كتاب (إعراب القرآن) المنسوب إلى الزجَّاج
تحقيق نسبته واسمه (2-2)

بعد أن ناقشَت المقالة الأولى نسبة كتاب (إعراب القرآن) للزجَّاج، وعرضَت رأيًا في احتمال نسبته لأبي الحسن الباقولي؛ تتناول المقالة الثانية تحقيق اسم الكتاب، وترجِّح كونه (الجواهر)، مع عرض معطيات هذا الرأي، وما قد يُعترض به عليه، ومناقشته.

كتاب (إعراب القرآن) المنسوب إلى الزجّاج؛ تحقيق نسبته واسمه (2-2)[1]

  ذكرتُ -فيما سلف- دواعي الشكّ في أن يكون اسم هذا الكتاب (إعراب القرآن)، ورجَّحت أن يكون مَنْ أثبت له هذا الاسم قد أخطأ في تسميته كما أخطأ في نسبته إلى الزجّاج، وإني لأحسب أن هذا من ذاك، وأنّ الرجل استظهر أولًا أنّ الكتاب في إعراب القرآن؛ ثم ألصقه بأبي إسحاق لاشتهاره بالتأليف في هذا الباب، وقد جاء تحقيق نسبة الكتاب معزوًّا لما قدمتُ من الشكّ في اسمه من جهة، وهاديًا إلى طريق التحقيق في ذلك من جهة أخرى، وأغلب ظني أنّ اسمه الصحيح هو (الجواهر)؛ وذلك أني رأيتُ مؤلفه أكثر في (الكشف) من الإحالة على كتاب له بهذا الاسم، وكلامه يدلّ على أنه معقود بأبواب، وكلُّ ما أحال عليه من أبوابه ومسائله بما اشتمل عليه هذا الكتاب.. وهذا جملة ما وقفت عليه من ذلك:

1. قال في كلامه على قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}[آل عمران: ۷۳] (اللوح: ۳۷-۳۸): «...وقيل في قوله: (إلا لمن تبع دينكمأن اللام زيادة، وهو استثناء مقدم، والتقدير: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم. وقد ذكرنا[ه] في الجواهر بأتمّ من هذا».

وقد بسط القول في هذه الآية في (باب حذف حرف الجر) من المطبوع باسم إعراب القرآن، (ص: 112، 113) واختار في تأويلها الوجه الذي ذكره ههنا، ثم عاد فذكره في باب (التقديم والتأخير)، (ص: 676)، وقد ألمّ بأشياء فيها (ص: 59-60، 375، 617) أيضًا.

2. قال في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}[الأنعام: 83] (اللوح: 55/ 2)«...(تلك) مبتدأ، و(حجتنا) خبر. وظاهر النصّ يعطيك أن قوله: (على قومه) من صلة (حُجّتنا) أي: فتلك حجتنا على قومه، وهذا إذا روجعوا فيه قالوا: أن قوله: (آتيناها) من صفة (الحجة)، والصفة لا تَفصل بين الصلة والموصول...[2]، فينبغي أن يكون متعلّق بمحذوف، هذا الظاهر تفسير له -هكذا في نسخة الأصل التي قرأها على المصنف داخل في (الحجة)- إمّا أن يكون خبرًا آخر، أو يكون على إضمار (قد) في موضع الحال، وكلاهما لا يفصل بين المصدر وصلته. قال: ويكون أن يكون التقدير: تلك حجتنا حجة آتيناها، فـ(حجة) المنصوبة حال، و(آتيناها) من صفته. هكذا نقل عن أبي عليّ غلامُه. ونقل عنه أيضًا أن (حجة) محذوفة، أي: تلك حجتنا حجة آتيناها إبراهيم على قومه، وهو أيضًا فصل بين الصلة والموصول. ويجوز أن يقدر: وتلك حجتنا معطاة إبراهيم حجة على قومه، فتضمر (حجة) منصوبة على الحال، أي: وتلك حجتنا في حال كونها حجة على قومه، وقد ذكرناه في الجواهر».

وقد ذكر المؤلف هذه الآية في (باب ما جاء في التنزيل من حذف (أن)، وحذف المصادر، والفصل بين الصلة والموصول) من هذا المطبوع باسم (إعراب القرآن)، وحکی (ص: 635، 636) ما أصابه من كلام أبي عليّ فيها. وقد دفعه ما احتجّ به أبو عليّ لجواز الفصل بين الموصول والصلة بالحال من أنّ الحال تشبه الظرف، وقد يجوز في الظرف ما لا يجوز في غيره، ونصَّ أنّ الفصل بينهما لا يجوز سواء أكأن الفاصل ظرفًا أم غير ظرف. إلا أنه لم يذكر هناك الوجه الأخير بما ذكره هنا، والظاهر أنه القول المختار عنده لخلوِّه من الفصل.

3. قال في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[طه: 14] (اللوح: 84/ 1): «أي: لتذكرني، فأضافه إلى المفعول وحذف الفاعل. وإن شئت لأذكرك، فحذف المفعول واقتصر على الفاعل. وكلاهما شاع في التنزيل، وقد عددنا ذلك في الجواهر».

وما ذكر أنه عدَّدَه في (الجواهر) قد جاء تعداده في هذا المسمى (إعراب القرآن)، (ص: 459) وما بعدها، وذلك في الباب العشرين الذي عقده لـ(ما جاء في التنزيل من حذف المفعول والمفعولين، وتقديم المفعول الثاني على المفعول الأول، وأحوال الأفعال المتعدية إلى مفعولها، وغير ذلك مما يتعلق به). وقد ذكر فيه (ص: 460) هذه الآية في جملة ما ذكر من ذلك، وقال في تأويلها نحو ما قال في (الكشف).

4. قال في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}[طه: 25، 26] (اللوح: 84/ 2): «عدَّى (يسر لي) إلى الياء باللام، وإلى (أمري) بغير واسطة. وهذا عكس ما جاء في قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى: 8] و{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[سورة الليل: 7] و{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[سورة الليل: 10]. ولو كان على ذا القياس لقال: (ويسّرني لأمري)، أو قال هناك على هذا القياس: (ونيسر لك اليسرى)، و(سنيسر له اليسرى)، و(له العسرى)، فثبت أن الأمرين جائزان. فمن هناك اختلفوا في قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس: 20] فقال قائلون: إنّ التقدير: ثم يسره للسبيل. فحذف اللام، والهاء كناية عن المخلوق من النطفة. وقال قائلون: إنّ التقدير: ثم السبيل يسّره له. يعني للمخلوق من النطفة، فحذف الجار والمجرور، والهاء كناية عن (السبيل) على هذا، ويكون نصب (السبيل) من باب قوله: {وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ}[3] [فصلت: 17] وقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة: 40] وقد ذكرنا نظائر هذا في الجواهر».

وقول المؤلف: «وقد ذكرنا نظائر هذا في الجواهر»، يحتمل أمرين: 

أولهما -وهو الأرجح عندي-: أنه أراد ما جاء في التنزيل من حذف الجار والمجرور، وقد عقد لذلك الباب الخامس عشر من الكتاب الذي بين أيدينا، (ص:309-351)، ولم يذكر فيه قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس: 20]، غير أنه كان قد عرض لهذه الآية في (باب ما جاء في التنزيل وقد حذف منه حرف الجر)، (ص:119، 120)، وقال فيها نحو ما قاله في (الكشف)، وذهب إلی أن حملها على تقدير حذف الجار والمجرور أحسن. ويظهر أنه استغنی بذكرها في هذا الباب عن ذكرها في الباب الآخر.

والثاني: أن يكون قد أراد ما جاء في التنزيل من أمثلة الاشتغال كما في قراءة النصب في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ}[فصلت: 17]، وقد عرض لذلك -ومنه هذه القراءة- في (باب ما جاء في التنزيل من ازدواج الكلام والمطابقة والمشاكلة وغير ذلك)، من هذا المطبوع، وبسَط القول فيما يختار فيه النصب وما الوجه فيه الرفع، (ص:383-388).

5. قال في قوله -عزّ وجل-: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] (اللوح: 85/ 1): «وأما قوله: (لا يضلّ ربي)، فَلَك فيه تقديران: أحدهما: أن التقدير: لا يضلّ عن ربي. ففي: (يضل) ضمير يعود إلى (کتاب) أي: في كتاب غير ضال عن ربي. وإن شككت في تعدية (ضل) بـ(عن)، فقوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا}[الأعراف: 37] يزيل شكَّك هذا. فيكون قد حذف (عن) كما حذف (على) من قوله تعالى: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}[النمل: 8]، أي: على من في طلب النار، أو بقرب النار.

والتقدير الثاني في قوله: (لا يضل ربي)، أي: لا يضل ربي عنه. فحذف الجار والمجرور ما حذفها من قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}[البقرة: 48]، أي: فيه. وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}[النساء: 56]، أي: كلما نضجت جلودهم منها. وقال: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}[سبأ: 15] أي: كلوا منها. وقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}[ص: 50]، أي: الأبواب منها. وقال: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 39] [أي: المأوى][4] له. فحذف الجار والمجرور، وقد عددت ذلك في (الجواهر)، وذكرت أنّ الحذف من الصفة كالحذف من الصلة؛ ألا تراه شاع في التنزيل كما شاع في الصلة. وفي (الكتاب) خلاف هذا؛ لأنه كأنه يشير إلى أن حذفه من الصفة کحذفه من الخبر، وليس الأمر كذا في الصفة؛ لأنه قد كثر في الصفة، وفي الخبر إما جاء في قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشوری: 43]، أي: منه. وجاء في قراءة ابن عامر: {وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد: 10]، أي: وعده الله. وقد كثر في الصفة فهو كالصلة بخلاف ما في (الكتاب)».

وهذا نصّ صريح في أنه عقد في (الجواهر) بابًا عدّد فيه هذه الآي ونظائرها مما حذف فيه الجار والمجرور، وذكر فيه أن حذف العائد من جملة الصفة على الموصوف کحذف العائد من جملة الصلة على الموصول، بخلاف ما ذهب إليه سيبويه، وهذا ما نجده بتمامه في الباب الذي أسلفتُ أنه عقده في هذا المطبوع باسم (إعراب القرآن)، لـ(ما جاء في التنزيل من حذف الجار والمجرور) (ص: 309–351)، وقد تطرّق فيه إلى المسألة المذكورة (ص: 312-314) فبيّن ما بين جملة الصلة وجملة الصفة من وجوه الشبه، وقاس حذف العائد في ثانيتهما على حذفه في الأولى، ثم عرض لها فيه ثانية (ص: 330، 331) وحکی مقالة سيبويه فيها -وقد صحف في حكاية كلامه في هذا المطبوع بضعة ألفاظ تصحح من الكتاب (1/ 44، 45)- ونص أنّ حذف الهاء في جملة الصلة مستحسن جدًّا، وأنّ حذفها في الخبر مستقبح جدًّا، وأنّ حذفها في الصفة منزلة بين المنزلتين، غير أنه انتهى إلى أنْ قال: «وقد قدّمْنا مجيئه في آيٍ شتى، فوجب أن يكون حذفها من الصفة كحذفها من الصلة».

6. قال في قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[الأنبياء: 97] (اللوح: 92/ 2): «...فأما إعراب قوله: (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) فـ(هي) ضمير القصة والحالة في موضع الرفع بأنها مبتدأة، وقوله: (أبصار الذين كفروا) مبتدأ، وخبره (شاخصة) والجملة تفسير قوله: (فإذا هي) أي: القصة والحالة أن أبصار الذين كفروا شاخصة. وإن قلت: هل يجوز أن تكون (أبصار الذين كفروا) مرتفعة بـ(شاخصة)؛ لأن (شاخصة) قد اعتمدت على (هي) فوجب أن يرتفع ما بعدها؟ فالجواب: أن هذا غير جائز؛ لأن (شاخصة) لم تعتمد على (هي) وليس بخبر (هي) وإنما هي خبر (أبصار) فالخلاف في رفع (أبصار) قائم بماذا هو، فعند سيبويه على ما ذكرته لك، وعند أبي الحسن يرتفع (أبصار) بـ(شاخصة) كما قال في قولهم: قائم زيد. وقد تقدم مثل هذه الآية حذو القذّة بالقذّة في قوله تعالى: (إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)[هود: 81]. وأما العامل في قوله (فإذا هي) فقوله: (شاخصة) وقد ذكرته في الجواهر».

وما أحال فيه على (الجواهر)، جاء في هذا المطبوع، (ص: 705)، وقد قال ثمة في إعراب الآية نحو ما قال في (الكشف)، حتى إذا خلص إلى الكلام في (إذا) والعامل فيها قال في ذلك: «...والعامل في (إذا) قوله: (شاخصة) ولولا أنّ (إذا) ظرف لم يجز تقديم ما في حيز (هي) عليها؛ لأنّ التفسير لا يتقدم على المفسَّر، ولكن الظرف يلغيه الوهم».

و(إذا) في الآية للمفاجأة، وقد ذهب المؤلف إلى أنها ظرف بخلاف ما قاله أبو الحسن ومن وافقه من أنها حرف، ثم لم يُبِن ههنا مِن أيّ ضربي الظرف هي عنده، أظرف مكان كما قال أبو العباس المبرد، أم ظرف زمان على ما ذهب إليه الرياشي وأبو إسحاق الزجاج، غير أنه صرح في الباب السادس والسبعين الذي عقده لـ(ما جاء في التنزيل من «إذا» الزمانية «وإذا» المكانية) (ص: 889) بأنها ظرف مكان، ثم بسط (ص: 890، 891) الكلام في الاحتجاج لاسميتها ودفع القول بأنها حرف. ويظهر أنه اقتدى في ذلك بأبي عليّ الفارسي الذي يُجلّه ويلقبه بـ(الفارس) و(فارس الصناعة) وصاحبه أبي الفتح؛ فإنهما ذهبا فيها هذا المذهب أيضًا. وانظر في (إذا) هذه ومقالات النحويين فيها شرح المفصل (1/ 94-95، 4/ 98-99)، وشرح الكافية (1/ 103-104، 2/ 112)، ومغني اللبيب (ص: 87، 88)، وهمع الهوامع (1/ 207).

7. قال في قوله -عزّ وجل-: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}[الأنبياء: 104] (اللوح: 93/ 1): «والكاف من صلة (نعيده) وإن كان متقدمًا. وقد تقدم مثل هذا في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}[البقرة: 151]، وقال: {كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ}[البقرة: 282] فهذه الكافات الثلاث من صلة ما بعدها. وربما يسمح له برابع على أحد الأقوال، وهو قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال: 5]، وقد عددناها لك في التقديم والتأخير في (الجواهر)».

وفي هذا المطبوع مثل الباب الذي أحال عليه في (الجواهر) أفرده لـ(ماجاء في التنزيل من التقديم والتأخير وغير ذلك)، وهو السابع والثلاثون من أبوابه، وقد ذكر فيه ما ذكره ههنا من الآي؛ انظر (ص: 675، 701). وكان قد ذكر فيه الآية (151 من سورة البقرة) وآية (سورة الأنفال)، وآية (سورة الأنبياء)، في الباب الرابع عشر الذي عقده لـ(ماجاء في التنزيل وقد حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه (ص: 288)، وقال فيها نحو ما قال في الباب الآخر، وذكر معها آية أخرى كان يجدر به أن يذكرها هنا أيضًا، وهي قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}[الأعراف: ۲۹].

ويظهر أنّ المؤلف أجمل في هذا الموضع من (الكشف) القول فيما ذكره من الآي؛ لأنه سبق له أن فصّل الكلام فيها في مواضعها من سورها. ولعلّ من تمام الفائدة إثباتَ ما قاله فيها في تلك المواضع، وهذا نصه: 

أما قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}[البقرة: 151]، فقال فيه (اللوح: 22، 23): «واختلف الناس فيما يتعلّق به هذا الكاف؛ فقال قوم: هذا الكاف يتعلق بقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}[البقرة: 150]، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في تحويل القبلة كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم. فعلى هذا لا يجوز الوقف على قوله: (ولعلكم تهتدون) وإنما الوقف عند قوله: (ما لم تكونوا تعلمون). وقال آخرون: هذه الكاف تتعلق بقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة: 152] أي: اذكروني كما أرسلنا فيكم رسولًا، فعلى هذا يكون الوقف عند قوله: (ولعلكم تهتدون) وقوله: (ما لم تكونوا تعلمون)، فالمراقبة قائمة بين (تهتدون) وبين (تعلمون) كما أنبأتك به».

وأما قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}[البقرة: 282] فقال فيه (اللوح: 23/ 1): «يجوز أن تكون هذه الكاف من صلة قوله: (أن يكتب) فيكون الوقف على (علَّمه الله). ويجوز أن تكون الكاف من صلة قوله: (فليكتب) أي: فليكتب كما علَّمه الله، فيكون الوقف على قوله: (فليكتب)».

وأما قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال: 5]، فقال فيه (اللوح: 63/ 1): «هذه الكاف كاف التشبيه، وتتعلق بمحذوف، والتقدير: الأنفال لله وللرسول، أي: ثابتة لله والرسول ثبوتًا مثل ما أخرجك ربك، أي: هذا كائن لا محالة كما أن ذلك كائن لا محالة. وقيل: الكاف تتعلق بقوله: {يُجَادِلُونَكَ}[الأنفال: 6]، أي: يجادلونك في الحقّ كما يجادلونك حين أخرجك ربك من بيتك لقتال قريش، فعلى الأول لا يكون الوقف، في قوله: (قل الأنفال) إلى قوله (من بيتك بالحقّ). وعلى الثاني جاز الوقف على قوله: (والرسول) ثم (مؤمنين)[الأنفال: 1]».

8. قال في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ}[الأنبياء: 109] (اللوح: 93/ 1) أيضًا: «الجار والمجرور في موضع الحال من الفاعلين والمفعولين جميعًا؛ لأنهم قالوا في التفسير: فقل: (آذنتكم)، فاستوينا نحن وأنتم، فيكون الحال من الفريقين، ولا أدري أيّ[5] الأمرين يلحّ عليّ؛ أيكون الجار والمجرور حالَيْن[6] أم يكون حالًا واحدة عن صاحبَيْنِ؟ وكلا الأمرين عُدّ لك في الجواهر، من قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}[مريم: 27]، وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}[الأعراف: 54]، فهذان موضعان، وهذا الثالث، والرابع نظير هذا في الأنفال، من قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}[الأنفال: 58]».

وما أحال فيه على (الجواهر)، قد جاء في الباب الذي عقده لـ(ما جاء في التنزيل ويكون الجار والمجرور في موضع الحال محتملًا ضميرًا من صاحب الحال، في هذا المطبوع (ص: 258). وقد تقدّم له في (الكشف) نحو ما قاله هنا في آية سورة الأعراف وآية سورة مريم. أما أولاهما فقال فيها (اللوح: 60/ 1): «وقوله تعالى: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا) حال من الفاعل الذي هو (الليل) في المعنى، أو المفعول، أو منها جميعًا، كقوله: (فأتت به قومها تحمله) ألا ترى أن قوله (تحمله) يجوز أن يكون حالا من الفاعل، أو المفعول أو منها جميعا. ومثله قول عنترة: 

متى ما تلقني فردين ترجف             روانف أليتيك وتستطارا»

وأما الأخرى فقال فيها (اللوح: 81/ 2): «(فأتت به قومها تحمله) هذه الجملة في موضع النصب على الحال. ويجوز أن يكون حالًا من الهاء المجرورة، ويجوز أن يكون حالًا من الفاعلة، ويجوز أن يكون حالًا منها جميعًا لأن فيه ذ كرهما».

9. قال في قوله -عزّ وعلا-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}[الحج: 18]، (اللوح: 94/ 2): «قال ابن عباس: التقدير: وكثير من الناس في الجنة. فعلى هذا يكون خبر المبتدأ محذوفًا، وإنما قال هذا ليطابق قوله: (وكثير حقّ عليه العذاب)، ولأنك إذا حملت قوله: (وكثير من الناس) على قوله: (من في السموات ومن في الأرض) كن كالتكرار؛ لأن من في الأرض من الناس، فوجب أن يحمل على الابتداء دون العطف، وقد ذكرته بأتمّ من هذا في (الجواهر)». وهذا مما ذكره أيضًا في: (باب ما جاء في التنزيل من حذف الجار والمجرور)، من هذا المطبوع (ص: 321، 322). وقد استوفى الكلام فيه بأتمّ مما جاء في (الكشف).

10. قال في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ)[الروم: 30، 31]، (اللوح: 108، 109): «(فطرة الله التي فطر الناس عليها) أي: الزموا فطرة الله، فهو نصب على الإغراء. (منيبين إليه) حال من قوله: (أقم)[7]؛ لأن خطابه خطاب جميعهم، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}[الطلاق: 1]، ويجوز أن يكون حالًا من: الزموا، فيكون العامل وصاحب الحال جميعًا مضمرَين، كقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}[البقرة: 239]، والتقدير: فصَلُّوا رجالًا أو ركبانًا. وقد قلنا في (الجواهر) في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}[البقرة: 173]: إنّ التقدير: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. فأضمر العامل وصاحب الحال، وأضمر مفعول (باغ). ومن قال: فإن التقدير: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فأكل؛ جعَل (غير باغ) حالًا من الضمير في (اضطر) وأضمر (أكل)، بعد ما مضى الكلام بصاحب الحال والحال جميعًا».

وهذان الوجهان اللذان نصّ أنه ذكرهما في (الجواهر)، في توجيه الآية الأخيرة قد بسطهما في (باب ما جاء في التنزيل من حذف المفعول والمفعولين) من هذا المطبوع أيضًا (ص: 486-489)، وأسهب في الاحتجاج لاختيار الوجه الأول. وكان قد ألمّ بذکرهما أيضًا في الباب الأول الذي عقده لـ(ما ورد في التنزيل من إضمار الجُمل)، (ص: 13)، ثم ذكر الأول منهما فيه، (ص: 20، 21) أيضًا، وأشار في كلا الموضعين إلى ما سيأتي من كلامه في (حذف المفعول).

11. قال في قوله -عزّ وجل-: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}[الزمر: 64] (اللوح: 120/ 1): «قالوا: التقدير: أتأمروني أنْ أعبد غير الله. فيكون نصب (غير) بـ(أعبد) وقد حذفت (أنْ) من (أعبد) وهو في موضع النصب بـ(تأمروني) على تقدير: أتأمروني بعبادة غير الله. فقال قوم: هذا التقدير لا يجوز؛ لأنه قدّم مفعول (أعبد)، و(أعبد) في تقدير: أنْ أعبد. وكلّ ذلك في صلة (أنْ)، والصلة لا تقدّم على الموصول، فأجاب عن هذا الاعتراض أبو سعيد وزعم أنَّ [أنْ] ههنا لما حذفت بطل عملها؛ ألا ترى أن الفعل قد ارتفع، ولو كان حكم (أن) ثابتًا لوجب نصب (أعبد) فلما لم يقرأ أحد (أعبد) بالنصب لم ينبغِ أن يكون (غير) في صلتها. والذي ذهب إليه أبو علي في شرح (الكتاب) هو الصواب الذي لا يجوز غيره -قال الشيخ: وأنا لا أرى ذلك في كتبهم- وذلك لأنه قال: أنّ قوله: (تأمروني) يقتضي مفعولين، والياء المفعول الأول، و(غير) مفعول ثان، و(أعبد) في تقدير: أن أعبد. في موضع البدل من (غير)، على تقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبد. كما تقدم في قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ}[الزمر: 17]. قلت: وأظنني عددتُ لك ما جاء من (أنْ)، وهو محمول على البدل مما قبله، فاطلبه في (الجواهر)».

وقد عقد المؤلف الباب الرابع والعشرين من هذا المطبوع لـ(ما جاء في التنزيل وقد أبدل الاسم من المضمر الذي قبله والمظهر على سبيل إعادة العامل، أو تُبدل (أنْ) و(أنّ) مما قبله، (ص: 577-595)، وعدّد في مواضع متفرقة منه ما جاءت فيه (أن) مبدلة مما قبلها، ولم يذكر فيه هذه الآية، ولكنه استشهد بها (ص: 441) على حذف (أن) من غير ما عوض عنها، ثم عرض لها في باب (ما جاء في التنزيل من حذف (أن)، وحذف المصادر، والفصل بين الصلة والموصول)، (ص: 631،632)، فحكى مقالة سيبويه وغيّر (فيها)، ولم يذكر قول أبي على الذي اختاره في (الكشف)، وكأنه لم يحضر وهو يملي هذا الكتاب. ولعلّ هذا هو ما حمله على أن يغفل ذكرها في الباب الذي عدّد فيه ما جاءت فيه (أن) مبدلة مما قبلها أيضًا.

وفي (الكشف) موضعان آخران أحال المؤلف فيهما على (الجواهر) أيضًا، وسيأتي نقل كلامه فيهما فيما يستقبل.

إلا أنّ ما تحمل عليه هذه النقول من الظنّ بأن الاسم الصحيح لهذا المطبوع الذي أثبت له مجهول، اسم (إعراب القرآن)، إنما هو (الجواهر)، لا يسلم من معارض، بل يرد عليه أمران:

أولهما: أنّ صاحب (کشف الظنون)، لما ذكر فيه (1/ 603) شرح المؤلف لكتاب (الجمل) لعبد القاهر الجرجاني ذكر أنه سماه (الجواهر في شرح جمل عبد القاهر)، فدلّ ذلك على أنّ (الجواهر) غير هذا الكتاب. إلا أنّ فيما ذكره نظرًا، وأظنّه نقل عن ترجمة للمؤلف ذكر فيها كتاب (الجواهر)، وذكر بعده (شرح جمل عبد القاهر)، معطوفًا عليه بالواو، فصحفت إلى (في) فتوهم أنهما کتاب واحد، ويؤيّد هذا التقدير أنّ صاحب (هدية العارفين) ترجم فيه للمؤلف (1/ 697) وعدّ من تصانيفه (الجواهر)، وذكر عقيبه شرح جمل عبد القاهر وسمّاه (المجمل في شرح الجمل)، فجعلهما كتابين؛ ويصدق ذلك أن كلام جامع العلوم في الإحالة على (الجواهر) يدلّ دلالة لا لبس فيها أنه أفرد كلّ باب من أبوابه لظاهرة من ظواهر النحو وما جاء من أمثلتها في التنزيل على نحو ما نرى في هذا المطبوع. وأما (الجمل)، فمقدمة في النحو جعلها عبد القادر في خمسة فصول: الأول: في المقدمات. والثاني: في عوامل الأفعال. والثالث: في عوامل الحروف. والرابع: في عوامل الأسماء. والخامس: في أشياء منفردة. ومن البيِّن أنّ كتابًا هذا وضعه لا يحتمل أن ينطوي شرحه على أبواب كالتي سمّاها جامعُ العلوم من أبواب (الجواهر).

والأمر الثاني: أن للمؤلف كتابًا آخر سمّاه (نتائج الصناعة) ينازع (الجواهر) في احتمال أن يكون هو هذا المطبوع باسم (إعراب القرآن)، وذلك أنه أحال عليه في مواضع من (الكشف)، بما يدلّ على أنه معقود بأبواب، وما سماه من أبوابه قد جاء في هذا المطبوع أيضًا، وهذا بيان ذلك:

1- قال في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}[الإسراء: 71] (اللوح: 19، 20): «...فأما الباء في قوله: (بإمامهم) فهو باء الحال، والتقدير: يوم ندعو كلّ أناس مختلطين بإمامهم، أو: فيهم إمامهم. وإن شئت كان متعلقًا بنفس (ندعو) لأن كلّ إنسان يُدعى بإمامه يوم القيامة فيقال: يا آل فلان، ويا آل فلان. وقد ذكرناه في (نتائج الصناعة)، إذ ذكرنا هناك بابًا فيما جاء وفيه باء الحال، وكُتُبنا لا يستغني بعضها عن بعض، وكلُّه مبسوطُ کلامِ فارسهم، فإذا أشكل عليك شيء من كلام الفارس فإنه لا يفتحه لك إلا هذه الأجزاء التي أمللناها عليك. ولو لم يكن في كتبنا من حلّ مشكلاته إلا اللفظ الذي أراد أن يبين [به] كلام سيبويه من كون (لا) زائدة في التنزيل، حيث قال: وقد قال سيبويه: أما ألا يكون بعلم فإنه بعلم، وأراد: أما أن يكون بعلم، واختزل هذه اللفظة، واقتصر عليه، فنزعنا هذه اللفظة من كلامه، وصدرنا بها (باب زيادة لا)، ونقلنا الفصل على وجهه من موضعه في (الكتاب)، ثم سقنا عليها الآي على ما تراه هناك».

وليس في هذا المطبوع باسم (إعراب القرآن) باب مفرد لـ(ما جاء وفيه باء الحال)، إلا أنه عقد الباب الثاني عشر منه، (ص: 251-273) لـ(ما جاء في التنزيل ويكون الجار والمجرور في موضع الحال محتملًا ضميرًا من صاحب الحال)، وصدّره (ص: 251-255) بطائفة من الآي جاءت فيها باء الحال، وذكر في تضاعيفه آيات أخر من هذا القبيل أيضًا. ومما لا يخلو ذكره من فائدة أن ما جاء في الصفحتين الأوليين من هذا الباب أخذه الجامع من كلام أبي عليّ في الحجة (173، 174)، (ومنه يستدرك ويقوّم ما وقع في هذا المطبوع من سقط وتصحيف) ومن الحجة أيضًا (1/ 23) أخذ ما قاله في قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) في (الكشف).

وأما (باب زيادة لا) الذي ذكره -والظاهر أنه من أبواب (النتائج) أيضًا- فإن الباب الخامس من هذا المطبوع الذي عقده لـ(ما جاء في التنزيل وقد زيدت فيه «لا» و«ما»)، وفي بعض ذلك اختلاف، وفي بعض ذا اتفاق، (ص: 131-140) يشبه أن يكون المعنيّ بذلك، وقد صدّره -كما ذكر في (الكشف)- بالفصل الذي أشار إليه من كلام سيبويه، ثم ساق ما حمل على زيادة (لا) فيه من الآي كما ذكر أيضًا.

2- قال في قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا}[الإسراء: 77] (اللوح: 20/ 1): «(سُنّة) مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن ما قبله {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: 76]، ومدلول هذا اللفظ: إذن أهلكناهم، فكأنه قال: أهلكناهم سُنة من قد أرسلنا قبلك، أي: أهلكناهم إهلاكًا وسُنةً مثل سُنة مَن قد أرسلنا قبلك. وهذا أيضًا باب في (النتائج) ذكرتُ معه {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}[النساء: 24]، و{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ}[النمل: 88]، و{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}[الروم: 6]، وقوله: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}[النحل: 38]».

وقد جاء في هذا المطبوع مثل الباب الذي ذكر ههنا أنه أفرده في (النتائج) لأمثال هذه الآي، وهو الباب الثالث والأربعون، (ص: 767، 768) وقد جعل عنوانه: (هذا باب ما جاء في التنزيل من المصادر المنصوبة بفعل مضمر دلّ عليه ما قبله)، وكان قد ألمّ (ص: 152) بقوله تعالى: (کتابَ الله عليكم) وحمل نصب (كتابَ الله) على هذا الوجه، ورد قول الكسائي فيه: إنّ التقدير: عليكم كتاب الله؛ لأنّ معمول (عليك) لا يتقدم عليه، وألمع إلى أنه سيفرد لهذا الضرب من المصادر بابًا خاصًّا.

3- قال في قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف: 2، 3] (اللوح: 21): «...(ماكثين) حال من الهاء والميم المجرورة باللام. ولا يجوز أن يكون وصفًا لـ(أجر)، وإنْ كان قد اتصل به (فيه)، وهو يعود إلى (الأجر). [ولو كان وصفًا][8] لـ(أجر) لقال: أنّ لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه هُم. فيبرز الضمير في اسم الفاعل إذ جرى على غير مَن هو له. وقد عُدّ لك أمثال هذا في (النتائج)».

وفي هذا المطبوع باب عدّد فيه نظائر هذه الآية وسمّاه: (باب ما جاء في التنزيل من اسم الفاعل الذي يتوهم فيه جريه على غير مَن هو له ولم يبرز[9] فيه الضمير، وربما احتج به الكوفي)، وهو الباب الثامن والثلاثون فيه، (ص: 736-740).

وربما عنّ للناظر فيما قدّمتُ أن يتساءل: أَوَلَا يحتمل أن يكون (الجواهر) و(النتائج) كتابًا واحدًا يشتمل اسمه الكامل على كِلا اللفظين، فلما اختصر المؤلف هذا الاسم في الإحالة عليه سماه بهذا تارة وبذاك أخرى؟ قد يؤنس بهذا القول أن المؤلف قال في خاتمة (الكشف)، (اللوح: 148/ 2): «وهذا آخر ما خرج من كشف المشكل، وقد أمللته لك بعد تصنيف الجواهر، والمجمل، والشامل، والاستدراك على أبي عليّ، والبيان في شواهد القرآن. وسأجمع لك كتابًا أذكر فيه الأقاويل المجرّدة في معنى الآية دون إعرابها وما يتعلق بالصناعة منها إن شاء الله تعالى وحده»[10]؛ فذكر (الجواهر)، ولم يذكر (النتائج)، إلا أنّ هذه القرينة ليست بتلك القوية، فقد أحال في (الكشف) على كتب أخرى له، ثم لم يذكرها في خاتمته، ومنها (الخلاف)، و(المختلف) وقد ذكرت -فيما تقدّم- مواضع الإحالة عليهما فيه. وقد يكون أقوى من القرينة السالفة دلالةً على هذا الاحتمال أنّ المؤلف صرّح في الموضع الأول من المواضع التي أحال فيها على (النتائج)، أنه ذكر فيه بابًا فيما جاء وفيه باء الحال، ثم أحال في موضع آخر على مثل هذا الباب في (الجواهر) أيضًا، وذلك في كلامه على قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}[المؤمنون: 20] (اللوح: 96/ 2) فقد أشار إلى أنه يُقرأ بفتح تاء المضارعة وضمها، ثم قال: «فمن فتح التاء كان الباء للتعدية، ومن ضمّ التاء فله وجهان: أحدهما: أن يكون (نبت)، و(أنبت)، بمعنًى واحدٍ، كما في شعر زهير: 

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم             قطينًا لهم حتى إذا أنبت البقلُ

أي: نبت، فعدَّی (تَنبت) بالباء ما عدّی (تُنبت). والآخر: أن الباء زيادة، أي: تَنبتُ الدهن. وقيل: الباء للحال، وحذف المفعول من (تنبت) أي: تنبت ما تنبته ومعه الدهن. وقد عددنا لك ذلك في الجواهر».

ولكن بَعَّد هذا التأويل أنه لم تجرِ العادة -فيما أعلم- مثل ذلك، وأظهرُ منه وأقرب أن يكون (الجواهر) و(النتائج) كتابين متقاربين، وربما كان المؤلف قد بسط في أحدهما ما أجمله في الآخر.

وإذا كان كذلك فالأرجح عندي أن هذا المطبوع إنما هو (الجواهر)، وذلك أنّ تأمُّل أبوابه يوحي أن صاحبه لم يؤلفه دفعة واحدة، وإنما وضع أولًا أبوابه الكبيرة، ثم كان كلّما خطرَ له -وهو يدارس القرآن وقراءاته، ويتأمّل مجاري النحو فيه- بابٌ ألحقه به حتى تتامَّت له أبوابه التسعون، وهذا ما غلّب القصر على الأبواب الأخيرة فيه حتى اجتمع في القسم الثالث منه -وهو أصغر أقسامه حجمًا- أكثر من نصف أبوابه. ومن هذه الأبواب ما لا يستغرق صفحة بتمامها، ويبدو كأنما ضمّ إلى الكتاب بآخرة[11] وقد جاء في (الكشف) ما يدلّ على أن هذه كانت سبيله في تأليف (الجواهر)، فعلى حين أحال فيما تقدم نقله عنه -وجملته اثنا عشر موضعًا- على أبواب ومسائل فرغ من إملائها فيه ألمع في الكلام على قوله تعالى: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون: 113] إلى باب في نيّته أن يُلحقه به، وذلك قوله (اللوح: 98/ 1): «...(فاسأل العادّين) بالتشديد قراءة الجمهور، وهو من (العدّ) و(الحصر)، ورواها بعضهم: (فاسأل العادِين) بالتخفيف[12]، وهو جمع (عاديّ)، من قولهم: (بئر عادِيَة)، إذا كانت قديمة، فلما جمع بالواو والنون حذفت منه ياء النسب، وصار الجمع عوضًا عن ذلك، وفي التنزيل: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}[الصافات: 130] وهو جمع (إلياسيّ)، وفيه: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}[الشعراء: 198] وهو جمع (أعجميّ)، وليس بجمع (أعجم)، لما ستراه هنالك[13]. وربما نعدّد لك الجمع الذي صار عوضًا عن نقصان لحق الكلمة في (الجواهر). وقال[14]: (الأشعرون)، في جمع (أشعريّ)، منسوب إلى (بني أشعر)، ومنه:

تهدّدنا وأوعدنا رويدًا        متى كنا لأمك مقتوينا

وهو جمع (مقتويّ)، منسوب إلى (مقتي): (مَفعل)، من (القتو) وهو الخدمة[15]، من قوله: 

تبدّل خليلًا بي كشكلك شكله        فإني خليلًا صالحًا بك مقتوي».

وما ذكر ههنا أنه ربما يعدّده في (الجواهر)، قد عقد له الباب الحادي والسبعين من هذا المطبوع (ص: 860)، وجعل عنوانه (هذا باب ما جاء في التنزيل وقد حذف منه ياء النسب)، وهو من قصار أبوابه، ولم يزد فيه على أن عدّد الآيات الثلاث التي ذكرها ههنا، إلا أنه سقط منه صدر الكلام على قراءة التخفيف في قوله تعالى: (فاسأل العادين). وذلك أنه جاء فيه ما نصّه: ومنه قراءة من قرأ: (فاسأل العادِين) بالتخفيف، جمع: عادّ، لكن أبدل من حرف التضعيف ياء، مثل: تظنّيت، في تظنّنت، وكأنه أبدل في (عدّ)، و(عددت): (عديت)، و(عدا). اهـ.

ومن البيّن أن هذا الوجه ليس من الباب المذكور في شيء، وإمّا مبناه على إبدال اللام من المضاعف ياء)[16]. فلا بد أن يكون قد قدّم قبله في تأويل هذه القراءة نحو ما قاله في (الكشف). وقد يكون من المفيد أن أثبت ههنا ما قاله في (الكشف)، في الآيتين الأخريين، فإن فيه عونًا على تقويم ما جاء في هذا المطبوع من جهة، وتفصيلًا لبعض ما أجمله فيما تقدم نقله عنه من جهة أخرى: أما قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}[الشعراء: 198] فقال فيه (اللوح: 104/ 1): وهو جمع (أعجميّ)، دون (أعجم)، مثل (أحمر)، ولا يقال في جمع (أحمر): (أحمرون)، فأمّا (أجمع) و(أجمعون) فمثل (أحمد) و(أحمدون)، وليس (أجمع) كـ(أحمر)[17]، ولا (جمعاء) كـ(حمراء)، أما (جمعاء) كـ(الطرفاء) و(القصباء). فـ(أعجمين) في الآية جمع (أعجميّ) كـ(الأشعرين) و(المقتوين) و(إلياسين) و(العادين).

وأما قوله -عزّ وجل-: (سلام على إلياسين)[18] [الصافات: 130] فقال فيه (اللوح: 116/ 1): «...وأما (إلياسين) فيجوز أن يكون لغة في (إلياس)، كما يقال: (ميکال)، و(ميكائيل)، و(جبريل)، و(جبرئيل)، و(إدريس)، و(إدراسين)، ويجوز أن يكون (إلياسين) جمع (إلياسيّ) بحذف ياء النسب كـ(الأشعرين) و(الأعجمين) فيما تقدم، و(مقتوين) في قوله:... متی کنا لأمك مقتوينا. ألا ترى أن واحده (مقتويّ) منسوب إلى (مقتي): (مَفْعل)، من (القَتْو) وهو الخدمة. ويدلُّ على أن (مقتوين) واحده (مقتوي)، وأن ياء النسب في نية الثبات؛ کسرُ الواو في (مقتوين)، ولو لم تكن ياء النسب مُقدَّرة لقلت: (مَقتون)، كما قلت: (مصطفون)، في الرفع، وفي النصب: (مَقتین)، كما قال: {لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}[ص: 47]».

ولا نُكران، بعدُ، أنّ ما انتهيتُ إليه في اسم الكتاب -على هدي ما اجتمع لدي من قرائن- لا يعدو أن يكون ظنًّا من الظنّ يرتفع عندي إلى مرتبة الرجحان، وأمّا القول الفصل فيه فرهين بظهور نسخة سليمة من الكتاب تحمل اسمه الصحيح، وتقطع الشك باليقين.

 

[1] المقالة الثانية من مقالتين نُشرتا في مجلة (مجمع اللغة العربية بدمشق)، ونُشرت هذه المقالة الجزء الأول من المجلد التاسع والأربعين، الصادر في شهر ذي الحجة 1393هـ.
وقد تناولت المقالة الأولى تحقيق نسبة كتاب (إعراب القرآن) إلى الزجَّاج، وهي منشورة على هذا الرابط: tafsir.net/article/5242.
وهذه المقالة تتِمَّة لما سبق، وتتناول تحقيق اسم الكتاب. (موقع تفسير).

[2] يظهر أنه سقط من الأصل ههنا كلام رفع به القول بأن الصفة لا تفصل بين الموصول وصلته. هذا، وقد نقل المؤلف في الكتاب الآخر (ص: 636) عن أبي علي أنه لا يجوز في (آتيناها) أن تكون صفة لـ(حجتنا)؛ لأن قوله: (حجتنا) معرفة، والقول ما قال.

[3] يعني: بنصب (ثمودَ)، وهو -كما جاء في الإتحاف، (ص: 381)- قراءة الحسن وأحد وجهين في رواية المطوعي عن الأعمش. وإلى الحسن والأعمش نسبها أيضًا المؤلف في المطبوع باسم (إعراب القرآن)، (ص: 383)، ونسبها ابن خالويه في شواذه (ص: 133) إلى ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر الثقفي.

[4] زيادة يقتضيها سياق الكلام.

[5] في الأصل (بأيّ) ولعلّ الصواب ما أثبت.

[6] في الأصل (حالًا) ولعلّ الصواب ما أثبت.

[7] يريد أنه حال من الضمير المستتر في هذا الفعل.

[8] ما بين حاصرتين لم يظهر في مصورة (الكشف) وإنما استظهرته من سياق الكلام.

[9] في المطبوع: «...ولم يرد» وما أثبته -وهو الصواب- مما جاء في تعداد أبواب الكتاب، ص5.

[10] نقل ياقوت هذه الخاتمة في ترجمة المؤلف في معجم الأدباء (13/ 167) إلا كُليمات يسيرة بَيد أنه سقط منه ذكر (الشامل) في مصنفاته.

[11] وإلى نحو ما ذكرت ذهب ناشر الكتاب الأستاذ الإبياري في دراسته الملحقة به، ص1093، 1094.

[12] وهو قراءة الحسن ورواية عن الكسائي. انظر شواذ ابن خالويه، (ص99)، والبحر المحيط (6/ 424).

[13] يريد: في كلامه على هذه الآية في صورتها، وسيأتي نقل ما قال ثمة.

[14] كذا في الأصل، وأظن الصواب: قالوا.

[15] أخذ المؤلف هذا القول في البيت من كلام أبي الفتح في الخصائص (2/ 303). وإلى نحو ذلك ذهب الفراء من قبله. انظر شرح القصائد السبع، لابن الأنباري، (ص403، 404).

[16] وقد عقد المؤلف لما جاء في ذلك في التنزيل الباب الحادي والخمسين من هذا المطبوع، (ص800-802) ولم يذكر فيه قراءة التخفيف في (العادين). إلا أنه ذكر فيه قراءة التخفيف في قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)[الأحزاب: 49] وهي تشبه تلك. وتخفيف الدال في (تعتدونها) في هذه الآية رواية أبي برزة عن ابن كثير. انظر البحر المحيط (7/ 240)، وشواذ ابن خالويه، (ص120).

[17] في الأصل كـ(أحمد) وهو تصحيف.

[18] وهذه الآية مما اختُلف في قراءته: فقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب -من العَشرة-: (آلِ ياسين) بفتح الهمزة والمد وقطع اللام من الياء وجرّها، مثل: (آلِ يعقوب) وكذا رُسِمَت في جميع المصاحف، وقرأ الباقون: (إلْياسين) بكسر الهمزة وإسكان اللام بعدها ووصلها بالياء كلمة واحدة في الحالين. انظر النشر (2/ 345)، والتيسير، (ص187). وكلام المؤلف في كِلا الكتابين على القراءة الثانية، إلا أن ناشر المطبوع باسم (إعراب القرآن) ضبط الآية فيه على القراءة الأُولى!

الكاتب

أحمد راتب النفاخ

عضو مجمع اللغة العربية بدمشق والمجمع العلمي الهندي، عمل مدرسًا في جامعة دمشق، توفي عام 1412هـ /1992م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))