أحوال المؤمن وقت نزول البلاء
نظرات من وحي القرآن

تعرَّض القرآنُ لقضية الابتلاء من عدّة جوانب، ومما تعرَّض له وفصَّل فيه: الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن وقت نزول البلاء، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على أهم هذه الجوانب التي ركَّز عليها القرآن، وحثّ المؤمنين على تمثُّلها والعمل بها.

  أنزل اللهُ تبارك وتعالى القرآنَ هدى ورحمة للمؤمنين، يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام، يخرج الناس من الظلمات إلى النور، يهديهم إلى صراط العزيز الحميد، جعله اللهُ شفاءً لما في الصدور، تبيانًا لكلّ شيء، يهدي للتي هي أقوم، وتشمل هدايته ما فيه صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن أنواع الهدايات التي دلَّ هدى القرآن للطريق الأقوم فيها: هدايته للإنسان حال نزول البلاء.

وإذا تأملنا في القرآن وأمعنَّا النظر في آياته نجد أنّ الحديث عن سُنّة الابتلاء جاء مصرحًا به ومتكرِّرًا بصورة ظاهرة، كما في قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35]، وغيرها من الآيات.

ولمّا سطَّر القرآن هذه الحقيقة لم يترك الناس حيارى، بل أعلمهم ببعض الأسباب التي أوجبت البلاء عليهم، ومنها على سبيل التمثيل؛ قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}، ثم أخبرهم ببعض أوجه الحكمة من تقديره، فقال جلَّ وعلا: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41]، حتى يتدبروا ويتفكروا في قدرة الله وحكمته، ويلجؤوا إليه في دفعه بما أخبرهم به.

وقد تكرّر تناول القرآن الكريم لقضية الابتلاء من هذه الزوايا وغيرها، ومن أهم المواضيع المتعلّقة بالبلاء والتي فصَّل القرآن فيها: وصف أحوال المؤمنين وقت نزول البلاء، وإرشادهم وهدايتهم لما ينبغي أن يكونوا عليه وقت نزوله، وهذا ما سنتعرّض له في هذه المقالة[1].

لقد أطال القرآنُ في ذكر أحوال المؤمنين وقت نزول البلاء، وفصَّل في ذلك تفصيلًا؛ حتى إذا نزل بالمؤمن بلاءٌ اهتدى بنور القرآن إلى الحالة التي يجب أن يكون عليها؛ فيكون بلاؤه بردًا وسلامًا على قلبه، ومن هذه الأحوال التي تكلّم عنها القرآن:

الحالة الأولى: الاستعانة بالله:

عَلِم اللهُ ضعفَ العباد وافتقارهم إليه فألزمهم بتكرار سؤال الاستعانة في صلاتهم في كلّ ركعة، واستحضار طلب العون في جميع أمورهم، فافتتح الله -تبارك وتعالى- بهذا المعنى كتابه، فقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5].

قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: «لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكين، إقرارًا لك يا ربنا بالرُّبوبية لا لغيرك... وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلّها -لا أحدًا سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أموره معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة»[2].

ثم خصّصَ القرآنُ بعضَ الأمور التي تشتد حاجة العبد فيها إلى الاستعانة بالله، ومن هذه المواضع التي سطَّرها القرآن: الوصيّة بالاستعانة حال وقوع البلاء.

وقد جاء في القرآن في غير موضعٍ الوصيةُ بالاستعانة حال نزول البلاء، ومن ذلك: ما ابتلى اللهُ به قوم موسى بفرعون الطاغية يُقتِّل أبناءهم ويستحيي نساءهم! فما كان من موسى -عليه السلام- إلّا أن وصَّى قومه بقوله: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}[الأعراف: 128]، قال السعدي -رحمه الله-: «قال موسى لقومه موصيًا لهم في هذه الحالة -التي لا يقدرون معها على شيء ولا مقاومة- بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} أي: اعتمدوا عليه في جلبِ ما ينفعكم، ودفعِ ما يضرّكم، وثقوا باللّه أنه سيتم أمركم، {وَاصْبِرُوا} أي: الزموا الصبر على ما يحلّ بكم، منتظرين للفرج»[3].

وقد جاءت الوصية بالاستعانة من نبي الله موسى -عليه السلام- في موطن يستحيل فيه رفع البلاء إلّا بالله؛ وهكذا ينبغي أن يكون حال المؤمن: إذا نزلت به النوازل، واشتدّت عليه المصائب والكروب؛ يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلّا بالله فيستعين به على ما أحلَّ به من بلاء.

وهذه الوصية من أنفع الوصايا القرآنية للعبد حال نزول البلاء؛ فالمعاني التي تتَّصل بما اختار الله تكراره بالصورة التي ذكرناها في معنى الاستعانة؛ هي أنفع المعاني للعبد وأكثر خصوصية من غيرها.

والعبد إذا غفل عن الاستعانة بالله وما اتصل بها من معانٍ حال وقوع البلاء، هلك؛ لأنّ البلاء لا ينفكّ عن الإنسان بحال، وإذا اشتدَّ البلاء وخرج عن طاقة البشر حيث لا مُعِين ولا قادر على دفعه من الناس وهم غافلون عن الله؛ أصابهم من الجزع والخوف واليأس والضيق ما يكون سببًا في هلاكهم لقلّة حيلتهم وضعفهم.

أمّا مَن امتلأ قلبه بالاستعانة بالله وما تعلّق بها من أحوال؛ علم أنه لا قادر إلّا الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، فينطرح بين يديه ويأوي إلى ركنٍ شديدٍ يدفع عنه بلاءه، ويُطَمْئِن قلبَه، ويُنزِل عليه الرضا والسكينة، فيمرُّ به بلاؤه بردًا وسلامًا.

فما أشقى مَن لا مُعِين له ولا قويّ قادر يأوي إليه!

ومِن أعظم الأحوال التي يطلب بها العبدُ العونَ من الله تبارك وتعالى:

الحالة الثانية: الدعاء:

أمَر اللهُ عبادَه بالدعاء وجعَله هو العبادة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60]، وكان سفيان الثوري يقول: «يا مَن أَحَبُّ عباده إليه مَن سأله فأكثر سؤاله، ويا مَن أَبْغَضُ عباده إليه مَن لم يسأله، وليس أحد كذلك غيرك يا رب»، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤاله .. وبُنَيّ آدم حين يُسْأَلُ يَغْضَبُ[4]

ومِن أخصّ مواطن الدعاء: حال البلاء التي يظهر فيها ضعف الإنسان؛ وإذا تأملنا فيما ذكره القرآن عن أحوال الأنبياء وقت نزول البلاء؛ تتجلّى لنا أهمية الدعاء وتسبُّبه في إعانتهم، ورفع بلائهم، ونصرتهم. ومن ذلك: ما ابتلى الله به نوحًا من تكذيب قومه إيّاه، ووصفهم له بالجنون، فما كان منه في هذا الكرب العظيم إلّا أنْ دعا ربَّه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر: 10].

فاستجاب الله دعاءه وأغرق الذين كذَّبوه ونصَره، فقال الله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}[القمر: 11-13].

وكذلك استجاب الله لنبيِّه لوط حين ابتُلي بتوعُّد قومه لإخراجه من بلده إن لم ينتهِ عن دعوتهم، فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}[الشعراء: 169]، فاستجاب اللهُ دعاءَه، فقال تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}[الشعراء: 170-171]، وما جاء في هذا المعنى كثير، فأولئك الذين هدى الله لجؤوا إلى ربهم بالدعاء حال بلائهم؛ فبهداهم اقتده، فإنّ الدعاء من أعظم الأحوال التي يلازمها المؤمن وقت نزول البلاء، وأعظم ما يُستعان به على طلب العون من الله -تبارك وتعالى-.

وقد يُنزل اللهُ البلاءَ على عباده حتى يستخرج منهم عبادة الدعاء والتضرّع والاستغاثة والافتقار إليه، قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 43]، قال القرطبي -رحمه الله-: «وهذا عتاب على تَرْك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرَّعوا حين نُزُول العذاب»[5].

وقال ابن القيم -رحمه الله-: «فاللهُ يبتلي عبده ليَسْمَع تضرعَه ودعاءَه والشكوى إليه، ولا يحبّ التجلُّد عليه، وأحبُّ ما إليه انكسارُ قلبِ عبده بين يديه، وتذلُّـله وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلّة صبره، فاحذر كلّ الحذر من إظهار التجلّد عليه، وعليك بالتضرّع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذلّ والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم»[6].

وقال تعالى عن حال المؤمنين في غزوة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}[الأنفال: 9]، وكانت صورة استغاثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بربه: أنه استقبل القبلة، ثم مدّ يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أين ما وعدتني، اللهم أَنجِزْ لي ما وعدتني، اللهم إِنْ تُهْلِكْ هذه العِصابةَ مِن أهل الإسلام فلا تُعبَدْ في الأرض أبدًا»، قال: فما زال يستغيث ربَّه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فَرَدَّاهُ، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتُكَ ربَّك، فإنه سَيُنْجِزُ لك ما وعدك، فأنزل الله الآية[7].

وهذه العبادات التي يستخرجها اللهُ من قلوب عباده -حال تقدير البلاء- من الدعاء والتضرّع والاستغاثة، تستوجب من العبد أن يخاف على نفسه من جحود نعمة الله عليه بعد كشف الضر ورفع البلاء، والمداومة على شكر الله، حتى لا نشابه حال المشركين بعد نجاتهم، فقد حكى القرآنُ عنهم دعوتهم لله بذُلٍّ وانكسار ثم تغيّر حالهم بعد كشف الضر، فقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[الأنعام: 63-64]. والمؤمن يحذر من هذه المشابهة خوفًا من عقاب الله وانتقامه.

ومن خلال ما سبق نستنبط أنّ القرآن وجَّه المؤمنين إلى الدعاء بصورة عامّة سواء كان في السرّاء أو الضرّاء، ثم كرّر هذه الموعظة بصورة أخصّ فذكر من أحوال الدعاء: التضرّع والاستغاثة.

الحالة الثالثة: الصبر:

حثَّ القرآنُ على الصبر في أكثر من موضع، ورتَّب عليه أجورًا بغير حصر تعظيمًا لجزاء الصابرين، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 200]، قال السعدي -رحمه الله-: «حضَّ المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح، وهو: الفوز والسعادة والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، مِن تركِ المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك، والمصابرة أي: الملازمة والاستمرار على ذلك على الدوام»[8].

وجعل الله ثواب الصبر بغير حساب لكثرته وعظمته، فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10].

وإذا نظرنا إلى الصبر باعتبار متعلَّقه نلحظُ أن الصبر على البلاء من الأنواع التي أطنب القرآن في ذكرها، ومدح أهلها، ومما جاء في القرآن في هذا المعنى:

ما حُكِيَ عن أيوب -عليه السلام- أنه كان صاحب حرث وأنعام وأولاد فابتلاه الله بإهلاكها كلّها، ثم ابتلاه بجسده فلم يبقَ منه سليمٌ سوى لسانه وقلبه يذكر بهما ربه حتى تنافر عنه كلّ أنيس، وتحاشى عنه كلّ جليس، فلا يتردّد عليه سوى زوجته[9]، ورغم كلّ هذا البلاء لم يفعل شيئًا سوى إخبار ربِّه أنه مسَّه ضرٌّ! فقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء: 83]، فدعا ربَّه بإخباره عن حاله، وأثنى عليه ربُّه في موضع سورة (ص)، فقال جلَّ وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: 44]. ولمّا وُجِد الدعاء من أيوب، وشدّة صبره، وكثرة رجوعه إلى ربِّه -تبارك وتعالى- كشف الله -تبارك وتعالى- ما به من ضُرّ، فقال -تبارك وتعالى-: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ}[الأنبياء: 84].

إنّ الناظر في حال أيوب -عليه السلام- مع بلائه يتعجّب من صبره، ويستعين بهذه القصة مع كلّ بلاء على استحضار معنى الصبر والتحلِّي به؛ فبالرغم من كثرة البلاء وشِدَّته لم يجزع أو يسخط على ربِّه، وإنما حكى القرآن من أوصافه: الدعاء والصبر والأوبة إلى ربِّه؛ فكان ذلك سببًا في دفع بلائه.

وهكذا ينبغي أن يكون كلّ مبتلى صابرًا حابسًا نفسه عن الجزع؛ شاخصًا بصره إلى مآل صبره، وعظيم أجره، يتفكّر في أقدار الله وما فيها من الخير؛ حتى يدفع الله بلاءه ويزيد له في أجره.

ولقد خُلق الإنسانُ ضعيفًا، ومعلومٌ أنّ الصبرَ قد يصعب على النفس خاصّة عند شدّة البلاء، ولكنه -سبحانه وتعالى- لطيفٌ خبيرٌ عليمٌ بما في الصدور؛ فأرشد عبادَه في كتابه إلى ما يُعِينهم على الصبر، وتجاوُزِ ما يمرّون به من آلامٍ ومِحَنٍ إلى أبواب الفرج، فمن ذلك:

- الاستعانة بالله على الصبر:

جاء إخوة يوسف -عليه السلام- بدمٍ كذبٍ على قميصه وكذبوا على أبيهم، وابتُلي يعقوب بفقدِ أحبّ الناس إليه، فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف: 18]، وهذا الاقتران بين الصبر والاستعانة بالله يُشير إلى أن العبد لا يمكنه أن يصبر إلّا إذا استعان بالله، وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: 127]. وقد تكلمنا في حال الاستعانة وضرورة استحضارها في جميع أحوال المؤمن وقت نزول البلاء؛ إلّا أن تكرارها مع الصبر أوكد.

- استشعار معيّة الله للصابرين:

وعَد اللهُ -تبارك وتعالى- عباده الصابرين أنه معهم، وهذه معيّة خاصّة بالنصرة والتأييد لا تكون إلّا للمؤمن الذي يتحلَّى بأوصاف المؤمنين، فإذا علمنا أن الله -تبارك وتعالى- مع الصابرين ينصرهم ويحوطهم، كما تكرّر ذلك الوعد في أكثر من موضع، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 153]، وقال أيضًا:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 249]، فتأمُّل التكرار بهذا الوعد والتأكيد عليه في أكثر من موضع يُعِين الإنسان على الصبر لاستشعار معيّة الله ونصره وتأييده ومحبته.

- النظر في عاقبة الصبر:

إنّ عادة القرآن في أوامره أنه إذا حثَّ على فعلٍ وأمَر به رغَّب فيه بذكر عاقبته المحمودة، وهكذا رغَّب القرآن في الصبر بذكر عاقبته، حتى إذا نظر الإنسان في هذه العاقبة هان عليه بلاؤه لما يترتّب على صبره من الجزاء الذي لا يمكن لعاقل إيثاره على غيره مما يضر العبد ولا ينجيه.

وقد رغَّب اللهُ الصابرين في كتابه في أكثر من موضع، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]، وقال سبحانه: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}[الفرقان: 75]، وما جاء في القرآن مِن ذكرِ أجرِ الصابرين يطول ذكره في هذا المقام، فمرِّرْ على قلبك ما أعدَّه الله للصابرين؛ يُذلَّلْ لك الصبر ويرسُخْ في قلبك.

الحالة الرابعة: الاسترجاع في البلاء:

وعَد اللهُ -تبارك وتعالى- عباده أنه سيبتليهم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم بشَّر الصابرين على هذا البلاء، وكان من صفاتهم التي وصفهم الله -تبارك وتعالى- بها ومدحهم عليها: الاسترجاع حال نزول المصيبة بقولهم: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وجعل الله من ثمرات هذا القول: استحقاق العبد لدخوله تحت وصف الصابرين، وجلبه لثناء الله عليهم ومغفرته ورحمته، قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157]. قال ابن عطية -رحمه الله-: «جعل هذه الكلمات ملجأً لذوي المصائب، وعصمةً للممتحنين لِمَا جمعَتْ من المعاني المباركة؛ وذلك توحيد الله، والإقرار له بالعبودية، والبعث من القبور، واليقين بأن رجوع الأمر كلّه إليه كما هو له. وقال سعيد بن جبير: لم يُعْطَ هذه الكلمات نبيٌّ قبل نبيِّنا، ولو عرفها يعقوب لَمَا قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}»[10].

إنّ من توفيق الله -تبارك وتعالى- للعبد أن يوفِّقه حال وقوع المصيبة لأنْ يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فإذا تدبَّر العبدُ هذا القول الذي استحقّ قائله الدخول تحت وصف الصابرين، واستشعر ما به من معاني التوحيد والعبودية، وما ترتّب عليه من ثمرات من ثناء الله ومغفرته ورحمته؛ ما فتر عن قول: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فيكون بلاؤه بردًا وسلامًا على قلبه؛ لأن المؤمن يعلم أنه مملوك لله، فإذا أخذ منه شيئًا فهو له -سبحانه- المالك، ثم يعلم أن هذا الأخذ يصحبه جزاء أعظم مما أخذ منه، وذلك يوم القيامة عندما يرجع إلى ربه، وهذا لا يكون إلّا للمؤمن.

الحالة الخامسة: الأخذ بالأسباب المادِّيّة:

يُعَدُّ الأخذ بالأسباب المادية من الأحوال التي تعم جميع البشر، فما سبق من الأحوال المذكورة يَنعم بها المؤمن ولا يشاركه فيها أحد، وقد يُظن أن المؤمن يقتصر على اللجوء إلى ربه بما ذكرناه من أحوال، ويغفل عن الأخذ بالأسباب المادّية؛ وهذا خطأ، فما أكثر الآيات التي يُستنبط منها هذا المعنى وسأقتصر على ما جاء في بلاء يعقوب -عليه السلام- عندما فقَدَ ولَدَيه حتى يتجلَّى لنا حالُ الأخذ بالأسباب.

لمّا غاب يوسف ثم أخوه عن يعقوب -عليه السلام- ابيضّت عيناه من الحزن، وبالرغم من شدّة حزنه إلّا أن قلبه ما زال معلَّقًا بالله، صابرًا آخذًا بالأسباب، فأرسل أبناءه للبحث عن يوسف وأخيه، رغم الحالة التي كان عليها مِن تأسُّفٍ وحزنٍ مِن فرطِ حبه لولدَيه، وقد حكى عنه القرآن قوله: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87].

فأمَر أبناءه أن يلتمسوا خبر يوسف وأخيه، ولم يُنافِ ذلك صبره ودعاءه ورجاءه وحُسن ظنه بربّه أن يأتيه بهما، ويظهر في هذه الآية دفعُ ما يُتوهَّم من التعارض بالأخذ بالأسباب مع اللجوء إلى الله.

ولكن ينبغي التنبيه على أن المؤمن يختلف حاله أيضًا عن غيره حال أخذه بالأسباب: فإذا ضربنا مثالًا بما نمرُّ به من أزمة الكورونا: أنّنا نأخذ بأسباب الوقاية التي أرشد إليها الأطباء ويشترك فيها جميع الخلق.

ثم ما يتميز به المؤمن عن غيره أنه مع أخذه بالأسباب لا ينسى اللجوء إلى الله ومعيّته، وحُسن الظن بربّه، لذلك ترى مصاحبة حسن الظنّ بالله في هذه الآية حاضرًا مع أخذ يعقوب -عليه السلام- بالأسباب من إرسال أبنائه، فقال: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87].

وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[يوسف: 83]. وأمّا غير المؤمن فقد يُصاب بالهلع والخوف حال أخذِه بالأسباب، فالحمد لله على نعمة الإسلام.

خاتمة:

ظهَر لنا من خلال ما سبق بعضٌ من أحوال المؤمنين حال نزول البلاء، وكيف وجَّه القرآنُ المؤمنين إلى التعامل مع البلاء، وسلَّطْنَا الضوء على أهم الأحوال القلبية للمؤمن في حال البلاء من خلال آيات القرآن الكريم، وقد قصدتُ تأخير الكلام عن حال الأخذ بالأسباب المادِّية لاعتماد معظم الناس عليها وإغفالهم الأحوال القلبية التي هي أهم ركائز الخطاب القرآني.

وأخيرًا فما ذكرناه من أحوال يجلِّي لنا المفارقة بين المؤمن الذي يهتدي بالحقّ المبين وغيره ممن لا يرجون من الله شيئًا ولا يعتبرون هدايته في مسالك حياتهم، فما أسعد مَن أنعم الله عليه بالقرآن واتَّبع النور الذي أُنزل إليه، ويا شقاء من لا نور له ولا هداية!

والحمد لله رب العالمين

 

[1] حرصتُ أثناء كتابة هذه الأحوال على البُعد عن التعريفات اللغوية والمصطلحية، والفروقات الدقيقة بين الأحوال القلبية، وفضَّلْتُ مقاربة طريقة المفسرين في تناول المعاني القلبية أثناء تفسيرهم؛ من دمج المعاني المتقاربة في جملة، وعدم التدقيق في الفروقات بين المعاني القلبية المتقاربة أثناء التفسير، وقد رأيتُ ذلك أنفع لتحقيق الهدف من المقالة.
كما أنني حذفتُ بعض الأحوال التي قد يكون بينها تقارب شديد أو لها علاقة بما ذكرتُ؛ خشية الإطالة والتركيز على أغلب المعاني التي تُكرّر في القرآن حال وقوع البلاء، ومن أراد الاستزادة والبحث عن التعريفات اللغوية والمصطلحية يمكنه مراجعة موسوعة التفسير الموضوعي الصادرة عن مركز تفسير فقد استفدت منها في هذا الجانب.

[2] جامع البيان، الطبري، ط. دار هجر، (1/ 160‏).

[3] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، ط1. مؤسسة الرسالة، (1/‏ 300).

[4] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط. العلمية، (7/‏ 139).

[5] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ط. دار الكتب المصرية، (6/ ‏425).

[6] كتاب الروح، ابن القيم، دار الكتب العالمية، بيروت، (1/‏ 260).

[7] مختصرًا من تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (9/ ‏70).

[8] مختصرًا من تفسير السعدي، (1/ 162).

[9] منقول بتصرف؛ أعمال القلوب، خالد السبت، (2/ 262).

[10] المحرر الوجيز، ابن عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، (1/ 228).

الكاتب

محمد السيد صديق

حاصل على ليسانس اللغة العربية - كلية الآداب جامعة الإسكندرية، وباحث ماجستير في شعبة الدراسات الإسلامية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))