول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيَّـتِهما قرأ القارئ فمصيب»، ثم أوردَ ابنُ جرير اختلافَ أهل اللغة في الآية، ثم عقّب بنقده، فقال: «وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك، فقال بعض الكوفيين[70]: هما لغتان، يقال: دبر النهار وأدبر، ودبر الصيف وأدبر.

وقال بعض البصريين[71]: ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾: يعني: إذا دبر النهار وكان في آخره، قال: ويقال: دَبَرَنِي: إذا جاء خلفي، وأدبر: إذا وَلَّى.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى، وذلك: أنه محكيٌّ عن العرب: قبّح الله ما قَبَلَ منه وما دَبَر، وأُخرى[72]: أنّ أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين، وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك؛ لأنهما بمعنى واحد»[73].

فقد اعتمد ابن جرير القراءات، وما سمع عن العرب في نقده لأبي عبيدة، وقد وافقه في اختياره جماعة من اللغويين والمفسِّرين، قال الزجاج: «وكلاهما جيد في العربية»[74]، وقال الجوهري[75]: «ودَبَر النهار وأدبر؛ بمعنى»[76]. وممّن ذكر هذا التوجيه: أبو عليّ الفارسي، والواحدي، ومكيّ، والعكبري، والزمخشري، والبغوي، والقرطبي، وابن الجوزي، وأبو حيان[77].

كما يبيِّن ابن جرير خطأ أبي عبيدة بالنظر والواقع، قال الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ ‌بِالْحِكْمَةِ ‌وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الزخرف: 63]: «وقيل[78]: إنّ معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكُلّ، وجعلوا ذلك نظير قول لبيد[79]:

تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَهَا .. أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها

قالوا: الموت لا يعتلق بعض النفوس، وإنما المعنى: أو يعتلق النفوس حمامها.

وليس لما قال هذا القائل كبير معنى؛ لأن عيسى إنما قال لهم: ﴿‌وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾؛ لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم، فقال لهم: أُبيِّن لكم بعض ذلك، وهو أمر دينهم، دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم؛ فلذلك خصّ ما أخبرهم أنه يبيّنه لهم.

وأمّا قول لبيد: أو يعتلق بعض النفوس، فإنه إنما قال ذلك أيضًا كذلك؛ لأنه أراد: أو يعتلق نفسه حمامها، فنفسه من بين النفوس لا شك أنها بعضٌ لا كُلّ»[80].

وقد وافق ابنَ جرير في نقده جماعةٌ من المفسِّرين، قال ابن عطية: «وهذا ضعيف تردُّه اللغة»، وقال الراغب: «وفي قوله هذا قصورُ نظرٍ منه»، وقال القرطبي: «وردَّه الناس عليه»[81].

وبعد هذا العرض لمنهج ابن جرير النقدي لأقوال أبي عبيدة، وتنوّع مواقفه من الموافقة والمتابعة والاحتجاج، أو السكوت والاستفادة والاحتمال، أو النقد بأنواعه؛ فهذه بعض المعالم المتعلقة بمنهج ابن جرير في نقده لأقوال أبي عبيدة في كتابه: (مجاز القرآن):

1- كان كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنّى (مجاز القرآن) من أهم موارد ابن جرير في تفسيره؛ فقد أكثرَ النقلَ عنه موافقًا، أو ناقلًا، أو ناقدًا، وذلك في أكثر من تسعين موضعًا[82].

2- تنوّعَت مجالات استفادة ابن جرير من كتاب أبي عبيدة في أبواب اللغة، لتشمل معاني المفردات، والوجوه الإعرابية، وقضايا الاشتقاق، وأساليب القرآن، وما يقتضيه ذلك من نقل شواهد العربية نثرًا وشِعْرًا، كما نقل عنه توجيه القراءات، وتفسير الآيات.

3- اعتمد ابن جرير منهجه النقدي في تعامله مع أقوال أبي عبيدة، فموافقته أو ردّه أو سكوته راجع إلى أصوله وقواعده النقدية، من مراعاة النظائر القرآنية، أو مراعاة السنّة النبوية، أو الإجماع، أو أقوال أهل التأويل، أو السياق، أو الظاهر. كما راعى ابن جرير قواعده النقدية المتعلقة باللغة؛ كمراعاة الأَشْهَر في العربية، والمعروف، وردِّ الشاذ، والبعيد، والغريب.

4- أبانت الدراسة النقدية لآراء أبي عبيدة في تفسير ابن جرير عن منهج نقد الرجال في التفسير، وذلك بمراعاة المعايير النقدية السابقة؛ ومن أهمها: موافقته لأقوال أهل التأويل، فالمفسِّر يؤخذ منه التفسير بحسَب اعتماده الأصول النقدية، وموافقته لأقوال الصحابة والتابعين، وعدم الانفراد والشذوذ عنهم، ويتباين حاله بحسب ذلك[83]. وهو ما راعاه ابن جرير في نقد أبي عبيدة، وأقواله، واختياراته.

5- تباينَت أساليب ابن جرير في النقل عن أبي عبيدة، فكان في أغلبها ينقل عنه غير مصرِّح باسمه ولا بكنيته، بل يدعوه بـ: بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة، أو بعض البصريين، وغيرها. وربما قسا في عبارته، مثل: بعض مَن لا عِلْم له بأقوال السَّلَف من أهل التأويل، أو: بعض من يُـنسَب إلى معرفة كلام العرب من البصريين.كما تباينَت عبارات النقد؛ فقد يقتصر على نقد القول -وهو كثير-، أو يتلطّف في النقد، مثل قوله: «وهذا غلط من القول وخطأ»، لكنه قد يشتدّ أحيانًا، فيقول عنه: «وكان بعض مَن لا عِلم له بأقوال السَّلَف مِن أهل التأويل، ممّن يفسِّر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب...»، وهذا التبايُن راجعٌ إلى قوّة المخالفة للتفسير الصحيح من عدمها[84].

6- أبانَتْ مواقف ابن جرير النقدية من أقوال أبي عبيدة عن توسّط منهج ابن جرير في نقد الرجال وأقوالهم؛ بين مَنْ ردَّ وعابَ كتاب أبي عبيدة جملةً؛ كالفرّاء والأصمعي، وبين مَن نقل عنه دون تمحيص وتحقيق، فكان منهجه النقدي في أسلوبه وأدواته وثرائه نموذجًا يُحتذَى في الاستفادة من الدراسات اللغوية في تفسير القرآن.

 

[1] هذه المقالة من كتاب: «الصناعة النقدية في تفسير ابن جرير الطبري»، الصادر عن مركز تفسير سنة 1443هـ، (1/ 269) وما بعدها. (موقع تفسير).

[2] أراد الطبريُّ أبا عبيدة، مجاز القرآن (1/ 332).

[3] ينظر: تهذيب اللغة للأزهري (13/ 60، 142)، وزَهْدَم: اسم فرس لبِشر بن عمرو الرِّياحي، ينظر: لسان العرب، مادة (زهدم)، ومقاييس اللغة (6/ 154).

[4] أراد الطبريُّ الفراء، معاني القرآن (2/ 63- 64).

[5] جامع البيان (13/ 535- 537).

[6] جامع البيان (13/ 538- 539).

[7] ذكره الرازي في التفسير الكبير (19/ 55).

[8] المفردات (552).

[9] البحر المحيط (5/ 392)، وانظر: الكشاف (2/ 360)، لسان العرب (6/ 260)، روح المعاني (13/ 156).

[10] ينظر: مختصر في شواذ القرآن (71)، المحتسب (1/ 357)، معاني القرآن للنحاس (3/ 497).

[11] تأويل مشكل القرآن، ص192، ومعاني القرآن (3/ 397)، وتفسير المشكل من غريب القرآن، ص119.

[12] جامع البيان (11/ 358- 359).

[13] غريب الحديث (3/ 81)، وتفسير غريب الحديث، ص183، والأضداد، ص394، وتفسير المشكل من غريب القرآن، ص96، والمحرر الوجيز (4/ 265)، وتفسير القرطبي (8/ 18)، وأنوار التنزيل (3/ 72)، وتفسير المنار (10/ 166)، والتحرير والتنوير (11/ 124).

[14] أراد الطبريُّ الأخفش، معاني القرآن (2/ 532).

[15] أراد الطبريُّ الفرّاء، معاني القرآن (3/ 249).

[16] رواه عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وغيرهم.

[17] جامع البيان (24/ 220- 225).

[18] وسيأتي مزيد بيان لنقد ابن جرير للتفسير من جهة الإعراب في الباب الثالث.

[19] ينظر: (إعراب القرآن (5/ 182)، البيان (2/ 501)، الكشاف (4/ 233)، التبيان (2/ 1277)، الجامع لأحكام القرآن (19/ 266)، المحرر الوجيز (16/ 25)، التفسير الكبير (31/ 101)، البحر المحيط (8/ 442).

[20] أراد الطبريُّ أبا عبيدة، مجاز القرآن (1/ 381- 382).

[21] ديوانه (56).

[22] عَجُز بيت لامرئ القيس، وصدره: أرانا موضعين لأمر غيبٍ، ديوانه (56).

[23] جامع البيان (14/ 611- 613).

[24] معاني القرآن (3/ 243).

[25] تفسير غريب القرآن (217).

[26] معاني القرآن (4/ 161- 162).

[27] تفسير القرآن العظيم (5/ 83).

[28] الدر المصون (7/ 366).

[29] روح المعاني (15/ 90)، وانظر: زاد المسير (5/ 32)، التفسير الكبير (20/ 225)، البحر المحيط (6/ 44).

[30] مجاز القرآن (2/ 227).

[31] ديوانه (2/ 814)، والبيت من قصيدة طويلة لجرير، يمدح فيها قبيلتي: ثعلبة ورياح، ويذمّ فيها قبيلتي: طهية والخشاب، ومطلعها: أقلِّي اللوم عاذل والعتاب... ثعلبة الفوارس ورياح: من قوم جرير، وطهية: امرأة مالك بن حنظلة، والخشاب: أولاد مالك من غير طهية.

[32] جامع البيان (21/ 535).

[33] واختاره: الزجاج، معاني القرآن (5/ 56)، وابن عطية، المحرر الوجيز (15/ 218).

[34] المحرر الوجيز (15/ 218).

[35] البحر المحيط (8/ 140).

[36] روح المعاني (27/ 15).

[37] جامع البيان (22/ 305)، وينظر: مجاز القرآن (2/ 249).

[38] جامع البيان (23/ 215)، وينظر: مجاز القرآن (2/ 267).

[39] معاني القرآن (3/ 180).

[40] تفسير غريب القرآن، ص483، ومعاني القرآن (5/ 20)، والكشاف (4/ 150)، والمحرر الوجيز (8/ 387)، والتفسير الكبير (30/ 150)، وتفسير القرطبي (18/ 261)، والبحر المحيط (8/ 108).

[41] ينظر: معجم الشعراء، للمرزباني، ص270، ولسان العرب، مادة (ح م م).

[42] شاجر: شجره بالرمح، أي: طعنه. لسان العرب (ش ج ر).

[43] القصائد الهاشميات، ص25، وأراد بالآية، قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: لم يسعه إلا التقية في التشيع لآل البيت أو الإعراب أو الإفصاح عن ذلك.

[44] جامع البيان (20/ 276)، ونقله عن أبي عبيدة أيضًا البخاري في صحيحه.

[45] جامع البيان (9/ 200)، وينظر: مجاز القرآن (1/ 189)، معاني القرآن، للأخفش (2/ 272).

[46] بحر العلوم (3/ 214)، والوسيط (1/ 148)، والكشاف (2/ 12)، ومعالم التنزيل (2/ 126)، والمحرر الوجيز (6/ 28)، وزاد المسير (3/ 17)، وتحفة الأديب، ص165.

[47] قيل: هو سبرة بن عمرو الأسدي، وقيل غيره: ينظر: خزانة الأدب (11/ 269).

[48] هذا عَجُز بيت، صدره: سيروا جميعًا بنصف الليل واعتمدوا، ينظر: تفسير القرطبي (20/ 245).

[49] جامع البيان (24/ 737)، وينظر: مجاز القرآن (2/ 316).

[50] ضعّفه ابن عطية، وأبو حيان والآلوسي لوصف السجيل بـ(منضود) أي: المجعول بعضه فوق بعض. ينظر: المحرر الوجيز (9/ 203)، البحر المحيط (5/ 249)، روح المعاني (12/ 113).

[51] أراد الطبريُّ أبا عبيدة، مجاز القرآن (1/ 296).

[52] قائله: ابن مثيب، والبيت في ديوانه، ص333.

[53] جامع البيان (12/ 528).

[54] معاني القرآن وإعرابه (3/ 70)، معاني القرآن (3/ 370)، تهذيب اللغة (10/ 585)، عمدة الحفّاظ (2/ 174)، وروح المعاني (12/ 113).

[55] رواه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، والحديث رواه أحمد في المسند (6507)، وأبو داود في سننه (4742)، والترمذي (2430)، وقال: «حديث حسن»، والحاكم في المستدرك، كتاب الأهوال (4/ 560)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».

[56] صحيح البخاري (6/ 56)، لكن خالفه الشرّاح: ابن حجر، فتح الباري (8/ 288)، والعيني، عمدة القاري (18/ 222)، والقسطلاني (7/ 116)، فاختاروا القول الأول بدلالة السُّنة.

[57] معاني القرآن (2/ 264).

[58] رواه عبد الرازق في تفسيره (2/ 175)، وأحمد في المسند (11039)، وابن حبان في صحيحه برقم (823)، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال محققو المسند: «حديث صحيح».

[59] جامع البيان (9/ 340).

[60] ينظر: معاني القرآن (2/ 447)، ومعالم التنزيل (2/ 148)، والمحرر الوجيز (6/ 48)، وزاد المسير (3/ 53)، وتحفة الأريب (195)، ولباب التأويل (2/ 148).

[61] ينظر: بحر العلوم (3/ 263)، والوسيط (2/ 288)، والمحرر الوجيز (6/ 84)، وزاد المسير (3/ 53).

[62] أراد الطبريُّ أبا عبيدة، في مجاز القرآن (1/ 242).

[63] جامع البيان (11/ 56- 68).

[64] مجاز القرآن (2/ 235).

[65] ديوانه: ص112، والمستحيرة: الجفنة كثيرة الوَدَك، وهو الشحم. اللسان مادة (س ح ر).

[66] جامع البيان (22/ 7).

[67] المحرر الوجيز (15/ 254)، والبحر المحيط (8/ 157)، وروح المعاني (27/ 45)، وأضواء البيان (7/ 699).

[68] هي قراءة نافع وحمزة ويعقوب وخلف وحفص. النشر (2/ 393).

[69] هي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو بن العلاء والكسائي وأبي جعفر وشعبة عن عاصم. النشر (2/ 393).

[70] أراد الطبريُّ الفراء (3/ 204).

[71] أراد الطبريُّ أبا عبيدة (2/ 275).

[72] وهذه هي حجة الأخفش في معانيه (2/ 719).

[73] جامع البيان (23/ 441- 443).

[74] معاني القرآن (5/ 248).

[75] هو: إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر الفارابي، اللغوي الأديب، أخذ عن أبي عليّ الفارسي، والسيرافي، وصنف كتابه المشهور (الصحاح)، وغيره، توفي سنة (393). ينظر: معجم الأدباء (2/ 656)، وبغية الوعاة (1/ 446).

[76] الصحاح (2/ 654)، وانظر: لسان العرب (4/ 268).

[77] الحجة (6/ 339)، والوسيط (4/ 385)، والكشف (2/ 348)، وإعراب القراءات الشواذ (2/ 644)، والكشاف (4/ 186)، ومعالم التنزيل (7/ 178)، والجامع لأحكام القرآن (18/ 84)، وزاد المسير (8/ 152)، والبحر المحيط (8/ 378).

[78] القائل: هو أبو عبيدة، مجاز القرآن (2/ 205).

[79] من معلقته (شرح الزوزني، ص262)، لم أرضها: لم أرض الإقامة بها.

[80] جامع البيان (20/ 636- 637).

[81] ينظر: الجامع لأحكام القرآن (16/ 108)، والمفردات (54)، المحرر الوجيز (14/ 272).

[82] ينظر: الدراسة القيمة للأستاذ الدكتور بدر البدر: أقوال أبي عبيدة في تفسير الطبري، وموقفه منها، (ص44- 46)، وغيرها، وقد استفدت منه كثيرًا في هذا الفصل.

[83] وهو بهذا يعتمد آلية السبر والمقارنة والموازنة بين الأقوال، ويشبهه صنيع المحدِّثين في نقد الرجال، إِذْ إنّ مقارنة المرويّات هي أهم أدوات أئمة الحديث في نقد الرجال؛ قال الذهبي: «اعلم أنّ أكثر المتكلَّم فيهم ما ضَعَّفَهم الحُفّاظ إلا لمخالفتهم الأثبات» الموقظة، ص52، تحقيق: أبو غدة.

[84] ينظر: دراسة د. البدر، ص44- 101.

الكاتب

الدكتور يوسف بن جاسر الجاسر

حاصل على الدكتوراه من جامعة الملك سعود، وله عدد من الجهود العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))