تفسير الإمام مالك
أهميته، ونظرات في منهجه
«آيات العقيدة مثالًا»

برع الإمامُ مالك في التفسير، وبُذِلت كثيرٌ من الجهود في جمع تفسيره، وهذه المقالة تبيِّن أهمية تفسير الإمام مالك، وتعرِض بعضَ النظرات العامة حول منهجه في التفسير؛ تطبيقًا على آيات العقيدة بصورة خاصّة.

مقدمة:

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

 سيتناول هذا المقال تفسير الإمام مالك -رحمه الله- من خلال بيان أهميته، وبعض النظرات في منهجه. والحديث عن منهج الإمام مالك إجمالًا في التفسير لا يتسع له المقام في هذا المقال، ويحتاج إلى استقراء موسَّع؛ لذا سيقتصر المقال على نظرات عامة حول منهجه؛ إثراءً للبحث في هذا الجانب، مع التركيز بصورة أكبر على آي الاعتقاد. وقبل الشروع في المقصود يجدر الجواب عن هذا السؤال:

هل للإمام مالك كتاب في التفسير؟

لا يوجد بين أيدينا الآن تفسير جامع للإمام مالك، مِن جَمْعهِ هو، سوى ما بُذِل من جهود في جمع تفسيره قديمًا وحديثًا؛ وقد كانت البواكر الأولى لتلك العناية في زمن الإمام مالك، كما ذكر ذلك ابن العربي عن التفسير الذي «أرسل مالك -رضي الله عنه- كلامه فيه إرسالًا، فلقَطَه أصحابُه عنه ونقلوه كما سمعوه منه، ما خلا المخزومي (أبا محمد، عبد الله بن نافع الصائغ)؛ فإنه جمع له فيه أوراقًا، فألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية فكتبناها عن شيخنا أبي عبد الله المصيصي»[1].

وتوالت العناية بتفسير الإمام مالك بعد ذلك، منها: ما كان من جمعِ تفسير الإمام مالك على نحوٍ خاصّ كالمتعلق بآيات الأحكام، ومن ذلك كتاب مكي بن أبي طالب الموسوم (المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره)، ومنها: ما كان رواية لما ثبت عن الإمام مالك وتصنيفه حسب موضوعه، مثل ما فعله ابن العربي في رواية ما ثبت له عن الإمام مالك في التفسير؛ حيث رام ابن العربي تصنيف تفسير الإمام مالك حسب أبوابه، فقال: «وكان كلامه -رحمه الله- في التفسير على جملة علوم القرآن؛ فنظمنا كلّ علم في سلكه، ونظمناه في نظيره؛ فما كان من قبيل التوحيد ذكرناه في المشكلين، وما كان من قبيل أحكام أفعال المكلفين ذكرناه في أحكام القرآن، وما كان من الشذور المنثورة والفوائد المتفرّقة رأينا أن نورد منه ها هنا نبذًا؛ اقتداءً به -رضي الله عنه- في الجامع حيث ألّف أبوابه أنواعًا متفرقة، وحتى يكمل التصنيف بجميع معانيه؛ إذ كتاب التفسير من جملة أبواب التصنيف»[2]. ولا شك أنّ ما رامه ابن العربي كان سيقدّم خدمة جليلة لتراث الإمام مالك لو وصَلَنا كلّ ما جمع في ذلك، والذي له صلة أكثر بموضوعنا ما كان من قبيل التوحيد مما جمعه في (المشكلين).

وتواصلت جهود المعاصرين في الكشف عن تفسير الإمام مالك سيما وأنه وجدت إشارات في كتب المتقدمين تدلّ على وجود جزء من التفسير للإمام مالك، كما نصّ على ذلك غير واحد من العلماء، وقد ذكر الإمام القاضي عياض كثرة ما أُثِر عن الإمام مالك في التفسير؛ فقال: «وله في تفسير القرآن كلام كثير، وقد جُمع، وتفسير رواه عنه بعض أصحابه، وقد جَمع أبو محمد مكي مصنفًا فيما رُوي عنه من التفسير والكلام في معاني القرآن وأحكامه مع تجويده له وإحسان ضبط حروفه»[3]. وذكر أن له كتابًا «في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمن المخزومي...»[4]. وذكر الإمام الذهبي هذا الجزء من التفسير، فقال: «وله جزء في التفسير، يرويه خالد بن عبد الرحمن المخزومي، يرويه القاضي عياض، عن أبي جعفر أحمد بن سعيد، عن أبي عبد الله محمد بن الحسن المقرئ، عن محمد بن علي المصيصي، عن أبيه، بإسناده»[5]. وغاية ما توصّل إليه الباحثون من تفسير الإمام مالك جمعٌ لِما أُثِر عنه، وليس بين أيدينا شيء من جمعهِ هو.

ومن الجهود المعاصرة في هذا المجال: (تفسير الإمام مالك بن أنس) للدكتور حميد لحمر. و(مرويات الإمام مالك في التفسير) الذي جمعه الأستاذان: محمد بن رزق بن طرهوني، وحكمت بشير ياسين. وكتاب: (تفسير الإمام مالك برواية أبي بكر بن العربي)، وقد جمعه: أبو عبد التواب عبد المجيد بن علي رياش.

وفي ظلّ غياب وجود تفسير مكتمل بين أيدينا للإمام مالك؛ فإنّ الحديث سيقتصر على نظرات في منهجه في التفسير تستخرج مما وصَلَنا من نقول عنه في التفسير من مختلف الكتب، وأهمها: (الموطأ)، وقد تضمّن تفسيرًا لبعض الآيات، تختلف تلك التفاسير باختلاف روايات الموطأ، وبعض الروايات عنه في آخرها إثبات لكتاب التفسير في الموطأ (كرواية محمد بن الحسن الشيباني)، فقد ختم الكتاب بـ(باب التفسير)، وأورد فيه تفسير بعض آيات الأحكام. والموطأ تعدّدت رواياته ورواته «وقد أحصاهم عياض في باب خَصَّه من كتابه المعروف المسمى: (المدارك) فبلغ إلى ألفٍ وثلاثمائةٍ مرتّبين على حروف المعجم، وكان الخطيب البغدادي عُني بإحصاء رواة «الموطأ»، فبلغ تسعمائة وتسعين راويًا»[6]. وتتبُّع الروايات على اختلافها سيفيد في استخراج مادة من التفسير مفرّقة في مختلف الأبواب. وابن العربي في خاتمة كتابه: (القبس شرح موطأ مالك بن أنس) ذكر كتاب التفسير، وقد يُظَنّ أنه متصل بالموطأ كما هو ظاهر، بينما لا نجد في النُّسَخ الأخرى للموطأ كتابَ التفسير على النحو الذي أثبته القاضي ابن العربي؛ والذي يظهر أن ابن العربي هو الذي ألحق ذلك بالموطأ، كما يدلّ على ذلك قوله في مقدمة كتاب التفسير في (القبس): «هذا كتاب التفسير، أرسل مالك -رضي الله عنه- كلامه فيه إرسالًا، فلقطه أصحابُه عنه ونقلوه كما سمعوه منه، ما خلا المخزومي؛ فإنه جمع له فيه أوراقًا، فألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية، فكتبناها عن شيخنا أبي عبد الله المصيصي...»[7].

وبيِّنٌ مما سلف أن النقل بين المتقدّمين بشأن كتاب الإمام مالك في التفسير متباين، وبعضهم يُستفاد من قولهم أنّ له جزءًا وضعه هو في التفسير، وبعضهم يفيد كلامهم أن ما ورد عنه من التفسير رُوي عنه، وجمعه تلاميذُه؛ ولولا أن عدم النقل ليس نقلًا للعدم لجزمنا أن الإمام مالكًا لم يفسّر القرآن كلّه، وإنما فسّر بعض ما دعت الحاجة إليه، ولم يصلنا ما فسّره كلّه.

واستخراج المنهج بعمومه يقتضي الاطلاع على أثره كلّه في ذلك -وهو متعذّر- وما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه -كما قيل-، فغرضنا ليس بيان منهجه في التفسير إجمالًا بل الاقتصار على نظرات في منهجه من خلال آيات العقيدة؛ ذلك أن مجال العقيدة يختلف فيه الأمر عن مجال الأحكام، فآيات الأحكام مجال الاستنباط والاستدلال والنظر فيها واسع بخلاف الأُولى، فمسائلها تقتصر على الوقوف عند المأثور، وعدم تجاوزه، وقد ظهرت كثيرٌ من الفِرَق في التاريخ الإسلامي بسبب تحميل آيات العقيدة ما لا تحتمل؛ لذلك وجب بيان المنهج الذي ينبغي أن يسلك في تفسيرها، تحصيلًا لمقصودها، ووقوفًا عند دلالتها، ووقاية من الخروج عن مراميها «ولا يصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها».

العنصر الأول: أهمية تفسير الإمام مالك:

التفسير في زمان الإمام مالك لم يكن قد أُفرد بالتدوين، ويعدُّ الإمام مالك ممن لهم قصبُ السبق وفضلُ التأسيس في تدوين التفسير، وقد قيل: إنه أول جامع لعلم التفسير، ونصّ على ذلك العلامة حسين الذهبي، فقال: «كان أول ما دُوِّن من التفسير، هو التفسير المأثور، على تدرّج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا. وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون -على عادتهم- وضع كلّ علم لشخصٍ بعينه، يعدُّون واضع التفسير -بمعنى جامعه لا مُدَوِّنه- الإمام مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة»[8].

وإضافة إلى فضل السبق، وقرب العهد بزمن الوحي، والمكث في مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هناك جملة من المميزات التي تبيّن أهمية تفسير الإمام مالك -رحمه الله- وقيمته العلمية، ونقتصر منها على ما يأتي:

أولًا: علوّ كعب الإمام مالك في علم التفسير والعلوم الخادمة له، وشهد له أئمة وأعلام عصره، وتواتر الخبر بذلك، فقد ذكر القاضي عياض أن «الإمام الشافعي احتج على محمد بن الحسن في ترجيح علم مالك على علم أبي حنيفة حين تناظَرَا في ذلك؛ فقال له الشافعي: الإنصاف تريد أم المكابرة؟ قال: الإنصاف، قال الشافعي: ناشدتك الله! فمَن أعلمُ بكتاب الله وناسخه ومنسوخه؟ قال محمد بن الحسن: اللهم صاحبكم، فقال الشافعي: فمن أعلم بسُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فمن أعلم بأقوال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبقَ إلّا القياس...»[9]. ونستخلص من هذا الحوار منزلة الإمام مالك في العلم بكتاب الله تعالى، وشهادة علماء عصره له بذلك.

ثانيًا: أخْذ الإمام مالك تفسيره عن أهل المدينة: «مثل زيد بن أسلم، الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضًا ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب»[10]. وزيد بن أسلم من أشهر التابعين الذين أخذوا عن أُبيّ بن كعب الذي هو إمام مدرسة المدينة في التفسير، والمدينة هي مستقر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته، وموطن خلفائه وكبار أصحابه، ومعروف عن الإمام مالك أنه لم يرحل عن المدينة وظلّ فيها يتلقى العلم غضًّا طريًّا بعيدًا عن تأثيرات أهل الأهواء، وكان في حلقات تعليمه حريصًا على حفظ ذلك ووقاية الناس من المؤثرات التي تحمّل كتاب الله وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من المعاني ما لا تحتمل، وشواهد ذلك في مجالسه العلمية كثيرة، وإضافة إلى هذا التلقي فإنه «قد خلص علم فقهاء المدينة إلى مالك بن أنس -رحمه الله- وكانت زكانة رأيه، وصلابة دينه، وقوة نقده، قد هيّأت له بتوفيق الله تعالى ذلك المقام الجليل، مقام الضبط، والتصحيح، والتحرير»[11].

ثالثًا: ما عُرف به الإمام مالك من الدقّة والتحري، وتحذيره من صدور التفسير من غير أهله، وعزمه على معاقبة من يفعل ذلك، وقد أُثِر عنه قوله: «لا أُوتَى برجل يفسّر كتاب الله غير عالمٍ بالعربية إلّا جعلته نكالًا»[12]. والنكال: أن يفعل به ما يمنَعُه من المعاودة ويمنع غيرَه من إتيانِ مثل صَنيعه[13]. ومما يدلُّ على ما عُرف به بين أهل زمانه من الضبط والإتقان لتفسير كتاب الله تعالى قولُ خالد بن نزار الأيلي: «ما رأيت أحدًا أنزع بكتاب الله -عز وجل- من مالك بن أنس. قال أبو محمد: وقد رأى خالدٌ سفيانَ الثوري، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد وغيرهم»[14].

وأقوال العلماء الدالّة على فضل مالك كثيرة، منها: قول الإمام ابن عُيينة: مالكٌ عالمُ أهل الحجاز وهو حجة زمانه. وقول الإمام الشافعي: إذا ذُكِر العلماء فمالكٌ النجم[15].

العنصر الثاني: نظرات في منهج الإمام مالك في تفسير آيات العقيدة:

من خلال النظر فيما بين أيدينا من نقول عن الإمام مالك في التفسير يمكن أن نستخلص مسلكه في تفسير آيات العقيدة فيما يأتي:

أولًا: ترك الخوض فيما لا دليل عليه من الآثار والأخبار، ويستفاد هذا مما رواه الإمام البيهقي بسنده عن عبد الله بن وهب، قال: كنّا عند مالك بن أنس، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد اللّه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]، كيف استواؤه؟ قال: فأطْرَق مالكٌ وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه، فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه، قال: فأُخرج الرجل[16].

قال الإمام القرطبي: الاستواء معلوم -يعني في اللغة-...، والاستواء في كلام العرب، هو: العلوّ والاستقرار[17]. وقد يكون المعنى (الاستواء معلوم) لِما ورد في الاستواء من الأخبار. ومنهجه الذي يُستفاد هنا تركُ الخوض فيما لم يرد فيه بيان؛ حيث وقف عند ما وقفت عليه الآية؛ فلذلك قال: الكيف مجهول بالنسبة لنا، وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلّا الله، وأمّا ما يُعرف ووردت به الأخبار فيبيّن كما بيّنه الله ورسوله، وهذا سدٌّ للطريق أمام المتكلمين الخائضين فيما لا يدرك بالعقل. ولِما يترتب على الخوض في ذلك من آثار غلَّظَ الإمام مالك القول للسائل ونَهَرَهُ سدًّا لباب الجدال، ووقوفًا عند ما وقف عنده القرآن، واجتنابًا للخوض في آيات الله بلا دليل أو برهان، دفعًا للفتن الفكرية، والتأويلات المنحرفة التي انطلقت منها كثيرٌ من الفِرَق في تفسير كتاب الله العزيز. وتدلّ الروايات المختلفة لهذه القصة عن الإمام مالك عمّا لقيه من الحرج الشديد لمّا سُئل عن هذا لكرهه الخوض في مثل تلك المسائل.

ثانيًا: تفسير القرآن بالقرآن -وهو أفضل طرق التفسير-؛ لأنه تفسير كلام الله بكلامه سبحانه -عز وجل-، وهو أعلم بمراده، وهذا المنهج وإن كان منهجًا عامًّا معروفًا لدى المفسرين فإنه في العقيدة آكد؛ لكون أمورها مما لا سبيل للقول بالرأي فيها، سيّما وأنه قد وُجِد من أهل الفِرَق مَن سَلَك غير هذا المسلك وحمَّل الآيات ما لا تحتمل. ومن أمثلة إعمال الإمام مالك لهذا المنهج ما أورده القاضي عياض في ترتيب المدارك نقلًا عن ابن نافع وأشهب -وأحدهما يزيد على الآخر- قلت: يا أبا عبد الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22، 23]، ينظرون إلى الله؟ قال: نعم، بأعينهم هاتين. فقلت له: فإن قومًا يقولون: لا يُنْظَر إلى الله؛ إنّ ناظرة بمعنى منتظِرة إلى الثواب. قال: كذَبوا، بل يُنْظَر إلى الله. أمَا سمعتَ قول موسى -عليه السلام-: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}[الأعراف: 143]، أفَتَرى موسى سأل ربَّه مُحالًا؟! فقال الله: لن تراني في الدنيا؛ لأنها دار فناء، ولا يُنْظَر ما يَبقى بما يَفنى؛ فإذا صاروا إلى دار البقاء نَظروا بما يبقى إلى ما يبقى. وقال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين: 15][18].

والمسلك الذي سلكه الإمام مالك هنا هو التفسير بالمثال وذِكْرُ الوجوه والنظائر من آي الكتاب، والاقتصارُ في أمور الغيب والعقيدة على الاستدلال بالكتاب دون خوضٍ بالرأي الذي لا يجدي في هذا المجال، وبيانُ ما يدلّ على المعنى ويؤكّده من آي الكتاب؛ ففسَّر أنّ معنى {نَاظِرَةٌ} النَّظَـرُ الحقيقي إلى وجه الله، وبيَّنَ فساد مذهب مَن ذهب إلى أنّ معنى {نَاظِرةٌ} منتظِرة؛ ثم أتى بآيات من القرآن لتأكيد ما قرّره: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، وهو كما فسَّر اللفظَ باللفظِ، فسّر المعنى بالمعنى كذلك. ولمّا بيَّن فساد ما زعمه المخالِف سَلك مسلك الاستدلال بالقرآن على فساد ذلك الزعم، وهو مسلك أقرب إلى الإقناع لمَن رام استبيان الهدى والحقّ.

كما سَلك أيضًا في هذا المنهج ضمّ النظائر إلى بعضها، ومن شواهد ذلك ما ذكره الحافظ ابن عبد البر، قال: «سُئل مالك: أيُرى اللهُ يوم القيامة؟ فقال: نعم، يقول الله -عز وجل-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22، 23]، وقال لقوم آخرين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين: 15]»[19]. والمنهج الذي سلكه هنا تأكيد المعنى بما يدلّ عليه من القرآن الكريم.

وسلك الإمام مالك هذا المسلك أيضًا في تفسيره لقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}[النساء: 78]، قال مالك: في قصور السماء، ألَا تسمع قوله: {والسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج: 1]. وقيل معناه: في قصور محصَّنة، قاله: قتادة، وقيل المعنى: في قصور السماء، قاله أبو العالية[20]. واستشهاد مالك على هذه المعاني بالقرآن كان مردُّه إلى كون بعض أهل الأهواء في زمانه كانوا يعتمدون على تأويلات باطلة للآيات لتقرير مذاهبهم؛ فكان في بيان الآيات على هذا النحو ردٌّ على أهل الأهواء فيما يسلكونه من مسالك غير مرضية في التفسير.

ومن جمعهِ بين المعاني الصحيحة وربط الاستدلال بعضه ببعض: ما روى ابن وهب وغيره عن مالك في معنى قول زيد بن أسلم: «اتقّ الله يحبّك الناس، وإن كرهوا»[21]، فقال: هذا حقّ، وقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم: 96]، وقرأ مالك: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}[طه: 39][22]. فقد أكّد المعنى الوارد بما دلّ عليه من القرآن، وأنه ينبغي أن يسلك في ذلك مسلك الاستدلال لتثبيت تلك المعاني وإقرارها بذكرها مقترنة بأدلتها.

ثالثًا: الاختصار في بيان المعنى والاقتصار على ما دلَّت عليه الآيات الأخرى، ومن ذلك ما أورده الإمام القرطبي في بيان معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النساء: 51]: «وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عُبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول: إنّ الجبت: الشيطان، ذكره النحاس. وقيل: هما كلّ معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله، وهذا حسنٌ. وأصل الجبت: الجبس، وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين، قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقولُ مالك في هذا الباب حسنٌ، يدلّ عليه قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها}[الزمر: 17]»[23]. ورغم تعدُّد المعنى المراد من الطاغوت؛ فإن الإمام مالكًا اقتصر على معنى عامٍّ له ما يؤيده، وهو المعنى الذي تعزّزه الآيات الأخرى وتدلّ عليه، ويستفاد من ذلك أن ما دلّ عليه القرآن من المعاني لا يُعْدَل عنه إلى غيره.

رابعًا: حمل الآية على بعض ما تدلّ عليه بحسب الحال أو السياق أو السائل، ومن ذلك ما فسر به قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران: 106]، فقد أورد العلماء في معنى الآية خمسة أقوال؛ الأول: أنهم المنافقون؛ قاله الحسَن. الثاني: أنهم المرتدّون؛ قاله مجاهد. الثالث: أهل الكتاب؛ قاله الزجاج. الرابع: أنهم جميع الكفار، أقرُّوا بالتوحيد في صلب آدم ثم كفروا بعد ذلك؛ قاله أُبيّ بن كعب. الخامس: روى ابن القاسم عن مالك أنهم أهل الأهواء. قال مالك: وأيُّ كلامٍ أبْيَنُ من هذا[24]؟

وقد تعقّب ابن العربي قول الإمام مالك بقوله: «وهذا الذي قاله ممكن في معنى الآية، لكن لا يتعيّن واحد منها إلّا بدليل، والصحيح أنه عامٌّ في الجميع...»[25]. ومثل هذا العموم الذي ذكره ابن العربي قد لا يخفى على الإمام مالك، ولكنه قد يكون بَيَّن المعنى بما اقتضاه الحال والسياق، وهذا المسلك معلوم عند السلف في التفسير، حيث يتم الاقتصار على جزء من المعنى في التفسير دون ذِكر كلّ ما تشمله الآية عند اقتضاء الحال والسياق، أمّا الأصل فهو بيان العموم بعمومه؛ كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

خامسًا: ذم التفسير بالرأي الذي لا دليل عليه، أو صدوره عن غير أهله، والحثّ على أخذ التفسير من أهله، وقد كان الإمام مالك مستمسكًا بهذا المنهج ذامًّا التفسير بالرأي، ونقل الإمام الذهبي عن الإمام مالك قوله: «لو أنّ لي سلطانًا على مَن يفسّر القرآن، لضربتُ رأسه»، ثم قال الذهبي مبينًا قول الإمام مالك: «قلت: يعني تفسيره برأيه»[26]. فقد كان وقّافًا عن القول بما لا يعلم في كتاب الله أو سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول: «ينبغي أن يورِّث العالمُ جلساءَه قولَ (لا أدري)؛ حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه؛ فإذا سُئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري»[27].

وكان الإمام مالك يعتمد الاستدلال بالقرآن فيما ينبغي أن يكون عليه العبد من اليقين في أمر العقيدة، ولا يقبل الجدال فيما وردت فيه النصوص، قال ابن وهب: «وسمعت مالكًا يقول إذا جاءه أحد من أهل الأهواء: أمّا أنا فعَلَى بيّنة من ربي؛ وأمّا أنت فشاكٌّ، فاذهب إلى شاكٍّ مثلك فخاصِمْه، ثم قرأ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108]»[28].

خاتمة:

ظهَر مما سلف من نظرات في تفسير الإمام مالك أهميةُ تفسيره، ومكانته العلمية، ومسلكه في تفسير ما أوردنا من الآيات، وهو مسلك مأخوذ من سَلَفِهِ من الصحابة والتابعين، وقد تبيّن كم كان الإمام مالك وقّافًا في تفسير كتاب الله، كافًّا عن القول فيما لا يعلم بلا دليل أو برهان، يسلك في سبيل الخروج من الاختلاف والشبهات مسلك الاستدلال بالقرآن، وهو يغني عن الاستدلالات الأخرى من الأنظار العقلية فيما لا سبيل للرأي فيه والتي قد لا تنجم عنها إلّا الشبهات، وكان حريصًا على اجتناب الجدل والمراء فيما ورد فيه نصّ، أو مما لا مجال للرأي فيه.

وتحرِّي الإمام مالك يبيِّنُ ما ينبغي أن يكون عليه الناظرُ في كتاب الله -عز وجل- من خشية وأهلية وأمانة. وحَرِيٌّ بالباحثين في علوم الشريعة مواصلة ما بُذِل من جهود لجمعِ ما أُثِر عن الإمام مالك في التفسير، والبحث عن مكنوزه ومفقوده، وإخراجه للانتفاع به ودراسته، ومن ثَمّ دراسة منهجه في التفسير -بعد جمع أثره في ذلك- دراسة موسَّعة تفي بالمقصود.

والله الموفِّق والهادي إلى سبيل الرشاد

 

 

[1] القَبَس في شرح موطأ مالك بن أنس، ابن العربي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى، 1992م، ص1047.

[2] القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، ابن العربي، ص1047.

[3] ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، القاضي عياض، المغرب، مطبعة فضالة، ط: الأولى، 1965م، (1/ 81).

[4] ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، القاضي عياض، (2/ 93).

[5] سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط: الثالثة، 1405هـ/ 1985م، (8/ 89).

[6] كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطّا، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق: طه بن علي بوسريح التونسي، دار سحنون للنشر والتوزيع/ دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة: الثانية، 1428هـ، ص19.

[7] القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، ابن العربي، ص1047.

[8] التفسير والمفسرون، محمد السيد حسين الذهبي، القاهرة، مكتبة وهبة، د.ت، (1/ 113).

[9] ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، القاضي عياض، (1/ 83).

[10] التفسير والمفسرون، محمد السيد حسين الذهبي، (1/ 77).

[11] كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطّا، ابن عاشور، ص20.

[12] شعب الإيمان، أبو بكر البيهقي، الرياض، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، 1423هـ/ 2003م، (2/ 543)، حديث: 2090.

[13] مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، 1399هـ/ 1979م. (5/ 381).

[14] الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، الهند، مجلس دائرة المعارف العثمانية- بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى، 1271هـ/ 1952م، (1/ 18).

[15] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 57).

[16] الأسماء والصفات، أبو بكر البيهقي، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، الطبعة: الأولى، 1417هـ، (1/ 568). وقد تعدد نقل هذا القول عن الإمام مالك بروايات مختلفة.

[17] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، الرياض، دار عالم الكتب، 1423هـ/ 2003م، (7/ 220).

[18] ترتيب المدارك، (2/ 42).

[19] الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، ابن عبد البر، بيروت، دار الكتب العلمية، د.ت، ص36.

[20] الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه، مكي بن أبي طالب، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الشارقة، مجموعة بحوث الكتاب والسُّنة، الطبعة: الأولى، 1429هـ/ 2008م، (2/ 1390).

[21] مسند الموطأ، الجوهري، تحقيق: لطفي بن محمد الصغير، طه بن علي بُو سريح، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى، 1997م، ص309.

[22] أحكام القرآن، ابن العربي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط: الثالثة، 1424هـ/ 2003م، (3/ 52).

[23] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، القاهرة، دار الكتب المصرية، الطبعة: الثانية، 1384هـ/ 1964م، (5/ 249).

[24] أحكام القرآن، ابن العربي، (1/ 315).

[25] المصدر نفسه.

[26] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/ 97).

[27] الديباج المذهَّب في معرفة أعيان علماء المذهَب، ابن فرحون، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، القاهرة، دار التراث للطبع والنشر، (1/ 112).

[28] الديباج المذهَّب في معرفة أعيان علماء المذهَب، ابن فرحون، (1/ 115).

الكاتب

الدكتور عبد الكريم القلالي

حاصل على الدكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))