تهيئة النفس لفهم القرآن
قراءة في مدخل كتاب «فهم القرآن ومعانيه» للحارث المحاسبي (ت243هـ)

اهتمَّ الحارث المحاسبي -رحمه الله- في كتابه (فهم القرآن ومعانيه) بالتأسيس لنظريته حول فهم القرآن الكريم، فجاء بمدخل حول تهيئة النفس لفهم القرآن، ثم تناول بعض العلوم المُعِينة على هذا الفهم، وهذه المقالة تُسلِّط الضوء على مدخل الحارث المحاسبي لكتابه، وطريقة معالجته له والأفكار التي ذكرها.

تمهيد:

  شَغَل موضوع فهم القرآن حيزًا كبيرًا في كتابات علوم القرآن؛ لأهميته في الوقوف على مراد الله -تبارك وتعالى-، وصيانة كلامه من الغلط والتحريف. واشتهرت المؤلَّفات التي تناولت هذا الموضوع ببيان العلوم أو الأدوات المعرفية المعِينة على فهم القرآن، فالذِّهن ينصرف عادةً في هذا الموضوع إلى الجانب المعرفي المتعلّق بضبط الفهم والإعانة عليه[1].

ومن أوائل العلماء المتقدِّمين الذين تصدّوا للكلام على موضوع فهمِ القرآن: الحارث المحاسبي (ت243هـ) في كتابه: (فهم القرآن ومعانيه)، ولكنه لم يقتصر في كتابه على معرفة العلوم المعِينة على فهم القرآن الكريم كما هو مشتهر، وإنما اعتنى بجانب التزكية، وجعل تهيئة النفس لتعظيم قدر القرآن وتلقِّيه من أُسس فهم القرآن، إضافةً إلى العلوم المعِينة على فهم القرآن.

إننا كمسلمين نتعبّد لله بممارسة العلم والتعلّم، نحتاج دومًا للجمع بين زكاة النفس إضافة للجانب المعرفي العلمي، فالجمع بين الأمرَيْن هو السَّدَاد وسبيل الهدى والرشاد الذي يُعِين على حفز المتعلّم والعالم على حُسْن الأداء لما هما فيه من ناحية، وكذا حُسْن صياغة وتكوين الشخصيات العلمية بما يناسب طبيعة العِلْم وحرمته وشرفه وفضله من ناحية أخرى، الأمر الذي بِتنا نفتقده كثيرًا في واقعنا المعرفي الذي ضعف فيه الاهتمام بزكاة النفس لدى المهتمّين بالنشاط المعرفي فحصل جرّاءه الكثير من السلبيات.

ومن هاهنا نتفهم أهمية صنيع الحارث المحاسبي -رحمه الله- بمزج ما يتعلّق بالتزكية والسلوك من تهيئة النفس لفهم القرآن مع الأدوات والقضايا العِلمية، واعتبار التزكية والأمور السلوكية عِلمًا يُتعلَّم، ولا يقلّ أهميةً عن العلوم الأخرى، ويجب البدء به لضبط مسار تعلُّم القرآن وفهمه[2].

وهذه النظرية حول فهم القرآن للحارث المحاسبي لم نقف على من تعرَّض لها بهذا الوضوح قبله، وأدخل فيها جانب التزكية باعتبارها أساسًا رئيسًا ضمن معالجة الموضوع مقترنةً مع العلوم والمعارف المتعلّقة بالقرآن الكريم[3].

لذلك تحاول هذه المقالة تسليط الضوء على كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- حول تهيئة النفس لفهم القرآن، وتُبَيِّن طريقة معالجته لها، وذلك بعد إطلالة موجزة على كتاب الحارث المحاسبي وطرحِه العام في فهم القرآن.

طرح الحارث المحاسبي في فهم القرآن:

 يُعَدّ كتاب (فهم القرآن ومعانيه) للحارث المحاسبي (ت243هـ)[4] من أبرز الكتب المتقدّمة التي وصلتْ إلينا، فقد عَدَّه بعض الباحثين مِن أول ما دُوِّن في علوم القرآن[5]، حيث إنه شمل جملة من علوم القرآن، وقد طُبع الكتاب في دار الفكر العربي ببيروت عام 1971م بتحقيق الأستاذ حسين القوتلي، وطُبع مرة أخرى ضمن إصدارات كرسي القرآن الكريم وعلومه بجامعة الملك سعود، بتحقيق ودراسة الدكتور/ خالد رمضان أحمد، عام 2005م، في مجلّد، وبلغت عدد صفحاته (336) صفحة شاملة المقدّمات والفهارس.

وقد اهتمَّ الحارث المحاسبي -رحمه الله- في الكتاب بالتأسيس لنظريته حول فهم القرآن الكريم، فجاء بمقدّمة حول تهيئة النفس لفهم القرآن تجاوزت 50 صفحة، ثم تناول الحارث -رحمه الله- المعرفة بعلوم القرآن الكريم -وأهمّها ما يتصل بالفهم- في بقية الكتاب، مثل: الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وأساليب الخطاب في القرآن كالتقديم والتأخير، والإضمار، والفصل والوصل...إلخ.

ويظهر مما ذكرنا تركيز المؤلِّف على فكرة تهيئة النفس وأنها عنده ركيزة رئيسة بجانب العلوم المعِينة على فهم القرآن، وفي هذا السياق فإنّنا سنركِّز على هذا الجانب ونبيِّنه، وسنعتمد في هذه المقالة على طبعة كرسي القرآن الكريم لجودتها عن سابقتها[6].

تهيئة النفس لفهم القرآن عند الحارث المحاسبي (ت243هـ):

تناول الحارث المحاسبي -رحمه الله- موضوع فهم القرآن من خلال محاورة أجراها مع نفسه، تكوّنت فيها نظريته في فهم القرآن. وجاء كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- في الكتاب بطريقة سردية، خالية من العناوين الرئيسة والفرعية، وقد حاولتُ في هذه المقالة ردَّ كلام الحارث -رحمه الله- إلى عناصر رئيسة، ثم ترتيب الكلام تحتها في عناصر أخرى فرعية، مع قدرٍ من الاختصار دون الإخلال بمضمون الكلام؛ حتى تظهر فكرة المؤلِّف، وكيفية معالجته لها.

ومن خلال النظر في مدخل المؤلِّف لكتابه يمكننا حصر ما يتعلّق بموضوع تهيئة النفس لفهم القرآن في عنصرين رئيسين:

العنصر الأول: تهيئة النفس لتعظيم قدر القرآن، وهو مضمون إجابة الحارث المحاسبي -رحمه الله- عن سؤال: كيف نفهم القرآن؟ وفيه:

- تصور ما هو القرآن.

- ثمرة تعظيم قدر القرآن.

والعنصر الثاني: تهيئة النفس لتلقّي القرآن، وهو مضمون الإجابة عن سؤال: بم نستعين على فهم معاني ما نتلو أو يُتلى علينا؟ وفيه:

- كيفية إحضار العقل لتلقّي القرآن.

- ثمرة إحضار العقل.

وفيما يأتي بيان كلّ عنصر على حِدَة، وما يندرج تحته من أفكار:

1- تهيئة النفس لتعظيم قدر القرآن:

يمثّل هذا العنصر مضمون إجابة الحارث المحاسبي -رحمه الله- عن سؤال كيف نفهم القرآن؟ ويُفهم من كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- أنّ تهيئة النفس لتعظيم قدر القرآن هي الأساس الأول الذي يُبنى عليه فهم القرآن، فإنَّ زيادة التعظيم لقدر القرآن هي التي تدفع الإنسان دفعًا إلى فهم القرآن، وهذه الفكرة صدَّر بها الحارث المحاسبي -رحمه الله- إجابته عن سؤال كيف نفهم القرآن، وعبّر عنها بقوله: «بأن يعظم عندك قدر ما تنال بفهمه من النجاة، وما في الإغفال عنه من الهلكة...»[7]، أي: تُعظِّم قدر القرآن؛ فجَعَل تعظيمَ القرآن أوّلَ أُسس الفهم.

ثم إذا نظرنا لما تبقّى من الإجابة نلحظُ أنها تحاول نحت معنى تعظيم القرآن في النفس، فكأنّ الحارث المحاسبي -رحمه الله- يجمع للقارئ مجموعة من المعارف التي تُورث في نفسه تعظيم قدر القرآن، ويمكن جمع هذه الأفكار تحت فكرة رئيسة وهي تصوُّر: ما هو القرآن؟

وقبل محاولة سرد الأفكار التي تناولها المؤلِّف كأنَّه يصوِّر للقارئ من خلالها ما هو القرآن؟ يجدر التنبيه للآتي:

أولًا: هناك مداخل كثيرة يمكن تعريف القرآن أو تصوُّره من خلالها، على سبيل المثال: إذا سُئِلت ما هو القرآن؟ ربما تعرِّفه لغةً أو اصطلاحًا، أو تعرِّفه من خلال جانب معيَّن جاء في تعريف القرآن لنفسه، أو من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...إلخ، وكلّ ذلك يؤثر في تصوُّر ما هو القرآن، لكن لا يكتمل تصوّر ما هو القرآن إلا عندما ننظر إلى القرآن من جميع الجوانب التي تؤثّر في تعريفه، وأعظم هذه الجوانب ما جاء من تعريف القرآن لنفسه، أو من تعريف الرسول -صلى الله عليه وسلم- للكتاب الذي أُنزل عليه؛ فبها يزداد تعظيمنا للقرآن، وتكون معرفتنا بالقرآن معرفة تفصيلية وليست مجملة، وسيظهر هذا جليًّا في العنصر الأول من تهيئة النفس لفهم القرآن.

ثانيًا: تتفاوت تأثير جوانب التعريف بالقرآن على النَّفس، وقد حاولتُ جمع الأفكار التي ذكرها الكاتب وقسمتها تحت عناصر رئيسة، وكلّ عنصر من هذه العناصر جعلته يمثّل جانبًا من جوانب التعريف بالقرآن باعتبارٍ معيَّن، وما ذكرته تحت هذه العناصر فهو من باب التمثيل مما ذكره الحارث المحاسبي -رحمه الله-. والغرض من هذا التقسيم تيسير التعرُّف على الجوانب المركزية التي تؤثر في التعريف بالقرآن، ووقوف القارئ على أكثر هذه الجوانب تأثيرًا في نفسه، للإكثار من معايشتها، وزيادة التأمّل فيها.

وفيما يأتي جمع الأفكار التي تؤثّر في تصوّر ما هو القرآن، تحت أربعة عناصر:

1- التعريف بالقرآن باعتبار محتوياته:

يُعَدُّ البحث في محتويات القرآن الكريم من أهم الجوانب التي تؤثّر في التعريف بالقرآن، وهذا الاعتبار نستعمله بصورة عامة للتعرّف على أيّ كتاب، فننظر في محتوياته ونُكَوِّن من خلال النظر في محتواه نوعًا من المعرفة الإجمالية بهذا الكتاب، فنُقبِل على قراءته أو نُعرِض عنه.

فما بالُنا بكتاب الله؟! وكيف يكون حالُنا تجاه القرآن بعد معرفة ما أُنزل فيه من رب العالمين؟!

للإجابة عن هذه الأسئلة تأمّل بعض الأمثلة التي ذكرها الحارث المحاسبي -رحمه الله- ويمكن أن ندرجها تحت هذا العنصر:

• وصَفَ تعالى نفسَه بأحسن الصفات ودلّ خَلْقَه ونبّههم فيه لمعرفته؛ بما وضع في سماواته وأرضه من آثار صنعته ونفاذ قدرته.

• ذكّرهم فيه أياديه عندهم، وكثرة نعمه، وتعهّده إياهم من ابتداء خلقهم، وحسن تقديرهم وإجراء أرزاقهم، ودفاع البلايا عنهم، والآفات المهلكة لهم، وحُسن ستره عليهم، وإقالتهم والعفو عما استوجبوا من تعجيل العقوبات ونزول النقم بهم.

• أمرهم ‌فيه ‌بالمكارم ونهاهم عن الآثام والمحارم، ووعدهم فيه جزيل الثواب، وضرب لهم فيه الأمثال، وفصل لهم فيه المعاني الدالّة على سبيل النجاة، وأبان فيه المشكلات، وأوضح لهم فيه الشواهد على علم الغيوب، وجعَل فيه حياة قلوبهم وعزّهم وشرفهم والغنى به عن جميع العباد.

هذا من جملة ما ذكره الحارث المحاسبي -رحمه الله- ويمكن الزيادة تحت هذه الأمثلة من خلال قراءتنا للقرآن، وتقييد الأفكار على سبيل ما ذكرنا من أمثلة، وهذا له أثره في معرفة القرآن والارتباط به.

2- التعريف بالقرآن باعتبار الغايات من نزوله:

أنزل الله -تبارك وتعالى- القرآنَ وبيَّن الغايات من نزوله في أكثر من موضع، والعلم بهذه الغايات شديد الاتصال بقضية التعريف بالقرآن، ومؤثر في تحديد الوسائل التي تصل بنا إلى الغايات التي أنزل الله -تبارك وتعالى- القرآن من أجلها.

ومن يتعامل مع القرآن دون أن يتعرَّف على الغايات من نزوله؛ ربما يسير في طريق لم يحدّد القرآن معالمه والغاية منه؛ فينحرف عن الطريق الصحيح بسبب ضعف معرفته بغايات القرآن، وهذا الضعف في حقيقته ضعف في تصوُّر ما هو القرآن وما هي غاياته؟!

وفيما يأتي بعض الأمثلة للغايات التي يمكن إدراجها تحت هذا العنصر، وتعرَّض لها الحارث المحاسبي -رحمه الله- في كتابه:

• أخبر الله العباد أنه أنزل كتابه ليدبروا آياته بعقولهم ويتذكروا ما قال بألبابهم، وقال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ‌مُبَارَكٌ﴾ [ص: 29]، فسمّاه بالبركة ليعلموا بذلك أنه يدلُّهم على النجاة وينالون باتّباعه الزُّلْفَى والكرامة، ثم قال: ﴿‌لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، فأخبر أنه أنزله للتذكّر والتفكّر فيه، وخصّ بالتفكير والتذكّر أهلَ العقول أولي الألباب.

• ثم أخبرهم أنَّ اتِّباع ما فيه سلوكٌ للصراطِ المستقيم والنور المبين والعصمة لمن تمسك به من كلّ هلكة وشفاء لما في الصدور، قال الرب -جل ثناؤه-: ﴿‌قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15- 16]، فضَمِنَ الله -عز وجل- لمتّبعيه الهدى لطريق السلامة والسلوك للطريق المستقيم.

إنّ استحضار الغايات التي من أجلها أُنزل القرآن من أهم الأمور التي تعرِّفنا بالقرآن، وتربطنا بمركزياته، والذي يجهل الغايات التي أراد الله -سبحانه وتعالى- إنزال القرآن من أجلها؛ كمن يسير في طريق لا يعلم له آخر، فاحرص على معرفة غايات القرآن، حتى تسير وَفق ما أراد الله، ولا تتفرق بك السُّبل عن سبيله.

3- التعريف بالقرآن باعتبار أسمائه وأوصافه[8]:

ورَد في كتاب الله تعالى أسماء وأوصاف كثيرة للقرآن، وكذلك في سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتعريفُ بالقرآن باعتبار أسمائه وأوصافه ظاهرُ الاتصال بتصوُّر ما هو القرآن، ومن أمثلة الأسماء والأوصاف التي ذكرها الحارث المحاسبي -رحمه الله- في إجابته:

• سمّاه ‌برهانًا ونورًا ورحمةً وموعظةً وبيانًا وحقًّا ومجيدًا وبصائرَ وهدًى وفرقانًا وشفاءً لما في الصدور، وذكر الحارث المحاسبي -رحمه الله- الغرض من هذه الأسماء، فقال: «فعظَّمه عند المؤمنين ليعظِّموا قَدْرَه ويفهموه لينالوا به شفاء قلوبهم»[9].

• وأخبرَنا أنّ الجبال الرواسي لو أَنْزَل عليها كلامَه لتصدّعت خاشعة لتعظيمه، وأخبرنا أنه أحسن من كلّ حديث ومن كلّ قصص، وأنه قد انتهى في الحكمة، وأخبر أنه لا مبدّل لكلماته وأخبر أنه لا يفنى ولا ينفد.

• سمّى اللهُ -عز وجل- نفسَه فقال: ﴿‌عَلِيٌّ ‌حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]، وسمّى كلامَه فقال: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ‌لَعَلِيٌّ ‌حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]، وسمّاه بأحسن الأسماء وأعلاها بما سمّى به نفسه، فقال: ﴿‌لَكِتَابٌ ‌عَزِيزٌ﴾ [فصلت: 41].

إنّ تعدد أسماء القرآن وأوصافه دلالة على شرفه وعلوّ منزلته، وكلّما تأمّلنا في هذه الأسماء والأوصاف، وحاولْنا تتبُّع دلالتها كلّما زادت معرفتُنا وتعظيمُنا لكتاب الله -سبحانه وتعالى-.

4- التعريف بالقرآن باعتبار فضائله:

اهتم كثير من العلماء بذِكْرِ فضائل القرآن الكريم، مستندين في ذلك لما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- من الأحاديث والآثار، وقد جاءت فضائل القرآن منها عامة، ومنها خاصّة ببعض سوره وآياته، ومنها ما يتعلّق بأهله وحفاظه ومعلِّميه ومجالسه، وغير ذلك من الأبواب التي تُذكر في فضائل القرآن.

ثم إنَّ العلم بفضائل القرآن من أشدّ ما يُعرِّف بالقرآن فيورث في القلب تعظيم القرآن، والترغيب فيه، وهذا هو ما يجب استحضاره في هذا السياق، والثمرة المرجوة من ذكر فضائل القرآن؛ أمّا تحصيل الأجور المذكورة في روايات فضائل القرآن، ما هي إلا وسيلة للوصول إلى تعظيم القرآن، وليست مقصودة لذاتها[10].

ومن أمثلة فضائل القرآن التي جاءت في إجابة الحارث المحاسبي -رحمه الله-، ويمكن إدراجها تحت هذا العنصر:

• بإسناده عن معن بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ كُلَّ مُؤَدِّب يجب أن يُؤتى أَدَبُه، وإنَّ أَدَبَ الله القرآن».

• بإسناده عن عبد الله، قال: «مَن أحبّ العلم فليُثوِّر القرآن، فإنَّ فيه عِلمَ الأولين والآخرين».

• بإسناده عن علقمة بن مرثد، قال: سمعت سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه»، قال أبو عبد الرحمن: «فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا».

ويلاحظ أنّ الأمثلة التي ذكرها الحارث المحاسبي -رحمه الله- في كتابه لا تكفي لتصوّر موضوعات فضائل القرآن؛ لأن حضورها ليس مقصودًا في الكتاب، فيحسن الرجوع إلى كتب فضائل القرآن لزيادة التعرّف على القرآن وفضائله.

- ثمرة تعظيم قدر القرآن:

سبقت الإشارة إلى أنّ تصوُّر ما هو القرآن يورث في القلب تعظيم قدر القرآن، والحارث المحاسبي -رحمه الله- لم يكتفِ بأن يوصل القارئ إلى تعظيم القرآن، بل ذكر له ثمرة هذا التعظيم، مع الإقناع العقلي الذي لا يترك للقارئ خيارًا إلا أن يسعى إلى زيادة تعظيم قدر القرآن وفهمه، وفيما يأتي بعض ما ذكره الحارث المحاسبي -رحمه الله- ويصلح أن ندرجه تحت هذا العنصر في ثلاث نقاط:

أولًا: تعظيم القرآن علامة على حبِّ الله -عز وجل-:

إذا تصوَّرْتَ ما هو القرآن؛ عَظُمَ في صدرك تعظيم القرآن، وإذا عظَّمْتَ القرآن؛ فأنت تعظِّم المتكلِّم بالقرآن؛ لأنّ القرآن كلام الله -سبحانه وتعالى-، فالعلاقة بين تعظيم القرآن وتعظيم الله -تبارك وتعالى- علاقة طردية، وهذا ما يُفهم من كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- بعد أنْ ذكرَ الجوانب التي أدرجناها تحت تصوُّر ما هو القرآن، يقول -رحمه الله-: «‌فإذا ‌عَظُمَ في صدرك تعظيم المتكلِّم به لم يكن عندك شيء أرفع ولا أشرف ولا أنفع ولا ألذّ ولا أحلى من استماع كلام الله -جلّ وعزّ- وفهم معاني قوله تعظيمًا وحبًّا له وإجلالًا؛ إِذْ كان تعالى قائله، فحُبّ القول على قدر حُبّ قائله»[11].

وهنا استطراد -مختصر من كلام الحارث المحاسبي- يوضِّح المعنى السابق:

 «...وكذلك نجده في فِطَرِنا فيما بيننا وبين الخَلْق، نحبُّ قولَ الأخ والقرابة والعالِم والشريف على قدرِ محبّتنا له، ونُجِلّ قوله، ونعظِّم ونردِّد ذِكرَه ونتفهّم معانِيَه، على قدر حبّنا له وإجلالنا له. فكلام العالم عندنا أحلى وألذّ وأرفع وأجلّ من كلام الجاهل، وكلام الشريف من كلام الوضيع، وكلام مَن أحسن إلينا كمَن لا إحسان له إلينا، وكلام الناصح المتحنِّن مِن كلام مَن لا ينصحنا ولا يتحنَّن علينا، حتى إنّ كلام الوالدة نجد له من اللذّة والحلاوة ما لا نجد من كلام غيرها لمعرفتنا برحمتها ونصحها وتحنُّنِها علينا.

فلا أحد أعظم من الله -عز وجل- عندنا قدرًا ولا أشرف، بل لا شرف ولا قدر لمن لم يجعل الله -عز وجل- له الشرف والقدر، ولا أحد أعلم من الله -جل وعز-، ولا أحد أقرب لنا ولا أرحم ولا أعظم تحنُّنًا من الله تعالى، بل لم يرحمنا راحم ولم ينصحنا ناصح ولم يتحنّن علينا متحنِّن إلا بما استودع لنا في قلبه وسخّره لنا بالرحمة والنصح. ألم تسمع قول عبد الله: (من أراد أن يعلم أنه يحب الله -عز وجل- فلينظر هل يحب القرآن؟)...»[12].

ثانيًا: الإقبال على القرآن تلاوةً وتدبرًا وعملًا:

من كان حالُه حالَ من عَظُمَ في صدره القرآنُ والمتكلِّمُ به؛ كانت «تلاوة القرآن وتفهّمه ألذّ الأشياء عنده وأنفعها لقلبه، ولم يملّ من تلاوته، ولم يقنع بتلاوته دون أن يطلب الفهم لمعاني ما أراد الله -عز وجل- من تعظيمه وتبجيله ومحبته وأمره ونهيه وإرشاده وآدابه ووعده ووعيده، ويعلم أنه لا ينال منافع آخرته ولا الفوز فيها والنجاة من هلكتها، إلا بالعلم الدالّ على كلّ نجاة والمنجي له من كلّ هلكة، ولا نجاة له في آخرته ولا اعتصام له في انتهائه عمّا يستوجب به عذاب ربه، إلا بالعلم الدالّ على ذلك... فإذا كان ذلك عندك لم تُؤْثِر على كلام الرب سبحانه عِلْمًا من العلوم ولم تجد له حلاوةً ولا شاهدًا لتلاوته وفهمه فيكون فهمه عندك ألذَّ الأشياء وأحلاها حبًّا لقائله وتعظيمًا وإجلالًا للمتكلّم به...»[13].

ثالثًا: الاستغناء بالقرآن عن كلّ شيء:

إذا نظرتَ في كلام البشر لا تكاد تجدُ كلامًا يصلحُ أن تستغنِيَ به عن غيره، لا بد وأن يملَّه قلبُك، وهذا في فِطَرِنا لا يختلف فيه أولو الألباب؛ لذلك لا وجود لكلام يُستغنى به عن كلّ شيء سوى القرآن، يقول الحارث المحاسبي -رحمه الله-: «‌ومَن ‌عقلَ ‌عن ‌الله -جلّ ذِكره- ما قال فقد استغنى به عن كلّ شيء، وعزّ به مِن كلّ ذُلّ، لا تتغير حلاوته، ولا تخلق جِدتُه في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته؛ لأن قائله دائمٌ لا يفنى ولا يتغيّر، ولا ينقص ولا يحدث به الحوادث[14]، وكذلك كلامه لا يتغير في قلوب المؤمنين التالين على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته، وكلُّ كلامٍ من نبي أو صدّيق أو خطيب بليغ أو قائل شعر فالقلب يملُّه من كثرة تلاوة له، وذلك موجود في الفِطرة لا يختلف فيه أولو الألباب»[15].

وبعد هذا التطواف الذي لا يترك مجالًا للقارئ إلّا وهو مقبل على القرآن معظِّم له، لكن ربما نجد مَن ركَنَ إلى الغفلة عن القرآن وفهْمِه؛ لذلك هناك بعض الرسائل في ثنايا كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- إلى هؤلاء، ومنها:

- لو كان ما أنزل من كلامه لم يصف لنا به نفسَه، ولا ذكر لنا به نعمه، ولا أمَرنا فيه بأمره، ولا نهانا فيه عمّا يكرهه، ولا أدَّبَنا فيه بأدبه، ولا توعَّدَنا فيه بعذاب، ولا وَعَدَنا فيه ثوابًا إلا حديثًا على ما يُحدِّث الرجل أخاه به، وصغى بأذن المستمع له، ليس فيه عهد ولا عقد ولا سعة في دين ولا دنيا إلا أنه يُحدِّثه بما علم، ويخبره بما رأى وسمع، فإذا كان للذي يحدِّثك عندك قدرٌ أصغيتَ إلى حديثه باستماعِ ما يقول وتفهُّمِ معاني ما يصف، ولو كان يحكيه لك عنه حاكٍ لفعلت ذلك حبًّا منك لقائله، وتعظيمًا للمتكلِّم به، ولو أطلعه الله -عز وجل- على قلبك، وأنت متشاغل عنه لا تفهم عنه قوله لمقَتَك وعلم أنك تسهو عن حديثه، ولم تعبأ بفهم قوله لقلّة قدرهِ وقدرِ حديثه عندك، ولو كان له عندك قدر لاستمعت لحديثه ولم تله عن تفهّمه!

- وإنما لهوتَ عن حديث مَن حدَّثك مِن الخلق؛ أنه غاب عنهم عِلمُ ضميرك، ولو كان لهم باديًا ما فيه لأحضرت عقلك إليهم وإلى حديثهم، ولم ترضَ لهم بالاستماع لحديثهم دون الفهم له، ولا بالفهم له دون أن تجيبهم على قدر حديثهم، لتُعْلِمَهم أنك قد فهمتَ عنهم، ولم ترضَ لهم بالجواب دون أن توافقهم، فتُعظِّم ما عظموا، وتستحسن ما استحسنوا، وتستقبح ما استقبحوا. هذا وأكثر حديثهم لغو ولهو، وليس فيه منفعة دين ولا دنيا، ولا حقّ لهم يؤكّدوه عليك بقولهم، ولا يرضون عنك بفهمه، ولا تحب لهم أن يسخطوا عليك إن لم تكن تفهمه وتقوم به.

فكيف بالرب الكريم الذي سهَّل لك مناجاته، وأقبل عليك؟! ولم يتكلّم به لغوًا ولا قاله لهوًا ولا عبثًا ولا خاطب به سهوًا ولا تفكُّهًا ولا استراحةً إليك؟! تعالى اللهُ -جل وعز- عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإنما تكلّم به مخاطبةً قصدًا وإرادةً وتوكيدًا للحُجة عليك وعلى خلقه إعذارًا إليهم وإنذارًا.

- فكيف يرضى عنك دون أن تسمعه؟! وتحضر عقلك، وتفهم معاني قوله، وأن لا تتشاغل بشيء من الأشياء دون أن تستقصي فهم معانيه؟! وكيف يرضى بذلك وإنَّما كلَّمَنا بعزائم العهود وأوكد المواثيق وحقائق الأمر والنهي ولا يرضى منهم باستماعهم دون فهمها، ولا بفهمها دون العزم على القيام بحقوقه فيها، ولا بالعزم على القيام بحقه فيها دون الصبر على القيام بحقوقه في أوقات وجوبها، بغير تسويف ولا تأخير؛ لأنه كلامٌ أقبل علينا به بجلاله وكبريائه مخاطبًا لنا به.

- ‌فاتق ‌الله ولا تجعل كلامَه منك بظَهْرٍ، وقلّة اكتراث منك بفهم ما قال ودلَّك عليه، فإنه يُجِلّ من أجَلَّ كلامه، ويهون عنده من لم يعظِّم كلامه.

- فما ‌أحقَّ مَن أغفل عن فهم كتابه أن يستحي من ربه -عز وجل- ويأسف على ما مضى من عمرِه، ومرضِ قلبه؛ إِذْ هو يتلو شفاء مرض قلبه وهو لا يزداد إلا سقمًا ومرضًا، وذلك لقلّة مبالاته بدائه، تَرَكَ طلَبَ شفائه بما قال مولاه وتدبُّرِ ما تكلّم به خالقه، وقد رآه مولاه وهو يُعنى بفهم كتاب مخلوقٍ وحديثهِ وليس في كتابه وحديثه إياه خلودُ الأبد في النعيم ولا النجاة من عذاب لا ينقطع.

- وكيف يكون المولى تبارك وتعالى وقد علم منّا أنَّا قليلٌ تعظيمنا له، ونحن لا نعبأ بفهم كلامه وتدبُّرِ قوله فيما خاطبَ بهِ كما نعبأ بفهم كتبِ عبيده وحديثهم الذين لا يملكون لنا ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، تبارك من يملك ذلك كله.

2- تهيئة النفس لتلقي القرآن:

يُعَدُّ هذا العنصر مضمون إجابة الحارث المحاسبي -رحمه الله- عن سؤال: بمَ نستعين على فهم معاني ما نتلو أو يُتلى علينا؟ ويُفهم من كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- أنّ تهيئة النفس لتلقِّي القرآن هي الأساس الثاني الذي يُبنى عليه فهم القرآن، فإنّ تعظيم قدر القرآن في النفس يوصلك إلى محبة الفهم والإقبال عليه، أمّا تهيئة النفس لتلقي القرآن تنتقل بك من الكلام عن القرآن إلى مرحلة الكلام في القرآن، وقد صدَّر الحارث المحاسبي -رحمه الله- إجابته عن سؤال بمَ نستعين على فهم معاني ما نتلو أو يُتلى علينا؟ بقوله: «بإحضار عقلك، فبذلك تَفهَم وتَذكُر...»[16]. فجعل الاستعانة على فهم معاني ما نتلو أو يُتلى علينا (بإحضار العقل)، ثم إذا نظرنا لما تبقى من الإجابة نلحظُ أنها تحاول الوصول إلى كيفية (إحضار العقل)، فإذا أحضر الإنسان عقله فقد تهيَّأ لتلقّي القرآن، سواء بأن يتلو القرآن أو يُتلى عليه، وفيما يأتي بيان كيفية إحضار العقل من كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- في ثلاث نقاط:

• كيف أُحضِر عقلي حتى يكون شاهدًا لا يغيب عن فهم كلام ربي جلّ وتعالى؟

قال: بأن تجمع فهمَك حتى لا يكون فهمُك متفرقًا في شيء غير طلب الفهم لكلام مولاك.

• وكيف أجمع همِّي حتى لا يتفرّق في شيء سوى ذلك؟

قال: بأن تمنع عقلك من النظر في شيء سوى طلبِ فهمِ كتاب ربك جلّ وتعالى.

• وكيف أجمع عقلي؟

قال:

- بأن لا تَشْغَلَ جوارحَك بما لا يُشْغَل به عقلُك، وأن تَستعمل كلّ جارحة بما يُعِينُك على الفهم، كنظرك في مصحف واستماعك إلى تلاوتك أو تلاوة غيرك.

- وتمنع عقلك من فكرٍ وذكرٍ ونظرٍ سوى طلبِ فهمِ كلام مولاك؛ لأنك إذا لم تَشغَل جوارحَك بشيء غيرِ ذلك، ومنعتَ عقلَك عن النظر والفكر في غير ذلك، اجتمع همُّك وحضر.

- ثمرة إحضار العقل لتلقي القرآن:

بعد ذكر كيفية إحضار العقل، ذكر الحارث بعض ثمرات هذا الإحضار لتلقّي القرآن، وذمّ مَن أعرض عن الكلام، فقال -رحمه الله-:

- «وإذا حضر عقلُك زكا ذهنُك، وإذا زكا ذهنك قَوِيتَ على طلب الفهم، واستبان فيه اليقين وصفا فيه الذِّكر وقَوِيَ فيه الفكر، وبذلك مدح المستمعين لتلاوة كتابه بالفهم، فقال -عز وجل-: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ ‌قَالُوا ‌أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: 29]، أي قالوا: مَه، أفلا تسمع الله -عز وجل- مدحهم بأن سكتوا عن الكلام لئلا يشتغلوا عن فهم ما يتلو نبيُّه -عليه السلام- عليهم؟!»[17].

- وفي موضع آخر يقول: «‌فإذا ‌أحضرت عقلك بجمع همِّك بنيّة صادقة مع أملٍ ورجاءٍ أن تنالَ ما قال، وتسارع إلى محابّه، وتجتنب مساخطه، وتريده وحده ولا تريد أن تفهم منه ما تتصنع به عند العباد، فإذا نظر الله -عز وجل- إليك وأنت كذلك وعلمَ ذلك من ضميرك؛ أقبل عليك بلطفه، ووَلِيَ تقويمَ عقلك لفهم كلامه وما فيه من علم الغيوب ومكنون الوعيد، فحينئذ تكون للقرآن متفهمًا، فتستنطق منه عِلم ما عَمِيَتْ عليك فيه الحُجّة، فيوضّح الله لك به البرهان ويمدّك بالفوائد ويجلِّي عنك ظُلَم الشُّبَه، ويدلّك على محجة المهتدين، ويذيقك الحلاوة التي أذاقها أهلَ التقوى...»[18].

ومن خلال ما سبق تبيَّن أنّ تهيئة النفس لتلقّي القرآن تدور حول فكرة إحضار العقل، وذكرنا كيفية إحضار العقل وثمرته، وكعادة الحارث المحاسبي -رحمه الله- في المعالجة، أنه يذكر في ثنايا كلامه بعض الرسائل التي يذمّ من خلالها مَن أعرض عن الكلام، ويخاطبه بالعقل لعلّه يتذكر، ومن أمثلة ذلك:

- عندما مدح استماع الجنّ للقرآن، قال: «‌هذا ‌الأدب والفهم من استماع آيات في مقام واحد في أقلَّ من ساعة، فكيف بمن وعَى القرآن كلَّه مِن صغره، ويكرّر تلاوته مِن صِباه إلى كِبَرِه، وعُمِّر السنين الكثيرة ويكرّر تلاوته =لم يعقل عن ربه، ولم يفهم كلام مولاه فيقوم بحقّه. وكان أوّل ما تداعوا الأدَب لاستماع ما تَلَى نبيُّه -عليه السلام- بتناهيهم عن الاشتغال بالمحادثة عن كلام ربهم، ولقد ذمَّ مولانا -عز وجل- المتشاغلين عند استماعهم بالمحادثة، فقال تعالى: ﴿‌نَحْنُ ‌أَعْلَمُ ‌بِمَا ‌يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: 47]. فاحرص أن لا يكون فيك خُلُقٌ ذَمَّ اللهُ -عز وجل- به كافرًا، وإن كنتَ مؤمنًا فإنّ مِن كمال الإيمان مزايلة أهل الكفر بالقول والفعل فيما نهى الله -عز وجل- عنه...»[19].

- ألا تسمع ربَّنا -جلَّ وعز- يقول: ﴿‌وَلَوْ ‌عَلِمَ ‌اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23]، فأخبرَ أنه لو علم فيهم خيرًا لأفهمهم لأنهم لم يكونوا صُمًّا، وكانوا يسمعون قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن ضيّعوا الفهم.

- ألا تسمعه يقول: ﴿لَهُمْ ‌قُلُوبٌ ‌لَا ‌يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].

- ألا تسمعه يقول: ﴿‌مَا ‌كَانُوا ‌يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: 20]، لا يعني أنهم كانوا صمًّا، ولكن لا يفقهون ما يسمعون بآذانهم.

- ألا تسمعه يقول: ﴿‌وَتَرَاهُمْ ‌يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 198]، فأثبت النظر منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: ﴿وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 198]، يقول: لا يعقلون دلائل الله -عز وجل- في نبوّته عليه السلام.

وبعد هذا الاستنكار على المنشغلين عن القرآن ولم يُحضِروا عقلوهم؛ نكون قد انتهينا من بيان معالجة الحارث المحاسبي -رحمه الله- لتهيئة النفس لتلقّي القرآن، والرسم الآتي يوضح حاصل رؤية الحارث المحاسبي ككلٍّ لفهم القرآن (مع تفصيل في مدخل تهيئة النفس لفهم القرآن):

الخاتمة:

حاول هذا المقال تسليط الضوء على كلام الحارث المحاسبي -رحمه الله- حول تهيئة النفس لفهم القرآن من خلال القراءة في مدخل كتابه:(فهم القرآن ومعانيه)، وخَلَصَ إلى أنّ نظرية فهم القرآن عند الحارث المحاسبي -رحمه الله- لا تقتصر على العلوم المُعِينة على فهم القرآن التي شملت أغلب الكتاب، بل لا بد معها من مقدّمة أساسية في عملية الفهم، وهي: تهيئة النفس لفهم القرآن، وقد حصَرْنا ما يتعلّق بموضوع تهيئة النفس لفهم القرآن في عنصرين رئيسين: تهيئة النفس لتعظيم قَدْر القرآن، وتهيئة النفس لتلقي القرآن. ثم بينّا كيفية معالجة الحارث المحاسبي -رحمه الله- لكلّ عنصر، مع ذكر أمثلة من الكتاب.

وصلّى اللهُ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] ينظر مثلًا: أنواع العلوم التي ذكرها الزركشي (ت: 794هـ) في كتابه «البرهان في علوم القرآن»، والسيوطي (ت: 911هـ) في كتابه «الإتقان في علوم القرآن».

[2] يجدر التنبيه هنا إلى أن غياب مركزية هذا الجانب من كتب علوم القرآن ربما يرجع إلى ظنّ أصحاب المؤلَّفات باستقرار هذه الأمور عند المتعلمين قبل التعلُّم لبداهتها، أو ذيوع هذا الجانب في كتب السلوك والرقائق مما أدى إلى الإغفال عن مركزيته في هذه المؤلَّفات، واعتبار مظانّه كتب الرقائق والسلوك.

[3] لا تخلو المؤلَّفات التي تكلّمت عن فهم القرآن من كلام حول التزكية، ولكن كلامنا هنا حول اعتبار التزكية أساسًا من أُسس معالجة موضوع فهم القرآن، لا أن تكون حاضرة في سطور متناثرة في المؤلّفات، أو يكون ذكرها بصورة عارضة وفرعية، فاعتبار تزكية النفس وتهيئتها أساسًا لفهم القرآن هو ما تفرَّد الحارث المحاسبي -رحمه الله- بذكره.

[4] هو الحارث بن أسد العَنَزِي المُحَاسِبي البصري، ثم البغدادي، يكنى الحارث بأبي عبد الله، يُقدَّر مولده في الفترة ما بين سنة (165هـ) إلى عام (170هـ)، وقد كان مولده في مدينة البصرة، ومكث فيها أول حياته يطلب العلم على علمائها حتى انتقل إلى بغداد لطلب العلم والسعي في الرزق، وابتنى داره بها. وله مؤلَّفات كثيرة بلغت نحو مائتي كتاب، وأغلبها في جانب التزكية، ومن أمثلة المطبوع منها: آداب النفوس، تحقيق: عبد القادر عطا. التوبة، تحقيق: عبد القادر عطا. أعمال القلوب، تحقيق: عبد القادر عطا. البعث والنشور، تحقيق: عبد القادر عطا. العقل وفهم القرآن، تحقيق: حسين القوتلي. فهم الصلاة، تحقيق: محمد عثمان الخشت، وغير ذلك. أمّا وفاته فكانت سنة (243هـ). للتوسّع في ترجمته انظر: طبقات الصوفية، للسلمي، ص58. حلية الأولياء، لأبي نعيم (10/ 73). تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (9/ 104). سير أعلام النبلاء، للذهبي (12/ 110).

[5] حيث يقول الدكتور/ حازم حيدر: «الحارث المحاسبي أول مَن دَوَّن في علوم القرآن بصورة مستقلة، من حيث المحتوى والمضمون دُونَ العنوان»، علوم القرآن بين البرهان والإتقان، حازم حيدر، ص105. وقال الدكتور/ مساعد الطيار: «أول كتاب وصل إلينا في علوم القرآن هو كتاب الحارث المحاسبي (ت243هـ)»، المحرر في علوم القرآن، مساعد الطيار، ص43.

[6] يراجع: فهم القرآن ومعانيه، للحارث المحاسبي، تحقيق: خالد رمضان، طبعة كرسي القرآن الكريم وعلومه، ص50، المبحث الرابع: في نقد النسخة المطبوعة.

[7] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص71.

[8] يظهر أن الحارث المحاسبي -رحمه الله- لم يُفرِّق بين أسماء القرآن وأوصاف القرآن، وقد التزمت بعبارته التي بدأ بها الكلام حول أسماء القرآن وأوصافه بقوله: «وسمَّاه برهانًا ونورًا ورحمة... إلخ»، دون تفرقة بين الأسماء والأوصاف. يراجع: فهم القرآن ومعانيه، ص77.

[9] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص77.

[10] روى البيهقي في شُعَب الإيمان الفصولَ التي تتعلق بفضائل القرآن تحت باب: (في تعظيم القرآن)، يراجع: شعب الإيمان، البيهقي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط1، 1423هـ= 2003م، (3/ 331)، فتأمل ترجمة الباب وعلاقته بموضوع فضائل القرآن.

[11] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص95.

[12] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص95- 96.

[13] في هذا السياق استطرد الحارث المحاسبي -رحمه الله- في تكرار فكرة التعريف بالقرآن ليرغّب القارئ في الإقبال على فهم القرآن وتعلّمه، والناظر في صنيع الحارث -رحمه الله- يلحظُ أنه يوظف كثيرًا الكلام عن القرآن قبل الحديث عن فكرة جديدة، انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص96، وما بعدها.

[14] علَّق المحقق على مسألة نفي الحوادث في ص44 من الكتاب.

[15] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص99.

[16] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص106.

[17] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص107.

[18] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص109.

[19] انظر: فهم القرآن ومعانيه، ص108.

الكاتب

محمد السيد صديق

حاصل على ليسانس اللغة العربية - كلية الآداب جامعة الإسكندرية، وباحث ماجستير في شعبة الدراسات الإسلامية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))