القرآن الكريم؛ وأثره في اللغة والعلم والاجتماع والأخلاق (2-3)

بعد أن تناولَت المقالة الأولى التعريف بمحتويات القرآن الكريم وأثره على اللغة العربية؛ تأتي المقالة الثانية لتسلِّط الضوء على أثر القرآن على الأحوال الاجتماعية عند العرب، والتي أحدث فيها القرآن تغييرًا كبيرًا في أقصر زمن عرفه التاريخ.

القرآن الكريم؛ وأثره في اللغة والعلم والاجتماع والأخلاق (2-3)[1]

(أثر القرآن في الأحوال الاجتماعية)

  جاء القرآن والعرب قد وقعَتْ بينهم الفُرقة وتشتُّت الأُلفة واختلفَت كلمتهم واضطربَت أحوالهم فكانوا إخوان دَبرٍ ووَبرٍ؛ أذلّ الأُمم دارًا وأجدبهم قرارًا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظلّ أُلفةٍ يعتمدون على عزِّها. فأحوالهم مضطربة وأيديهم مختلفة وكانوا في بلاء عظيم؛ من جهلٍ مطبق وبناتٍ موءودة وأصنامٍ معبودة وأرحامٍ مقطوعة وغاراتٍ مشنونة، فلما استضاؤوا بنور القرآن الكريم اجتمعَت أملاؤهم، واتفقَت أهوائهم واعتدلت قلوبهم، وترادفت أيديهم وتناصرت سيوفهم، وعقدَ بملَّته طاعتهم وجمعَ على دعوته أُلْفَتَهُم، وأصبحوا ينعمون في ظلّ سلطانٍ قاهرٍ ثابت، وصاروا حكّامًا على العالمين وملوكًا في أطراف الأَرَضين، قد ملَكوا الأمور على مَن كان يملكها عليهم وأمضوا الأحكام فيمن كان يُمضيها فيهم.

جاء القرآن وقد تمكَّنَت من العرب عصبية الجاهلية، فما عدَا أنْ سفَّه أحلامهم ونكَّس أصنامهم وذهبَ بجُلِّ ما أَلِفوه حتى كأنما خلَقهم خَلقًا جديدًا، وكأنهم على آدابه نشؤوا وهم أغفال وأحداث، بل كأنهم كانوا سلالة أجيال كان القرآن في أَوّلِيَّتهِم المتقادمة وكانوا هم الوارثين لا الموروثين، مصداقًا للحديث الشريف: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم».

كان مِن أثرِه فيهم أنْ أذهبَ عنهم العصبية الممقوتة وأحلَّ محلّها التعصّب لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور وخلال الحمد؛ من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبِر والمعصية للكِبر والأخذ بالفضل والكفّ عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخَلْق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الأرض، لهذا كلّه انعقدت عليه قلوبهم وهم يجهدون في نقضها لدعوته، وهم يبالغون في رفضها فكانوا يفرّون منه في كلّ وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ ذلك بأنه قد جاءهم بما لا قِبَل لهم به مما يشبه أساليب الاستهواء في علم النفس فغَلب على طباعهم وحال بينهم وبين قديمهم.

ولعمري لو كان القرآن غير فصيح أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها التي أُلقيَت إليهم لخلا منه موضعه الذي هو فيه وكان سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص، ولنقضوه كلمة كلمة وآية آية دون أن تتخاذل أرواحهم أو تتراجع طباعهم.

بَيَّنَ القرآن لهم أنّ الطبيعة مسخَّرة لهم فعليهم كشف ما فيها واستخراج أسرارها: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[يونس: 101]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف: 105]، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحِجر: 19]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}[الحِجر: 22].

نادَى فيهم القرآن أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن يومه وابن عمله وعقله، فلا هو مُفاخِر ولا واهِم ولا شاعِر، وخاطبهم بالآية الكريمة التي هي روح الثبات في أمم العلم والعمل: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[يونس: 41].

قد وصل العرب قبل نزول القرآن الكريم إلى هاوية الانحلال الاجتماعي بما لم يُعهد له مثيل في تاريخ الأُمم، فكانوا في جهل مطبق بأحكام الدّين الصحيح ومبادئ السياسة والحياة الاجتماعية، ولم يكن لهم فنٌّ يُذْكَر أو صناعة تُنْشَر، ولم يكونوا يعرفون شيئًا من العلاقات الدولية، وكانت كلّ قبيلة أُمَّة قائمة بنفسها تتحفّز لشنِّ الغارة على جارتها، فما لبثوا أن جاءهم الكتاب الكريم حتى خالطَت أحكامه قلوبهم وأيقظَت أرواحهم، وجعلتهم يتلمّسون الحق وتصبو نفوسهم إلى رفعِ منارِه ونشرِه في أطراف الأَرَضين.

قد بلغوا في العبادة مبلغًا بَذُّوا به أهل الرهبنة والتنسُّك، وصاروا أولي قوّةٍ في دين، وحزمٍ في لين، وإيمانٍ في يقين، وحرصٍ في عِلم، وعلمٍ في حلم، وقصدٍ في غِنًى، وخشوعٍ في عبادة، وتجمُّلٍ في فاقة، وصبرٍ في شدّة، وطلبٍ في حلال، ونشاطٍ في هدى، وتحرُّجٍ عن طمع. ومع بلوغهم هذه الدرجة الروحية العالية لم يهجروا الدنيا وشؤونها بل عملوا لها بصدق وإخلاص فأبدلهم اللهُ العِزّ مكانَ الذلّ والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكًا حكّامًا وأئمةً أعلامًا.

وإنْ تَعجَبْ فعَجَبٌ أن يتم ذلك المجد العظيم للعرب في أقلّ من مائة سنة؛ وفي هذا برهان قاطع على أنّ أحكام القرآن خير طريق إلى تنمية الملَكات الإنسانية، وإعدادها لكسب الحياتَين: الدنيوية والروحية، فقد جعل الأُمة العربية تضع أعناقها للحقّ الذي لم تألفه حقًّا وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها وتُسلم له في تاريخها وعاداتها.

إنَّ نظرةً بإمعانٍ فيما جاء به القرآن الكريم من الآيات البيِّنات تدلّ على أنه ليس هناك في الإنسان من نقصٍ إلَّا والقرآن كفيلٌ بإصلاحه؛ فهو طبيب الإنسانية، وليس أحذق الأطباء مَن يدَّعِي هذه الصفة لنفسه فحسب بل من يستطيع مداواة أعظم الأدواء في أكثر الحالات، وكذلك فعل القرآن؛ فقد بلَغ من أثرِه في العرب أنه حوَّل طبائعهم وغيَّر أخلاقهم فلم يشهد التاريخ جيلًا اجتماعيًّا مثلَ الجيل الأول في صدر الإسلام حين كان القرآن هو المنار الذي يهتدي به، ولم تستطع الفلسفة على اختلاف ضُروبها في أيّ عصر من العصور أن تُنشئ جيلًا من الناس كالذي أخرجه القرآن الكريم، فكانوا مثلًا حسنًا في علوّ النفس وصفاء الطبع ورِقّة الجانب ورَجاحة اليقين وطهارة الخُلق وشدة الأمانة وإقامة العدل والخضوع للحقّ، وما إلى ذلك من أُمّهات الفضائل.

محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم مُصلحٍ ظَهَر:

أمَا وقد بانَ أنّ الكتاب الكريم أحدثَ أوفر قسط من الإصلاح في أقصر زمن عرفه التاريخ فلا بِدْعَ أنْ كان الذي نزل عليه ذلك الكتاب أعظم مصلحٍ، وإليك البيان:

1- اقتضَت حكمة الله أن يُرسِل إلى كلّ أُمّة آنًا بعد آنٍ هاديًا يُرشدهم ويُصلح حالهم، فيدوم النور الذي جاء به زمنًا ثم يخبو قليلًا قليلًا حتى إذا كاد ينطفئ أنقذ الله هذه الأمة برسول بعده يجدّد لها الهداية.

وقد توالَت الدهور والأحقاب والأمم منفصلةً بعضها عن بعض زاعمةً كلُّ واحدة أنّ العالم كلّه فيها، وأنها أفضل مِن سواها لأن الله خصها بالرسالة والهداية، فنجَم عن ذلك القول بأنّ الله -تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا- حابَى بعض الأمم وخصها بمزايا لم يمنحها غيرها.

من أجْلِ ذلك أرادت الحكمة الإلهية أن تقضي على ما خالجَ نفوس الأمم من أنها أفضل من غيرها جنسًا وخلالًا ودينًا، وأن تجعل من الإنسان جسمًا واحدًا، فمَنَّ الله على الخَلق جميعهم برسولٍ عامٍّ معه رسالة عامّة، وهكذا كانت رسالته عامّة لا يخصها زمان ولا مكان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ: 28].

كان مَثَلُ مَنْ سَبَقَه من النبيين -صلوات الله وسلامه عليهم- مثلَ المصابيح، كلٌّ منها وُضِعَ في حجرة لا يضيء سواها، فلما ظهرَت شمسُ الرحمة من البلاد العربية لم يبقَ هناك مِن حاجة إلى هذه المصابيح المحدودةِ المدى، وليس في مقدور أيّ نور آخر أن يخلف هذه الشمس.

بُعِثَ كلُّ رسول ممَّن تقدّموا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لتهذيبِ أفراد أُمّته وجَعْلِهم صالحين لتكوين أُمة متجانسة -ولعمري هذا عمل جليل- غير أن محمدًا -وهو خير المرسَلين- أُرسِل ليجمع هذه الأمم ويجعلها أمة واحدة متكافئة مرتبطة برابطة الإِخاء.

جاء كلّ رسول لتقويم خُلُقٍ معيَّنٍ في أمّته فكانت حياته أسوة للخلق الذي أُرسِل لتقويمه. أمّا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء لتنمية الفطرة الإسلامية جميعها واستخدام ملَكاتها وتقويم غرائزها، وكانت حياته العملية -صلى الله عليه وسلم- ملأى بالمثُل الصالحة الكفيلة بتقويم أخلاق بني الإنسان جميعها؛ ولذلك كان مثلًا كاملًا للإِنسانية اجتمعت فيه الفضائل التي كانت في أنبياء بني إسرائيل وغيرهم: تجمّعَت فيه شجاعة موسى، وشفقة هارون، وصبر أيوب، وإقدام داود، وعظمة سليمان، وبساطة يحيى، ورحمة عيسى، عليهم جميعًا الصلاة والسلام.

2- إنْ كانت العظمة تتحقق بإصلاح أُمة قد وصلَت إلى غاية الانحلال الاجتماعي فليس هناك مَن يباري محمدًا في أنّه أنقذ الأمة العربية من هاوية الدمار وجعَلها مصابيح الحضارة والعِرفان.

وإنْ كانت العظمة تتحقق بجمع شملِ أمةٍ قد تأصّلَت فيها الفُرقة وتمكّنَت منها العداوة والبغضاء فمَن يجاري محمدًا في أنّه جمعهم تحت ظلّ الإِسلام إخوانًا متساندين: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران: 103].

كان مَثَلُ العرب في تفرُّقهم كمَثَلِ رمال بلادهم، فلاءَمَ الإِسلام بينها وجعَلها من القوّة بحيث لا تؤثِّـر فيها الزلازل العنيفة.

إنْ كانت العظمة تتحقق بإقامة مُلْك الله في الأرض فمَن يطمح إلى منافسة محمد -صلى الله عليه وسلم- في أنّه نكَّس الأصنام وأبطل عبادة الأوثان، وطهَّر الجزيرة العربية من الشرك وملأ القلوب بالتوحيد والنور.

إنْ كانت العظمة تتحقّق بحُسن الأخلاق فمَن ذا الذي يُنكِر على محمدٍ أنّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تسميته بالأمين.

إن كانت العظمة تتحقق بالفتح وبَسْط المُلْك فالتاريخ أصدق شاهد على أنّ أحدًا غيره لم يبلغ مبلَغَه؛ فقد نشأ يتيمًا لا قوّة له ثم صار فاتحًا عظيمًا أسّس أعظم دولة لبثَتْ تردُّ مكايد الأعداء أكثر من ثلاثة عشر قرنًا.

إن كانت العظمة تتحقق بما لصاحبها من رِفْعَةِ الاسم وانتشار الصِّيت، فمَن يجاري محمدًا في ارتفاع اسمه الذي تحبُّه قلوب أربعمائة مليون من الناس منتشرين في أطراف الأَرَضين، مرتبطين برابطة الإِخاء مع اختلاف قوميّـتهم وألوانهم وألسنتهم.

 

 

[1] نُشرت هذه المقالات بمجلة الإصلاح الصادرة بمكة المكرمة، الأعداد: الخامس (ص:18-24)، والسادس (ص:22)، والسابع والثامن (ص:23-27)، الصادرة في: غرة جمادى الأولى و15 جمادى الأولى و15 جمادى الآخرة عام 1347هـ، الموافق 14 أكتوبر و30 أكتوبر و28 نوفمبر عام 1928م، على الترتيب. 

وقد صُدِّرت المقالة الأولى ببيان أن أصل المقالات محاضرة ألقاها الكاتب في (مؤتمر المستشرقين الذي عُقد بكلية أكسفورد من بلاد الإنكليز).

وقد أعدنا تقسيم المقالات؛ حيث كان التقسيم غير متناسق مراعاةً لمساحات النشر في المجلة فيما يظهر.
رابط المقالة الأولى: tafsir.net/article/5210 (موقع تفسير).

الكاتب

محمد أحمد جاد المولى

مفتش اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية، وأستاذ مساعد اللغة العربية بجامعة أكسفورد، توفي عام 1363هـ/ 1944م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))