اتساع المعنى في القرآن الكريم
الدلالة المعجمية نموذجًا

تسلِّط هذه المقالةُ الضوءَ على ظاهرة اتساع المعنى في القرآن الكريم من خلال الدلالة المعجمية؛ فتعرف بفكرة اتساع المعنى، وأهمية رصدها، والدلالة المعجمية وبعض الأمور المتعلّقة بمعالجتها، وتقوم برصد أبرز الصور والنماذج لاتساع المعنى من خلال الدلالة المعجمية.

  من أهم السمات الدلالية في القرآن الكريم اتساع دلالة ألفاظ القرآن وتراكيبه، فدلالات الألفاظ والتراكيب القرآنية تتنوّع بتعدّد المستويات اللغوية المختلفة في نظام اللغة؛ حيث تتنوّع إلى مستويات دلالية متعدّدة؛ هي: النظام الصوتي، والنظام المعجمي، والنظام الصرفي، والنظام النحوي[1]. وفي هذه المقالة سنحاول معالجة ظاهرة اتساع المعنى في القرآن الكريم من خلال تناولنا تحديدًا للدلالة المعجمية، وذلك بعد تمهيد نسلِّط فيه الضوء على فكرة اتساع المعنى وأهمية رصدها، وبيان الدلالة المعجمية وبعض الأمور المتعلّقة بمعالجتها في المقالة.

تمهيد:

لعلّ مِن أبرز السمات الدلالية لألفاظ القرآن وتراكيبه هي اتساع دلالة تلك الألفاظ والتراكيب، ويمكننا أن نميّز هاهنا بين ما يمكن أن يسمّى بالتعدّد الحقيقي للمعنى، وما يمكن أن يسمّى بالتعدّد الشكلي؛ حيث تتعدّد أنواع الألفاظ عند اللغويين بين حقيقة ومجاز، وحقيقة لغوية وحقيقة شرعية، وما تجتمع في دلالته الحقيقتان، أو الحقيقة والمجاز، أو يكون من قَبِيل المشترك أو المتواطئ، على نحو ما يبيِّن اللغويون في دراستهم اللغوية. وكلّ واحد من هذه الألفاظ قد تتعدّد دلالته في سياقاته، وهذا التعدّد على ضربين:

الضرب الأول: ما تتعدّد دلالته بغير تعارض يظهر للناظر فيها؛ بحيث يصح الجمع بين تلك المعاني في معنى كلّي يجمعها، أو يتركّب من مفرداتها؛ وهذا هو ما نسميه بالتعدّد الشكلي غير الحقيقي لمعاني اللفظ الواحد، وهو النوع الأول من اتساع المعنى الذي سيدرسه هذا المقال.

الضرب الثاني: هو ما تتعدّد دلالته تعددًا حقيقيًّا؛ بحيث لا يمكن الجمع بين معانيه في وجه واحد، وهذا الضرب على نوعين:

أ- نوع يكون للّفظ عدة وجوه مقبولة للمعنى في سياقه؛ بحيث يمكن اعتبار كلّ واحد منها بمفرده، لا باعتبار الجمع بينها، وهذا هو النوع الثاني من اتساع المعنى الذي يدرسه هذا المقال.

ب- ونوع يكون ثمة تعارض بين معانيه من حيث الظاهر يقتضي طلب الترجيح بينها، وهذا النوع من التعدّد الحقيقي للمعنى لن يتعرّض له هذا المقال.

وإنّ صور وأضرب الاتساع في المعنى يمكن أن تنقسم إلى الأقسام الآتية:

1- اتساع الدّلالة المعجمية[2].

2- اتساع الدّلالة الصرفية[3].

3- اتساع الدّلالة النحوية[4].

وسوف نقتصر في هذا المقال على بيان اتساع المعنى في القرآن الكريم في الدلالة المعجمية وحدها حتى لا يطول بنا المقام.

إنّ رصد فكرة اتساع المعنى التي ذكرنا في القرآن تبرز أهميتها في تنبيه القارئ لهذا الكتاب الكريم للتفرقة بين معاني اللفظ الواحد التي قد يظنّ بها التعدّد والاختلاف وحقيقتها الانسجام والائتلاف، وبين تلك المعاني التي تشتمل على تعدد حقيقي يقتضي الترجيح بينها، أو اعتبارها وجوهًا معتبرة للفظ الواحد.

وفيما يأتي يرصد المقال أبرز الصور أو النماذج لاتساع المعنى في القرآن الكريم، مطوفًا في اختيار أمثلته ونماذجه من كتب التفسير؛ لا سيما المفسِّرين الذين عُنوا بالجانب البلاغي والجمالي للقرآن الكريم؛ وذلك بغية الوقوف على اتساع دلالة اللفظ القرآني، وما ينتج عن ذلك من إضفاء العديد من الظلال الدلالية المتناغمة مع ذلك السياق، إلى غير ذلك من الفوائد الدلالية التي سيحاول هذا المقال أن يكشف عنها.

الناظر في الدلالة المعجمية في القرآن الكريم يجدها بيّنة في اتساع دلالاتها، والمقصود بالحديث عن اتساع الدلالة المعجمية: بيان دقّة القرآن الكريم في اختيار موادّه المعجمية التي تحمل -من خلال تفاعلها مع سياقاتها- دلالات ثرية متعدّدة، لكنها متعاضدة غير متعارضة، مؤتلفة غير مختلفة؛ بحيث تمثّل فروعًا متآزرة، وأغصانًا وارفة تُعطي ظلالًا متعدّدة ممتدة لمعنى أصلي واحد، أو تُعَدّ وجوهًا معتبرة يقتضيها السياق للّفظ الواحد.

ومن أهم مظاهره:

1- اتساع الدلالة من خلال المشترك اللفظي.

2- اتساع الدلالة من خلال المتواطئ.

3- اتساع الدلالة من خلال الجمع بين الحقيقة والمجاز.

4- اتساع الدلالة من خلال الجمع بين المعنيين اللغوي والشرعي.

5- اتساع الدلالة من خلال جوامع الكلم.

وسوف أعرض هنا لبعض الأمثلة البلاغية في القرآن الكريم لكلّ واحدة من هذه الظواهر بشيء من التفصيل:

1- اتساع الدلالة من خلال المشترك اللفظي:

«اللفظ المشترك: هو اللفظ الواحد الموضوع لعدّة معانٍ وضعًا أوّلًا»[5].

«وإذا عُرف وقوع الاشتراك لغةً فهو أيضًا واقع في كلام الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير: 17]، فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره وهما ضدان، هكذا ذكره صاحب (الصحاح)[6].

- ومن ذلك أيضًا كلمة لفظ (قَسْوَرَة)، و(رِيع)، و(آيَة)...إلخ، ونحو ذلك.

ومِن ثَم يمثّل اللفظ المشترك الوارد في القرآن الكريم نوعًا من اتساع المعنى؛ حيث يتّسع السياق لقبول جميع معانيه باعتبارها وجوهًا للمعنى الواحد إذا اقتضاها السياق بلا تعارض بينها.

- فكلمة (عَسْعَسَ) في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير: 17]، تأتي بمعنى الإقبال والإدبار، «عن مجاهد قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} قال: إقباله، ويقال: إدباره»[7].

 ولا شكّ أنّ كلًّا مِن إقبال الليل وإدباره ساعتان شريفتان، وآيتان عظيمتان دالّتان على قدرة الله تعالى؛ لذا فقد أقسم اللهُ بهما تنويهًا بشأنهما. وتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- لهاتين الساعتين بالذِّكْر والصلاة والتسبيح ثابت بنصوص كثيرة ليس هنا محلّ ذِكْرها؛ لذا فلا يبعد أن يُراد بالقسَم كلٌّ من هاتين الساعتين الشريفتين، وسياق الكلام يساعده ولا يعارضه.

- وكذلك لفظ (قَسْوَرَة) في قوله تعالى:{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر: 51].

ذكر ابن جرير الاختلاف فيها؛ فمنهم من قال: الرُّماة، ومنهم من قال: هو الأسد[8].

والسياق لا ينفي أحد المعنيين بل يحتملهما جميعًا؛ فالحُمُر بلا شك تفرّ من الرُّماة كما تفر من الأسد، فقد أثبت لها الفرار من كلّ ما يشمله اسم القسورة، ويؤيّد ذلك مجيء (قَسْوَرَة) منكرة.

ولا شك أنّ ذلك مما يزداد به المعنى جمالًا وقوّة، فهذه الحُمُر المضروبة مثلًا للكافر المُعْرِض تفرّ من كلّ مَنْ تعرّض لها لينتشلها من الكفر إلى الإيمان، فتفرّ منه أشدّ الفرار؛ إِذْ تستشعر فيه خطرًا داهمًا عليها، وكذلك هؤلاء الكافرون المعرضون يحسبون كلّ متعرّض لهم بالدعوة إلى الله خطرًا داهمًا، وشرًّا محدقًا؛ سواء بَدَا شديدًا كالأسد، أو متلطفًا كالصائد؛ وذلك لكون ما يأتي به من الهدى معارضًا أهواءهم أتم المعارضة.

2- اتساع الدلالة من خلال المتواطئ:

يفرّق الأصوليون بين المشترك والمتواطئ، وذلك أنّ «اللفظ المشترك هو اللفظ الواحد الموضوع لعدّة معانٍ وضعًا أوّلًا»، كما سبق بيانه.

أمّا المتواطئ: فهو لفظ يُطلق على أشياء متغايرة ولكنها متّفقة في المعنى الذي وضع اللفظ له مثل لفظ (لون)، فالسواد لون، والبياض لون، والحمرة لون.

ومثل لفظ (رجل) التي تطلق على: زيد وعمرو ومحمد و...

ومثل لفظ (جسم) فهي تطلق على السماء والأرض، والإنسان، والحيوان، وعلى كلّ شيء له ثقل ويشغل حيّزًا.

ومِن ثَم تأتي قيمة اللفظ المتواطئ في القرآن الكريم في تحقيق اتساع المعنى؛ وذلك في دلالته على جميع أفراد جنسه بلفظ واحد؛ مما يحقّق نوعًا من الإيجاز والشمول لكثير من المعاني باللفظ نفسه.

- فقوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...}[الحديد: 1].

 وردَ فيه لفظ متواطئ يدلّ على العموم وهو لفظ (مَا) فإنها تعني الإنسان، والملائكة، والحيوان، والجماد... فاللفظ المتواطئ من ألفاظ العموم[9].

فمِن أمثلة المتواطئ لفظ: (ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) و(سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}[فاطر: 32].

وفيه من الجمال والإعجاز ما فيه من الإيجاز بالإجمال المغني عن التفصيل بتعداد أنواع العصاة والستر عليهم وطيّ أحوالهم؛ حيث لا يتناسب سياق التكريم بالاصطفاء وتوريث الكتاب وحسن الجزاء مع تفصيل أحوال العصاة وتعداد مخازيهم؛ لا سيما وقد غفرها اللهُ لهم فكان جزاءهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر: 33].

فمعلوم أنّ كلّ واحد من هذه الأقسام يتناول أصنافًا كثيرة، الظّالم لنفسه يتناول المضيّع للواجبات والمنتهك للمحرّمات.

والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرّمات، والسّابق يدخل فيه من سبق فتقرّب بالحسنات مع الواجبات[10].

فهذه الألفاظ هي من المتواطئ؛ لأنّ كلًّا من الظالم لنفسه والسابق بالخيرات -وكذلك المقتصد- يندرج تحته صور من الأعمال يجمعها ذلك اللفظ الشامل لها، الذي يُعَدُّ بمثابة الجنس أو النوع الذي تندرج تحته أفراده.

وترجع قيمته الجمالية -في الغالب- إلى ما فيه من إيجاز بالإجمال المغني عن التفصيل بذكر أفراد ما أجمل لشيوع العلم بها.

- ومن أمثلته أيضًا «قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة: 152]، قد تضمّن الأمر بذكر اللّه تعالى، وذِكرنا إيّاه على وجوه.

وقد رُوي فيه أقاويل عن السّلف، قيل فيه: (اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي)، وقيل فيه: (اذكروني بالثّناء بالنّعمة أذكركم بالثّناء بالطّاعة)، وقيل: (اذكروني بالشّكر أذكركم بالثّواب)، وقيل فيه: (اذكروني بالدّعاء أذكركم بالإجابة).

واللّفظ محتمل لهذه المعاني، وجميعها مرادُ اللّه تعالى لشمول اللّفظ واحتماله إيّاه.

فإن قيل: لا يجوز أن يكون الجميع مراد اللّه تعالى بلفظ واحد؛ لأنّه لفظ مشترك لمعانٍ مختلفة، قيل له: ليس كذلك؛ لأنّ جميع وجوه الذِّكْر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد.

فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذّكر، والأخوّة تتناول الإخوة المتفرّقين، وكذلك الشّركة ونحوها، وإن وقع على معانٍ مختلفة فإنّ الوجه الذي سُمّي به الجميع معنى واحد.

وكذلك ذِكر اللّه تعالى لمّا كان المعنى فيه طاعته، والطّاعة تارة بالذِّكر باللّسان، وتارة بالعمل بالجوارح، وتارة باعتقاد القلب، وتارة بالفكر في دلائله وحججه، وتارة في عظمته، وتارة بدعائه ومسألته، جاز إرادة الجميع بلفظ واحد، كلفظ الطّاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطّاعات على اختلافها إذا وردَ الأمر بها مطلقًا نحو قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[النساء: 59]، وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النّهي.

فقوله: {فَاذْكُرُونِي} قد تضمّن الأمر بسائر وجوه الذِّكْر، ومنها سائر وجوه طاعته وهو أعمّ الذّكْر، ومنها ذكره باللّسان على وجه التّعظيم والثّناء عليه والذِّكْر على وجه الشُّكر والاعتراف بنعمه»[11].

ولا شكّ أن استخدام لفظ الذِّكْر ونحوه مجملًا فيما يعرف تفصيله بالتفكّر والتأمل -ولا يرتاب في معرفته- فيه من الإيجاز واختصار الكلام ما هو بأعلى المنازل من البلاغة والفصاحة، حتى قالوا: «البلاغة الإيجاز»[12].

3 - اتساع الدلالة من خلال الجمع بين الحقيقة والمجاز:

من الوجوهِ التي تتعدّد بها الدلالة وتتّسع تردُّدُ الكلمة بين الحمل على الحقيقة والمجاز؛ وذلك قد يؤتَى به لإرادة الحمل على كِلَا المعنيين (الحقيقي والمجازي) طلبًا للاتساع في المعنى إذا ما اقتضاه السياق.

تعريف كلٍّ من الحقيقة والمجاز:

الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وُضِع له في لغة العرب بغير تصرّف. والمجاز: هو اللفظ المتصرَّف فيه؛ إمّا باستعماله في غير ما وُضع له في لغة العرب، ويسمى بالمجاز اللغوي، ويطلق على الاستعارة والمجاز المرسل، وذلك كقولك: رأيتُ أسدًا يقاتل الأعداء؛ في استعارة الأسد للجندي، وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}[النساء: 92]، باستعمال الرقبة مجازًا مرسلًا عن العبد.

 وإمّا بإسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير فاعله الحقيقي، ويسمى بالمجاز العقلي؛ وذلك كإسناد الشفاء إلى الطبيب في قولك: شفى الطبيبُ المريضَ؛ حيث أُسند الشفاء للطبيب على المجاز العقلي، والشافي هو الله على الحقيقة[13].

وأمثلة الجمع بين الحقيقة والمجاز عديدة في كتاب الله تعالى، فمن ذلك:

- قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر: 4].

من المفسِّرين مَن حمَلها على الحقيقة ومنهم مَن حملها على المجاز، ومنهم من جوّز الجمع بينهما؛ فقد رجّح أبو حيان الحقيقة رغم حكايته للأقوال المرجّحة للمجاز، قال: «قيل: كناية عن طهارة العمل، المعنى: وعمَلك فأَصْلِح، قاله مجاهد وابن زيد. وقال ابن زيد: إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: فلان خبيث الثياب؛ وإذا كان حَسَن العمل قالوا: فلان طاهر الثياب، ونحو هذا عن السدّي،...، وقيل: كنّى عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس... وقيل: كنّى بها عن الجسم... وقيل: كناية عن الأهل، قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ}[البقرة: 187]، والتطهّر فيهن اختيار المؤمنات العفائف. وقيل: وطئهن في القبُل لا في الدبر، في الطُّهْر لا في الحيض، حكاه ابن بحر. وقيل: كناية عن الخُلُق، أي: وخلُقك فحسِّن، قاله الحسن والقرطبي، ومنه قوله:

ويحيى ما يلائم سوء خلق .. ويحيى طاهر الأثواب حر

أي: حسن الأخلاق»[14].

واختار أبو حيان أنّ «الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات؛ لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي»[15].

ومال الألوسي إلى المجاز فقال: «{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر: 4]، تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عمّا تُذَمُّ به من الأفعال، وتهذيبها عما يُستهجَن من الأحوال؛ لأن مَن لا يرضى بنجاسة ما يماسُّه كيف يرضى بنجاسة نفسه.

وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في هذه الآية الكريمة.

وقيل: كنى بها عن الجسم، كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلًا ركبها قوم وذهبوا بها:

رموها بأثواب خفاف فلا نرى .. لها شبهًا إلا النعام المنفرا

وطهارة الجسم قد يُراد بها أيضًا نحو ما تقدّم، ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه.

 وقيل: على كون تطهير الثياب كناية عمّا مَرّ يكون ذلك أمرًا باستكمال القوّة العلمية بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه، وقيل: إنه أمر له -صلى الله عليه وسلم- بالتخلّق بالأخلاق الحسنة... وقيل: الثياب كناية عن النساء»[16].

ومع ميل الألوسي للمجاز فإنّ ظاهر كلامه في الآية التالية عدم استبعاد الحقيقة، وكأنّه يجوّز الجمع بينهما، قال: «{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر: 5]، كلامٌ جامعٌ في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفاء والسفه وكلَّ شيء يقبح ولا تتخلّق بأخلاق هؤلاء المشركين، وعليه يحتمل أن يكون هذا أمرًا بالثبات على تطهير الباطن بعد الأمر بالثبات على تطهير الظاهر بقوله سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر: 4]»[17]؛ حيث حمَل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} على تطهير الظاهر، ولا شك أن أوّل ما يدخل فيه تطهير الثياب.

أمّا ابن كثير فقد حكى الأقوال السابقة ثم رجّح الجمع بين الحقيقة والمجاز، فذكر مَن ذهبَ إلى المجاز كقول القائل: «لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. ثم قال: أمَا سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر .. لبست ولا من غدرة أتقنّع

وقال الشاعر:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه .. فكلّ رداء يرتديه جميل

وقال العوفي، عن ابن عباس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يعني: لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية»[18].

ثم ذكر قول مَن ذهبَ إلى الحقيقة فقال: «وقال محمد بن سيرين: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: اغسلها بالماء.

وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه. وهذا القول اختاره ابن جرير»[19].

ثم قال: «وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإنّ العرب تطلق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس:

أفاطم مهلًا بعض هذا التدلّل .. وإن كنتِ قد أزمعتِ هجري فأجملِي

وإنْ تكُ قد ساءتكِ منِّي خليقة .. فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال سعيد بن جبير: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}؛ وقلبك ونيتك فطهر»[20].

والذي نراه أنّ السياق في هذه السورة الكريمة لا يأبَى الجمع بين المعاني المذكورة في هذه الآية سواء منها ما كان حقيقة أو مجازًا؛ وذلك باعتبارها وجوهًا من المعاني صالحة للفظ الواحد، ويؤيّدها السياق ولا يأباها؛ وذلك لأنّ الداعي إلى الله، بله أكرم الرسل، ينبغي أن يجتمع له صلاح الظاهر والباطن المشتمل على حُسْن المظهر والمخبر، فيجمع بين حُسن السّمت المشتمل على أكمل الهيآت التي ترغّب في الإقبال عليه وتحول دون النفرة منه، مع صلاح الباطن واستقامة الخلُق بحيث لا يعثر له على هفوة تكون حجّة عليه وعلى دعوته.

ومجيء هذه الكلمة في هذا الموضع محتملة لكلّ ما ذُكر مما يقتضيه السياق ويتّسع له =هو أبلغ دلالة على إعجاز هذا الكتاب العزيز، وكونه من لدن حكيم حميد.

- ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197].

حيث جعل الزاد جنسًا يشمل كِلا النوعين الحقيقي الحسّي المعهود، أو المجازي المعنوي وهو تقوى الله تعالى، فحمل الزاد على معنييه الحقيقي والمجازي لما في ذلك من اتساعٍ في المعنى يقتضيه السياق والمقام؛ فإنّ المقصود هو الاعتدال في الجمع بين الدنيا والآخرة.

 4- اتساع الدلالة من خلال الجمع بين المعنيين اللغوي والشرعي:

من الوجوهِ التي تتعدّد بها الدلالة وتتسع كذلك تردّدُ الكلمة بين الحملِ على الحقيقة اللغوية التي وُضِعَت لها الكلمة في لغة العرب، أو الحقيقة الشرعية التي خُصِّصت بها الكلمة بعد نزول القرآن الكريم وتخصيصه إياها بمعنى شرعي مأخوذ من ذلك المعنى اللغوي العام؛ وذلك قد يؤتَى به لإرادة الحملِ على كِلا المعنيين الحقيقي اللغوي والشرعي طلبًا للاتساع في المعنى إذا ما اقتضاه السياق.

ومِن ثَم ذهبَ ابن كثير في أكثر من موضع إلى جواز الجمع بين المعنيين اللغوي والشرعي ما دام السياق محتملًا لهما، وذلك كما في قوله تعالي: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون: 4].

فقد حكى أقوال المفسِّرين هنا في معنى الزكاة، وهي لا تخرج عن معنيين:

1- المعنى الشرعي: وهو الزكاة الشرعية.

2- المعنى اللغوي: وهو يرجع في أصله إلى معانٍ؛ منها الطُّهْر والنماء والصلاح[21]، فكأنّ المقصود هنا هو تطهير النفس وإصلاحها وتنمية جوانب الخير فيها، على نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى: 14]، وقوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس: 9].

وبعد حكايته للقولَين الواردَين في هذا الموضع قرّر مذهبه في جواز الجمع بين كِلا المعنيين اللغوي والشرعي، بشرط احتمال السياق لهما، فقال: «وقد يحتمل أن يكون كِلا الأمرين مرادًا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال؛ فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا، والله أعلم»[22].

وقد حكى نحو هذين القولين في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[فصلت: 6- 7][23].

والذي ذهب إليه ابن كثير في هذا الموضع من جواز الجمع بين المعنيين اللغوي والشرعي لا غبار عليه؛ إذ السياق يؤيده لاحتماله كِلا المعنيين باعتبارهما وجهين مقبولين لمعنى اللفظ؛ وذلك لأنّ السياق سياقُ ذكرٍ لجملة من الخصال الحميدة التي اتصف بها المؤمنون، واستحقُّوا بها المدح والثناء من الله تعالى، ووعدهم عليها بالفلاح في مطلع تعداد تلك الصفات، حيث بدأ الله تعالى السياق بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون: 1].

ولا شك أنّ كِلا الصفتين هما من صفات المؤمنين اللتَين لا يتحقّق فلاحهم إلا بهما؛ بل إنّ المتأمل لهاتين الصفتين يلحظ تكاملهما وترابطهما بحيث لا يتصوّر إحداهما دون الأخرى.

5- اتساع الدلالة من خلال جوامع الكَلِم:

يقصد بجوامع الكَلِم تلك الكلمات التي تدلّ على معانٍ كثيرة مجتمعة، وذلك حيث تكون مفردات المعنى أجزاء تتكامل فيما بينها لإنتاج الدلالة الكليّة للكلمة أو الجملة التي ننظر في دلالتها، وذلك كما في إيثار كلمة (مؤمِن) على نظائرها مثل: موقِن ومصدِّق ونحوهما، في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[يوسف: 17]،حيث تفيد من المعنى ما لا يفيده لو قال: (بمصدِّقٍ لنا ولو كنّا صادقين)؛ وذلك لأن قوله: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا}، أي: لست مصدِّقًا لنا تصديق يقين واطمئنان وركون لما نقول، وذلك «أنّ الإيمان هو التصديق الذي معه أمْنٌ»[24]، فلو أنه جاء بلفظة (مصدِّق) بدل لفظة (مؤمِن)، لذهب هذا المعنى، مع أنّ اللفظتين تشتركان في معنى التصديق؛ حيث فسّرها كذلك كثير من المفسِّرين مثل السدّي وابن إسحاق وغيرهما[25].

فمِن ثم نلاحظ أنّ المعنى هنا يتركّب من عدّة أجزاء هي مفردات الدلالة الكليّة لهذه الكلمة، ومن ثم فإن دلالة هذه الكلمة (مؤمِن) تتركّب من هذه المفردات: [مصدِّق - موقِن - مُطْمَئِنّ- راكِن]، فليس إذًا ثمة تعدّد حقيقي للمعنى؛ إِذْ إن معنى الكلمة لا يَصدُق على كلّ واحد من هذه المفردات، بل لا يصدق إلا على مجموعها، أي: يصدق عليها مجتمعة لا منفردة؛ ولذلك سُمّي مثل هذا النوع بجوامع الكَلِم لدلالته على معانٍ مركّبة للمعنى الواحد، وهي معانٍ كثيرة مجتمعة في آنٍ واحد، لا بالمناوبة بينها، ولا باعتبار دلالتها على ذوات أو معانٍ متعدّدة كما في الأنواع السابقة، وهو من أكثر الأنواع التي يظهر فيها اتساع الدلالة في الكلمة القرآنية.

- ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور: 27].

فنلاحظ أن كلمة (تَستأنِسُوا) هنا تحمل من المعاني والظلال المناسبة لهذا السياق ما لا تؤديه كلمة أخرى من الكلمات التي تعدُّ مرادفة أو -على الأصح- مقاربة لها، مثل: (تَستأذِنوا) التي فسّرها بها جمعٌ من المفسرين.

«قال بعضهم: تأويله: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تَستأذِنوا»[26].

وقال الألوسي: «{حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أي: تَستأذِنوا مَن يملك الإذن من أصحابها»[27].

وقال مجاهد: «{حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قال: تنحنحوا - أو تنخّموا»[28].

غير أنّ مقارنة سريعة بين الدلالة المعجمية لِكلتا الكلمتين (تَسْتَأْنِسُوا = تَسْتَأذِنُوا) -أو الكلمات الأخرى التي فُسِّرَت بها الكلمة باعتبارها من لوازم الاستئناس- تبيَّن لنا فضل الكلمة المختارة في الآية الكريمة على ما دونها.

قال الزمخشريّ: «{تَسْتَأْنِسُوا} فيه وجهان: أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش؛ لأنّ الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذَن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أُذِنَ له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذَن لكم، كقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}[الأحزاب: 53]، وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأنّ هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن.

والثاني: أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف؛ استفعال مِن: أنسَ الشيءَ، إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا. والمعنى: حتى تستعلِموا وتستكشِفوا الحال؛ هل يُراد دخولكم أم لا؟ ومنه قولهم: استأنِس هل ترى أحدًا، واستأنستُ فلم أَرَ أحدًا، أي: تعرّفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة:

على مستأنس وحد... ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرّف هل ثمة إنسان؟ وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: «يتكلّم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح؛ يؤذِن أهلَ البيت. والتسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخُل؟ ثلاث مرات، فإنْ أُذِن له وإلّا رجع»[29].

ويتبيّن لنا من خلال ما ذُكِر أنّ الكلمة تحمل ظلالًا كثيرة، وأنها لا يعوض عنها بكلمة واحدة بل بمجموع كلمات عديدة؛ فهي تحمل معنى الاستئذان والاستعلام والاستكشاف، وذلك يحصل بوجوهٍ كالتنحنح والتكبير أو مطلق الذِّكْر والسلام على أهل البيت ونحو ذلك مما يحصل به الأنس وزوال الوحشة بالاطمئنان إلى أن زيارته لأهل هذا البيت مرغوب فيها في ذلك الوقت، وأنها تحقّق الأنس والائتناس بين الطرفين (الزائر والمزُور)، وإلا فالأمر كما قال الله تعالى: {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[النور: 28].

ومعلوم أنه إذا التزم ألّا يدخل حتى يستأنِس لم يعرِّض نفسه لأنْ يقال له: ارجع.

«إنّ الاستئناس في الآية الكريمة ليس مجرّد الاستئذان كما وَهِمَ الذين فسّروه، وإنما هو حسّ الإيناس لأهل البيت قبل دخوله، ولا يسوغ في ذوق العربية أن يُقال مثلًا: (استأنس الشرطيّ، أو جابي الضرائب، أو الدائن) إنما هو الاستئذان، ليس منه حسّ إيناس، كما لا يسوغ استعمال (أنسَ) في رؤية عدوّ أو نار حريق، أو سماع هزيم رعد، وزئير وحش»[30].

- ومن ذلك كلمة: (يَفرَقون) في قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة: 56].

فإنها تجمع بين معاني الخوف والهرب والمفارقة؛ قال الراغب: «الفَرَق: تفرُّق القلب من الخوف، واستعمال الفرَق فيه كاستعمال الصدع والشقّ فيه، قال تعالى: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة: 56]، ويقال رجل فَرُوق وفَرُوقة وامرأة كذلك، ومنه قيل للناقة التي تذهب في الأرض نادّةً مِن وَجَعِ المخاض: فارِقٌ وفارِقة»[31].

- ومن ذلك كلمة: (لَوَلَّوْا) في قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}[التوبة: 57].

فإنها تجمع بين معاني التولِّي والإدبار والرجوع والالتجاء والإسراع في الفرار والهرب[32].

وأكثر كلمات القرآن من هذا النوع الذي يُوصف بكونه من جوامع الكَلِم؛ لثراء دلالته وكثرة معانيه.

خاتمة:

نستطيع القول في نهاية هذا المقال بعد عرض أبرز الصور والنماذج لاتساع المعنى في القرآن الكريم أنّنا قد حاولنا من خلال ما ذكرناه من أمثلة قرآنية أن نبيِّن ما لهذه الكلمات القرآنية من أثر في إثراء المعنى؛ إمّا بالدلالة على الكثير من المعاني المتراكبة المجتمعة للّفظ الواحد، وإمّا بالدلالة على المعاني العديدة المتناوبة باعتبارها وجوهًا معتبرة للمعنى يقتضيها السياق.

كما بيَّن المقال ما يُجتنَى من وراء ذلك من فوائد بلاغية تتمثّل في تحقيق الإيجاز الذي هو مقصد البلاغة وغايتها بالتعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة؛ فضول عن استيعاب العديد من المعاني وشمولها بلفظ واحد، إلى غير ذلك من الفوائد والنكات البلاغية والجمالية التي يتناغم فيها كلّ لفظ مع سياقه الوارد فيه.

وفي نهاية هذا المقال أؤكّد للباحثين من خلال معايشتي لهذا الدّرْس أنّ مبحث الدلالة رغم كثرة ما كُتِب فيه من البحوث الأصولية واللغوية لا يزال بحاجة إلى بحوث تطبيقية تتناول أنواع الدلالات القرآنية كلًّا على حِدَةٍ بدراسة تطبيقية شاملة لنماذج هذا النوع وأمثلته التطبيقية في كتابه الكريم لاستنباط الدلالات المتعدّدة لوجوه المعنى التي تفيد إفادة كبيرة؛ سواء في مجال دراسة التفسير أو في مجال الدراسات الأصولية والفقهية التي تبتغي الوقوف على أحكام القرآن الكريم.

 

 

[1] انظر: سلسلة مقالات سابقة لنا على هذا الموقع المبارك بعنوان: "دلالات الألفاظ القرآنية: أنواعها، وقيمتها، وكيفية الوقوف عليها" على هذه الروابط:
أولًا: الدلالة الصرفية: tafsir.net/article/5251.
ثانيًا: الدلالة النحوية: tafsir.net/article/5253.
ثالثًا: الدلالة الصوتية: tafsir.net/article/5254.

[2] سيأتي تعريفه وبيان أمثلته وأنواعه تفصيلًا.

[3] المقصود بها دلالة الصيغ أو القوالب الصرفية كاسم الفاعل واسم المفعول...إلخ، ومن أمثلة اتساع المعنى وتعدّده فيها: قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}[المؤمنون: 29]، عبّرت الآية بصيغة (مُفعَل) في (مُنزَلًا) وهذه الصيغة صالحة لكى تكون اسم مفعول من الفعل (أنزل)، ومصدرًا منه، واسم مكان. (انظر: نزهة الطرف لابن هشام، ص106)، الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد هنداوي، دار البشير الشارقة، ص137.

[4] وذلك حينما يحتمل السياق في الموقع الإعرابي للكلمة أكثر من معنى؛ كاحتمال اللفظ معنى الفاعلية ومعنى المفعولية مثلًا، فيكون ذلك من التعدّد الحقيقي للتمايز الواضح بين المعنيين: الفاعلية والمفعولية، وذلك كما في قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14].

[5] انظر: المحصول في علم أصول الفقه، للرازي، ت606هـ، تحقيق د/ طه جابر فياض العلواني، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، السعودية- الأولى 1399هـ- 1979م، ص359، وقد جاء فيه: «اللفظ المشترك هو: اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعًا أوّلًا». و«مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر أن المشترك نوع من أنواع العموم». انظر: المحصول، السابق.

[6] الصحاح للجوهري (3/ 949).

[7] انظر: تفسير الطبري، وصحاح الجوهري مصدرين سابقين بالعزو نفسه.

[8] تفسير الطبري (24/ 40).

[9] انظر: إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، د/ عبد الكريم بن عليّ بن محمد النملة، ط: مكتبة الرشد، الرياض، الأولى (1422هـ- 2001م)، (1/ 170- 196). وانظر: الواضح في أصول الفقه، محمد حسين عبد الله، ط: دار البيارق، الثانية (1416هـ- 1995م)، ص355- 358.

[10] انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، تحقيق: محمد العزازي، دار الكتب العلمية- بيروت، ص57 بتصرف يسير.

[11] أحكام القرآن للجصاص، ضبط نصّه: عبد السلام شاهين، طبعة دار الكتب العلمية- بيروت (1/ 112).

[12]البيان والتبيين، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة، في سؤال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عيّاش العبديّ، «قال له معاوية: ما تعدّون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز، قال له معاوية: وما الإيجاز؟ قال صحار: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ»، (1/ 96).

[13] ينظر: حلى الصاغة في شرح وتهذيب جواهر البلاغة، للسيد أحمد الهاشمي، شرح وتعليق: أ.د/ عبد الحميد هنداوي، دار البشير- الشارقة، الطبعة الأولى، 1442هـ- 2021م، ص279.

[14] تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (محمد بن يوسف ت745هـ)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، ط: دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الأولى 1413هـ- 1993م، (10/ 378).

[15] تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، (10/ 378).

[16] تفسير الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين أبو الفضل محمود الألوسي، الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت (21/ 399).

[17] تفسير الألوسي (21/ 401).

[18] تفسير ابن كثير (8/ 262).

[19] تفسير ابن كثير (8/ 262).

[20] تفسير ابن كثير (8/ 262).

[21] انظر: لسان العرب مادة (زكي).

[22] تفسير ابن كثير (5/ 462).

[23] تفسير ابن كثير (7/ 164).

[24] مفردات القرآن، للراغب الأصبهاني، ضمن مجموع: جامع البيان في مفردات القرآن، جمع وتحقيق: د/ عبد الحميد هنداوي، مكتبة الرشد- الرياض، (1/ 62).

[25] تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب، مكتبة نزار الباز، ص2110.

[26] تفسير الطبري (19/ 145).

[27] تفسير الألوسي (13/ 395).

[28] تفسير ابن كثير (6/ 40).

[29] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري (جار الله محمود بن عمر)، ط: دار المعرفة، بيروت- لبنان (4/ 396)، وقد أفاد الرازي من كلام الزمخشري فذكر نحوه في تفسيره (11/ 295)، وبنحو ما جاء عن المفسِّرين جاءت تفسيرات اللغويين لهذه الكلمة: انظر: مادة (أنس) على سبيل المثال في كل من: (لسان العرب، ابن منظور، ط: دار المعارف. تهذيب اللغة، الأزهري، ط: دار الكتب العلمية- بيروت. تاج العروس، الزبيدي (السيد محمد مرتضى).

[30] الإعجاز البياني للقرآن الكريم، بنت الشاطئ، ط: دار المعارف- القاهرة، ص201.

[31] مفردات القرآن للراغب الأصبهاني، ضمن مجموع: جامع البيان في مفردات القرآن، جمع وتحقيق: د/ عبد الحميد هنداوي، مكتبة الرشد- الرياض، (2/ 691).

[32] ينظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، تحقيق: عليّ معوض وعادل عبد الموجود، ط: دار الكتب العلمية- 2017م، (5/ 57). وانظر: تفسير الرازي، ط: دار الفكر، (16/ 99).

الكاتب

الدكتور عبد الحميد هنداوي

أستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وله عدد من المشاركات العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))