المتشابه اللفظي في القرآن الكريم
مفهومه، مصنفاته، أهميته، فوائده، نموذج منه

لا يخفى أهمية دراسة المتشابه اللفظي في بيان أحدِ وجوه إعجاز القرآن الكريم، وتهدف هذه المقالة إلى الكشف عن مفهوم المتشابه اللفظي، ومظانّ التأليف فيه قديمًا وحديثًا مع تعدُّد اتجاهاتها، وبيان أهمية المتشابه اللفظي، وفوائده، مع عرض نموذج منه.

  يمثّل المتشابه اللفظي وجهًا من وجوه إعجاز النَّظْم الكريم؛ لما يحوي من الأسرار البيانية والنكات البلاغية التي تشتمل عليها آيات المتشابه التي يتقارب تشكيلها اللغوي الظاهري، وتتّسع آفاقها الدلالية المتنوّعة. ولا يخفى شرف هذا الموضوع الذي نشأ في رحاب علوم القرآن الكريم، ثم ازدهر بعد ذلك في الحقل البلاغي فتوسّع التأليفُ فيه. وتقصد هذه المقالة الكشفَ عن مفهوم المتشابه اللفظي، ومظانّ التأليف فيه قديمًا وحديثًا مع تعدّد اتجاهاتها، وأهمية المتشابه اللفظي، وفوائده، وعرض نموذج منه.

أولًا: تعريف المتشابه اللفظي لغةً، واصطلاحًا:

1. المتشابه اللفظي لغةً:

المتشابه اللفظي مركّب وصفي يتكوّن من كلمتين، أمّا كلمة المتشابه فهي اسم فاعل من (التشابه)، ويرِد التشابه على معنيين، هما: التماثل، والتلابس، يقول الجوهري (393هـ): «المشتبهات من الأمور: المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات»[1]. وكذلك ورَد عند ابن فارس (395هـ): «الشين والباء والهاء أصل واحد يدلّ على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا»[2].

أمّا كلمة اللفظي فهي من مادة (لفظ)، وقد عرّفها صاحب المقاييس: «اللام والفاء والظاء كلمة صحيحة تدلّ على طرح الشيء، وغالب ذلك أن يكون من الفم»[3].

وأخلص مما سبق أنّ المتشابه اللفظي هو ما تشابه من الكلام المنطوق، وقد يؤدّي هذا التشابه إلى اللّبس؛ وقيد باللفظي لإخراج غيره منه، وهو المتشابه المعنوي، وهو الذي يقابل المحكم، فالمتشابه المعنوي هو ما استأثر الله بعلمه، وما احتمل أوجُهًا، واحتاج إلى غيره في بيانه. والمحكم عكسه، ما عُرِف المراد منه، وما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، وما استقلّ بنفسه»[4].

2. المتشابه اللفظي اصطلاحًا:

مما لا شك فيه أن المعنى الاصطلاحي يُستمد من المعنى اللغوي، فإذا كان المعنى اللغوي هو التماثل والتساوي فإن هذا التعريف هو قطب الرّحى للمتشابه اللفظي، كما أنّ في المعنى اللغوي الآخر التشاكل والالتباس؛ فهذا قد يكون مؤدّاه النظرة العجلى للمتشابه اللفظي وعدم التفتيش في أسراره والتدبّر لأحوال مقاماته، وقريب من ذلك ما قاله ابن قتيبة (276هـ): «ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمر، إذا اشتبه غيره فلم تكد تفرّق بينهما»[5].

ولعلّ من أول التعريفات الاصطلاحية للمتشابه اللفظي هو ما نقله الطبري (310هـ) عندما أراد أن يفرّق بين المحكم والمتشابه، فعرّف المتشابه بقوله: «هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني»[6].

ووصفه ابن المنادي بقوله: «ولقّبوه (المتشابه)... وحداهم كون القرآن ذا قصص، وتقديم وتأخير كثير ترداد أنبائه ومواعظه، وتكرار أخبار مَنْ سَلَفَ مِن الأنبياء، والمهلكين الأشقياء، يأتي بعضه بكلام متساوي الأبنية والمعاني على تفريق ذلك في آي القرآن وسوره قد يجيء حرف من غير هذا الضرب، فيأتي بالواو مرة، وبالفاء مرة، وآخر يأتي بالإدغام تارة وبالتبيان تارة، وأسماء متماثلة»[7].

كما عرّفه الإمام الكرماني (500هـ)[8] في مقدمة كتابه: «فإنّ هذا كتاب أذكُر فيه الآيات المتشابهات التي تكرّرت في القرآن، وألفاظها متّفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك مما يوجب اختلافًا بين الآيتين أو الآيات التي تكرّرت من غير زيادة ولا نقصان»[9].

وهو ما تناوله الزركشي (794هـ) عندما أورد مباحث في علوم القرآن، فقد عرض في أحد مباحثه تحت عنوان: (النوع الخامس: علم المتشابه)، فعرّفه: «هو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك»[10].   

وجُلّ التعريفات التي وردت للمتشابه بعد ذلك جاءت متابعة لتعريف الزركشي؛ فقد عرّفه السيوطي (911هـ) في «الإتقان» تحت النوع الثالث والستين من أنواع علوم القرآن (الآيات المتشابهات)[11]. وكذلك في كتابه «معترك الأقران»، عَنْوَنَ للوجه السادس من وجوه إعجاز القرآن، بعنوان: (مشتبهات آياته)[12]. كما كان الحال كذلك عند أبي البقاء (1094هـ) في كتابه «الكليّات»[13].

ومن خلال النظر والتأمل، فيمكن تعريف المتشابه اللفظي بصورة أقرب إلى طبيعة البحث العلمي بأنه: الآيات التي تكرّرت أو تشابهت في النّظم الكريم لفظًا، وعُرضت بأساليب متنوّعة؛ إمّا من حيث اختلاف الحروف أو المفردة أو الجملة، بحسب ما يتطلّبه المقام، ويقرّره المقصد.

وللبيان أكثر أعرض أمثلة للمتشابه على مستوى الحروف والمفردة والجملة:

• الاختلاف في الحروف:

قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: 20]، وقال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: 120]، الآيتان في ذكر قصة آدم -عليه السلام- عندما وسوس الشيطان له ولزوجه، وقد تعدّى الفعل (وسوس) باللام في آية الأعراف:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا}، وفي آية طه تعدّى بـ(إلى): {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ}؛ ولكلّ موطن منهما سِرّ اختصّ به.

• الاختلاف في المفردة:

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 112]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 137]، الآيتان في إثبات مشيئة الله النافذة وأن كلّ شيء تحت مشيئته من فعل خير أو خلافه، وعبّر عن ذلك في الآية الأولى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، وقال في الثانية: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}، فما السر في التعبير باسم الرب تارة واسم الجلالة تارة أخرى؟ سيأتي في آخر المقال جواب ذلك.

• الاختلاف في الجملة:

قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 284]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة: 40]، الآيتان في بيان مغفرة الله وعذابه، فقُدِّمَت المغفرة على العذاب في البقرة، وفي المائدة قُدّم العذاب على المغفرة، وقد بيَّن العلماء وجه ذلك.

ويجدر التنبيه أنه إذا كان التفسير يُعْنَى ببيان المعنى المراد من الآية، فإن النظر في آيات المتشابه اللفظي يكمن في مجاوزة التفسير إلى روح المعاني، ومستتبعات التراكيب، وأسرار التأويل؛ للتوفيق بين الآيات المتشابهات وإبداء خفيّات المعاني التي يأتلف بها ظاهر الكلام، وهذا ما يعرف بالاستنباط؛ كونه المصطلح العلمي الذي يتضمن معنى المعنى أو المعاني الثواني، ولا أدلّ على ذلك مما نلمحه أثناء التحليل والمعالجة للآيات المتشابهة من النظر في المناسبة بين الآيات، ومقاصدها، وتتبّع سياقاتها، ومعرفة مقاماتها، وملابساتها، إلى آخر تلك الطرق التي وردت في المتشابه اللفظي.

ثانيًا: مظانّ التأليف في المتشابه اللفظي بين القديم والحديث:

1. التأليف في القديم:

من المعلوم بمكان أنّ أيّ علم من العلوم كانت له مقدّمات وإرهاصات قبل نشأته وتكوينه، إلى أن نضج وبرز، ويمكن أن نلحظ أنّ التأليف قديمًا اتسم بسمتين رئيستين؛ السمة الأولى: أنّ آيات المتشابه اللفظي جاءت منثورة ضمن التصانيف. السمة الثانية: الجمع والتوجيه. وفيما يأتي بيان ذلك:

السمة الأولى: انقسمت هذه السمة إلى قسمين:

الأول: الجمع دون التوجيه:

وقد ظهرت هذه المرحلة -وهي تُعَد البذرة الأولى للتأليف في المتشابه اللفظي- على أيدي القرّاء الذين جمعوا الآيات المتشابهات؛ وذلك إعانةً للحُفّاظ على تذكُّر الفروق بين الآيات المتشابهات، ومِن أوّل تلك المؤلفات كتاب: (مشتبهات القرآن) للكسائي (189هـ)[14]، يقول السيوطي: «أفرده بالتصنيف خلقٌ، أوّلهم فيما أحسب الكسائي، ونظمه السخاوي»[15]. وكما هو معلوم، كان الغرض إعانة الحُفّاظ على حفظ متشابه القرآن، وهذا هو السبب الرئيس الذي من أجلِه ألّف الكتاب[16].

تبعه بعد ذلك كتاب: (متشابه القرآن العظيم) لابن المنادِي (336هـ)، وقد استهدف غرَضَين؛ الأول: ظاهر، وهو إعانة الحفاظ. والثاني: هو إعانة لمَن يريد أن يردّ على الملحدين الذين يطعنون في القرآن بحجّة ورود التكرار والمتشابه اللفظي[17]. وقد أورد في آخر الكتاب مبحثين تناول فيهما بعض الآيات المتشابهة كما ظهرت بعد ذلك عند علماء المتشابه[18].

ومن الإثراء أسوق أبرز المؤلفات الحديثة في هذا الشأن التي تميّزت بالتنظيم والترتيب لآيات المتشابه القرآني؛ كتاب: (دليل المتشابهات اللفظية في القرآن الكريم) للدكتور محمد بن عبد الله الصغير، حيث اعتمد على الكتب المؤلّفة في هذا الفنّ وأفاد منها، فاستقصى جُلَّ ما في القرآن الكريم. وكتاب آخر جيد، هو كتاب: (تنبيه الحفّاظ للآيات المتشابهة الألفاظ) للدكتور محمد المسند. ويوجد غيرها الكثير، إلّا أنّ هذين الكتابين أبرز ما صُنّف في هذا الفنّ.

الثاني: التوجيه دون الجمع:

تمثّلت هذه السمة في كتب المفسّرين التي تعرّضت لآيات المتشابه اللفظي توجيهًا وتحليلًا في معرض حديثها عن بلاغة النظم القرآني خصوصًا فيما يتعلق بعلم المعاني؛ إذ يُعَدّ هذا العلم هو الذي ارتكز عليه موضوع المتشابه اللفظي، إِذْ تمثّلت صُوَره في التقديم والتأخير، والذِّكر والحذف، والتعريف والتنكير، والإظهار والإضمار، إلى آخر تلك الصّور. ومن أبرز هذه التفاسير:

• الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لجار الله الزمخشري (538هـ)، فقد تعرّض لتوجيه بعض المتشابهات قاصدًا بيان أسرار النّظم القرآني، والزمخشري إن لم يصرّح بالمتشابه اللفظي إلا أنه أدخله ضمنًا في علم المعاني كما بيّن في مقدمته لمَن أراد أن يتصدر لتفسير الكتاب العزيز، وقد أفاد من جاء بعده ممن عُنِي بالتفسير البياني.

• مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، لفخر الدين الرازي (606هـ)، وقد توسّع الرازي في تناول آيات المتشابه اللفظي، وأطال الوقوف عندها، كما أفاد منه المفسرون بعده.

• البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الغرناطي (745هـ). بالرغم من تأخُّر أبي حيان إلا أن المواطن التي وقف عندها كانت أقلّ مما جاء عند الرازي.

• نظم الدّرر في تناسب الآيات والسور، لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي (885هـ). والبقاعي فيما ظهر لي من تفسيره أنه كان شديد التأثّر بالغرناطي، سواء من كتابه البرهان في تناسب سور القرآن، أو مِلاك التأويل، وحتى عند توجيه الآيات المتشابهة من قِبل البقاعي ألحظ تأثّره بمنهج الغرناطي.

• إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لمحمد بن محمد بن أبي السعود العمادي (982هـ).

• روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين الآلوسي (1270هـ).

• تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، المعروف بالتحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور (1393هـ).

والأخيران إنْ يُعَدّا من مكتوب العصر الحديث إلا أنهما سارَا على غرار ما كُتِب قبلهما، فألحقتُهما بما قبلهما، والقصد المقاربة والكشف.

السمة الثانية: الجمع والتوجيه:

يميز هذه السمة أنها مرحلة النضوج والبروز لآيات المتشابه اللفظي؛ كونها اختصت بالتوجيه والتعليل لآيات المتشابه اللفظي، وقد برز فيها خمسة من العلماء الأجلّاء الذين أبرزوا موضوع المتشابه اللفظي، ووضحوا معالمه.

بدأت هذه المرحلة مع الخطيب الإسكافي (420هـ) في كتابه: (درة التنزيل وغرة التأويل)، وقد بيّن في كتابه أن من أسباب تأليفه قلّة بحث هذا الموضوع من قِبَل العلماء المتقدّمين، والردّ على الملحدين الطاعنين الذين يزعمون وجود التعارض في الآيات المتشابهة، وقد سار فيه مؤلِّفه على طريقة المفسّرين، حيث رتّب كتابه على ترتيب السور والآيات في المصحف الشريف، وهكذا فعل من جاء بعده، وقد اعتمد أسلوب الخطيب الإسكافي على المناقشة ومخاطبة القارئ في أثناء تحليله، وقد بلغ عدد الآيات التي تناولها (274) آية كأصلٍ لمتشابهاتها[19]. ويعدُّ هذا الكتاب الأمّ في بابه؛ فقد كان له أثـرٌ جليٌّ في كتب المتشابه التي أُلّفت بعده، وحتى المفسرين.

ثم الكرماني (500هـ) في كتابه: (البرهان في متشابه القرآن)، وقد استدرك الكرماني كثيرًا من الآيات التي فاتت الإسكافي، اتسم أسلوبه بالإيجاز الشديد والاختصار الدقيق في توجيهه للآيات المتشابهات.

ثم الغرناطي (708هـ) في كتابه: (مِلاكُ التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيلويعدُّ كتابه أهم هذه الكتب وأوسعها؛ لإضافته الكثير من الشواهد، مع استقصاء لوجوه التشابه بينها، وقد بسط فيه العبارة وبيّن ووضّح؛ مما أبرز شخصية المؤلف بروزًا جليًّا، كما تميّز أسلوبه بالمناقشة والحوار مع القارئ.

ثم كَتَبَ بدر الدين بن جماعة (733هـ) كتاب: (كشف المعاني في المتشابه من المثاني)، وقد أفاد ابن جماعة ممن كتب قبله لا سيّما الكرماني فقد أفاد منه كثيرًا، وسار على نهجه، كما غلب على أسلوب ابن جماعة الإيجاز.

كما كتب زكريا الأنصاري (926هـ) كتاب: (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن)، ويعدُّ كتابه آخر كتب القدامى في موضوع المتشابه اللفظي، وكان عمله بمثابة التكرار لما كتبه السابقون كما بين ذلك في مقدمته، كما كانت له إضافة في بيان وتوضيح الآيات التي قد يشكل فهمها، كما أشار المؤلف إلى ذلك في اسم كتابه.

وتعدُّ هذه المؤلفات الخمسة أساسًا في المتشابه اللفظي، حيث أسهمت في رسم خطوطه وتوضيح معالمه، وصارت نبراسًا لمن سلك الطريق فيما بعد.

ويمكن أن نخلص إلى أن مظانّ التأليف قديمًا في المتشابه اللفظي ظهرت على وجهين:

الوجه الأول: المنثور، وينقسم إلى قسمين:

أ. الجمع دون التوجيه، وهو ما لحظناه على أيدي القراء.

ب. مرحلة التوجيه والتعليل في ثنايا التفسير، وهو ما جاء عند المفسرين الذين اهتموا بالجانب البياني أو البلاغي.

أمّا الوجه الثاني: الجمع مع التوجيه، وفيه برز المتشابه اللفظي جليًّا واضحًا كما جاء عند علماء المتشابه المشار إليهم.

2. التأليف في الحديث:

انطلق التأليف في المتشابه اللفظي حديثًا مفيدًا ومتجاوزًا المرحلة السابقة، وذلك طبيعي حيث إنّ العلوم استقلّت وبانت حدودها، وتشقّقت أفكارها، لا سيّما بعد ظهور المناهج الحديثة التي أفادت منها العلوم في توجيه فروعها، وتقسيم مسائلها، وعلى إثر ذلك نلحظ تعدُّد اتجاهات التأليف في المتشابه اللفظي، حيث جاءت على الاتجاهات الآتية:

أ. في رحاب أبواب علم المعاني:

إذا طالعنا أقرب العلوم التي تمركز فيها المتشابه اللفظي نلحظ أنه التصق بعلم المعاني من أبواب البلاغة الثلاثة المعروفة، وقد كُتبت بعض الدراسات في المتشابه اللفظي التي تخصّ مبحثًا من مباحثه. منها ما يأتي:

بحث بعنوان: (التعريف والتنكير في بعض مواضع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم؛ دراسة نحوية دلالية)، للدكتور عبد الله بن محمد السليماني.

بحث بعنوان: (التقديم والتأخير في المتشابه اللفظي في القرآن الكريم؛ دراسة نحوية دلالية)، للدكتور بريكان بن سعد الشلوي.

بحث بعنوان: (الحذف والذِّكر في المتشابه اللفظي في القرآن الكريم؛ دراسة استقرائية تطبيقية)، للباحث منصور محمود حسن أبو زينة.

بحث بعنوان: (الفصل والوصل في متشابه النظم القرآني؛ دراسة بلاغية تفسيرية)، لكلّ من: الدكتور محمد الحوري، والدكتور منصور أبو زينة.

ب. في رحاب التفاسير البيانية:

نظرًا لما لحظه الدارسون في التفاسير البيانية من ثراء لآيات المتشابه اللفظي توجيهًا وتحليلًا، تقدّموا برسائل علمية، جمعوا فيها هذه المواطن، واستخلصوها من تلك التفاسير مبرِزين جهود المفسرين وإضافاتهم على صعيد آيات المتشابه نفسها، وطرائق التحليل والتوجيه. وهي على الآتي بحسب ما وقفتُ عليه:

رسالة دكتوراه بعنوان: (متشابه اللفظ القرآني في تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي؛ دراسة بلاغية مقارنة)، للدكتور محمد بن علي بن درع، جمع مواطن المتشابه عند الرازي، وكشفت الدراسة عن تأثّر الرازي بتوجيهات الخطيب الإسكافي والزمخشري.

رسالة دكتوراه بعنوان: (بلاغة المتشابه اللفظي في تفسير البحر المحيط لأبي حيان)، للدكتورة مريم بنت عبد الله القرشي. وظهر تأثّر أبي حيان في المتشابه اللفظي جليًّا بمن سبقه؛ الخطيب الإسكافي، والزمخشري، والرازي.

رسالة ماجستير بعنوان: (بلاغة المتشابه اللفظي في تفسير أبي السعود)، للأستاذة خلود بنت نياف العتيبي.

رسالة دكتوراه بعنوان: (متشابه اللفظ القرآني في روح المعاني للآلوسي؛ دراسة بلاغية مقارنة)، قدّمها صاحب هذا المقال، حيث ظهر له أن الآلوسي أكثر مَنْ جمَع الآيات المتشابهة؛ كونه اطلع على كتب المتشابه والمفسّرين وحواشيهم، فجاءت شواهد المتشابه اللفظي جامعة بين ما جاء عند المفسرين وما جاء عند علماء المتشابه. وعن التأثّر فأجده تأثّر بالإسكافي والزمخشري والرازي والطيبي وأبي السعود.

رسالة دكتوراه جمَعت مواطن المتشابه عند ابن عاشور، بعنوان: (توجيه الطاهر بن عاشور للمتشابه اللفظي في التحرير والتنوير؛ دراسة تحليلية مقارنة)، للدكتور: خلدون بن سعود القرالة. ومن يطلع على تفسير التحرير والتنوير يلحظ توسّع ابن عاشور للمتشابه اللفظي.

ج. في رحاب السور القرآنية:

كما جاءت بعض الدراسات التي تناولت المتشابه اللفظي في سورة من سور القرآن، فمن ذلك:

بحث بعنوان: (المتشابه النظمي في سورة البقرة)، للدكتورة حصة الرميح، رتبت الآيات بحسب ورودها الأول في السورة، ومع باقي سورة القرآن.

بحث بعنوان: (بلاغة التشابه اللفظي في سورة آل عمران)، للباحثة منى بنت فهد أحمد، درست فيها ثلاثين آية بين متشابه النظم في سورة آل عمران، وسورة آل عمران وما تشابه فيها مع غيرها.

بحث بعنوان: (المتشابه اللفظي في سورة الأنعام، دراسة بلاغية)، للباحثة هند بنت جميل بن صالح، درست فيه الباحثة أربعًا وأربعين آية، ما تشابه في السورة نفسها، ومع غيرها من السور.

رسالة ماجستير بعنوان: (بلاغة المتشابه اللفظي في سورة التوبة)، للباحثة ريم بنت زيد القحيز. ذكرت فيها المتشابه في السورة نفسها، وما تشابه فيها مع غيرها.

د. في رحاب القصص القرآني:

ومن الدراسات في هذا الشأن:

دراسة بعنوان: (متشابه النظم القرآني في قصة آدم عليه السلام)، للدكتور عبد الجواد محمد محمد طبق.

دراسة بعنوان: (قطوف من المتشابه اللفظي في قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام)، للدكتور زكريا بن علي الخضر.

دراسة بعنوان: (دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة موسى عليه السلام؛ دراسة نظرية تطبيقية)، للباحث فهد بن شتيوي الشتوي.

هـ. في رحاب الكتب والمؤلفات:

كثيرة الدراسات التي تناولت كتب المتشابه اللفظي، والمجال لا يتّسع لسردها، وبيان اتجاهات التأليف فيها، لكن سأذكر الأبرز منها بحسب ما اطلعت عليه:

(استدراك ما فات من بلاغة الآيات المتشابهات)، للدكتور سعد عبد العظيم، تجاوز فيها المؤلّف كتب المتشابه بقصد ذكر الآيات التي لم ترد عند علماء المتشابه اللفظي، وأبرز أسرارها البلاغية، كما أنه وحّد منهجه مع علماء المتشابه من حيث تناول الآيات بحسب ترتيب السور في المصحف الشريف، وافتتاح التوجيه بالاستفهام: لِمَ قيل كذا في سورة كذا وقيل كذا في سورة كذا؛ أسوةً بعلماء المتشابه.

رسالة دكتوراه بعنوان: (المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية)، للدكتور صالح بن عبد الله الشثري، تناول فيه المؤلف الكتب الخمسة المؤسّسة لموضوع المتشابه اللفظي، فعرّف بها وبمؤلفيها، ثم عمد إلى آيات المتشابه اللفظي الواردة في الكتب الخمسة، فتناول منها مائة وثلاثة وثمانين موضعًا من أصل ثلاثمائة وثمانين موضعًا، جاعلًا تقسيم الآيات بناءً على علم المعاني؛ تقديمًا وتأخيرًا، وذكرًا أو حذفًا، وتذكيرًا أو تأنيثًا، وتعريفًا أو تنكيرًا، وإفرادًا أو تثنيةً أو جمعًا، وإبدالًا بحرف أو كلمة. وتُعَدّ هذه من الدراسات القيّمة في المتشابه اللفظي.

(من بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم)، للدكتور محمد الصامل. تناول المؤلف عشرة مواضع فقط من مواضع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، بعد مقدمة وتوطئة عن المتشابه اللفظي قديمًا وحديثًا.

مؤلفات الدكتور فاضل السامرائي، فجاءت مسائل هذا العلم مبثوثة في كتبه، من أهمها في هذا الشأن: (التعبير القرآني)، و(بلاغة الكلمة في التعبير القرآني)، و(وأسئلة بيانية في القرآن الكريم)، ثم بعد ذلك كتاب: (لمسات بيانية في نصوص من التنزيل)، وكتابه الشهير المعروف: (معاني النحو). والحقّ أن الدكتور صاحب نظرات عميقة في تحليلاته وتوجيهاته يجدر الوقوف عندها وتأملها.

كتب الشيخ محمد محمد أبو موسى، فكثيرًا ما يتعرّض للمتشابه اللفظي خصوصًا في كتبه في تفسير آل حم: (آل حم، غافر - فصلت، دراسة في أسرار البيان)، و(آل حم، الشورى – الزخرف الدخان، دراسة في أسرار البيان)، و(آل حم، الجاثية الأحقاف، دراسة في أسرار البيان)، و(الزمر – محمد وعلاقتهما بآل حم، دراسة في أسرار البيان)، و(من أسرار التعبير القرآني، دراسة تحليلية لسورة الأحزاب)، ومنهج الشيخ منهج عميق، أترك كلمته هنا في التحليل: حيث يقول: «من وجوه بلاغة القرآن غير المدروسة كما ينبغي: حركة المعنى داخل السورة، ومراقبة نموّه وامتداده، وذهابه وارتداده، وهذا مِن أخفى أبواب البلاغة وأغمضها...، واعلم أن علاقة فواتح السور بخواتيمها هي أصل هذا الباب الذي هو التعرّف على حركة المعنى وامتداده»[20]. وقد لحظت أن هذا منهج الشيخ في كتبه المذكورة لا سيما عندما يورد آيات المتشابه اللفظي. ولا أعلم دراسة وقفت على منهج الشيخ في المتشابه، فإنّ الأمر يحتاج الوقوف والمكث طويلًا عند تحليلاته.

و. في رحاب المنهج:

من الكتب التي تناولت مناهج التأليف في المتشابه ما يأتي:

بحث بعنوان: (المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وتوجيهه؛ دراسة موضوعية)، للباحث محمد بن راشد البركة. والدراسة قـيّمة تناول فيها الباحث عددًا من الموضوعات تكلّم عنها بالتفصيل، من أبرز فصول الرسالة: قواعد توجيه المتشابه. والعمل جدير بالقراءة.

(المتشابه اللفظي في القرآن ومسالك توجيهه عند أبي جعفر الزبير الغرناطي)، للدكتور رشيد الحمداوي، بيّن فيه المؤلف منهج الغرناطي بجلاء، وتميّزه عن غيره؛ بأنّ نظرته كانت أكثر شمولية لمساق الآيات المتشابهة، واستجلاء مقاصدها، واستنباط أوجه الارتباط والالتحام بين الآيات المتشابهة ومساقها، حتى إنه أحيانًا يلجأ إلى السياقات البعيدة في السورة. كما أبرزت الدراسة دور التناسب في منهج الغرناطي بين النظم والشدة، والإيجاز والإطناب، والتناسب اللفظي والصوتي، وترتيب السور. والدراسة قـيّمة جديرة بالقراءة.

رسالة بعنوان: (توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم بين القدامى والمحدَثين؛ دارسة مقارنة)، للدكتور محمد رجائي أحمد الجبالي. وقد بذل فيها الدكتور جهدًا طيبًا.

مقال بعنوان: (البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني؛ موضوعه، ومنهجه، ومعالم إبداعه)، للدكتور مونعيم مزغاب. نشره مركز تفسير للدراسات القرآنية.

ثالثًا: أهمية المتشابه اللفظي:

قبل ذكر أهمية المتشابه اللفظي وفوائده، أنـوِّه أنه لا يوجد جدار فاصل بين الأهمية والفوائد، إلّا أني حاولت أن أقارب كلّ عزيزة من ذلك إلى منبعها، وإن كانت لا تمانع أن تصبّ في مسيل آخر.

1. اتصال المتشابه اللفظي بعددٍ من العلوم، ما يدلّ على تشعّب فروع هذا العلم وغزارته. ومن العلوم التي يتشابك معها:

علم القراءات.

علم إعجاز القرآن.

علم التفسير.

علم البلاغة.

علم المناسبات.

2. أنّ التدبر في آيات المتشابه اللفظي من أقوى العوامل المعينة -بعد تيسير الله- على التدبّر في القرآن الكريم، يقول تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23].

3. شرف هذا العلم لأن موضوعه آيات الذِّكر الحكيم، إِذْ هو يبحث في علل وأسرار المتشابه منه.

4. رصد شبهات أعداء الإسلام الطاعنين في القرآن الكريم حول الآيات المتشابهة وتفنيدها.

5. الكشف عن بعض مناحي الأسرار البيانية والنّكات البلاغية في النظم الكريم.

6. أن أسرار التشابه بين الآيات لا تنضب مع كثرة التداول والبحث، فأسرار الكتاب العزيز لا تزال بكرًا.

7. تتيح دراسة المتشابه اللفظي الرجوع إلى كثير من المراجع في كتب التفسير وعلوم القرآن، وإعجاز القرآن، والبلاغة القرآنية، لا سيّما الاطلاع على جهود العلماء -رحمهم الله-.

رابعًا: فوائد المتشابه اللفظي:

1. نصب دليل على إعجاز القرآن الكريم؛ فمن يطالع ضروب التصريف في آيات المتشابه اللفظي ويطالع العلل والأسرار يعلم يقينًا أنه تنزيل من رب العالمين، ومصدق للرسالة الخاتمة.

2. يعدُّ المتشابه اللفظي من العلوم البينية التي تستدعي ترابط العلوم بعضها ببعض، فلا يستطيع باحث في هذا العلم أن يكتفي بعلم واحد، بل هو علم يستجرّ في مضمونه عددًا من العلوم كما وضح سابقًا في العلوم المتفرّعة عنه.

3. خدمته لحفاظ القرآن الكريم، ومساعدته لهم في ضبط المتشابه منه، والصيانة من الخطأ، ونلحظ أن هذه الفائدة ازدهرت مع فكرة وجود هذا العلم الشريف.

4. يعطي المتشابه اللفظي الباحث الدربة والمهارة في تتبع الأسرار، حيث إنّ البحث عنها يستلزم طول التأمّل وترقّب حركة المعنى، ومعرفة الملابسات المحيطة بالنصّ، إضافة إلى مكنة لغوية، وذوق مدرب. يسهم موضوع المتشابه اللفظي في تجديد البلاغة العربية، وإمدادها بكثير من المباحث التي تصلها بالعلوم الأخرى.

5. آليات تحليل آيات المتشابه تستدعي المقام والسياق والمقاصد واسم السورة وسبب النزول؛ وكلّ ذلك يوسّع من النظر، ويجعل من النظم القرآني كلّه سياقًا واحدًا، آخذًا بعضه بعضًا، وهذا من شأنه أن يطوّر أدوات علم البلاغة على وجه الخصوص.

6. النظر في كتاب الله -لا سيّما المتشابه- ومدارسة العلل والأسرار ودقائق معانيه؛ يمنح العبد بركة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

خامسًا: نموذج:

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 112]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 137]، الآيتان في إثبات مشيئة الله النافذة، وأنّ كلّ شيء تحت مشيئته من فعل خير أو خلافه، وعبّر عن ذلك في الآية الأولى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، وقال في الثانية: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}، فما السرّ في التعبير باسم الربّ تارة وباسم الجلالة تارة أخرى؟

ذكَر الإسكافي أنّ الآية الأولى التي جاء فيها قوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، ذكر الربّ؛ لما فيه من الحماية والرعاية والتربية له -صلى الله عليه وسلم- في سياق ما تعرّض له الأنبياء من أذًى وعداواتٍ، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، أمّا الآية الثانية فذكر فيها الاسم الأعظم؛ لأنه جاء قبلها إشراكُهم، فناسب إنزال هذا الاسم؛ لأنّ فيه عنوان الألوهية التي تقتضي التوحيد لا الإشراك[21]، ووافقه عليه الغرناطي، وابن جماعة[22].

أمّا الكرماني فله رأيٌ ثانٍ، فيرى أنّ قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، وقع بعد آيات ذُكِر الربّ فيها أربع مرات، فختمها بما يوافق أوّلَها آخرُها، أمّا الآية الثانية فيرى أن قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}، وقع بعد قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ}[الأنعام: 136]، فختم بما بدأ[23]. ومثله قال الأنصاري[24].

سادسًا: الخاتمة:

بعد التطواف في مناحي هذا المقال يظهر لنا شرف موضوع المتشابه اللفظي؛ لما يزخر من دلائل الإعجاز القرآني وأسراره البيانية التي لا تنفد، واهتمام علماء المسلمين بهذا العلم والاحتفاء به قديمًا وحديثًا؛ يدل على ذلك مؤلفاتهم التي تناولت موضوع المتشابه اللفظي من عدة اتجاهات، كما أنّ هذا العلم من أظهر الطرق التي تزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا بهذا الكتاب العزيز المعجِز، وأنـوِّه أن هذا المقال لم يقصد إلى استقصاء كلّ الدراسات التي وردت في المتشابه، لكنّ حسبي أن أشرتُ إلى أبرزها، والقصد من ذلك تنوير القرّاء بهذا الموضوع.

أفكار ومقترحات:

1. إعداد موسوعة تُجمع فيها آيات المتشابه اللفظي، والإفادة من توجيهات العلماء والدارسين.

2. ترجمة بعض أعمال المتشابه اللفظي إلى عدّة لغات؛ لإبراز الوجه البلاغي في النظم الكريم إلى فئات من المسلمين وإطْلاعهم على عظيم بيان النّظم الكريم وفصاحته.

واللهَ نسألُ القبول، وأن ينفع بنا. وصلى اللهُ على عبده ورسوله محمد.

 

[1] تاج اللغة وصحاح العربية: للجوهري، باب الهاء، فصل الشين (شبه) (6/ 2236). تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، الطبعة: الرابعة، 1407هـ.

[2] مقاييس اللغة: لابن فارس، كتاب الشين، باب الشين والباء وما يثلثهما (شبه)، (3/ 243)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ.

[3] المرجع نفسه: كتاب اللام، باب اللام والفاء وما يثلثهما (لفظ)، (5/ 259).

[4] ينظر: مباحث في علوم القرآن: لمناع القطان، ص193، مؤسسة الرسالة 1418هـ، الطبعة الخامسة والثلاثون.

[5] ينظر: تأويل مشكل القرآن: لابن قتيبة، ص119، تحقيق: سعد بن نجدت عمر، مؤسسة الرسالة، 1435هـ.

[6] جامع البيان في تأويل القرآن، المعروف بتفسير الطبري، (6/ 178)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 1420هـ.

[7] متشابه القرآن العظيم: أحمد بن جعفر بن المنادي، ص59، تحقيق: عبد الله الغنيمان، مكتبة لينة للنشر، مصر.

[8] ذكر الحموي أنه توفي بعد الخمسمائة من الهجرة، وأغلب المصادر التي ظهرت بعد معجمه سارت على توجيهه. ينظر: معجم الأدباء (6/ 2686)، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1414هـ.

[9] البرهان في متشابه القرآن: للكرماني، ص110، تحقيق: أحمد عز الدين عبد الله خلف الله، دار صادر، 1431هـ.

[10] ينظر: البرهان في علوم القرآن: للزركشي، (1/ 112)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، 1376هـ.

[11] ينظر: الإتقان في علوم القرآن: للسيوطي، (3/ 390)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ.

[12] ينظر: معترك الأقران: للسيوطي، (1/ 66)، دار الكتب العلمية، 1408هـ.

[13] ينظر: الكليات؛ معجم في المصطلحات والفروق اللغوية: أبو البقاء الكفوي، ص854. تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة.

[14] ينظر: مشتبهات القرآن: لعلي بن حمزة الكسائي، تحقيق: الدكتور محمد محمد داود، دار المنار، 1418هـ.

[15] الإتقان في علوم القرآن، (3/ 390).

[16] ينظر: مشتبهات القرآن، ص28.

[17] ينظر: متشابه القرآن العظيم، ص16.

[18] المرجع نفسه، ص227.

[19] المرجع نفسه، (1/ 133).

[20] من أسرار التعبير القرآني، دراسة تحليلية لسورة الأحزاب، ص26.

[21] ينظر: درة التنزيل وغرة التأويل (1/ 508).

[22] ينظر: ملاك التأويل، (1/ 469)، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني، ص165.

[23] ينظر: البرهان في متشابه القرآن، ص176.

[24] فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، ص174.

الكاتب

الدكتور محسن بن علي الشهري

حاصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية، وله عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))