كتاب (تكوين ملكة التفسير) للدكتور/ الشريف حاتم بن عارف العوني
عرض وتقويم
إنه لا يختلف اثنان في مدى عناية المسلمين بكتاب الله والتصدّي لبيان معانيه ومراد الله منه، واستخراج أحكامه وحِكَمه، واستنباط فوائده، كما لا يخفى التنوّع الواسع الذي نلمسه في طرائق التعرّض لدراسته ومدارسة كلّ ما من شأنه أن يسهم ويُعِين على فهمه، وهذا نلمسه بشكلٍ جليّ في المصنّفات المتنوّعة والمختلفة في أغراضها وأساليبها، واتجاهات مؤلِّفيها، وجزئياتها، فضلًا عن أحجامها.
وفي سياق العناية بكلّ ما من شأنه الإعانة على فهم مراد الله من كتابه العزيز، فقد عُدَّ التأليف في الشقّ التكويني بغية خدمة كتاب الله -تفسيرًا وبيانًا- جزءًا لا يتجزّأ من منظومة العناية بالنصّ القرآني، ولا يخفى على كلِّ متأمِّلٍ فَطِنٍ مدى صعوبةِ هذا الاتجاه في الكتابة والتأليف، الشيء الذي جعل الساحة التكوينية لعلم التفسير تُعاني مِن أمورٍ عِدّةٍ؛ مِن أبرزِها غلبةُ التقليد، وسيادةُ التلقين، بالإضافة لقلّة الكتابات الخالصة والمفردة لتكوين رصين في التفسير وما يتعلّق به كالملَكات على سبيل المثال، إلا أنها تبقى محاولات جديرة بالمتابعة والقراءة من أجلِ إثارةِ النقاش البنّاء حولها من جديد وإعطائِها حقَّها من الهمّ والاهتمام.
ومن هنا تبرز أهمية هذا الكتاب: (تكوين ملكة التفسير)، الذي لا يسع الباحث في الدراسات القرآنية عامة والتفسيرية خاصة إلا الاطلاع والاستفادة من الخطوات المقترحة لتكوين عقل المفسِّر، وهو الذي سنقدّم له عرضًا وتقويمًا لا يدّعي الكمال أو الاكتمال بقدر ما يسعى لرسم الإطار العام للكتاب مع الوقوف على المضامين التي رام المؤلِّف الوصول إليها، مع تفصيل المناقشة حول أبرز المآخذ وأهم الملاحظات ومناقشتها مناقشة علمية ذات أهمية في بابها من أجلِ تطويرِه، وفتحِ آفاقٍ واسعة للعناية به وبهذا الوعاءِ من التأليف.
أولًا: كتاب (تكوين ملكة التفسير)؛ عرض وبيان:
لقد تجسّدت محتويات هذا الكتاب من حيث العموم في مدخلين رئيسين تسبقهما مقدّمة وتقفوهما خاتمة، أمّا من جهة التفصيل فقد جاءت كالآتي:
فقد خصّص المقدّمة للحديث عن أهمية تحقيق ملَكات العلوم الإسلامية، وأنها سبيل للنهوض بهذه العلوم ودوام سيرورتها العلمية؛ الشيء الذي جعله يقدّم طرحًا يكتنف خطة علمية عملية لملَكَةِ أَحَدِ أجلِّ العلوم وهو علم التفسير، معرّجًا على ذلك ببيان مفهوم (ملَكة) من حيث اللغة ثم المراد بـ(ملَكة التفسير) عنده حيث عرّفها بأنها: «التأهّل العلمي والذّهني لإدراك الفهم الصحيح للآية بالاجتهاد المبنيّ على أدلته، لا تقليدًا»[1]. لينهي حديثه في المقدّمة عن بيان أسباب اختياره الاشتغالَ على هذا الفنّ، والتي من أهمها أنه يغلب عليه طابع التلقين الذي يهوي بصاحبه عاجلًا أم آجلًا إلى فهم غير صحيح، وقد ردّ المؤلِّف سيادة نمط التلقين في هذا الفنّ إلى الاستثمار الخاطئ للعديد من النصوص -قرآن وسنّة- التي تتحدّث عن القول في القرآن.
ثم تناول بعد المقدمة مدخلًا تأصيليًّا لتكوين ذهنية المفسِّر من خلال بيان المراد بالتجديد في التفسير، الذي قصد به العودة بالتفسير إلى ما كان عليه في انطلاقته الاجتهادية وحرّيته العلمية المنضبطة بالمنهج الذي كان عليه في زمن الصحابة والتابعين وأئمة التفسير المجتهدين.
ثم انتقل للحديث في المدخل الأول عن المقصود بالتجديد في التفسير، ومدى قابلية التفسير للتجديد فيه، والتفسير بين التجديد والالتزام بتفسير السَّلَف، معتمدًا أسلوب السؤال، ثم بسط القول في المسألة بالإجابة عن السؤال الذي طرحه، ثم بَيّن الحاجة إلى التجديد في التفسير، وأورد صورًا عدةً من صور التجديد في التفسير؛ منها استخراج معانٍ جديدة لم يَسبق إليها المفسِّرون من قبل، ومحاكمة بعض الأقوال القديمة للانتقال بها من درجة الاختلاف اللفظي إلى الاختلاف الحقيقي المرجوح، ومن درجة اختلاف التضاد السائغ المرجوح إلى درجة الاختلاف غير السائغ وإلى إبطال ذلك القول، ذاكرًا عددًا من الآيات كمثال لتأكيد قوله.
ومِن صور التجديد التي أوردها أيضًا: ربطُ التفسير بالواقع ومستجداته؛ لأنه من صميم عمل المفسِّر، وربطُ التفسير بالمكتشفات العلمية الحديثة وخاصةً التي بثّت معالمها في ثنايا الخطاب القرآني، وما مدى تأثيرِها في نتاج التفسير، كما أشار أن التجديد في التفسير يجب أن يكون مددًا من الهداية القرآنية في العلوم العصرية المستحدثة باعتباره مصححًا ومكملًا لها بعد إنارتها بنور القرآن، وضبطُ التفسير الإشاري المقبول والزيادة فيه تقعيدًا وتطبيقًا، والوقوفُ على المسائل اللغوية المتعلّقة بالتفسير وتحريرها من خلال التكميل والاستدراك، مع الاهتمام بالإعجاز اللغوي وتقريبه أكثر، والاهتمامُ بالقراءة الداخلية للنصّ القرآني، وكذلك العلوم التفسيرية التي برزت متأخّرة ولم تنضج بعد؛ كعلم المناسبة وموضوعات السور وأثرها في التفسير...
ثم تناول المدخل الثاني الذي وسمه بـ: مدخل عملي لتكوين ملكة التفسير، من خلال خطّته التي أُسِّست على أمرين، الأول: هو تدريب الساعي لتكوين ملكة التفسير على استخراج واستحضار كلّ معلومة من شأنها أن تنفعه في فهم الآية وتفسيرها باجتهاده وفهمه الخاصّ، ثم الرجوع بعدها لأهل العلم وأربابه لتقويم هذا الفهم والاجتهاد. الثاني: التنبيه على علوم التفسير وأماكن توظيفها وكيفية الاستفادة منها عند الشروع في عملية التفسير، ليعرّج بعدها في تفصيل الكلام حول الخطوات العلمية لهذه الخطة، والمتمثّلة في الآتي:
الخطوة الأولى: وقد بَيّن فيها باقتضاب شديدٍ جدًّا ما يحتاجه الساعي لتكوين ملكة التفسير من العلوم الضرورية التي يجب أن يكون على دراية تامّة بمبادئها وفهم كلام العلماء فيها، مركّزًا القول حول معرفة كلام العرب شِعْرًا ونثرًا مع النظر الدائم في أصول التفسير ومناهج المفسِّرين ومدارسهم ومؤلَّفاتهم، وعقّب بالقول في آخر هذه الخطوة؛ أنها ليست من صميم الخطوات التشكيلية لذهنية المفسِّر وتكوين ملَكته، لكنها خطوة تأسيسية قبل الشروع في باقي الخطوات.
الخطوة الثانية: ومفادها أنه يجب على الساعي لتكوين ملكة التفسير اختيارُ سور أو أجزاء معيّنة لم يسبق له الاطلاع على تفسيرها بغية التدرّب على تفسيرها.
الخطوة الثالثة: أبرز فيها مسألة فهم النصّ القرآني بالجهد الذاتي المحض، دون الاستعانة أو الرجوع للتفاسير السابقة مركزًا القول على استحضار خمسة سياقات معِينة على الفهم والتفسير وهي: السياق القرآني العام، ثم السياق الزمني للآيات المختارة، ثم سياق السورة التي تتضمّن الآيات المختارة، ثم سياق الآيات خاصّة، ثم سياق الآية الواحدة.
الخطوة الرابعة: وتضمنت مراحل السعي إلى التفسير اللغوي للآيات المختارة، وذلك من خلال ستّ مراحل نوردها باختصار؛ المرحلة الأولى: تحديد الكلمات التي تحتاج للدراسة اللغوية. المرحلة الثانية: معرفة أصل المعنى اللغوي للكلمات المدروسة. المرحلة الثالثة: حصر المعاني الفرعية ومشتقّاتها للكلمات المدروسة. المرحلة الرابعة: النظر والمراجعة لجميع الآيات التي تضمّنت الكلمة المدروسة. المرحلة الخامسة: وهي ذات صلة بالمرحلة التي قبلها، بحيث يتأكد المتدرّب من صحة المعنى الفرعي للكلمة المدروسة. المرحلة السادسة: وتتضمّن تفسير الآية بحسب ما تقتضيه لغة العرب وحدها بعد تحديد مفردات الآية، بحيث يقوم المتدرب بالربط بين تلك المفردات لتقييد المعنى اللغوي للآية.
الخطوة الخامسة: تفسير الآية بالمنقول من القرآن الكريم، والسنّة النبوية، وأقوال السَّلَف، وهذه الخطوة يتفرّع عنها ثلاثة فروع، وهي؛ الفرع الأول: تفسير القرآن بالقرآن، وحدّد هذا الفرع في ثلاث مراحل؛ الأولى: هي استخراج الآيات ذات العلاقة بالآية المدروسة. والثانية: تتمثّل في الاستعانة بالجهود المتفرّقة لأهل العلم. أمّا الثالثة: فهي الرجوع إلى كتب التفاسير وخاصّة التي اعتنت بموضوع الآية المدروسة.
أمّا الفرع الثاني: تفسير السُّنّة للقرآن، قد ذكر فيه وجهين معروفين؛ الأول: تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- الصريح للآية. والثاني: التفسير غير الصريح، وهو عموم السنّة، من أقوال وأفعال وتقريرات.
وقد حدّد أربع مراحل للوصول إلى تفسير القرآن بالسنّة؛ المرحلة الأولى: الوقوف على التفسير المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثم المرحلة الثانية: دراسة التفسير المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لتمييز صحيحه من سقيمه. المرحلة الثالثة: فهم الحديث الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في التفسير، والاجتهاد في استنباط وجه بيانه للآية التي يفسّرها. المرحلة الرابعة: تقويم فهمه للحديث، ومراجعة استنباطه لعلاقته بتفسير الآية، من خلال الرجوع إلى كتب شروح الحديث.
الفرع الثالث: تفسير السلف للقرآن الكريم، قد جعل له مراحلَ ثلاثًا وهي المتمثلة في الجمع من المظانّ، ثم التثبت من صحة ما جمع، ثم النظر في معاني أقوالِ السَّلَف بين الاتفاق والاختلاف.
الخطوة السادسة: ومفادها الرجوع إلى كلام أئمة التفسير وإلى ترجيحاتهم النهائية، لتقويم النتيجة النهائية واختيار الصياغة الدقيقة للتفسير الذي توصل إليه من تطبيق جميع الخطوات.
ثم خاتمة تضمّنت تذكيرًا بخلاصة الكتاب في تكوين ذهنية المفسِّر، ثم أورد بعدها ملحقًا تضمّن تخريجَ حديث: (القرآن الكريم حمّالٌ ذو وجوه)، الذي اشتهر بين ألسنة المشتغلين بالتفسير.
ثانيًا: كتاب (تكوين ملكة التفسير)؛ نقد وتقويم:
أ- أبرز المزايا:
أبرزَ العرضُ لمحتويات المؤلَّف المهمّة التي ناقشها الكاتب عن مدى أهميتِه، وحُسنِ تعامُلِ المؤلِّف مع موضوعه: بحثًا ودراسةً وترتيبًا. وسنبيّن مزاياه لتتضح صورتها أكثر؛ ومن ذلك ما يأتي:
- الجِدَّة والرصانة في الطّرح؛ والتي تظهر من خلال ابتكار هذه الخطوات العلمية العملية، وكذلك من خلال قوّة الفكرة ومنطلقاتها وسياق الموضوع وخلفياته، كما أجاد في إبراز نقطة انطلاق الكتاب ونهايته حتى لا يدع البحثَ فضفاضًا في أغلب محطاته، أمّا الحديث عن المقدّمة فعليها عدة ملاحظات كما سيأتي معنا.
- ومن مزايا الكتاب أيضًا أنه يسهّل على الطالب والباحث الاستفادةَ منه وتطبيقَ خطواته العلمية العملية وممارستَها دون الرجوع أو الاستعانة بأحد المتخصّصين، ومن جهة أخرى فإن مادة الكتاب لها قابلية كبيرة لأن تكون مقررًا دراسيًّا مهمًّا أو جزءًا من مقرّر في هذا الفنّ، بمعنى أنه قابِل لأن يكون مادة دراسية مهمّة بشقّيها النظري والتطبيقي، ويستفيد منها الطالب ويوظّفها الأستاذ.
- من ذلك أيضًا الاهتمام بقضية التجديد في التفسير التي صارت ذاتَ هَمٍّ واهتمامٍ لدى أرباب هذا الفنّ، كما أحسن المؤلِّف توظيف هذه القضية حيث جعلها مقامًا يُجَسِّر به مراده من الكتاب، كما يلاحظ أيضًا أنه رغم اعتناء المؤلِّف بقضية التجديد إلا أنه جعلها تسير بشكلٍ مُوازٍ مع التفسير بالمنقول دون ازدرائه أو القفز عليه؛ وهذا من أبرز مميزات هذا العمل، بل جعله -التفسير بالمنقول- ذا أهمية بالغة وفصّل فيه القول في الخطوة الخامسة، وخاصّة أننا صرنا نسمع عن العديد ممن امتطى قضية التجديد في التفسير يجعل التفسيرَ بالمنقول جانبًا، والميلَ أكثرَ -دون قيد أو شرط- إلى (العقل والغرب فكرًا ومنهجًا)، وهذا الأخير جزء لا يتجزّأ من الخلل المنهجي الذي يعتري العديد من الدراسات التي نحت في هذا الجانب من الاشتغال.
- جمالية أسلوب المؤلِّف -حفظه الله- وجودة وبراعة لغته، وهذا يلاحظه كلّ من وقف على هذا الكتاب، ويظهر هذا جليًّا من خلال كلّ القضايا ذات الصلة باللغة وسبرِ أغوارها، وخاصّة الخطوة الرابعة التي تدرس مراحل السعي إلى التفسير اللغوي الصرف.
- عناية المؤلِّف بموضوع البحث دون استطراد، بحيث رَكَّزَ على موضوع الكتاب تركيزًا دقيقًا، وعدم تفرّعه أو توسّعه فيما لا يعود على الباحث بفائدة معيّنة، وهذا الأخير يسهم في عدم حصول التشويشِ المعرفي وتشتيتِ الذِّهن والنأيِ به عن المقصود من الكتاب، وقد بَدَا هذا واضحًا في ثنايا الكتاب.
- ومن المزايا أيضًا ضبط المؤلِّف -وهو يخوض في بيان ومناقشة الخطوات العلمية لتكوين ذهنية المفسِّر- للتقسيمات والمراحل المتضمنة في كلّ خطوة بحيث يلاحظ القارئ تناسقًا منهجيًّا، فضلًا عن حُسْن تنظيمه ورونقه وانسجام الفقرات فيما بينها، كما اعتنى بضبط الأمثلة وانتقاء الشواهد المناسبة أو ذات العلاقة بالمراد في كلّ محطة، والتي تخدم المراد من كلّ خطوة من خطوات الكتاب.
- برع المؤلِّف في دراسة كلّ خطوة علمية لوحدها، مبينًا ما اشتملته من مراحل، ليعيد التذكير بها في الخاتمة، بحيث لم يكتفِ ببيان أفكاره على شكل نتائج، بل عقد ملخّصًا يعيد فيه التذكير بخطوات التكوين وما تضمّنته من مراحل.
- للكتاب فائدة خاصّة تتمثّل في تخريج حديث: (القرآن الكريم حمّالٌ ذو وجوه)، الذي اشتهر بين ألسنة المشتغلين بالتفسير قديمًا وحديثًا، ولعلّ الغرض من إيراده فضلًا عن بيان حاله ثبوتًا أو ضعفًا، فإنه قصَدَ بيانَ صحةِ معنى هذا الحديث في واقع التفسير؛ وعلى المشتغلين به استحضارُها وأخذُها بعينِ اعتبارِ كلِّ مقامٍ صحّ استحضارُها فيه.
- كما أَوْلَى الكاتبُ فهرسةَ مؤلَّفهِ عنايةً كبيرة، حيث أَولاها بالتفصيل؛ مما دفعها لترقى إلى مزايا حسنةِ الذِّكْر لكلّ مَن رام هذا الكتاب، بحيث تمكِّن الباحثَ الساعي لتكوين ملكة التفسير خاصةً والقارئَ عامةً من الوصول إلى مراده بدقة.
ب- أهم المآخذ ومناقشاتها:
وعطفًا على ما تقدّم؛ فإنه لا يخلو عمل علمي أيًّا كان من ملاحظات ومناقشات حوله مهما سعى صاحبه لتكميله وتجويده، ومثل هذه المناقشات تتفاوت في الأنظار وتختلف في الآراء من باحث لآخر، ولا شَكّ أنها لا تُنقص من قدر العمل شيئًا، وإنما هو تثمينٌ وتكميلٌ لهذا العمل ومناقشته تعميمًا للفائدة، وفتحُ ملفِّ النقاش حوله وحول موضوعه من جديد، ومنه فقد بدت بعض الملاحظات نُناقشها في الآتي:
في مفهوم تجديد التفسير عند المؤلِّف:
إنّ حديث المؤلِّف عن المراد بالتجديد في التفسير الذي هو حركة تشهدها مختلف العلوم والفنون حتى تتميز بخاصية الدوام والاستمرارية، حيث بيّن أن المراد به هو: «العودة بالتفسير إلى انطلاقته الاجتهادية وحريته العلمية المنضبطة بالمنهج الذي كان عليه زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المتبوعين وأئمة التفسير المجتهدين»[2]. ومَن تأمّلَ هذا القصد ألفاه قد غطّى جانبًا من جوانب التجديد فقط ألا وهو جانب الاجتهاد، لكن إذا عُدنا للمعنى اللغوي والنصوص العمدة الواردة في باب تجديد الدين الذي أساسه تجديد العلوم الإسلامية والاستنباطات الدائرة في فلك الحديث عن التجديد وما بيّنه روّاد هذا الشأن على مَرّ العصور، نجد أنّ التجديد يشمل أمورًا عدّة[3] تتمثّل فيما يأتي:
- إعادةُ الجدّة والقوّة إلى هذا العلم على الوجه الذي كان عليه الجيل الأول، وقد اصطبغ وجدانهم به، بحيث يصبح التفسير حسًّا ذا أهمية عُظمى في نفوس العلماء وكلّ الباحثين والمهتمين بالدرس التفسيري، ويُعطى حقَّه من التنظير ومستحقَّه من التنزيل على ما عُهد له في سالف الزمان.
- توسيعُ مباحث القواعد والنظريات الخاصّة بالتفسير، إمّا عن طريق تعميقها أو تقويمها وتحريرها مع تحديد مواطن النضج والقصور كيفًا وكمًّا، وسَلْكُ سبلٍ لاجتراح وإخراج قواعد تفسيرية جديدة تستثمر كلّ الفرص والإمكانات المتاحة في المعرفة المعاصرة، بحيث تسدّ كل الثغرات المطروحة في الوسط العلمي، ولا يتم هذا الاجتراح إلا عن طريق الإقدامِ وبقوةٍ للاستفادة من الآليات والمقاربات التي أبرزتها المعرفة الحديثة.
- تحقيقُ وتنقيح ما أُثر في علم التفسير بكلّ اتجاهاته من التصحيف والتحريف الذي شكّل نوعًا من الدَّخَنِ والوهن الذي طال عددًا من مدونات التفسير التي اشتهرت بين المشتغلين به، ومن ذلك التنبيهُ على الكوارث العقدية الفاسدة بكلّ أنواعها، والتنبيه على المباحث التي ليستْ من أصل هذا العلم وقد بُثَّت ضِمنه، وتَمّ عَدُّها بعضًا منه. مع الاهتمام بالتفاسير التي لم يصلها نورٌ أصلًا والتي ما تزال حبيسةَ رفوفِ المخطوطات.
- تثمينُ وتتمة جهودِ الأوائل في هذا العلم عن طريق المواكبة الإيجابية للعصر وتفسير مستجداته مع الإسهام في إيجاد حلول لوقائعه ونوازله عن طريق علم التفسير، وهذا المستوى من التجديد لا يتحقّق إلا بانتقال التفسير من بطون الكتب والمكتبات إلى واقع الناس، والسعي إلى إصلاحه من خلال التطبيق.
في خطوات تكوين ملكة التفسير:
لقد أورد المؤلِّف ستَّ خطواتٍ كما تقدّمت الإشارة لها من قبل، ودار القول في الخطوة الأولى: حول العلوم الضرورية التي يحتاجها الساعي لتكوين ملكة التفسير؛ والتي اعتبرها بوابةً لولوج مسار التجديد في التفسير، لكن مَن تأمَّلها ألفاها أمورًا مسَلَّمة لدى كلّ المهتمين بمجال التفسير، وهذا من جهة.
ومن جهة أخرى، إذا ما قارنّا هذه العلومَ بصور التجديد التي اعتبرها المؤلّف مدخلًا تأصيليًّا لتكوين ملكة المفسّر، نجد أنّ ربْطَ التفسير بالاكتشافات العلمية الحديثة، ومَدَّ إنارةِ القرآن تجاه العلوم العصرية المستحدثة، وربْطَ التفسير بالواقع ومستجداته =يتطلّب علومًا أوسع مما اقتصر عليه المؤلِّف. وكيف لمفسِّر بنى ملكته في العصر الحديث على ما هو متعارَف عليه ومُسَلَّم به في علم التفسير، وتحاشى الاستفادة من علوم الإنسان الحديثة وعلوم الطبيعة =أن يخوض تفسيرَ الاكتشافات العلمية على الوضعِ الصحيح، وإفادة العلوم المستحدثة من معِين القرآن إذا لم يكن له نصيب منها؟!
وبما أنّنا بصدد الحديث عن معرفة العلوم التي تسهم في تحقيق ملكة التفسير وتصل بنا إلى التجديد فيه، يتبادر للذهن السؤال الآتي: هل معرفة باقي العلوم[4] -علوم الإنسان الحديثة وعلوم الطبيعة- أمر ضروري أم ثانوي؟
وللإجابة عن هذا السؤال أعود وأقول: إنّ الأمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التفسير المراد تكوين ملكته؛ إِذْ دائرة العلوم المطلوبة تضيق وتتّسِع بناءً على محددات مفهوم التفسير المراد.
وحفاظًا على اتجاه الكتاب نحو مفهوم التفسير بمعناه الواسع فإنّ معرفة هذه الأمور -علوم الإنسان المستحدثة، وعلوم الطبيعة- تصبح شبه ضرورية في خطة تكوين ملكة التفسير، وعليه يمكن تقسيم العلوم الضرورية لعلم التفسير إلى دائرتين وسمِّها ما شئت، وهي المتمثلة في الآتي:
دائرة العلوم الرئيسة: وهي العلم بكلام العرب شعرًا ونثرًا مع الإحاطة بأصول التفسير ومناهج المفسرين... وكلّ ما ينبثق من صميم التفسير، ويدخل في هذا الباب باقي العلوم الإسلامية المعِينة على التفسير.
دائرة العلوم الفرعية: وهي العلوم التي تأسّست خارج أسوار العلوم الإسلامية؛ كالعلوم الطبيعية وعلوم الإنسان المستحدثة، كعلم الاجتماع والتربية وعلم النفس... ويدخل في هذه الإلمام بالواقع ومستجدّاته، وخاصّة أنّ العلوم بِنْتُ الأصول الفكرية من جهة وبنتُ الواقع من جهة أخرى.
ومنه، فإنّ الإشارة للاستفادة من العلوم التي وُلدت من غير رحم العلوم الإسلامية أمر ضروري؛ لما يثمر عن ذلك من الإسهام في بناء خطة متكاملة الخطوات.
وتتأكّد هذه الضرورة من جانب آخر، وهو: أن المفسِّر اليوم مطالَب بمعرفة ما لم يُحِطْ به المفسِّرون من قبلُ لاعتبارات عدّة، وبتعبير آخر: «فالعربي في الماضي قد فهم القرآن ضمن خصائص تكوين الإنسان الموضوعية التي كانت طبيعتها بسيطة بالمقارنة مع خصائص التكوين الراهن»[5]. ومنه، تبقى الاستفادةُ من العلوم الطبيعية وعلوم الإنسان ومعرفة الواقع مسائلَ ضروريةً لدى المفسِّر المعاصر، من أجلِ البحث عن العلاقة الناظمة بينها وبين مقاصد القرآن وغاياته، وتخطِّي قضية الاستئناس في فهم ما ورد في القرآن حول علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، وهذا الطريق أجدر للإسهام في تكوين مَلَكة التفسير.
أمّا في ما يخصّ الخطوة الثانية: فحسنٌ ما أورد المؤلِّف من حديثٍ عن اختيار سورة أو أجزاء أو آيات معيّنة لم يسبق الاطلاع على تفسيرها بُغْيَةَ التدرّب على تفسيرها. لكنْ ما طبيعةُ هذه الآيات المختارة، واعتباراتُ اختيارها، ومَن تأملَ كلام المؤلِّف وجده قد ذكرَ اعتبارًا واحدًا للآيات المختارة، وهو أنّ المتدرّب لم يَسبق له قراءةُ تفسيرها، لكن إذا عدنا لمفهوم التفسير الذي اتجه صَوْبه المؤلِّف، وبناءً على المدخل التأصيلي الذي قرّره، مع بسط القول في مسألة التجديد وصوره، وكذلك مطالبة المتدرّب بتحصيل مجموعة من العلوم =فإنّ هذا كلَّه يفرض على المتدرّب أن يُخْضِع الآيات المختارة للشمولية، أي: أن تغطيَ كلّ ما تقدم حول مفهوم التفسير الذي يسعى لتكوُّنِ ملَكته، وتغطيَ أيضًا القضايا المرتبطة بالمدخل التأصيلي للملَكة، فتشمل هذه الآيات ما يأتي:
- آيات تكونُ مظنّةً ومحطّة للحرية العلمية الاجتهادية المنضبطة بُغيةَ استخراج معانٍ جديدة لم يَسبق لها المفسِّرون من قبل.
- آيات تكون مطيّةً لمحاكمة الأقوال المتعدّدة فيها، والانتقال بها من الاختلاف اللفظي إلى الاختلاف الحقيقي الذي يشمل بين راجح ومرجوح.
- آيات تتضمّن مقاصد تشريعية.
- آيات ذات صِلة بالواقع ومستجدّاته.
- آيات ذات صِلة بالموضوع الواحد في ثنايا الخطاب القرآني كآيات الجهاد أو التوحيد أو الأمن... إلخ.
- الآيات التي تتضمّن معالمَ ومؤشراتٍ علميةً حقّة دقيقة مرتبطة بالاكتشافات الحديثة.
- الآيات التي يظنّ أنها محطّة تسهم في مدّ نور القرآن نحو العلوم التي نضجت خارج أسوار العلوم الإسلامية، مثل: علوم التربية، وعلم النفس والاجتماع؛ بغيةَ التصحيح والتكميل والإثراء.
- آيات تتضمّن أحكامًا وحِكمًا ونكتًا ولطائفَ متنوّعة.
- آيات تتضمّن مسائلَ لغويةً وبلاغية.
وغيرها من أنواع الآيات التي يجب على المتدرب أن يختارها، وهذا يلزم أن يكون لديه مشرف أو أستاذ قد سبقه إلى هذه الآيات وأحاط بما فيها حتى يمكّنه منها وهو في بداية تكوين ملكته التفسيرية، أمّا أن يختار آيات دون ما تقدّم من تنويع وتغطية الجوانب المطلوبة في تكوين ذهنية المفسِّر؛ فإنّ هذا الأمر سيحُول بينه وبين تحقيق ملكته بالشكل المتكامل والمطلوب.
أمّا الخطوة الثالثة: التي خُصّصت للحديث عن فهم الآيات المختار بالجهد الذاتي المحض، دون الاستعانة أو الرجوع للتفاسير السابقة. والخطوة الرابعة: التي تحدّث فيها عن السعي إلى التفسير اللغوي الصّرف، فيمكن الجمع بينهما لاعتبارات عدّة، أهمها: أن معظم السياقات التي سبق ذكرها لا تسلم من استعانة باللغة في توظيفها؛ إِذْ مرحلة التفسير اللغوي الصّرف هي مرحلة متقدّمة بعض الشيء، ولا يمكن إفرادها بعد السياقات.
وعليه فيمكن المزج بين الخطوتين المتقدّمتين -الثالثة والرابعة- مع إثراءٍ وشيءٍ من الإضافة والتفصيل والتقسيم يضفي طابع الإفادة أكثر، بحيث يمكن الجمع بين ما ذكره المؤلِّف في الخطوتين بما تم تسطيره في مواطن أخرى، ولا يسع الباحث الساعي لتكوين ملكة التفسير إلا الاطلاع عليها وفهمها أشدّ الفهم مع استحضارها وتوظيفها على الوجه الصحيح في مرحلة فهم الآيات المختارة بالجهد الذاتي المحض، بحيث ستكون خطوة فهم الآيات المختارة بالجهد الذاتي مبنية أولًا على إعمال النظر والتدبّر والتأمّل والتفكّر، أمّا الثاني فهو ضرورة استحضار منظومة سياقات متكاملة بمثابة مفاصل يشد بعضها بعضًا، وتتمثل في الآتي:
السياق القرآني العام: وغايته أن يستحضر المتدرّب الغايات والمرامي السامية للقرآن الكريم، ومن أبرزها توحيد الله -عز وجل-، وأنّ القرآن كتابُ هداية للعالمين ومنهجٌ ودستور لتنظيم جميع مناحي الحياة في كلّ عصر ومصر إذا ما فُهِم الفَهْم الصحيح ونُزّل التنزيل الصحيح... إلخ.
ويُعَدّ السياق القرآني العام هو المنطلَقَ المؤطِّر لباقي السياقات القادمة، كما تُعَد هذه السياقاتُ (المكاني - الزماني - التاريخي - اللغوي - الموضوعي) طريقًا قويمًا لفهم معنى الآية والوقوفِ على مقاصدها الجزئية الخاصّة. ومنه، يظهر أنّ نمط اشتغال هذه السياقات وتوظيفها ينحو من العامّ -وهو المقصد القرآني- ليصل إلى الخاصّ وهو مقصد الآية، وتجدر الإشارة هنا لضرورة التفريق بين المقاصد الكلية للقرآن وبين المقاصد الخاصة والجزئية للآيات.
السياق المكاني: وهو الذي يركّز فيه الباحث على موقع الآية المدروسة داخل بنية السورة، ويرى مكانها بين السابق واللاحق من الآيات، والغرض من ذلك هو رصد العلاقة الناظمة والجامعة بين الآية المختارة وبين سابقها ولاحقها لجمع ما يترتب عن ذلك من معانٍ ودلالات وفوائد، والتي سيعود لها المتدرب فيما بعد لتوظيفها، ومنه فلا يمكن بتر الآية أو قطعها أو إهمال سياقها المكاني بغية تفسيرها دون النظر فيما قبلها وما بعدها.
السياق الزمني: ومفاده أن يوظِّف الباحثُ في فهمه للآيات المدروسة كلَّ ما له علاقة بالبُعد الزمني وأعانَ على الوصول لمعاني الآيات واستخراج دلالاتها، كمعرفة المكي والمدني مثلًا. والغرض من استحضار السياق الزمني هو معرفةُ أغراضِ وخصائص كلٍّ من الفترة المكية والمدنية وتطعيم فهم المتدرّب بهذه الخصائصِ عند التفسير، كما أنها أيضًا -الخصائص- مُعِينة على الترجيح عند التعارض، بل عدَّ المكي والمدني من القرائن التي يستند عليها في كثير من الأحيان...، وغيرها من الوظائف التي يقدّمها السياق الزمني في بنية عملية التفسير.
ومما يمكن استحضاره أيضًا في السياق الزمني هو سياق الآية المدروسة بالمقارنة مع الآيات التي تقاسمها نفس الغرض بحسب ترتيب النزول، وإن شئت قُل: إنّ الأول سياق زمني عامّ وهو ما يتعلّق بالمكي والمدني، والثاني سياق زمني خاصّ يتعلّق بالآية المدروسة، ولا شَكّ أنّ استحضار هذه السياقات وتوظيفها ينطلق من العام نحو الخاصّ، أي عند تحديد الآية المدروسة هل هي مكية أو مدنية، ثم بعدها داخل المكي والمدني ينظر في الآيات التي تتقاسمها نفس المعنى أو تتقاطع معها، أيّها كانت الأُولى من حيث التنزيل، فكلّ هذا يُعين على فهم القرآن ويسهم في تكوين ملكة تفسيره.
السياق التاريخي: ويمكن أيضًا أن يقسم إلى ضَرْبَين: العام، والمراد سياق الأحداث التاريخية التي حكاها الخطاب القرآني قديمًا ولها علاقة بالآية المدروسة، وكذلك الأحداث المعاصرة لزمن التنزيل الآيات المدروسة، أمّا الخاصّ: فهو سبب نزول الآية المقصودة بالتفسير لوحدها، وهذا أدقّ من الأول، وله أثر بالغ في فهم القرآن الكريم مع الإعانة في الوقوف على معقد الحكم والأحكام المتضمّنة في الآية المدروسة.
السياق اللغوي: ويُعَدّ هذا السياق من أبرز مراحل تشكيل المعاني الموصلة إلى مراد الله -عز وجل-، ومفاده فهم تفسير الآيات المقصودة بالتدرّب من خلال ما ثبت في لغة العرب وَفق نفس المراحل التي ذكرها المؤلِّف.
السياق الموضوعي: والمراد به النظر في موضوع الآيات المختارة مع باقي الآيات التي تتقاسمها نفس الموضوع بعد تتبّعها في ثنايا القرآن الكريم؛ بغية الخروج بمعنى واحد، ويمكن تقسيم هذا السياق لثلاثة أمور ينظر فيها الساعي للتفسير، وهي:
- موضوع السورة: ومفاده النظر والاهتمام بموضوع السورة ككلّ عند ممارسة التفسير، وغالبًا ما يتجلّى موضوع السورة في عمومه من خلال اسم السورة.
- موضوع الآية: وهو صلب السياق الموضوعي، وحقيقته النظر في اهتمام الآية المختارة وموضوعها، مع استحضار باقي الآيات التي تناقش نفس الموضوع أو تتقاطع معه في أهم نقاطه؛ بغية الوصول لمخرجات صحيحة دون أدنى تعارض أو اصطدام في الآيات ذات الموضوع الواحد.
- موضوع الكلمة: وهذا الشقّ يلجأ له إذا كانت الآية المراد تفسيرها تتوقّف على فهمِ مراد كلمة بعينها، وهنا تجدر الإشارة لأهمية الدراسة المصطلحية وما لها من أثر بالغ في بيان المعاني الدقيقة للكلمات القرآنية من خلال منهج علمي دقيق.
السياق المقاصدي الخاصّ: وبعد الانطلاق من السياق المقاصدي العام للقرآن الكريم، ومرورًا بباقي السياقات الأخرى (السياق المكاني - السياق الزماني - السياق اللغوي - السياق الموضوعي)، تبدأ معالم السياق المقاصدي الخاصّ بالآية في الظهور والبروز، بحيث سيزداد ظهورًا في باقي خطوات التفسير، وعمومًا فإنه يجب على المفسِّر الانتباهُ لهذا السياق وأخذُ دلالاته بعين الاعتبار؛ لأنه دليل قويٌّ ومعِين على الفهم الصحيح للآية المدروسة.
والرسم الآتي يبيّن هذه السياقات:
وتجدر الإشارة أنّ مَن تأمَّل هذه السياقات ألفاها تنطلق من السياق العام للقرآن الكريم، أي: مقصده، والذي هو بمثابة مؤطّرٍ وموجّهٍ ومحدِّدٍ للمعالم الكبرى لطريق المفسِّر حتى لا يضلّ أو يتيه ويخرج عن مقصود القرآن، وهو يخطو خطوات التفسير ليصل إلى المقصد الخاصّ أو الجزئيّ الذي تتضمّنه الآيات المدروسة من خلال استخراج حُكْمٍ أو حِكْمَةٍ...، وبين الانطلاقة من المقصد العام وصولًا إلى المقصد الخاصّ طريقٌ طويل ووعر يحتاج لمكابدة علمية.
أمّا مناقشة الخطوة السادسة التي خصصها للحديث عن الرجوع إلى كلام أئمة التفسير وترجيحاتهم النهائية. أولًا فمن حيث تسمية هذه الخطوة، فهي لا توحي بالدّقة المطلوبة، والتي ينبغي أن تتضمّنها هذه الخطوة حتى تؤتي أُكُلها كما يُراد منها، ويمكن ضبط وسم هذه الخطوة بالآتي: (عرض وتقويم من خلال كلام أئمة التفسير)، وعليه يمكن أن تتضمن هذه الخطوة ثلاث مراحل رئيسة، والمتمثّلة في الآتي:
المرحلة الأولى: بحيث يقوم المتدرّب باختيار العمدة من التفاسير التي سيعتمد عليها في هذه الخطوة، ومعيارُ اختيارِ هذه التفاسير يعودُ لطبيعة الآيات المرادِ تفسيرُها بحيث يرتكز في العموم على الكفاءة: بمعنى أن يختار التفاسير ذات الجودة العلمية والمعروفة في الساحة التفسيرية بالدقّة في التحقيق والتحرير. ثم التنويع: أيْ يقوم المتدرب بتنويع التفاسير المختارة للتقويم بناءً على تنويع الآيات المراد تفسيرها كما تقدّم في الخطوة الثانية، وأنّ الاستناد على نوع معيّن قد يحُول بينه وبين التقويم السديد لحصاده التفسيري.
المرحلة الثانية: وتتضمّن العرض، حيث يقوم المتدرّب بعرض حصاده التفسيري الذي توصّل إليه اجتهادُه معتمدًا المعقول والمنقول، فيرصد من خلال هذا العرض الأمور الآتية: مواطن الصواب، فيسعى لتثمينها وتعزيزها وتوسيع دائرة الاستفادة المنبثقة منها خلال عملية العرض في مقابل التفاسير التي اعتمدها في المرحلة الأولى، ثم يرصد بدقّة تامّة مواطن الخطأ والقصور بغيةَ شقّ الطريق لتقويمها، وهو ما تبيّنه المرحلة الآتية.
المرحلة الثالثة: وتُعنى هذه المرحلة بتقويم مواطن الخطأ والقصور من خلال الوقوف على أسباب الخطأ وفهمها ومعرفة معقد الخطأ فيها، هل هو راجع للاجتهادِ الشخصي أم قصور في توظيف قاعدة أو نقص في العُدّة المعرفية أو المنهجية المطلوبة من المتدرّب... أو شيء من هذا القبيل؛ فيسعى المتدرّب لتدارك منبع الأسباب المؤدّية للخطأ.
وبهذا تكون عملية العرض والتقويم قد تمّت في إطار علمي منضبط يمكّن الباحثين من السّير على الطريق الصحيح لتكوين الملَكة التفسيرية.
حول مقدّمة الكتاب:
وبعد الوقوف المفصَّل على هذا الكتاب تبيّن أنه في حاجة ماسّة لمقدّمة غير التي قَدّمَ المؤلِّف، والتي خصّصها للحديث عن أهمية تحقيق ملَكات العلوم الإسلامية، وأنها سبيل للنهوض بهذه العلوم ودوام سيرورتها العلمية كما تقدّم معنا، لكن مَن تأمّل هذه المقدمة وجدها وجيزةً جدًّا، ولم تشمل أمرًا ذا بالٍ يهيّئ ويؤهِّل الباحث لما يأتي من خطوات تكوين ملَكة التفسير. ومنه، فقبل خوضِ غمار تطبيق هذه الخطوات كان ولا بد على المؤلِّف أن يصدِّرَ -بعد الذي ذكره- بالحديث عن القَدْر المنهجي والمعرفي من العُدّة التي يجب اكتسابها لدى المتدرّبين من خلال هذه الخطوات، كأنْ يقدّم برنامجًا علميًّا مفصلًا يؤهّل المتدرّب لممارسة خطوات تكوين ملَكة التفسير، فيذكر الحدّ الأدنى الذي يجب أن يضبطه المتدرب في أصول التفسير وقواعده، وأصول التدبّر، وأنواع التفسير واتجاهاته وأنواع تصانيفه... وغيرها من المعارف المعِينة على تكوين عقلية المفسر سواءٌ داخل أسوار علم التفسير أو خارجه، كالانفتاح على العلوم الحديثة من علوم الإنسان والطبيعة[6]، بالإضافة للإشارة إلى القدر الذي يجب على الباحث اكتسابه من مناهج وآليات البحث العلمي، وخاصّة أنه سيقف على ضرورة توظيفها في ثنايا خطوات التكوين.
خاتمة:
قمتُ في هذه المقالة بتناول كتاب: (تكوين ملكة التفسير) لمؤلِّفه: د. الشريف حاتم بن عارف العوني، وهو محاولة جادّة لتقديم مجموعة من الخطوات العلمية والعملية المقترحة لتكوين ذهنية المفسِّر، وقد عرضنا لمحتويات هذا الكتاب مع إبراز أهم مميزاته.
كما وقفتُ على أهم المآخذ حول الكتاب وبعض الملاحظات وناقَشتها نقاشًا علميًّا، ولا شَكّ أن هذه الأمور لا تغضّ من شأن الكتاب ولا تُنقص من قيمته وأهميته، بل هي تثمينٌ وتعزيز لمكانة الكتاب وإعادةُ فتحِ ملف النقاش حوله، ومن المهم في هذا السياق الإشارة لضرورة تعميق الدراسات والإنتاجات العلمية في موضوع هذا الكتاب؛ والتي لا شكّ أنها ستُسهم في بلورة كفاءات عالية قادرة على القول في التفسير، وخاصةً في وقتنا المعاصر الذي يشهد مستجدات لا متناهية في مجالات عِدّة.
وأخيرًا أُوصي نفسي وعمومَ الباحثين والأكاديميين المهتمّين بالتفسير وعلوم القرآن بالرجوع إلى الحصاد العلمي السابق، وخاصّة المهجور أو المنسي منه؛ ودراسته دراسة جادّة ومعمّقة؛ لِما لهذه الخطوة من أهمية في الارتقاء أكثر ريادةً وعمقًا لتراثنا الإسلامي.
[1] تكوين ملكة التفسير، الشريف حاتم بن عارف العوني، طبعة مركز نماء للبحوث والدراسات، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، ص8.
[2] تكوين ملكة التفسير، ص13.
[3] ينظر: التجديد في التفسير: نظرة في المستويات والمنطلقات والضوابط، يوسف عكراش، دراسة في دورية نماء، العدد 17.
[4] إنّ المقصود بالمعرفة في هذا المقام ليست معرفة المتخصّص الذي يحيط بكلّ صغيرة وكبيرة من هذه المعارف، ولكن المطلوب هو القدر الذي يبلغ به المفسِّر هدفه من عملية التفسير، ويمكن أن نجعل هذا معيارًا يحدد القدرَ المطلوب في أمرين، أولًا: القدر الذي به يحصل فهمُ هذه العلوم ومدُّ استضاءة القرآن لها بُغيةَ الإثراء والتكميل والتقويم، وهذا بالنسبة لعلوم الإنسان، أمّا علوم الطبيعة وهو الثاني: فيجب على المفسِّر إدراك القدر الكافي لفهم ما ورد في القرآن من جنس هذه العلومِ (الاكتشافات- الظواهر الطبيعية...إلخ) وربطه بالمقاصد التشريعية، وعدم مخالفتها صراحة والإتيان بالغريب والبعيد في تفسيرها والحديث عنها، وخاصّة أن العلم الحديث قد أثبتها.
[5] إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم، طه جابر العلواني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1418هـ/ 1996م، ص22، بتصرف.
[6] ينظر: التكامل المعرفي عند المفسِّر في ظلّ المعرفة المعاصرة، يوسف عكراش، مقال على موقع تفسير على الرابط الآتي: tafsir.net/article/5443