أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟!
ليس من عجبٍ أن يتحبَّب العبدُ إلى ربّه وسيده ومولاه، ومَنْ لا غِنى له عنه طرفةَ عين ولا أقَلَّ من ذلك، ولا عجب أن يتذلّل العبدُ بين يدي سيده، ويدعو ربه ويرجوه، فكلّ خيرٍ أصابه فهو من الله وحده، وكلّ شرّ صُرِفَ عنه، لم يصرفه عنه إلا هو تبارك وتعالى. ولكنَّ العجبَ كلّ العجبِ في توالي نِعَمِ الرحيم الودود على عباده مع تقصيرهم، وكثرة آلائه مع إعراض كثير منهم، وتتابع بِرّه بخلقه على ظلمهم، وعِظَم تحبُّبه إليهم مع إحاطته بهم، وقدرته عليهم، واطلاعه على نقصهم وزللهم، ولا معنى لذلك إلا سعة رحمته وعظيم لطفه بخلقه، وحلمه عليهم، وصدَق الله الرحيم: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6]؛ يقول السعدي: «أي: لا يزال خيره إليهم، وإحسانه وبرّه وعفوه نازلًا إلى العباد، وهم لا يزال شرهم وعصيانهم إليه صاعدًا. يعصونه فيدعوهم إلى بابه، ويُجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه، فإن تابوا إليه فهو حبيبهم؛ لأنه يحبّ التوابين ويحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب ليطهِّرهم من المعايب»[1].
وإنَّ الذي يتأمل حال البشر يَلْحَظ انكبابَ كثيرٍ منهم على مخالفة أوامر الله تبارك وتعالى، والإعراض عن شرعه ووحيه، وعدم اتّباعهم لنبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم-، كلُّ هذا وَهُمْ في نِعَمٍ سابغةٍ، وصحةٍ وعافيةٍ، وسِتْرٍ وأمنٍ، فلا يُعاجلهم ربهم -سبحانه- بالعقوبة إثر ذنوبهم مع قُدرته -سبحانه- على ذلك، وإنما يُمْهِلهم لإتمام آجالهم المضروبة، ويَمُدُّ لهم لعلهم يؤوبون ويرجعون إلى رُشدهم، فلا يؤاخذهم بذنوبهم فور وقوعهم فيها، وإنما يحلم عليهم ويصبر عن أخذهم وهم في ظلال العصيان، ويؤخرهم لعلهم يرجعون عن غيّهم، أو يقيم عليهم حُجَّة الإعراض والجحود، وعندها تنقضي سُنَّة إمهالهم، فما أحلم الله على خَلْقه! وما أصبره عليهم!
كثرة مِنَنِ الله على خلقه:
والمتدبِّر في آيات القرآن العظيم يُطالع عظيم مِنَّة الله -سبحانه- على خلقه، ورحمته بهم، وإرادته بهم الخير، فيقول -جلّ جلاله- مخاطبًا البشر بعمومهم، متحببًا إليهم، فاتحًا لهم أبواب رحمته، فيقول -سبحانه-: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26- 28].
قال السعدي: «وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: توبة تَلُمُّ شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتُقَرِّب بعيدكم. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكَفرة والعاصين، المقدِّمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} أي: أن تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين؛ يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود مَنِ السعادةُ كلُّها في امتثال أوامره، إلى مَنِ الشقاوةُ كلُّها في اتّباعه. فإذا عرفتم أن الله -تعالى- يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتّبِعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أَوْلى الداعيَيْن، وتخيَّرُوا أحسن الطريقتَيْن.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أي: بسهولة ما أمركم به وما نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأَمَةِ للحُرّ بتلك الشروط السابقة؛ وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه؛ ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته»[2].
وآثار رحمة الله -تعالى- تتجلى لعباده، مُعْلِنَةً لهم عن عظيم حلم الله تبارك وتعالى عليهم، وعدم مسارعته -سبحانه- إلى عقابهم، والصبر عليهم ليتوبوا وليؤوبوا إلى خالقهم وبارئهم، فقال -سبحانه-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
قال العلَّامة الشنقيطي -رحمه الله-: «ذكَر -جلّ وعلا- في هذه الآية الكريمة: أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع مَن في الأرض، ولكنه حليم لا يعجَل بالعقوبة؛ لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده»[3].
وقال -جلّ وعلا-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45].
قال ابن كثير: «ثم أخبر -تعالى- أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة، كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}، وقال -تعالى- في هذه الآية الكريمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي إنه -تعالى- ذو عفو وصفح وسِتر للناس مع أنهم يَظلمون ويُخطئون بالليل والنهار، ثم قَرَن هذا الحُكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف»[4].
دعوة القرآن الكريم إلى الاستغفار:
ومن الآيات الجامعة التي تفتح باب المغفرة والرحمة أمام المذنبين، قول الله -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]؛ ففتح الله أبواب الأمل أمام عباده وأغلق أمامهم أبواب القنوط واليأس، وأخبرهم أنه يغفر الذنوب جميعًا لمن شاء، فمهما عظُمت ذنوب العبد، فإن مغفرة الله ورحمته أعظم منها، بل ومن كلّ شيء، فلا ينبغي أن يقنط أحدٌ من رحمة الله -تعالى- ولا ييأس من عفوه ومغفرته أبدًا.
قال السعدي: «يخبر -تعالى- عبادَهُ المسرفين بسَعَة كرمه، ويحثّهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك، فقال: {قُلْ} يا أيها الرسول ومَنْ قام مقامه من الدعاة لدين اللّه، مخبرًا للعباد عن ربهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علَّام الغيوب.
{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مُصِرِّين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيَّان، لا تنفكّ ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسحّ يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النّعم على العباد والفواضل في السرّ والجهار، والعطاء أحبُّ إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضبَ وغَلَبَتْهُ. ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأتِ بها العبد فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلُّها -بل لا سبب لها غيره- الإنابةُ إلى اللّه -تعالى- بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتألُّه والتعبد، فهَلُمَّ إلى هذا السبب الأجلِّ، والطريق الأعظم»[5].
وحدَّث سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّ ناسًا مِن أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا، وَزَنَوْا فأكثروا، ثم أَتَوْا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنَّ الذي تقول وتدعو لَحَسَنٌ ولو تُخبِرنا أنَّ لِمَا عملنا كفارة؟ فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}، ونزل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}[6].
وقال الغفور الودود: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، فدلّ بهذا على أن الاستغفار سبيل استجلاب رحمته واستفتاح أبواب مغفرته.
واستقرأ العلامة الشنقيطي -رحمه الله- بعض الآيات المتعلقة برحمة الله ومغفرته لعباده، فقال: «قوله -تعالى-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، ذكر -جلّ وعلا- في هذه الآية الكريمة: أنه غفور، أي كثير المغفرة، وأنه ذو الرحمة يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة، ويرحم الخلائق في الدنيا.
وبيَّنَ في مواضع أُخَر: أن هذه المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته -جلّ وعلا- إلا الشرك، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72].
وبيَّنَ في موضع آخر: أن رحمته واسعة، وأنه سيكتبها للمتقين، وهو قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ...} الآية [الأعراف: 156].
وبيَّنَ في مواضع أُخَر سعة مغفرته ورحمته، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، ونحو ذلك من الآيات.
وبيَّنَ في مواضع أُخَر أنه مع سعة رحمته ومغفرته، شديد العقاب. كقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6]، وقوله: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3]، وقوله -تعالى-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 50]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله -تعالى-: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]، بيَّن في هذه الآية الكريمة: أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب كالكُفر والمعاصي؛ لعجَّل لهم العذاب لشناعة ما يرتكبونه، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة، فهو يمهل ولا يهمل»[7].
وقد أمرَ اللهُ الجليلُ -سبحانه- عبدَه ونبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن ينبئ عباده، وينقل لهم رسالة سامية ودعوة لِوُلُوج أبواب المغفرة، فقال -جلّ وعلا-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]، قال السعدي: «أخبرهم خبرًا جازمًا مؤيدًا بالأدلة: {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ومغفرته سَعَوا في الأسباب الموصلة لهم إلى رحمته، وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها، لينالوا مغفرته»[8].
ومن الآيات الداعية إلى التوبة المحفزة إليها، قوله -جلّ وعلا-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10- 12]، فيا له من كرم وجود! فإنه إذا تاب العبد من ذنبه الذي اجترحته يداه، يأتي الاستغفار الصادق ليحوِّل قحط حياته، وجفاف روحه، وبؤسه وشدائده إلى خيرات متتابعة، وظلال وارفة، ونعم متتابعة، فما أرحم الله بعباده عندما وسَّع لهم أبواب رحمته! ويسر لهم التوبة وقبلها منهم!
وأخبر -سبحانه- أنه يغفر لمن تاب إليه وأقلع عن ذنبه، فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وفي نداء بديع يخاطب اللهُ مَن ادَّعَوْا كذبًا وزورًا أنّ لله ولدًا، وهو -سبحانه- منزَّهٌ عن الصاحبة والولد، ومع ذلك دعاهم إلى التوبة والاستغفار، وذكر لهم أنه يغفر لهم إذا تابوا، فقال -سبحانه-: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]؛ قال ابن كثير : «قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: دعا الله إلى مغفرته مَن زعم أن المسيح هو الله، ومَن زعم أنّ المسيح هو ابن الله، ومَن زعم أنّ عُزيرًا ابن الله، ومَن زعم أنّ الله فقير، ومَن زعم أنّ يد الله مغلولة، ومَن زعم أنّ الله ثالث ثلاثة، يقول الله -تعالى- لهؤلاء: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة : 74]. ثم دعا إلى توبته مَن هو أعظم قولًا مِن هؤلاء، مَن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: من آيَسَ عبادَ الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتابَ الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه»[9].
محبة الله للتائبين:
قرَّر الله -تعالى- في القرآن العظيم غِنَاه عن خلقه كلّهم، وتنزهه عن الرغبة في حبّ الانتقام منهم، وأن العبد مهما جَنَى وأساء وظلم، إذا تاب وأصلح لا يعذبه اللهُ أدنى عذاب؛ إذ لا حاجة له في عذاب البشر، قال -جلّ وعلا-: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
وأكَّد الله في القرآن الكريم أنه يحب التائبين؛ فقال -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وثبت في السنة النبوية أن الله -عز وجل- يحب التوبة أكثر من حبِّ التائب لها، ويحب المغفرة أكثر من حبّ الناس أن يُغْفَر لهم، وأن الله -سبحانه- لكرمه ورحمته يفرح بالتائبين ويحبهم. وفي صورة رائعة يرسم لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك المعنى ويصوره في صورة حسيّة؛ ليبين لنا مدى فرح الله بتوبة عباده وحبّه لأن يغفر لعباده، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَلّهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبده -حين يَتُوبُ إليه- من أحدِكم كان على راحلته بأرضٍ فلاةٍ فَانْفَلَتتْ منه، وعليها طعامُهُ وشرابُهُ، فَأَيِسَ منها، فأتَى شَجرة فاضطَجَع في ظِلِّها قد أَيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك، إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شِدَّة الفرَح: اللهم أنت عَبْدي وأنا ربُّكَ. أخطأَ من شِدَّةِ الفرَح)[10].
وأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن سعة عفو الله وحلمه على عباده وأنه يغفر لهم مهما كثرت ذنوبهم ما داموا يتوبون إليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يحكي عن ربه -عزَّ وجلَّ- أنه قال: (أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)[11].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، يُكْثِر من الاستغفار في اليوم أكثر من سبعين مرة؛ وذلك ليعلّم أُمَّته أهمية الإكثار من الاستغفار، فعن الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)[12].
وختامًا..
فإنَّ العباد مهما عظمت ذنوبهم فإن الله -تعالى- قد فتح لهم أبواب المغفرة والرحمة، من تاب منهم وآمن وعمل عملًا صالحًا.
وإنَّ على العبد المؤمن أن يسارع إلى التوبة بعد الذنب، نادمًا، راجيًا رحمة الله تبارك وتعالى، وأن يكرر التوبة إذا عاد إلى الذنب.
وينبغي للعباد ألَّا يغترُّوا بسعة رحمة الله تعالى، وعليهم أن يحتاطوا قبل الوقوع في الذنب، ويسارعوا في التخلُّص من هوى النفس المهلكة، وتتبُّع الشهوات المُضِلَّة.
وعلى العبد أن يبادر بالتوبة إذا غلبته نفسه على العصيان، أو استجاب في غفلةٍ للشيطان، فمهما بلغَ الذنبُ فإنَّ للغفور بابًا للمغفرة لا يُغْلَق حتى تغرغر النفس، أو تطلع الشمس من مغربها.
إذا علم المسلم أن ربه هو الغفور ذو الرحمة، أسرع إلى رضاه، وفرَّ إليه من ذنوبه، وعنده يجد اللهَ أرحمَ به من نفسه، وأحنَّ عليه من أُمِّه!
فسارعوا عبادَ الله بالتوبة، ولا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من مغفرته ورحمته حتى لو عدتم للذنب ورجعتم إليه مراتٍ عديدة، ما دُمتم تستغفرون وتتوبون؛ فالعبد الموفَّق المسدَّد هو الذي إذا أذنب تاب، وإذا أخطأ استغفر، فمهما عادَ للذنب أسرعَ بالتوبة، فهذا يغفر الله له. فاللهم اشملنا بعفوك ومغفرتك.
[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1420هـ -2000م، (ص413).
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مرجع سابق، (ص175).
[3] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت، لبنان، الطبعة: 1415هـ- 1995م، (2/ 389).
[4] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، الناشر: دار الفكر، الطبعة الجديدة 1414هـ/1994م، (2/610).
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مرجع سابق، (ص727).
[6] أخرجه مسلم (122).
[7] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، مرجع سابق، (3/ 316).
[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مرجع سابق، (ص431).
[9] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، الناشر: دار الفكر، الطبعة الجديدة 1414هـ/1994م، (4/73).
[10] رواه مسلم (2747).
[11] رواه مسلم (2758).
[12] رواه مسلم (2702).