رؤية الدكتور فريد الأنصاري في بناء أصول التفسير
عرض وتحليل

طرح الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله- في كتابه "أبجديات البحث في العلوم الشرعية" رؤيةً ‏ومسارًا للعمل في أصول التفسير، هذا المقال يُسلِّط الضوء على ملامح هذه الرؤية، ويعتني بتحليلها ‏والتعليق عليها.‏

مدخل:

  لا يخفى ما للشيخ الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله- من إسهامات جوهريّة في مجال العلوم الشرعية بصفة عامّة، وعلوم القرآن بصفة خاصّة، كما أنّ للدكتور الأنصاري نظرة ثاقبة وطرحًا دقيقًا جديرًا بالعناية والاهتمام، وتسليط الضوء عليه والوقوف عنده لاستكناه رؤيته واستخراج دُرَرِه، والنَّسْج على منواله، والغوص في أعماق مراداته، واقتناص أهدافه وغاياته.

ومن هنا أردتُ أن أقف في هذا المقال مع رؤيته -رحمه الله- للتأسيس لعلم أصول التفسير بالعرضِ والتحليلِ، عَلّه يكون نبراسًا ينير فجًّا من فجاج الطريق الطويل إلى هذا المقصد الشريف، ولَبِنَة في بناء هذا الصَّرح الذي ما زالت منطلقات البحث فيه تشهد حالةً من الاختلاف والجدل بين الدارِسين.

وسوف ينتظم حديثي في هذه المقالة عبر الخطوات الآتية:

أولًا: أقدّم بمقدّمة تتضمّن نبذةً عن الشيخ الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله-، ثم تمهيدًا لموضوع هذه المقالة. ثانيًا: ذِكْر صُلْب الموضوع؛ وهو بيان الخطوات المنهجية للتأليف في أصول التفسير وقواعده من وجهة نظر الدكتور الأنصاري -رحمه الله- والتعليق على هذه الخطوات، ثم أختم بخلاصة المقالة.

مقدمة:

أولًا: نبذة عن الدكتور فريد الأنصاري:

فريد الأنصاري أديبٌ وعالمُ دينٍ مغربيٌّ، رجلٌ يمكن وصفه بالرَّجُل القرآني من الطّراز الأول، أو من طرازٍ فريدٍ؛ فله من اسمه (فريد) أوفر الحظّ والنصيب.

وُلِدَ في إقليم الرشيدية جنوب شرق المغرب عام 1380هـ/ 1960م. هيّأ اللهُ له نشأةً علميّة متينة، حيث القرآن والحديث والمتون. تدرّج في المراحل التعليمية وحصل على العديد من الدرجات العلمية في الدراسات الإسلامية متخصِّصًا في أصول الفقه، وشغل عددًا من المناصب المهمّة المرموقة في الوسط العلمي، كما تَرَك عددًا من المؤلّفات العلميّة والتربوية والأدبية والإصلاحية.

وبعد حياة مبارَكَة، مليئة بالنّشاط والحركية، تُوفي يوم الخميس السابع عشر من ذي القعدة لعام 1430هـ، الموافق الخامس من نوفمبر عام 2009م بمستشفى (سماء) بتركيا. ونُقل جثمانه إلى المغرب ليدفن هناك ويرقد في رحمات الله بإذنه سبحانه.

وكان آخر ما كَتَبَ في مؤلَّفه القيِّم (مجالس القرآن) وهو بمستشفى (سماء) في إسطنبول، قبل وفاته بأشهر مناجيًا ربه: «فيا سيّدي، ها أنا ذا قادمٌ إليك، لا أحملُ سوى فَقْرِي وحاجتي الشديدة إليك، قد أرهقتْني ذنوبي، وأثقلتْني خطاياي، وورَّثَتْنِي الآثامُ همًّا يملؤني بالنّدم والأسى، فاللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أَرْجَى عندي من عملي، أنت ربي وأنا عبدك، ولا حول ولا قوّة إلا بك، فاغفر لي وتُبْ عليّ إنك أنت التواب الرحيم».

تمهيد:

لا شَكّ أن التقعيد للتفسير هو من المعضلات التي ينشغل بها حقلُ البحث في العلوم الشرعية في الوقت الحاضر من حياة الأمة، وقد يزيد من صعوبة المهمّة هذا الانفصالُ المعرفي -شبه التام- بين حاضر الأمة الغريق وماضيها العريق، انفصال يقف عائقًا منيعًا بين هذا الجيل الذي فُرِّغ من تراثه وأصوله؛ عقيدةً وشريعةً وعلمًا وعملًا لينشغل بزَبَدٍ يذهب جُفاء لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض =وبين أن يُتِمَّ بناء ما بدأه الأسلافُ من علوم وحضارة.

كما أنّ حقل التقعيد للتفسير أو بناء علم أصول التفسير يعاني من إشكالات عديدة، من أهمها أنه إلى الآن لم تَتّفق كلمةُ الدارِسين والباحثِين على تقرّر مادة هذا العلم من عدمه؛ ففي حين يرى كثيرٌ من الْكَتَبَةِ في أصول التفسير وقواعده تقرّر هذه الأصول والقواعد عبر التاريخ وأننا بحاجة فقط لجمعها في محلٍّ واحد وشرحها، يرى فريق آخر من الباحثين والدارسين خطأ هذا المنطلق وأن أصول التفسير وقواعده بحاجّة لتقرير[1].

وَبِغَضِّ النَّظَر عن الوضعية التاريخية لأصول التفسير وقواعده وسبب عدم تبلورهما في التاريخ في صورةِ فنونٍ متكاملةٍ مما يحتاج لبحثٍ موسّع في بيان أسبابه والعوامل التي أعانتْ عليه، إلا أنه يجب النهوض بذلك والعمل الجادّ والعاجل على بَلْوَرة حقل أصول التفسير؛ فالأُمة يتعيّن عليها الآن بعد هذا اللّغط والموج المتلاطم من التفسيرات والتأويلات؛ قديمة وحديثة: ما بين تأويلات باطنيّة وإشاريّة ولغوية بَحْتَة وحَدْسية وحديثة وحداثية للنصّ القرآني، وبعد ظهور انحرافات غريبة عن هذا النصّ المقدَّس، ورغبة كثيرٍ من أصحاب الفكر المنحرف في تخطِّي النصّ بجَعْل كلّ الرؤى والمفاهيم المختلِطة والمختلَقة داخلة في ما يسمى بـ(مفهوم النصّ، ومقصِد النصّ، ورُوح النصّ، ولازم النصّ، وغاياته...إلخ)، وزعمهم أنّ هذا الاختلاق لا يُعارِض النصّ القرآني[2] =يتعيّن عليها السعي للتأصيل والتقعيد، ووضع منهج محدّد ينقشع به الظلام، ويتميّز من خلاله الخبيث من الطيّب. ولا يخفى على كلّ ذي بصيرة «أنّ المنهج هو جوهر مشكلة الأمّة، فلو استقامتْ عليه لاستقام لها كلُّ شيء»[3]، كما لا يخفى على كلِّ عاقل أنّ الفوضى والارتجال لا يصحّ التعويل عليهما في بناءٍ أو تأسيس؛ لذا تحتَّم السَّيْر وفق منهج واضح مرتّب الخطوات، منتظِم المسارات؛ لـ«أنّ المنهج ضدّ الارتجال، وأنه لا يستقيم أمرٌ بغير ترتيب، ولا يقوم بناء بغير نسق وتركيب»[4]، حيث «إنّ المنهج بمعناه العام هو منطق كلي يحكم العمل العلمي»[5]. كما أنّ بناء العلوم بحقّ «ليس هو جمع المعارف واحتطابها، بقدرِ ما هو بحث في مناهجها؛ لاقتناص أسراره، بإدراك كيفيات انبنائها، وطرائق تركيبها. وفرقٌ في مقامات العلوم بين مَنْ يروي أشكالها ورسومها ومَن يستنبط ويخترع أحكامها وقواعدها؛ إِذِ العالم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزائن ومكتبات، ولكنه الذي يعرف كيف يوظّف ما في رأسه، وما في الخزائن والمكتبات، من أجل إضافة بعض الإضافات»[6].

وبناء على ذلك؛ رأيْنا أن نعرِض لرؤية الشيخ الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله- في التأسيس لأصول التفسير؛ لما له -رحمه الله- من اتصالٍ وثيقٍ بالقرآن وعلومه، وإسهامات بارزة في مجالات البحث وتبيين المناهج وتحديد المفاهيم والمصطلحات...إلخ، بحيث يكون ذلك سبيلًا للإفادة منه في بناء حقل أصول التفسير وضبْط منطلقات البحث في هذا المجال التي تعاني حالةً من الاختلاف كما أسلفْنا، خاصّة وأن طَرْحَ (الأنصاري) رغم أهميته إلا أنه لم يحظَ بتداول موسّع؛ كونه جاء في ثنايا كتاب يشتغل بمنهجية البحث العلمي، ألَا وهو كتابه: (أبجديات البحث في العلوم الشرعية).

وبعد هذه التّقدمة ندلف إلى صلب المقالة:

الخطوات المنهجية للتأليف في أصول التفسير وقواعده عند فريد الأنصاري:

أكّد الأنصاري -رحمه الله- ابتداءً: «أنّ علوم القرآن إنما نشأتْ من أجل ضبط الفهم الصحيح للقرآن، ولذلك فإنّ خدمتها في هذا الاتجاه؛ تجميعًا وتعميقًا وتقعيدًا يعتبر من أهم المقاصد العلمية التي تقف على رأس أولويات البحث في هذه العلوم خاصّة»[7]. غير أن الأمر المشكل في هذا الصدد «أنّ ما يسمى بـ(أصول التفسير) منها لم يُبْنَ بعدُ البناء العلمي اللائق بهذه التسمية»[8]. وذلك رغم ما لأصول التفسير -حال بلورتها- من أهمية بالِغة في ضبط الفهم الصحيح للقرآن الكريم، والتقويم السليم لهذا التراث التفسيري الضخم!

ومن هنا.. فإنّ هذا يعني -حسب رؤية الأنصاري- عدم وجود سياج تقنيني ضابط للتفسير -حتى الآن- يمكن وصفه وتسميته بأصول التفسير، مع كثرة التأليف في التفسير وعلوم القرآن وتنوّعها، بل مع وجود بعض مؤلّفات موسومة بعنوان (أصول التفسير)[9]، حيث يرى أنّ علوم القرآن برمّتها إلى الآن «ما زالت قاصرة عن ذلك قصورًا منهجيًّا؛ إِذْ لم يتم تركيب مادتها في شكلِ (نظرية) أو (نظريات) متكاملة في كلياتها وجزئياتها، أي إنها لم تُصَغ صياغة الأصول بالمعنى الذي للكلمة في علم (أصول الفقه) أو علم (أصول الحديث) أو علم (أصول الدين)»[10].

 ثم بَيّنَ السبب وراء هذا القصور في بناء أصول التفسير، حيث بَيَّن أنه من الملاحظ أن العلوم الشرعية قد رُكّبتْ تركيبًا مزدوجًا يجمع بين جانبين: نظري يتعلّق بالضبط والتقعيد والتأصيل، وتطبيقي يتعلّق بالنصوص التفسيرية. «بيد أنّ التفسير بصفته شرحًا لكتاب الله بقي عريًا من أيّ سياج نظري نقدي، له نسقه الذي يحكمه، ومنطقه الذي يقنّنه ويقعّده (...) ومن هنا كان التفسير التطبيقي مرتعًا للخلل والخطل؛ من أساطير وإسرائيليات، كما كان هدفًا سهلًا لكلّ (قراءة جديدة) مغرضة، ولو ضُبط تفسير كتاب الله تعالى بنظريات منهجية تتّسم بالدّقة والعمق بحيث تشكّل مادة مركبة من ضوابط وقواعد جزئية تترابط فيما بينها... لتشكّل في النهاية كليّات جامعة مانعة تكون هي المسطرة العلميّة المشروعة لتفسير القرآن الكريم[11].

ومع ذلك يرى الدكتور الأنصاري أن هذا لا يعني خلوّ التراث التفسيري من مقوّمات بناء هذا العلم، بل على العكس، حيث يرى «أن مادة (علم أصول التفسير) بالمعنى المذكور موجودة بكثرة[12]، بل هي غالب -إن لم نَقُل كلّ- ما ورد في كتب علوم القرآن ومقدّمات كتب التفسير»[13].

بَيْدَ أنّنا إذا أردْنا البناء الجادّ لعلم أصول التفسير فإنّه ينبغي -بل يجب- أن يتم تركيب المادة التفسيرية التركيب الصحيح كما كانت لدى أصحابها، وأن تتشكّل في الواقع وفي الأذهان التشكيل المطابق لأصلها؛ «إنّنا في حاجة -قبل بناء الحاضر والمستقبل- إلى بناء الماضي وذلك هو بداية الطريق إليهما»[14]، «فتنصبّ الدراسات على علوم القرآن والتفسير؛ لاستخلاص مناهج تعاملها مع النصّ القرآني وتجميع ما تفرّق من طرائقها في كتب التراث جملة لتركيبها في (نظريات) ذات أنساق محدّدة»[15].

كما يرى -رحمه الله- إمكان الاستفادة من كثير مما كَتَبَ الأصوليون [في علم أصول الفقه] لا سيما في مباحث (الكتاب) ومباحث (الدلالة)[16]، وما كَتَبَهُ البلاغيون حول إعجاز القرآن وإعرابه، وكذا الدراسات المعاصرة عن التفسير ومناهج المفسّرين ومذاهبهم التفسيرية عامّة[17].

وقد وضع -رحمه الله- خطوات متتابعة لآفاق التأليف في أصول التفسير وقواعده، وذلك على النحو الآتي[18]:

أولًا: البحث في صُلْبِ المشروع؛ وذلك بمحاولة وضع تصوّر عام عن هيكله ومباحثه، أو بمحاولة بناء جزء من أصوله وقواعده من خلال دراسات تُنْجَز في هذه القضية أو تلك من قضايا المنهج النظري للتفسير.

قُلْتُ: حبذا لو يتمّ إنجاز هذه الخطوة من خلال عقد مؤتمرات جادّة تجمع المتخصّصين المنشغِلين بهذه القضية من شتّى بقاع العالم الإسلامي، يتم فيها تلاقح الأفكار، وطرح التصوّرات المختلفة، ومحاولة بلورة هذا التصوّر العام من خلال تقديم بحوث منهجية متخصّصة تقوم على الإدراك الواعي بالقضية، وتحديد الخطوات اللازمة الصحيحة لتجاوز العقبات القائمة التي تَحُول دون إنجاز هذا المشروع.

ثانيًا: استخراج المناهج العلميّة والنقدية من خلال كتب التفاسير من أول ما صُنِّف إلى اليوم؛ كإنجاز دراسة حول منهج الطبري في التفسير من خلال جامع البيان... والبحوث في هذا الاتجاه موجودة لكنْ يجب إتمام الاستقراء بتناول جميع كتب التفسير[19].

قُلْتُ: هذا الدّور ينبغي أن لا يفوت المؤسّسات المعنية بالقرآن الكريم وتفسيره وعلومه؛ من الكليات الشرعيّة المتخصّصة في علوم القرآن، والمعاهد العلمية المعنية بذلك؛ بل هو منوط بها، ولا مانع من التعاون فيما بينها لإنجاز هذه المهمّة، فتضع هذه وتلك الخططَ العلمية المحكمة للوصول إلى هذه الأهداف المرجوّة، فتتركّز الجهود البحثية في استقراء كتب التفسير -لا سيما المركزيّة منها- استقراء يكاد يكون جامعًا مانعًا، من خلال بحوث الماجستير أو الدكتوراه التي يتقدّم بها الباحثون في هذه المؤسّسات، فتتركّز الجهود في مسارٍ واحدٍ بدلًا من الشّتات الذي لا يُسْمِنُ ولا يُغني من جُوع، ومن التكلُّس والرّكود -وربما العُقْم- في النتاج العلمي الذي تُعَاني منه كثيرٌ من هذه المؤسّسات الآن.

ولكنه -رحمه الله- اشترط شرطًا مهمًّا في هذا الإطار، وهو ألّا تكون البحوث سطحية؛ فلا تتناول طريقة المؤلّف في تفسيره للقرآن، بإحصاء الأدوات العلمية المستعملة لديه فحسب؛ كتوظيفه للّغة مثلًا، والشِّعر، والقراءات القرآنية، والحديث النبوي...إلخ، فهذا مطلوب، نعم. بل لا بدّ من تعميق العمل؛ بأن تُستنبط القواعد المعتمَدة لدى المؤلّف عند تفسيره للقرآن، في عملية الفهم والتأويل والتوجيه، وكذا الضوابط والمقاصد المتحكّمة في العملية التفسيرية عنده، فلا بد من بيان الأصل والفرع في ذلك، وكذا الكلي والجزئي، والثابت والمتغير، والشرط والرّكن...إلخ.

ثم حالات التقديم والتأخير لهذه الأدوات، أو حالات الإعمال والإهمال لها عند التعارض، وضوابط هذه وتلك في كلّ حال، إلى غير ذلك مما يسهم في بناء النظرية التفسيرية من بَعْدُ حقًّا. إِذِ استخراج المناهج واستنباطها بهذه الصورة يعتبر خطوة مهمّة في طريق بناء علم أصول التفسير وتركيبه، باعتباره نظرية متكاملة الأطراف، وذلك بقيام دراسات وبحوث أخرى تجمع كلّ ذلك وتركّبه تركيبًا ينسّق بين أجزائه من حيث وظائفها التفسيرية؛ للخروج بكليّات محكَمة تقنّن التفسير وتضبطه.

يُلحق بهذا -كما يرى الدكتور الأنصاري- جمع المادة المنهجية النظرية للتفسير؛ من كتب علوم القرآن وكتب الأصوليين والبلاغيين وغير ذلك، وتصنيفها تصنيفًا يجعلها سهلة المأخذ بحيث يمكن توظيفها بدقّة؛ وذلك كأن تصنّف حسب مصادر التفسير وأصوله وقواعده وكلياته وجزئياته وضوابطه...إلخ.

ثالثًا: تشجيع البحث في المدارس التفسيرية المشهورة والمغمورة؛ بتجميع مادّتها وتصنيفها أولًا، وبدراستها دراسة منهجية نظرية ثانيًا؛ إمّا باعتماد الوصف أو النقد أو المقارنة أو غير ذلك من الطرائق التي تجلي الخصائص المنهجية لكلّ مدرسة تفسيرية.

وذلك نحو جمع المادة التفسيرية لمدرسة ابن عباس مثلًا من الصحابة[20]، فيشمل العمل ما أُثر عنه نفسه، أو عن أحد تلامذته خاصّة ممّن أُثر عنهم كثرة الرواية.

ونحو هذا.. جمع المادة التفسيرية لدى أصحاب الحديث؛ فتتناول الكتب الستة والمسانيد والمستدركات؛ فتصنَّف.

أو المادة التفسيرية لدى اللغويين والبلاغيين والأُدباء، فتتناول كتبَ فقه اللغة والمعاجم وكتب البلاغة والأدب، فتصنّف هي الأخرى حسب ترتيب سور القرآن وآياته.

ثم يبيّن -رحمه الله- خاتمة هذه الجهود: بأن تنهال على هذه وتلك الدراساتُ المنهجية النظرية؛ لاستنباط الضوابط والقواعد والأصول والكليات، التي تكون مادة مباشرة لبناء النظرية العامة للتفسير.

وقد أشار الدكتور الأنصاري -رحمه الله- إلى ضخامة هذا المشروع، ولذا نَوَّه إلى أنّ هذا المشروع [الكبير] يحتاج تضافر الجهود والعمل الجماعي والتشجيع المؤسّسي الرسمي وغير الرسمي ممن لهم غَيْرَة على التراث الإسلامي عامّة والعلوم الشرعية خاصّة، عسى أن يُرى بَعْدَ جيل أو أكثر من البحث الجادّ (علم أصول التفسير) وقد قام واستوى، وصار مادة منهجية ذات نسق دقيق يربط بين كلياته وجزئياته، ويبني نتائجه على مقدّماته، ويقدّم للناس مقاييس نقدية لمعرفة صحيح التفاسير من باطلها، ومستقيمها من منحرفها، ومقبولها من مردودها. فتضمَن بذلك السلامة لكتاب الله من تحريف الكَلِم عن مواضعه تفسيرًا وتأويلًا.

وبعد أن بينّا طرح الدكتور فريد في بناء أصول التفسير يمكن لنا ملاحظة الآتي:

أولًا: الناظر في طَرْح الدكتور فريد يَلْحَظُ فيه قدرًا من التناقض بين التأصيل النظري الذي بدأ به، والخطوات التفصيلية التي وضَعَهَا لمشروع بناء أصول التفسير؛ وهو ما انتبه له أحدُ الباحثين مبينًا أنّ «وجود مادة أصول التفسير وحضورها -كما يذكر الدكتور فريد- وعدم صياغتها فقط في صورة إطار نظري مرتّب =لا يُعين على القول الذي ذكره الدكتور فريد من عدم وجود أيّ سياج نظري تقنيني ضابط للتفسير، كما أنّه لا يتّسق مع تصوّره لبناء أصول التفسير وضرورة وضع تصوّر لهيكل موضوعات أصول التفسير، واستنباط واستخراج الأصول التفسيرية للمفسّرين عبر استقراء وتحليل الواقع التطبيقي التفسيري، فهذا التصوّر يوحي بعدم حضور مادة أصول التفسير وحاجتها للتأسيس من حيث هي، لا أنها موجودة وتحتاج فقط لسَبْكِ عناصرها في إطار نظري كلّي عام»[21].

على أنّنا إنْ جاوزنا التنظير وركّزنا على التصوّر التفصيلي الذي وضَعَه لبناء العلم فيمكن لنا القول بأنّ طرح الدكتور فريد شديدُ الأهمية والسّبْق في التركيز على عدم تقرّر ميدان أصول التفسير وقواعده وأنه بحاجة لتقرير وبناء، الأمر الذي يأتي على خلاف الواقع في جُلّ الكتابات المعاصرة في هذا الميدان التي تنطلق من تقرّر قواعد التفسير ومن تقرّر مادة أصول التفسير.

ثانيًا: هذا الدور الجَمْعيّ للمادة المنهجية النظرية للتفسير الذي ذكره الدكتور فريد، وكذا الجهد البحثيّ في المدارس التفسيرية المشهورة والمغمورة؛ إنما يصلح أن تقوم به -ولو في البدايات- المراكزُ البحثية الكبيرة التي تضمّ عددًا لا بأس به من المتخصّصين والباحثين المتميّزين، ولا ضَيْرَ أنْ تتعاون معها الكليات المتخصّصة، وحبذا -كذلك- لو يتشارك في مثل هذه المشروعات الضخمة عددٌ من المراكز البحثية نفسها؛ مثل مركز تفسير وغيره من المراكز البحثية المعنيّة بالدراسة في علوم القرآن وتفسيره، والمهتمّة بمحاولة التأسيس لأصوله.

ثالثًا: في ضوء خطورة هذا المشروع وأهميته فإنّه ينبغي كذلك أن يتصدّى للعمل فيه والإشراف عليه نُخَبٌ بحثية متميّزة من جهابذة العلماء الذين يُعْرَف عنهم العلم الوفير، والفهم الثاقب، والإدراك الواعي لجميع الجوانب المشكلة لهذا المشروع الكبير، إدراكًا يُسْفِر عن الخروج من هذا المخاض العسير بولادةٍ مباركة ميمونة لهذا العلم المسمّى بأصول التفسير، ولادة صحيحة قائمة على أُسُس علمية متينة، حتى لو تأخّر ذلك لجيل أو جيلين أو أكثر... لكن تصلُ الأمة بعد ذلك إلى بلورة هذا العلم الرصين.

خاتمة:

 حاولْنا في هذا المقال استخلاص رؤية الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله- في التأسيس لأصول التفسير وقواعده، من خلال المراحل التي ارتأى أنها ضرورية في مثل هذا الإطار من التأليف في العلوم الشرعية بصفة عامة، وأصول التفسير بصفة خاصّة، والصور التي يجب أن تُتّخَذ للوصول إلى هذا الهدف؛ ومنها: البحث في صُلْب المشروع، ثم استخراج المناهج العلميّة والنقديّة من خلال كتب التفاسير، وتشجيع البحث في المدارس التفسيرية المشهورة والمغمورة، ثم تنهال على هذه وتلك الدراساتُ المنهجيةُ النظريةُ؛ لاستنباط الضوابط والقواعد والأصول والكليات، التي تكُون مادة مباشرة لبناء النظرية العامة للتفسير.

 ثم يختم -رحمه الله- رؤيتَه هذه بقوله: «هذا -في نظري- أهمّ أفق للبحث العلمي في مادة علوم القرآن والتفسير، بَيْدَ أن ذلك لا يمنع من وجود آفاق أخرى قد تَصُبّ في هذا الاتجاه أو ذاك، وإنما قصدنا ههنا الإشارة إلى أُمّ القضايا للبحث في هذا العلم»[22].

وصلى اللهُ على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] للمزيد في عرض هذا الموضوع يُرجى الرجوع لدراسة: «التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقديّة لمنهجية الحكم بالقاعدية» وهي دراسة صادرة مؤخرًا عن مركز تفسير 1441هـ/ 2019م، وقد أعدّها ثلاثة من الباحثين: محمد صالح سليمان، خليل محمود اليماني، محمود حمد السيد. وقد أتاحها المركز للقراءة والتحميل على موقعه (موقع تفسير/ قسم الإصدارات).

[2] للمزيد ينظر كتاب: معركة النصّ، فهد بن صالح العجلان، دار رسالة البيان للنشر والتوزيع- الرياض، الطبعة الأولى من الإصدار الجديد، (1440/ 2018).

[3] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، فريد الأنصاري، منشورات الفرقان، الطبعة الأولى (1417هـ/ 1997م)، الدار البيضاء- المغرب، ص7.

[4] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص8.

[5] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص23.

[6] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص8.

[7] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص155.

[8] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص155.

[9] لوحدة التفسير في مركز تفسير دراسة جيدة في هذا الإطار تبيّن الخلل المنهجي الواقع في عدم التمييز بين علوم القرآن وأصول التفسير، وهي دراسة تحت عنوان: (أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة بين المؤلّفات المسماة بأصول التفسير)، وهي متوفّرة على موقع مركز تفسير.

[10] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص156.

[11] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص156.

[12] ما ذكره الدكتور فريد من عدم وجود سياج تقنيني ضابط للتفسير يتعارَض بصورة ظاهرة مع قوله بعد ذلك بوجود مادة حاضرة لأصول التفسير في بعض المظانّ، وسيأتي معنا تعليق على ذلك.

[13] لا يفوتنا أن نشير إلى الخلط الواقع قديمًا وحديثًا بين علوم القرآن وأصول التفسير، حيث يُلْحِق كثيرٌ من الباحثين جُلَّ مباحث علوم القرآن -على اختلاف درجاتها قُربًا أو بُعدًا من الجانب التأصيلي للتفسير- بأصول التفسير، وقد أشرْنا قريبًا إلى دراسة: (أصول التفسير في المؤلفات)، وهي دراسة مهمّة في هذا المجال، ومتوفّرة على موقع مركز تفسير.

[14] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص136.

[15] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص151.

[16] أشار الدكتور الأنصاري في حاشية كتاب (أبجديات البحث في العلوم الشرعية) إلى أنّ «لأبي إسحاق الشاطبي في كتابه (الموافقات) إشراقات لطيفة جدًّا في هذا الاتجاه؛ إِذْ يمكن اعتماد نصوصه منطلقات منهجية لتركيب علم أصول التفسير». أبجديات البحث في العلوم الشرعية، حاشية (4) ص156.

[17] قلتُ: لا بأس بالاستصباح بعلم أصول الفقه واستصحاب بعض ما يتسنّى من مسائله، أو الاستفادة من علوم الشريعة...إلخ، لكن بقَدر؛ فإنه وإن كانت علوم الشريعة كلّها تستضيء من مشكاة واحدة بَيْدَ أن لكلّ علم منها حيثيته التي ينطلق منها، وله تمايزاته وانفراداته التي تميزه عن غيره من علوم الشريعة؛ فقد تصلح قاعدة في علم من العلوم وهي نفسها لا تصلح في علم آخر يبدو في الظاهر أنه يتوافق معه في بعض المسائل والمباحث... غير أننا لا نماري في أنّ المادة التفسيرية وصنيع كبار المصنِّفين في التفسير أمثال الطبري وابن عطية الأندلسي وغيرهما هو الأساس المنهجي في التأصيل الصحيح لأصول التفسير.

[18] للمزيد في هذا الإطار يُرجى الرجوع لكلّ من؛ دراسة: «التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقدية لمنهجية الحكم بالقاعدية» دراسة محكّمة لمجموعة مؤلّفين. ومقالة: «مقاربة في تحرير منطلق العمل في قواعد التفسير» للباحث: خليل اليماني. وهما منشورتان على موقع (مركز تفسير).

[19] الاستقراء بهذه الصورة الشاملة لكلّ كتب التفسير يكتنفه ثلاثة أمور:
أولًا: الصعوبة البالغة في الإحاطة والاستقراء بكلّ كتب التفسير قديمًا وحديثًا ودراسة مناهجها، وقد أشار الدكتور الأنصاري إلى شيء من ذلك حيث يقول: «وإذا كان قول الدكتور الشاهد البوشيخي: (والتراث أغلب الموجود منه مخطوط، وأغلب المخطوط في حكم المفقود، وأغلب المطبوع في حكم المخطوط) حكمًا عامًّا في التراث، فإنه في العلوم الشرعية أقوى وأظهر، فتلك كتب كثيرة لا نعلمها إلا من خلال كتب الرجال والطبقات والفهارس وغيرها... وتلك كتب أخرى تصل أخبار بوجودها مخطوطة في هذه الخزانة أو تلك من الخزائن العلمية، دون أن يصل الخبر بخروجها إلى عالم النور، وأمّا ما أُخرج ونُشر فإن أغلبه يُنشر دون تحقيق علمي، فانظر إلى المطبوعات من كتب التفسير أو... فإن أكثر ما تتداوله الأيدي من ذلك إنما هو في حكم المخطوط حقًّا؛ إِذْ لم تنصبّ عليه الجهود بتوثيق نصوصه ونسبه، إلّا ما ندر». أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص134-135.
ثانيًا: وهو الأهم؛ أن كلّ علم -تقريبًا- يحوي كتبًا محدّدة؛ هي على قِلّتها بمثابة الأصول المؤسّسة لهذا العلم، وما عداها إنما يغترف منها ويسير في ركابها، سواء بالتصريح أو بالتلميح؛ نقلًا حرفيًّا أو تدويرًا وتحويرًا وتلفيقًا. وكُتُبُ التفسير على اختلاف أضرابها على هذه الشاكلة؛ فيها الغثّ وفيها السّمين، وفيها كتبٌ مركزية في التفسير كان لها أثرها النوعي الواضح في مَسِيرة التفسير، وكتب كثيرة أخرى منها ما لا يتعدّى كونه مجرّد نقل أو تكرار، أو حواشٍ أو مختصرات، أو موسوعات ومطوّلات... إلخ لم تقدّم جديدًا ولم تُضِف قليلًا ولا كثيرًا في صُلْب العملية التفسيرية.
ثالثًا: وبناء على السابق؛ فإنّ هناك الكثير من الكتب التي تحمل عنوان التفسير غير أنّ بينها وبين حقيقة التفسير بُعْد المشرِقَيْن، بما في بعضها من أباطيل لا تقوم على دليل يعضدها، أو من أقوال لا تتصل بصُلْب المعنى السياقي ولا علاقة لها بظاهر النصّ القرآني ككتب التفسير الإشاري، أو بما فيها من توسّعات وترهّلات لا تَـمُتّ إلى المعنى السياقي بصِلة، أو بما فيها من أقوال وأفكار حداثية لا علاقة لها بتأويل النصّ القرآني.
فلا شك أنّ صرف الوقت في استقراء أمثال هذه المؤلفات غير المركزية لن يفيد في التأصيل لعلم التفسير، بل سيكون في دراستها إهدار لكثير من الوقت والجهد، كان الأَوْلى به أن يُصْرَف في الكتب الأُمّهات.

[20] مع التحفّظ عند إطلاق مصطلح (مدارس) إلا إذا كان هناك اختلاف في المناهج أو منازِع الأقوال التفسيرية...إلخ، وهذا لا نكاد نجده عند السلف، لا سيما الطبقات الثلاث الأولى، بل إنْ صحّ التعبير بمصطلح المدرسة التفسيرية، فنستطيع أن نصنّف طبقات السلف الثلاث -في الغالب- بأنهم مدرسة واحدة؛ لعدم ظهورِ كبيرِ فَرْقٍ بينهم.

[21] انظر بحث: (البناء النظري للتفسير؛ قراءة في المنجز، مع طرح رؤية للنهوض بالبناء النظري للتفسير)، للباحث/ خليل محمود اليماني، وهو بحث منشور على موقع تفسير. وهذا البحث فيه عناية بذِكْر تقويم مجمل لطرح الدكتور فريد وإيراد بعض الملحوظات عليه، وقد أفدتُ منه في الانتباه لبعض التناقض في طرح الدكتور فريد.

[22] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص158- 159.

الكاتب

هشام أحمد محمد

حاصل على ليسانس اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وشارك في عدد من المشروعات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))