بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري

تسعى هذه المقالة إلى رصد التشابهات والاختلافات بين التفسير الصوفي الإشاري، والتفسير الصوفي النظري؛ فيما يخصّ بعض النظريات والأدوات الموظّفة في كلّ منهما، وذلك من خلال التطبيق على أنموذجَيْن، وهما تفسير ابن عربي كأنموذج للنظري، وتفسير ابن عجيبة كأنموذج للإشاري.

المدخل:

بسـم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:

  لقد أثار كلٌّ من التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النّظري جدلًا كبيرًا في ساحة التفسير؛ حيث إنّ هناك من يرفض هذين النوعَيْن من التفسير جملةً وتفصيلًا، وهناك من يقبل الإشاري دون النظري.

والتفسير الصوفي الإشاري يمكن -كما هو مقرَّر- أنْ يكون مُفيدًا في تدبُّر القرآن الكريم؛ لكن التفسير الصوفي النّظري يشكِّل خطرًا على هذا النوع من التفسير أو التدبُّر؛ لأنه -وكما سيظهر معنا- لا يُقِرّ بظاهر القرآن، ويستند إلى نظريات نابعة من ثقافات غير إسلامية.

يتبيّن إذَنْ أنّ لدينا جامعًا مشتركًا هو التفسير الصوفي، وافتراقًا في الممارسات بين الإشاري والنظري، وبالتالي نحتاج إلى التركيز على فهم أوجه الاتفاق والافتراق بينهما؛ قَصْد تجاوز ثغرات التفسير الإشاري وبنائه وفق أصول التفسير المعتبَرة من الشّرع، وكذلك قصد تجاوز زلّات التفسير النظري وتخليصه من النظريات الفلسفية التي تتناقض مع الأصول الإسلامية.

وفي هذا السياق، تمّ تقسيم هذه المقالة إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها يهتمُّ بالتأصيل للأمور التي ستتمّ من خلالها المقارنة بين التفسير الإشاري والتفسير النظري، والثاني مُخصَّص لبحث أوجه التشابه بينهما، والثالث مُخصَّص لأوجه الاختلاف؛ وذلك بعد تمهيد يُعرِّف بالتفسير الصُّوفي وبنَوْعَيْه الإشاري والنظري، ويذكُر محدِّدات المعالجة. وفي الخاتمة أهم النتائج والخلاصات والتوصيات المنبثقة عن البحث.

التمهيد: تعريف التفسير الصوفي:

التفسير لغةً واصطلاحًا:

التفسير في اللغة: «الإيضاح والتبيين (...). والتفسير في الاصطلاح: علمٌ يُبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقَدْر الطاقة البشرية»[1].

التصوُّف لغةً واصطلاحًا:

أصل كلمة تصوُّف:

وقع الاختلاف في «أصل هذه الكلمة (تصوّف)، فقيل: إنّها مشتقّة من الصُّوف؛ وذلك لأنّ الصُّوفية خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب فلبسوا الصّوف تقشُّفًا وزُهدًا. وقيل: إنّه من الصّفاء، وذلك لصفاء قلب المريد، وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربِّه. وقيل: إنّه مأخوذ من الصُّفَّة التي يُنْسَب إليها فقراءُ الصّحابة المعروفون بأهل الصُّفَّة. ويرى غيرهم أنّه لقب غير مشتقّ»[2].

معنى التصوُّف اصطلاحًا:

التصوُّف هو «ضربٌ من التَّأمُّل، والنّظر، والتدبُّر في ملكوت السماوات والأرض»[3]، وهو «فِكْر، وعمل، ودراسة، وسلوك»[4].

وينقسم التصوُّف إلى قسمين أساسيّين:

«تصوف نظري: وهو التصوّف الذي يقوم على البحث والدِّراسة.

وتصوف عملي: وهو التصوّف الذي يقوم على التّقشُّف والزُّهد والتَّفاني في طاعة الله»[5].

التفسير الصوفي باعتباره مركّبًا إضافيًّا:

انطلاقًا ممّا سبق يمكن أن نُعَرِّفَ التفسير الصوفيّ بأنّه: ضَرْبٌ من التَّأمُّل، والنّظر، والتّدبُّر في آيات القرآن الكريم.

أنواع التفسير الصوفي:

انقسام التصوُّف إلى قسمين كان له «أثره في تفسير القرآن الكريم؛ ممّا جعل التفسير الصّوفي ينقسم أيضًا إلى قسمين: تفسير صوفي نظري، وتفسير صوفي فَيْضي أو إشاري»[6].

التفسير الصوفي النظري:

وُجِدَ مِن المتصوّفة «مَنْ بَنى تصوُّفه على مباحث نظرية، وتعاليم فلسفية (...)، غير أنّ الصوفي حرصًا منه على أنْ تَسْلَم له تعاليمه ونظرياته، يحاول أنْ يجد في القرآن ما يشهد له أو يستند إليه، فتراه من أجل هذا يتعسّف في فهمه للآيات القرآنية، ويشرحها شرحًا يخرج بها عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع، وتشهد له اللُّغة»[7].

التفسير الصوفي الإشاري أو الفَيْضي:

هو «تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفيّة تظهر لأرباب السُّلوك»[8].

محدِّدات معالجة الموضوع:

تسعى هذه المقالة إلى رَصْد التشابهات والاختلافات بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النّظري، فيما يخصّ بعض النظريات والأدوات التي يوظِّفانها.

وتقتصر معالجة الموضوع في جانبها التطبيقي على أنموذجَيْن في مجال التفسير الصوفي، وهما: محيي الدين بن عربي بالنسبة للتفسير الصوفي النظري، وابن عجيبة التِّطْواني بالنسبة للتفسير الصوفي الإشاري.

إنّ اشتغال محيي الدين بن عربي بالتفسير الصّوفي النظري لا يخفى على أحد، وهذا واضح من خلال مؤلّفاته: (فصوص الحكم)، و(الفتوحات المكية)، و(إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن)، وغيرها كثير.

كما أنّ اشتغال ابن عجيبة التِّطْواني بالتفسير الصّوفي الإشاري لا يخفى على أحدٍ أيضًا، وهذا جَلِيٌّ في تفاسيره: (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد)، و(التفسير الكبير للفاتحة)، و(التفسير الوسيط للفاتحة)، ومؤلّفاته الأخرى.

وأهمية اختصاص المقارنة بهما في فكرة التفسير الصوفي تكمُن في الاختلاف الواضح بين منهجية ابن عجيبة ومنهجية ابن عربي؛ حيثُ يمكن اعتبار تفسير ابن عربي أنموذجًا للتفاسير الصوفية الأكثر توظيفًا للنظريات الفلسفية، كما يمكن اعتبار تفسير ابن عجيبة أنموذجًا للتفاسير الصوفية الأكثر اقترابًا من أصول أهل السُّنَّة والجماعة.

القسم الأول: التأصيل للأمور التي ستتمّ من خلالها المقارنة بين التفسير الإشاري والتفسير النظري:

لقد اقتصرنا في هذا التأصيل على بعض العناصر التي لها علاقات بالمسائل الوجودية الكبرى، والتي أثارتْ جدلًا أكثر من غيرها حول مسألة التفسير الصوفي. وأيضًا؛ فإنّ هذه المسائل يختلف التعاطي معها منهجيًّا بين التفسير الإشاري والتفسير النظري، وإن اتّفقا على بعضها في الجملة.
ومن هذه العلاقات الوجودية نذكر: علاقة اللغة بالوجود، وعلاقة الأخلاق بالوجود، وعلاقة الوجود بالخالق.

أولًا: علاقة اللغة بالوجود:

العلاقة بين اللفظ والمعنى قضية لغوية في البداية ووُجودية في النهاية؛ ذلك أنّ العلاقة بين الدالّ والمدلول إنّما هي علاقة بين العقل والواقع، أو بين الفكر والوجود[9].

ومن المسائل التي تتعلّق بهذه العلاقة عند الصوفية: مسألة الظاهر والباطن، ومسألة الإشارة والرمز، ومسألة التأويل.

مسألة الظاهر والباطن:

يعتقد الصوفية أنّ «كلّ نصٍّ جاءت به الشريعة -سواء تعلّق بالعقائد أو بالعبادات أو بالآداب- له معنيان، أو ظهرٌ وبطنٌ:

المعنى الأول: ظاهرٌ يمكن الوصول إليه من خلال دلالة اللفظ الوضعيّة أو السِّياق ونحوهما من قوانين اللّغة وقواعد التفسير؛ وسُمِّيَ ظاهرًا لأنه ظهر للخَلْق (...).

المعنى الثاني: باطنٌ لا يُرشِد إليه اللّفظ بأيٍّ من دلالاته المعتبرة سواء كانت جليّة أو خفيّة، وإنما هو معنًى ما ورائيّ يفصل بينَه وبين المعنى الظاهريّ للنصوص مفاوز، فــهو العِلْم الذي فوق طور العقل»[10].

مسألة التأويل:

هو «صرف الآية إلى معنى تحتمله»[11]؛ ممـّا أفسح المجال أمام الصوفية «للتمييز -في النّص القرآني- بين مستويين: مستوى الدلالة اللغوية التي طابقوا بينها وبين (الظاهر)، ومستوى الدلالة الإشارية أو الرمزية التي طابقوا بينها وبين (الباطن)»[12].

مسألة الإشارة والرّمز:

الإشارة هي «الإِخبار من غير الاستعانة إلى التعبير باللسان (...)، وفلان صاحب إشارة معناه أن يكون كلامه مشتملًا على اللطائف والإشارات وعلم المعارف»[13].

ولا بدّ من التأكيد في هذا السياق على الفرق بين الرمز والإشارة، لأنّ الرمز «معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر، بخلاف الإشارة التي هي ما يخفى عن المتكلّم كَشْفُه بالعبارة؛ لِلَطافَةِ معناه»[14].

وتختلف التفاسير الصوفية في درجة توظيفها للإشارات أو للرموز في تعبيرها عن (المعنى الباطني).

ثانيًا: علاقة الأخلاق بالوجود:

من المسائل التي تتعلّق بهذه العلاقة عند الصوفية: مسألة الأخلاق والسلوك، ومسألة الجبر والاختيار.

مسألة الأخلاق والسلوك:

يُعرِّف أبو حامد الغزالي الأخلاق أو الخُلُق بأنّه: «عبارة عن هيئة النّفْس وصورتها الباطنة»[15]؛ لكن المذاهب الأخلاقية للصوفيّة تختلف باختلاف منطلقاتها الفكرية والسلوكية.

مسألة الجبر والاختيار:

إنّ موقف أهل السُّنة والجماعة من أفعال العباد هو موقف وسط بين القائلين بالجبر المطلق (الجبرية) والقائلين بالاختيار المطلق (القدرية والمعتزلة)، حيث إنّ أهل السنّة والجماعة «يعتقدون أنّ أفعال العباد تُنسب إليهم فِعْلًا وكَسْبًا، وتُنسب إلى الله خَلْقًا وقَدَرًا وإيجادًا»[16].
والصوفية يختلفون في هذه المسألة، فمنهم من يتبنَّى موقف أهل السنّة والجماعة، ومنهم من يتبنّى موقف الجبرية.

ثالثًا: علاقة الوجود بالخالق:

من المسائل التي تتعلّق بهذه العلاقة عند الصوفية: مسألة الحلول والاتحاد، ومسألة القِدَم والحدث.

مسألة الحلول والاتحاد:

الاتِّحاد والوحدة سيّان، وهما مِن «المصطلحات التي تغصّ بها كتب الصّوفية المتفلسفة، وعليه، فإنّ الحلول يختلف عن الاتّحاد؛ لأنّ الأوّل لا يقتضي تصيير الذّاتَيْن ذاتًا واحدة، بل مجرّد حلول الحالّ في المحلّ؛ كحلول الماء في الإناء، بينما الاتحاد يقتضي تصيير الذّاتَيْن ذاتًا واحدة»[17].

مسألة القِدَم والحدث:

اختلف الصّوفية في هذه المسألة «ولـمّا سُئل سيد هذه الطائفة الجُنيد (ت298هـ) عن التوحيد قال: (التوحيد إفراد القِدَم من الحدث). أنكر ذلك ابن عربي، وادّعى أنّ الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد؛ وذلك لأنّهم أثبتوا وجودَيْن؛ وجود العبد ووجود الربّ، وفرّقوا بين العبد والربّ، والتوحيد يقتضي خلاف ذلك في نظره»[18].

فما هي أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري، فيما يخصّ النظريات والأدوات التي تتعلّق بهذه المسائل الوجودية الكبرى، وكيف تعاطى معها منهجيًّا كلٌّ من ابن عجيبة وابن عربي؟

القسم الثاني: أوجه التشابه بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري:

يَعْرِضُ هذا القسم لبعض النظريات والأدوات التي يشترك فيها كلٌّ من التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري؛ مع اختلافٍ في التعاطي المنهجيّ معها:

أوّلًا: النظريات المشتركة بين كِلَا النوعين من التفسير:

نظرية الظّاهر والباطن:

يستخدم كلّ من التفسير الإشاري والتفسير النظري نظرية الظاهر والباطن، إلّا أنّ تعامل ابن عربي مع الظاهر والباطن ليس كتعامل ابن عجيبة؛ حيث إنّ ابن عربي يربط الباطن بالنظريات الفلسفية التي تتعارض مع ظاهر القرآن؛، خاصّة نظرية الحلول والاتحاد بقوله إنّ الروح الإلهي المعنوي في الصّورة «هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن، من عَبَرْت الوادي إذا جُزته، وهو قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[النور: 44]»[19].

بينما يربط ابن عجيبة الباطن بالإشارات التي تظهر للمتصوّفة والتي لا تُنافي ظاهر القرآن، حيث يقول في إشارة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}: «وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها عِلْم الرسوم الظاهرة، فيُصِيب به من يشاء، ممّن أريد لحملِ الشرائع والقيام بها، ويَصْرِفُه عمّن يشاء، ممّن أُريد أن يكون من عامّة الناس»[20].

نظرية الأخلاق:

يُركِّز جميع المتصوّفة على مسألة الأخلاق؛ إلّا أنّ المذهب الأخلاقي لابن عربي يختلف عن المذهب الأخلاقي لابن عجيبة؛ حيث يربط ابن عربي الأخلاق بـ«الذّوْق والمحبّة، وهذه الأخيرة في نظره تمثّل أصل الوجود، يعني أنّه يعزو أصل الوجود إلى الحبّ، حبّ الخروج من الكَنْزِيّة، مستندًا في ذلك إلى الحديث القدسي -الموضوع[21]-: (كنتُ كنزًا مخفيًّا فأحببتُ أنْ أُعْرَف، فخلقتُ الخَلْق، فَبِي عرفوني)»[22].

بينما بَسَط ابن عجيبة الحديث في إشاراته عن آداب السلوك، والأخلاق، والمقامات، والثمرات... وربط ذلك بمقام الإحسان[23]؛ حيث يقول في إشارة قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195]: «{وَأَحْسِنُوا} أي: ادخُلوا في مقام الإحسان؛ بأنْ تعبدوا الله كأنكم ترونه»[24].

ثانيًا: أدوات كِلَا النوعين من التفسير:

التأويل:

يقول ابن عربي في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة: 6- 7]: «يا محمد، إنّ الذين كفروا: ستروا محبتهم فيّ عنهم، فسواء عليهم أأنذرتهم: بوعيدك الذي أرسلتُك به، أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك (...)، وكيف يؤمنون بك، وقد ختمتُ على قلوبهم: فلم أجعل فيها مُتّسعًا لغيري»[25].

وخلافًا لابن عربي الذي يؤوِّل (الختم على القلوب) بـ(المحبة)، فإنّ ابن عجيبة يؤوِّله بــالظاهر وهو (الكفران)، بقوله: «يقول الحقّ -جلّ جلاله-: يا محمّد {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بما أُنزل إليك جهرًا، وسبقت لهم منّي الشقاوة سرًّا، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار (...)؛ لأنّي ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران»[26].

الإشارة:

يوظِّف كلّ من التفسير الإشاري والتفسير النظري الإشارات؛ حيث حاول ابن عجيبة في تفسيره أنْ يُقدِّم لنا «من خلال الإشارات منهجًا تربويًّا صوفيًّا إسلاميًّا متكاملًا»[27]. والتفسير الإشاري عنده «لا يصحّ ذكره إلّا بعد تقرير الظاهر»[28]؛ وكذلك ابن عربي فإنّه يرى أنّ الإشارات «لا تجري مجرى التفسير، ولكن تجري مجرى الدلالة»[29].

إلّا أنّ تعاطيهما المنهجي مع الإشارات يختلف: فإشارات ابن عربي تستند خاصّة إلى النظريات الفلسفية؛ ومنها نظرية وحدة الأديان، حيث يقول في إشارة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]: «أفرد نفسه بالكاف في الموضعَيْن؛ لأنه المعبود وحده، ولا يُعبد غيره، والمطلوب منه؛ لأنه المُعِين وحده بكلّ وجه، يؤيّد ذلك قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}»[30].
بينما إشارات ابن عجيبة -بِغَض
ّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مضمونها- فإنها لا تستند لما استند إليه ابن عربي، وفي الكثير منها عدم منافاة لظاهر القرآن، حيث يقول مثلًا في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: «لـمّا تجلّى الحقّ -جل جلاله- من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضًا وتنزّل من عالم الملكوت إلى عالم الـمُلْك بقدرته وحكمته؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته؛ فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحِكْمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالمَ الحِكْمة يخاطِبُ عالمَ القدرة؛ ويخضع له، ويتعبّد ويستمد منه الإعانة والهداية»[31].

يتبيّن ممّا سبق أنّ كلًّا من التفسير الإشاري والتفسير النظري يُوظِّفان عدّة نظريات وأدوات مشتركة، منها: نظرية الظاهر والباطن، ونظرية الأخلاق، كما يَستخدِمان أداتي التأويل والإشارة. وهذه النظريات والأدوات يستسيغها بعضُ علماء الإسلام في حالة التفسير الإشاري الذي لا يُنافي ظاهر الآيات؛ لكن التفسير النظري غالبًا ما يُناقض ظاهر القرآن، كما أنّه ينفرد بنظريات وأدوات أخرى هي محلّ جدل بين العلماء.

القسم الثالث: أوجه الاختلاف بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري:

هذا القسم يُفَصِّل أكثر في النظريات والأدوات التي ينفرد بها التفسير النظري، بالمقارنة مع التفسير الإشاري.

أوّلًا: نظريات التفسير الصوفي النظري:

نظرية الحلول والاتحاد:

مَذْهب ابن عربي في وحدة الوجود لا يُفَرِّق بين الخالق والمخلوق[32]؛ حيث يقول في تفسيره لآية [فصلت: 53]: «قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} وهو ما خرج عنك، {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} وهو عينك، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} أي للنّاظِر، {أَنَّهُ الْحَقُّ} من حيث إنّك صورته وهو روحك. فأنت له كالصّورة الجسمية لك، وهو لك كالرّوح المدبّر لصورة جسدك (...). وصور العالم لا يمكن زوال الحقّ عنها أصلًا»[33].

بينما ابن عجيبة يذهب مَذْهب الجُنيد في (إفراد القِدَم من الحدث)، ويرى بأنّ الآيات الكونية هي فقط دالّة على وجود الله؛ بقوله في تفسير الآية السابقة: «أي: سنُريهم آياتنا الدالّة على وجودنا في الآفاق، وفي أنفسهم، أي: في العوالم المنفصِلَة والمتّصِلة، حتى يتبيّن لهم أنّه الحقّ، أي: وجوده حقّ؛ لأنّ الصَّنعَة قطعًا تحتاج إلى صانع»[34].

نظرية وحدة الأديان:

تدّعي هذه النظرية أنَّ كلَّ مَن عَبَدَ غير الله فعبادته صحيحة، وإن كانت تبدو في ظاهرها شِرْكًا[35]؛ حيث يقول ابن عربي: «يؤيّد ذلك قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء: 23]، والألوهية هي المعبودة من كلّ معبود، ولكن أخطؤوا في النِّسْبَة»[36].

بينما يرى ابن عجيبة بأن {قَضَى} ليست بمعنى (القضاء) حيث يقول: «{قَضَى}، هنا، بمعنى حَكَم وأوجب وأمَر، لا بمعنى القضاء؛ إِذْ لو كان كذلك لما عُبِد غيرُ الله»[37].

يرى ابن عربي إذَنْ بأنّ الأديان واحدة حيث لم يُعبد غيرُ الله، ولكن أخطؤوا في النِّسْبة. بينما يرى ابن عجيبة بأنّ اللهَ أُشْرِك بالعبادة، وليس خطأً في النِّسْبَة فقط.

ثانيًا: أدوات التفسير الصوفي النظري:

القول بالجبر:

ينفي ابن عربي الجزاء من ثواب وعقاب بناءً على القول بالجبر؛ حيثُ يقول عند تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة: 7]: «سُمِّيَ عذابًا ما يقع به الآلام بُشْرَى من الله لعباده، أنّ الذي تتألمون به لا بدّ إذا شملتكم الرحمة أنْ تَسْتَعْذِبُوه وأنتم في النار، كما يستعذب المقرور حرارة النار والمحرور برودة الزمهرير؛ ولهذا جَمَعَت جهنم النار والزمهرير لاختلاف المزاج، فما يقع به الألم لمزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر يضاده، فلا تتعطّل الحكمة، ويُبقي الله على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين، والنار على المقرورين فينعمون في جهنم»[38].

بينما ابن عجيبة يُقِرّ بالجزاء؛ حيث يقول في تفسيره لآية [غافر: 17]: «قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس البَرّة والفاجرة، {بِمَا كَسَبَتْ} من خير أو شرّ، وهذا من تَتِمَّة الجواب، أو: حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب، {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} بنقص ثواب أو زيادة عذاب»[39].

يَميل ابن عربي إذَنْ في نظريته الأخلاقية إلى موقف الجبرية من أفعال العباد؛ لذا فهو يُنْكِر عذاب الكفار في النار. بينما ابن عجيبة يميل أكثر إلى موقف أهل السنّة والجماعة من ذلك.

اللغة الرمزية:

زاد ابن عربي «حروف اللغة رمزيةً أكثر بما أضفى عليها أبعادًا ميتافيزيقية»[40]، يمكن ربطها بما يُسمّى في فلسفة اللغة بالروابط المنطقية[41]، حيث يقول في إشارة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]: «والربّ هنا أيضًا معمول للام الجر، والعالمين في موضع خفض بالإضافة لا باللام، فإنّ الربّ هنا هو المضاف إلى العالم»[42]؛ وكأنّه هُنا يربط إضافة {رَبِّ} لــِ{الْعَالَمِينَ} بنظرية الحلول والاتحاد.

إشارات ابن عربي إذَنْ هي أكثر رمزيةً من إشارات ابن عجيبة الذي يقول: «قال رجل بين يدي الجُنيد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، ولم يقل: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فقال له الجُنيد: كَمِّلْها يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْرٍ للعالمين حتّى تُذكر معه؟ فقال الجُنيد: قُلْهَا يا أخي؛ فإنّ الحادث إذا قُرِنَ بالقديم تلاشَى الحادثُ وبقي القديم»[43].

يتبيّن إذن ممّا سبق أنّ التفسير الصوفي النظري ينفرد بعدّة نظريات وأدوات؛ منها: نظرية الحلول والاتحاد ونظرية وحدة الأديان، وأداتا القول بالجبر واللغة الرمزية الباطنية. وهذه النظريات والأدوات مرفوضة من طرف أهل السنّة والجماعة؛ لأنها تَؤُول في ظاهرها إلى التَّشبيه، والشِّرك، وإلى معتقدات الجبرية والباطنية.

الخاتمة:

نتائج وخلاصات المقالة:

بيّنَت المقالة بعض أوجه التشابه والاختلاف بين التفسير الصوفي الإشاري والتفسير الصوفي النظري فيما يخصّ النظريات والأدوات التي يوظِّفانها، وظهر من خلال ذلك أنّ:

التفسير الصّوفي الإشاري قد يكون مقبولًا كتدبُّر للقرآن الكريم، إذا كان مُستجيبًا للشروط التي حدّدها العلماء؛ بخلاف التفسير الصوفي النظري فيرفضه الجمهور؛ لأنّ تطبيق نظريّات غير إسلاميّة على التفسير يُخرج الآيات القرآنية عن ظاهرها وعن معناها الشرعي، ويزيغ بذلك المـُفَسِّر عن أصول أهل السُّنَّة والجماعة.

التوصيات:

 يمكن أن تنبثق عن هذه المقالة عدّة توصيات، منها:

- إخضاع التفسير الإشاري إلى أصول التفسير المعتبَرة من الشرع؛ وذلك من أجلِ تفادي التأثيرات السلبية للتفسير النظري عليه، وتجنُّب التكلُّف في تدبُّر القرآن الكريم.

- إجراء التفسير النظري على مقتضى الظاهر المقرَّر في لسان العرب، وعلى مقتضى المقاصد العربية وشواهد الكتاب والسنّة الصحيحة؛ بهذه الطريقة يمكن تخليصه من النظريات الفلسفية المنافية للأصول الإسلامية.

والحمد لله ربّ العالمين

 

[1] مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1362هـ- 1943م، (2/ 3).

[2] التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، (2/ 250).

[3] التفسير والمفسرون، (2/ 250).

[4] التفسير والمفسرون، (2/ 250).

[5] التفسير والمفسرون، (2/ 251).

[6] التفسير والمفسرون، (2/ 251).

[7] التفسير والمفسرون، (2/ 251- 252).

[8] التفسير والمفسرون، (2/ 261).

[9] يُنظر: تلقّي التفكيكية في النقد العربي الحداثي، أحمد العزري، جامعة مولود معمري، الجزائر، 2012م، ص100.

[10] نظرية الظاهر والباطن عند الصوفية، د. العواد، مجلة العلوم الشرعية، العدد: 51، 1440هـ، ص35- 36.

[11] معجم مصطلحات الصوفية، د. عبد المنعم الحنفي، دار المسيرة، بيروت، ط3، 1407هـ- 1987م، ص41.

[12] التأويل عند الغزالي؛ نظريةً وتطبيقًا، د. عبد الجليل سالم، مكتبة الثقافة الدينية، 1425هـ- 2004م، ص45.

[13] معجم مصطلحات الصوفية، ص16- 17.

[14] الأدب الصوفي الإشارة والعرفان، د. عبد الله شطاح، جامعة الأغواط، الجزائر، ص66- 67.

[15] نظرية الأخلاق في ضوء التصوّف الفلسفي، د(ة). لغرس سوهيلة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة معسكر، الجزائر، ص27.

[16] موقف الفِرق الإسلامية من أفعال العباد، سعد عبد الله عاشور، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد: 9، العدد: 2، 2001م، ص261.

[17] نظرية الاتحاد وصلتها بوحدة الأديان في الفلسفة الصوفية، د. عرفات، جامعة سوران، العراق، 2009م، ص4.

[18] نظرية الاتحاد وصلتها بوحدة الأديان في الفلسفة الصوفية، ص4- 5.

[19] رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن، وعلى هامشه إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن، محيي الدين بن عربي، جمع: محمود الغراب، مطبعة نضر، 1410هـ- 1989م، (1/ 419).

[20] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، أحمد بن عجيبة، تحقيق: أحمد رسلان، طبع: د. حسين عباس زكي، القاهرة، 1419هـ- 1999م، (4/ 52).

[21] لا أصل له اتفاقًا. يُنظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني، رقم الحديث: 6023، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1425هـ- 2004م، (13/ 50).

[22] نظرية الأخلاق في ضوء التصوّف الفلسفي، ص29.

[23] يُنظر: البحر المديد، (1/ 37).

[24] البحر المديد، (1/ 223- 224).

[25] يُنظر: التأويل وإنتاج الدلالة في النصّ الصوفي، رشيد عمران، تحت إشراف: د. محمد بوعمامة، جامعة باتنة، الجزائر، ص119.

[26] البحر المديد، (1/ 76).

[27] البحر المديد، (1/ 5) (المقدمة).

[28] البحر المديد، (1/ 37) (المقدمة).

[29] رحمة من الرحمن، (1/ 26).

[30] رحمة من الرحمن، (1/ 29).

[31] البحر المديد، (1/ 59- 61).

[32] يُنظر: نظرية الاتحاد وصلتها بوحدة الأديان، ص4- 5.

[33] فصوص الحكم، محيي الدين بن عربي، شرح: القاشاني، آفاق للنشر والتّوزيع، القاهرة، ط1، 2016م، ص69.

[34] البحر المديد، (5/ 190- 191).

[35] يُنظر: التأويل وإنتاج الدلالة في النصّ الصّوفي، ص118.

[36] رحمة من الرحمن، (1/ 29).

[37] البحر المديد، (3/ 192).

[38] رحمة من الرحمن، (1/ 62- 63).

[39] البحر المديد، (5/ 121).

[40] وحدة الوجود عند محيي الدين بن عربي من منظور استشراقي، أ.د: طالب العنزي، وم.م: سلمى علوان، كلية التربية للبنات، جامعة الكوفة، 2012م، ص196.

[41] يُنظر: اللغة والمنطق مدخل نظري، د. أبو بكر العزاوي، طوب بريس، المغرب، 2014م، ص39 وما بعدها.

[42] رحمة من الرحمن، (1/ 25).

[43] البحر المديد، (1/ 58).

الكاتب

إبراهيم بنيحيى

حاصل على شهادة الإجازة تخصص العقيدة والفكر، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))