كتاب (خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم) للدكتور/ محمد رجب البيومي
عرض وتقويم

الكاتب : إبراهيم فودة
اعتنى كتاب (خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم) للدكتور/ محمد رجب البيومي بتتبّع تاريخ التفسير البياني للقرآن الكريم محاولًا الربط بين أجزائه المتصلة، وهذه المقالة تُعرِّف بهذا الكتاب، وتسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما تعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله.

تمهيد:

  اتخذت كتبُ التفسير مناحيَ مختلفةً تتفق مع طبيعة مُصنّفيها وثقافتهم منذ عهد مُبكّر؛ فمنها ما غلب عليه المنحى البلاغي مثل الكشاف للزمخشري، أو المنحى الكلامي كمفاتيح الغيب للفخر الرازي، أو الفقهي كالجامع لأحكام القرآن للقرطبي... وقد ارتأى الكاتب أن يتتبّع المنحى البياني للتفسير منذ خُطواته الأولى، ويضم أشتاته بتأريخ منهجي، فكان كتابُه (خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم).

وقد سبق هذا الكتابَ كتابٌ آخر للمؤلِّف نفسه تحت عنوان (البيان القرآني) ناقش فيه موضوعات البيان ومَثّل لذلك من القرآن الكريم بشكلٍ تطبيقي. ثم وجدَ الحاجة مُلِحّة لتأليف كتاب يتتبّع فيه تاريخ هذا اللون من التفسير محاولًا الربط بين أجزائه المتّصلة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فأخرجَ هذا الكتاب.

إذ الاقتصار على تحليل كلّ لون من ألوان التفسير في كتابٍ خاصّ أهدى للحقيقة العلمية، وأحرى بالاجتهاد والتدقيق من المتخصّصين في هذا اللون. فجمعَ المؤلِّفُ تلك المادةَ وتتبّعَ تاريخَها بدايةً من ابن عباس حتى وصل إلى إسهام تلامذة الأستاذ الإمام محمد عبده في هذا المجال. ولم يبحث كتبَ التفسير فحسب بل تتبّع الكتبَ البلاغية والكلامية التي تعرّضَت لبيان القرآن، وكتبَ الإعجاز، وأَتبع ذلك بفصلٍ عن الدراسات الجامعية للبيان القرآني. فسلك تلك الحبّات المتناثرة في نَظْم رائع لتاريخ هذا اللون من التفسير.

وفيما يأتي سنحاول عرض وتقويم الكتاب:

أولًا: كتاب (خطوات التفسير البياني)؛ عرض وبيان:

سنعمل في هذا القسم من المقالة على عرض كتاب (خطوات التفسير البياني) وبيان محتوياته وأهدافه ومنهجه، وذلك بعد أن نذكر بيانات الكتاب ونعرِّف بمؤلِّفه:

كتاب (خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم) هو أحد المؤلّفات التي صدرتْ عن مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، ضمن سلسلة البحوث الإسلامية، وهو الكتاب الثاني والأربعون في السلسلة، وصدر في شوال 1392هـ = ديسمبر 1971م. وأمّا مؤلِّفه فهو الأستاذ الدكتور/ محمد رجب البيومي [1923م- 2011م]. نال عالمية الأزهر عام 1940م، ودبلوم معهد التربية عام 1950م، والماجستير عام 1965م، وحصل على درجة الدكتوراه في البلاغة والأدب مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة الأزهر عام 1967م. وقد تدرّج في التدريس الأكاديمي بقسم البلاغة والأدب حتى أصبح عميدًا لكلية اللغة العربية بالمنصورة.

حصل الدكتور/ البيومي على عِدّة جوائز؛ منها جائزة مجمع اللغة العربية خمس مرّات، وكذلك جائزة شوقي بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وجائزة وزارة التربية والتعليم المصرية. وكان يكتب في عدّة مجلّات منذ عام 1948م، وتولَّى رئاسة تحرير مجلة الأزهر. وترك عددًا ضخمًا من المؤلَّفات الأدبية والعلمية، وصلتْ في مجملها 51 كتابًا، بالإضافة لإسهامه الإبداعي في عشرات المجلات والمؤتمرات.

هدف الكتاب:

حاول المؤلِّف بهذا الكتاب أن يسدّ خللًا في مكتبة الدراسات القرآنية ويضع لبنة في التأريخ للتفسير، ولكنه لم يشأ أن يتناول التفسير بشكلٍ عامّ وأراد لكتابه التخصّص في فرع واحد من فروع التفسير، هو التفسير البياني. ولم تكن له منطلقات أخرى غير الترتيب والتعديل والنقد؛ إِذْ قال في مقدّمته إنه لم يُفْرِد فصولًا خاصة بالنظريات العامة والاستنتاجات المتوقّعة، وإنما حاول توضيح الاتصال والانقطاع بين كتب التفسير البياني فحسب.

منهج الكتاب:

وقد اتّضح لنا من خلال المقدّمة أنّ الكاتب كان يعمد إلى منهج الاستقراء التاريخي بشكلٍ رئيس، غير أنّ طول هذا التاريخ وتشعُّب طرقه اضطره في كثير من الأحيان إلى اتّباع المنهج التحليلي والإكثار من المنهج النقدي.

1- منهج الاستقراء التاريخي:

وهو الذي عُني بجمع المادة وتناولها، باستقصاء التفسير البياني من كتب المفسِّرين والبلاغيين، والإيغال في الشذرات الأولى لهذا اللون من التفسير مرورًا بمراحل القوّة والضعف، وتتبّع نشأة المصطلحات البلاغية وتطوّرها عبر الزمن.

2- المنهج التحليلي:

وقد استخدمه المؤلِّف في تفكيك الكتب إلى أعمدتها الأساسية، فعرّف بنية كلّ كتاب، وأهم إضافاته في حقل التفسير البياني، غير مغفِل لتأثّره بالكتب التي سبقته وتأثيره فيما جاء بعده.

3- المنهج النقدي:

وقد استخدمه المؤلّف -بما له من ذوق أدبي وبصيرة نافذة- في مناقشة آراء المصنفين والردّ عليها بالموافقة والمخالفة. كما استخدمه في دفع الحيف عن بعض المظلومين من الكُتّاب وتوضيح بعض مرامي ناقديهم. وكذلك تفنيد آراء بعض المغالين ووضع الأمور في نصابها.

محتوى الكتاب:

ينقسم الكتابُ بعد مقدّمته إلى أحدَ عشرَ موضوعًا، يتتبع فيها المؤلِّفُ تاريخَ التفسير البياني للقرآن وكُتبَه وأهمَّ أعلامه، عبر ترتيب زمني بدايةً من العصر النبوي حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري. وجاء محتوى تلك الموضوعات كالآتي:

- الجذور البعيدة:

تلمّس المؤلِّف في الموضوع الأول الجذور البعيدة للتفسير البياني للقرآن متمثّلًا في تفسير الرسول لبعض معاني القرآن، وتفسير بعض الصحابة كعمر بن الخطاب، وابن عباس الذي يعتبر ذروة هذا اللون من التفسير في ذلك العصر الأول.

- الخطوة الأولى لأبي عبيدة:

ثم انتقل المؤلِّف ليتحدّث عن جهد أبي عبيدة معمر بن المثنى، في التفسير البياني؛ إِذْ يُعَدُّ كتابه (مجاز القرآن) اللّبِنَة الأولى في صرح الدراسات البلاغية.

- وثبات الجاحظ:

ثم انتقل المؤلِّف ليوضح أثر الجاحظ في هذا الحقل؛ إِذْ ترك الرّجلُ صداه القويّ في عقول تابعيه، فكان له مكانه الجهير في قمة الطود الأدبي.

- من جهود ابن قتيبة:

وبعد ذلك جاء الحديث عن ابن قتيبة بثرائه الخصب ليستشفّ الكاتب أسرار التركيب القرآني بما تعرّض له من أمثلة متشعّبة في كتابه (تأويل مشكل القرآن).

- دارسو الإعجاز يفسِّرون:

انتقل المؤلِّف بعد ذلك للحديث عن جهود دارسي الإعجاز؛ كالرماني والخطابي والباقلاني في مجال التفسير البياني، فيستخلص أهم منجزاتهم في هذا اللون من التفسير.

- تياران متجاوران:

ثم تكلّم المؤلِّف بعد ذلك عن طائفتي المتكلِّمين والناقدين ليوضح إسهام كلّ طائفة منهما في مجال التفسير البياني، وقد تكلّم عن إسهام الشريف المرتضى من طائفة المتكلّمين، وإسهام أبي هلال العسكري من طائفة الناقدين.

- منحى الشريف الرضي:

ثم حاول المؤلِّف كشف الحاسة البيانية عند الشريف الرضي في كتابه الموسوم (تلخيص البيان في مجاز القرآن) ليبين إشراق الشريف ونظراته الصائبة في التفسير.

- النَّظْم القرآني عند عبد القاهر:

ليصل المؤلِّف إلى ذروة هذا اللون من التفسير متمثّلًا في عبد القاهر الجرجاني واستنتاجاته في كتابَيْه الخالدَيْن (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز).

- تفسير (الكشاف):

ثم يأتي الحديث عن الزمخشري وتفسيره، مطبقًا ما توصّل إليه عبد القاهر على كامل النصّ الحكيم.

- توقّف وترديد:

ثم انتقل الحديث إلى (توقف وترديد) التفسير البياني بعد ذلك في فترة من الجمود والتكلّف في التطبيق، تمتد من نهاية القرن الخامس حتى القرن الثالث عشر. ينتقل فيها التفسير إلى وهدة الترديد.

- فجر يضيء:

ثم تكلّم الكاتب عن فجر الأستاذ الإمام محمد عبده وتلاميذه الذين أعادوا الروح مرة أخرى إلى حقل التفسير البياني.

- مع المعاصرين:

ثم ختم المؤلِّف كتابه بالحديث عن بعض إسهامات أبناء عصره في حقل التفسير البياني وبعض الرسائل الجامعية في هذا الصدد.

كتاب (خطوات التفسير البياني)؛ نقد وتقويم:

أولًا: أبرز مزايا الكتاب:

ويمكن أن نُرجع تميّز هذا الكتاب إلى ثلاثة محاور أساسية تتفق مع المنهج الذي اتبعه المؤلِّف في معالجة قضاياه:

أولًا: التأريخ المنهجي الدقيق لأحد فروع التفسير:

فقد أحاط المؤلِّف بالتاريخ الممتد للتفسير البياني، بدايةً من شذراته الأولى قبل عصر التدوين، والتي تمتد بجذورها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعض الصحابة، فتجاوز بذلك المشهور مما اقتصر الباحثون على طرقه كالكشاف ودلائل الإعجاز، ووصل إلى كتب هذا الفنّ التي لم يسبقه إلى الكلام عنها أحد. وهو في سبيله إلى ذلك لم يقتصر على كتب التفسير وحدها، فتجد نصف مباحثه تتحدّث عن استنباطاته البيانية من كتب النحويين والمتكلّمين وكَتَبَة الإعجاز وغيرهم ممن يتلمّس المؤلِّف في شواهدهم اللمحات البيانية لتفسير كتاب الله. فتتبَّعَ هذا اللونَ في مراحل قوّته وضعفه حتى وصل للأستاذ محمد عبده وتلامذته فكان هذا من أوفق ما توافر لهذا الكتاب.

وقد ترجم المؤلِّف لمن ينقل عنهم في هذا التاريخ الطويل ترجمة بصيرة وضّحت الظروف المحيطة بهم، وأزالت الظلم الواقع على كثير منهم من الناحية العلمية، فوضع كلًّا منهم في رُتبته من العلم بِغَضّ النظر عن مذهبه. وبالرجوع إلى كلامه عن أبي عبيدة والجاحظ يتضح لنا مدى إنصاف المؤلِّف وتقديره لمنازل العلماء.

ثانيًا: توضيح علاقات التأثير والتأثّر في حقل التفسير البياني:

 وقد ربط المؤلِّف مناهج المفسِّرين والبلاغيين والمتكلِّمين وكتبَةِ الإعجاز بعضها ببعض، فأظهر مدى التأثّر الواقع بينهم، حيث وجد امتدادات منهجية لم يلتفت إليها أحد في كثير من الأحيان. فإنْ كان تأثّر الزمخشري بعبد القاهر واضحًا لمعظم الباحثين، فإنّ اتصال منهج عبد القاهر بمنهج أبي عبيدة لا يتأتّى إلا بالملاحظة الدقيقة والمقارنة الحصيفة، وكذلك متابعة الشريف الرضي للرماني. واستطاع الكاتب أن يهتدي إلى كثير من الاتصال بين كتب الأقدمين ممن كانوا يرون النقل من كتب غيرهم لا يُعَدّ عيبًا، فنقلوا ولم يشيروا إلى نقولهم.

ودفعًا للاختلاط على طلبة العلم، فقد أرّخ المؤلِّف للأفكار والمصطلحات بعناية وتتبّع أوليتها وتطوّرها، فوجد أنّ لكتاب المجاز لأبي عبيدة السّبْق في المصطلحات البلاغية؛ فهو يذكر التشبيه والاستعارة والمثل والمجاز مما يدلّ على أنّ البلاغة في نشأتها كانت عربية خالصة تبعد كلّ البُعد عن بلاغة أرسطو. كما وجد أنّ باب الاستفهام عند ابن قتيبة لم يزِد عليه البلاغيون شيئًا. ووجد أنّ الخطابي -مثلًا- قد توسّع في تفصيل إعجاز النَّظْم، بالمعنى الذي جاء به عبد القاهر فيما بعد. وأثبت المؤلِّف أنّ الزمخشري هو أول مَن سمّى مباحث النّظْم بعلم المعاني. وأنّ أبا هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) قد سطا على آراء سابقيه سطوًا لا يخفى على أحد، وهو في كثير مما سطا لم يُضف أو يحذف شيئًا يُعَدّ ذا بال، فباب التشبيه -مثلًا- انتزعه من رسالة الرماني انتزاعًا لم يُهمل حتى ترتيب الآيات عنده، إلى غير ذلك من الملاحظات الدقيقة المنثورة عبر صفحات كتابه.

ثالثًا: تمحيص الآراء والنّقول، وتتبّع الشواهد بالتحليل والنقد:

لم يكتفِ المؤلِّف بجهود مؤرّخي البلاغة الذين مهدوا للتأريخ البياني للتفسير، فتناولَ آراءهم بالترتيب والتعليق والإضافة، والمعارضة في كثير من الأحيان. وهو إِذْ يفعل ذلك يعزو النقول إلى مصادرها ويعتمد على مستجدات العلم وآخر ما توصّل إليه أبناء جيله من التحقيقات والبحوث وجهود النّشْر، ولا يجد حرجًا في أن يشير إلى مصادر اهتدائه للصواب.

ومِن أبدع ما في هذا الكتاب مختارات شواهده؛ إِذْ يجد المؤلِّف غضاضة في ذِكْر رأيه إن لم يدعمه بشواهد التأييد التي تبين عن مناهج أصحابها ممن ينقل عنهم، فيردف شواهد الموافقة بشواهد المخالفة بأمانة كاملة تاركًا لقارئه سبيل الاهتداء ممهَّدًا، يفعل ذلك بلغة عالية وأسلوب سلس عذب يرقَى به إلى مصافّ روّاد البيان العربي.

ولندلّل على مدى أمانة المؤلِّف واحتياطه سنذكر إحدى نقداته لعبد القاهر؛ إِذْ نرى في نقده له بَعْدَ اعترافه باحتلاله ذروة سنام البلاغة والبيان، دليلًا يُغني عن غيره من الأدلة، فالمؤلِّف ينقد منهج عبد القاهر الذي يقصر الإعجاز القرآني على مسألة النَّظْم دون اختيار اللفظ وجمال المقطع، ويدلّل على ذلك ببعض الأمثلة، نذكر منها: دفاع الجرجاني عن قضية النَّظْم بقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ...}[هود: 44]، فيرى أنّ كلّ لفظة ليس لها أيّ فضل في ذاتها وإنما جاء الإعجاز بنَظْم تلك الألفاظ بهذه الطريقة... ليعلّق المؤلّف على ذلك بقوله: وعلى قياسه نستطيع أن نقول: (وقيل يا أرض اشربي ماءك ويا سماء امنعي وأُزيل الماء ونفذ الأمر...)، فيتحقّق بذلك كلّ ما جعله الجرجاني مبدأ العظمة وحده، ولكن مهلًا فإن اختيار اللفظ سِرّ قوي من أسرار الإعجاز...

ثانيًا: أهم الملاحظات على الكتاب:

أولًا: المقدّمة المقتضبة:

اختصر المؤلِّف مقدمته بشكلٍ كبيرٍ مما جعلها غير دالّة على محتوى هذا الكتاب الحفيل، وكنّا نلتمس له العُذْر لو كان كتبها قبل الشروع في الكتاب غير مهتد لما سيفتح الله به عليه في كتابه، ولكن قد اتضح لنا أنها كُتبت بعد انتهاء الفصول. فكنّا ننتظر منه خُطّة تهدينا إلى إشكالات كتابه ودقيق منهجه.

ثانيًا: تعريف التفسير البياني:

لم يُعْطِ المؤلِّف تعريفًا دقيقًا للتفسير البياني، كما لم يوضح الفرق بينه وبين التفسيرات الأخرى وخصوصًا ما يشتجر منها مع التفسير البياني مثل التفسير اللغوي والنحوي، وترك القارئ يمعن البحث في الشواهد التي يسوقها من بين تفسيرات المفسِّرين مدلّلًا بها على ما يعنيه بالتفسير البياني.

ثالثًا: النظريات العامة للتفسير:

 لم يتكلّم المؤلِّف عن النظريات العامة للتفسير البياني، والاستنتاجات المتوقّعة ولو أنه تكلّم في طيّات حديثه عن بعض المفسِّرين عن قضايا مثل معنى المجاز والحقيقة ولكن ليس ليدلّل بها على المقصود من هذا المعنى في العلم وإنما ليدلّل بها على مفهوم هذا المعنى عند صاحبه مثلما فعل مع أبي عبيدة الذي لم يكن يقصد بالمجاز ما تعارف عليه علماء البلاغة فيما بعد وإنما قصد به وجه التأويل سواء كان حقيقة أم مجازًا. وقد استدلّ المؤلف بهذا الاستنباط على زيف القصة الشائعة في سبب تأليف المجاز على النحو الآتي:

حُكي أنّ الفضلَ بن الربيع سأل أبا عبيدة عن قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}[الصافات: 65]، إِذْ كيف وقع وعيد الله بما لم يُعرف مثلُه، فقال أبو عبيدة: إنما كلَّم اللهُ العربَ على قدر كلامهم، أمَا سمعتَ قولَ امرئ القيس: 

أَيَقتُلُني وَالمَشرَفِيُّ مُضـاجِعي .. وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كَأَنيابِ أَغوالِ

وهم لم يروا الغول قط. فاستحسن الفضلُ تعليلَه، وكان ذلك دافعَه لتأليف كتاب في أشباه هذا. ولكن المؤلِّف يقف من هذه القصة موقفًا آخر لأسباب منها:

- أنّ أبا عبيدة لم يتعرض لتلك الآية في كتابه. وسورة الصافات قد اطَّرد فيها الكلام بما لا يوحي بأيّ نقص أو خَرْم.

- أنّ أبا عبيدة لم يُشِر لتلك القصة إطلاقًا، وهي جديرة بالتصدير.

- أن المجاز عند أبي عبيدة لا يعني الصورة البيانية كما جاء في الآية الكريمة، وإنما أراد بمجاز الكلمة مدلولَها الذي تشير إليه ولو كان حقيقة.

وعلى هذا النحو كان يتطرّق المؤلِّف إلى بعض قضايا البيان ونظرياته دون توجيه.

رابعًا: التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور:

نشعر في لغة البيومي عن التفسير بالمأثور شيئًا من الاستنكار وهو يتحدّث عمّن يروي أنّ تفسير ابن عباس كلّه من نوعية التفسير بالمأثور، وقد أفاض الكاتب في قضية تفسير ابن عباس مبينًا أنّ وجهة تفسيره كانت تعتمد على التفسير بالرأي وبما استنبطه من محفوظه من ديوان العرب، وللتفسير بالمأثور حظّه الكبير الذي لم ينصفه الكاتب بلغته.

خامسًا: التساهل في الإسناد:

لم يكن البيومي رجل حديث، وبالرغم من قلّة الأحاديث التي أوردها في كتابه والتي تتعلّق بتفسير الرسول لبعض معاني القرآن إلا أنه لم يُخَرّج تلك الأحاديث تخريجًا يزيل عن قارئها التباس الوضع وشَكّ الضعف، وقد كان حريًّا به أن يفعل وقد جمع تلك المادة الضخمة من الكتب. ثم إنّ صحيفة عليّ بن أبي طلحة التي ارتضاها في تفسير ابن عباس متكئًا في ذلك على اعتمادها من بعض كبار المصنّفين؛ عليها هي الأخرى بعض الإشكاليات التاريخية وقد كان حريًّا به أن يوضحها.

سادسًا: اعتماده على المصريين فقط:

حين اتجه المؤلِّف إلى إثبات دور المعاصرين من أصحاب الرسائل العلمية في مجال التفسير البياني، اقتصر على المصريين فقط في هذا الشأن، ونعلم أنّ العالم الإسلامي والعربي لا يعدم أمثال هؤلاء الأكابر في كلّ أقطاره، وقد ذكَر المؤلِّف اسم الدكتور/ محمد المبارك الأستاذ بجامعات سوريا والسودان ومكة ولكنه لم يوفّه حقّه من الاستشهاد والنقد.

سابعًا: الأسلوب الصحفي:

كان المؤلِّف غزير الإنتاج الصحفي فهو يكتب عشرات المقالات للصحف والمجلات في الشهر الواحد، وللصحافة جنايتها على الكُتّاب؛ إِذْ تميل بهم إلى التساهل في الكثير من الأمور إرضاءً لأذواق عموم القرّاء، كما تنطبع على طريقة الكاتب في الصياغة والتبويب، وهو ما يُلحظ من فصول هذا الكتاب؛ إِذْ يظهر فيها الحسّ الصحفي فيما يمكن أن يسمى بالمقال الفني الذي كان متميزًّا فيه أمثال البيومي والرافعي وزكي نجيب محمود. وعندما تتصفح الكتاب تجد تقسيم الفصول لا يتبع أيّ قاعدة غير قاعدة الطول والقصر، فالفصل الطويل يقسمه الكاتب (1- 2)، بينما الأطول يقسمه (1- 2- 3) دون أيّ معيار غير الطول والقِصَر فيما يمكن أن يأتي في المقالات على طريقة (يتبع في العدد القادم).

خاتمة:

ليس أفضل من قول المؤلِّف في هذا الكتاب: «إنّ الذهن اللامح يرضيك حين توافقه وحين تخالفه معًا»، وقد كان البيومي من أصحاب الذّهن اللامح، ونرجو بهذا العرض أن نكون وضّحنا بعض الجهد الذي بذله في كتابه الثمين، فقد رأينا كيف حلّل تاريخ التفسير البياني للقرآن بهذا العمق، بحيث لم يترك كتابًا إلا ودرسه دراسة متأنية، مبيِّنًا مواضع موافقته ووجوه اعتراضه، ليس هذا فحسب، بل ناقش آراء المؤيّدين والمعارضين في العصور الغابرة مبيِّنًا مراميهم ودوافعهم للتأييد والمعارضة، ولم يغفل الباحثين والمحقّقين الذين تناولوا تلك الكتب في عصره. وتجد إنصاف العالم وتحريه يتجلّى في تحسّره على كتاب مخطوط فاته في هذا التاريخ الطويل، وهو تفسير ابن عطية الأندلسي إِذْ لم يتوفر له مخطوطه أثناء التأليف، لنستشفّ من ذلك همة العالِم بعد أن بهرَتْنا ذائقة الأديب.

 

الكاتب

إبراهيم فودة

حاصل على بكالوريوس هندسة الطيران والفضاء - جامعة القاهرة، وله اهتمام بالدراسات القرآنية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))