واجبنا نحو القرآن

تكثر الغفلة عن واجبنا نحو القرآن من التدبر والاتباع، ويعروه ما يعروه من الإهمال والتفريط، وتأتي هذه المقالة دالة عليه، ومبينة لأهميته، وموضحة لبعض مواقعه من آيات الكتاب العزيز.

واجبنا نحو القرآن[1]

  سُئل بعض العلماء: أيّة آية تصلح أن تكون عنوانًا على القرآن كلّه بحيث إذا كُتبت على ظهر المصحف كانت تعريفًا كاملًا به، شاملًا لجميع المعاني الكليّة التي يجدها المتصفح فيه كما تُعَرّفُ الكتب الكبيرة بجمل قصيرة؟ فكان جواب هذا العالِم: الآية التي تصلح لذلك هي قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[إبراهيم: 52].

ولعَمري، لقد وُفّق هذا العالِم القرآني إلى الصواب فيما أجاب به؛ فالقرآن كتاب يحمل في ثِنْيَيْهِ دينَ الله الكامل، وكلُّ ما سبقه من الكتب والصحف فهي إرهاصات له، وبشارات به، وإشارات إليه. ابتعث به نبيَّه الأمين محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لهذا العالَم الإنساني كلّه، حين بلغ رشده الاجتماعي واستعد للكمال، واستشرف لسائق من وراء العقل يكون سندًا له إذا زلّ، وهاديًا له إذا ضلّ، ومصححًا لخطئه إذا أخطأ، ومخرجًا له من ظلمات الحيرة إذا التبست عليه مناهج الحياة، ومفسحًا له في آماله إذا ضَيّقت عليه هذه الحياة المحدودة حدود الآمال، ومحررًا له من أصناف العبودية الفكرية والبدنية التي تقلَّب فيها قرونًا، ومرشدًا إياه إلى وسائل الكمال التي كان يطلبها فلا يجدها.

والآية الكريمة التي جعلها جوابًا لسائله بيان إلهي معجِز للحِكَم التي اقتضت نزول القرآن، والحِكَم التي نزل لبيانها القرآن، والمثُل العليا للكمال الإنساني الذي دعا إليه القرآن، متدرجة في وضعها البياني تدرجها الطبيعي من نفس سامعها؛ بلاغ، فإنذار، فعِلْم، فتذكّر.

وأمثال هذا العالم من ربَّانِيِّي هذه الأمّة ممن درسوا القرآن وتدبروه ومارسوه وراضوا أنفسهم على بيانه، واستنبطوا منه الحِكَم التي أُنزل لتحقيقها، والعلوم التي جاء لتجليتها على الناس، يكون من خصائصهم هذه الملَكة، مَلَكة استعراض القرآن في مِثل ارتداد الطرف كلما تحرك لهم وجدان وأرادوا أن يَزِنوه، أو نَجَم في آفاق نفوسهم خاطر وأرادوا أن يصححوه، أو أُلقي عليهم سؤال وأرادوا أن يُجيبوا عليه.

وما نظنّ بصاحبنا هذا أنه راعى القانون الاصطلاحي الجدلي في انطباق الجواب على السؤال، وإنما هي هيمنة القرآن على نفوس أصحابه، وإلهامها الإصابة في الرأي، والتسديد في الجواب، والفيح في الخصومة.

فالسائل يطلب آية جامعة (لوظائف) القرآن، لا جرَم أن أول ما يخطر ببال المجيب أمثال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ...}[المائدة: 67] الآية، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ...}[الأنعام: 19] الآية، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...}[الكهف: 110]، وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق: 45]، وغيرها من الآيات المبيّنة لأصول الدعوة القرآنية، ثم يلتمس راية تجمع هذه الأصول مع التنويه بهذا الكتاب الجامع لها، فيقع على تلك الآية أو ما شاكلها، والآيات الجامعة (لوظائف) القرآن كثيرة، ومن السهل السريع الوقوع عليها عند هذه الطائفة التي أوتيَتْ قوة الاستعراض.

وقد يُسأل عالِم آخر فيقع على قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 138]، أو قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}[الجاثية: 29]. والكلّ مُصيب، رضي القانون الجدلي أم سخط، وإن كان هناك تفاوت بين الآيات في الإحاطة والبيان، فلكلّ جملة تزيد في آية موقعٌ ودلالةٌ، ولكلّ كلمة تزيد في جملة معنى وحالةٌ.

أما أنا -ولا أعوذ بالله من كلمة أنا- فلو أُلقي عليّ هذا السؤال لتمردتُ على قوانين الجدال، وأجبتُ على المُغافَصَة والارتجال، ولم أَرْعَ إلَّا الاعتبار المناسب ومقتضى الحال، وجرَرْتُ السائل عن (وظائف القرآن) إلى (وظائف أهل القرآن مع القرآن)، وقلتُ للسائل: ضع على ظهر المصحف بالقلم العريض قولَه تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: 155]، وقولَه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، واجعلْ جملتي: {فَاتَّبِعُوهُ}، و{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} بين أقواس؛ عَلَّ هذه الأقواس المحنيّة تصيب مِن قارئه شاكلة انتباه فتزعجه إلى معرفة أن هاتين الآيتين هما جواز الداخل إلى أقطار القرآن، وعلَّ هذه القلوب القاسية تستشعر حقّ القرآن عليها ووظيفتها التي يجب أن تقوم بها نحوه، وهي التدبُّر لمعانيه واتّباعه.

إنّ حقوق القرآن علينا من التدبر والاتّباع، هي التي يعروها ما يعروها من الإهمال والضياع، والتفريط والغفلة؛ فهي التي يجب التنبيه لها والتذكير بها دائمًا، والدلالة على مواقعها من آيات الكتاب العزيز، وهي التي يجب على العالِم القرآني أن يختار للتذكير بها أصرح الآيات في معناها، وأظهر الجمل في الدلالة عليها، وأقرب الألفاظ لأذهان الناس.

وإذا قارنّا بين: {لِيُنْذَرُوا} وبين: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، وجدنا بينهما فرقًا جليًّا لا يُستهان به في مقام التذكير، والإبلاغ في التأثير؛ فإن الإنذار -وإن كان معناه الإعلام بالشيء مع التخويف من عواقبه- لا يستلزم التدبّر الذي هو انفعال نفساني ذاتي، يُفضي إلى النظر في أدبار الشيء وغاياته على وجه من التكلّف والتدرج يفيده بناء (تفَعُّل)؛ وأثر الإنذار تأثير خارجي، وأثر التدبّر تأثر ذاتي، والإنذار لا يشعر النفس ما يشعرها التدبّر من العهد المسؤول والأمانة الثقيلة.

أما الاتِّباع فهو ثمرة التدبر، وهو الذي لا تتحقق الغايات التي يرمي إليها القرآن إلا به، وقد تكرّر ذكره في القرآن في معارض شتّى، تدلّ مُستعرضها على أنه هو سرّ التديّن والتألّه، وأنه المحقق للكمال، وأنه العاصم من الضلال والهلاك، فليتدبر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}[الأعراف: 3]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام: 153]، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31]، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}[لقمان: 15]، {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}[يس: 20]، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ...}[يس: 21]، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}[طه: 123]، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}[الجاثية: 18]، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي}[يوسف: 38].

ويا للعجب من بيان القرآن وبيّناته! وإعجازه بفنون إيجازه! إنّ الاتباع ضَرْب من قَفْوِ أثر الغير، وترسُّم خطاه والانقياد له، وجعْل الهوى تبعًا للهوى، مع اطمئنان بالمشاركة في النتيجة خيرًا كانت أو شرًّا؛ وفي معناه من الهُجْنة أنه ينافي الاستقلال الفكري في الفكريات، والذاتي في الذاتيات، فتجد القرآن يدفع عنك أثر هذه الهُجْنة العارضة، فيأمرك بالتدبر واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة في وظائفها الفطرية قبل أن يأمرك بالاتباع، حتى تطمئن إلى أنك إنما تتبع فيما فيه حَقّ وخير ورحمة، ثم إذا أمرك بالاتباع فإنما ذاك فيما يتعالى على فكرك إدراكه، أو يصعب عليك تمييزه، أو يخاف فيه غلبة الأهواء عليك، وبعد الأمر ينهى عن اتباع الهوى المضِلّ عن سبيل الحقّ، وعن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وعن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباع أولياء من دون الله، وعن اتباع السُّبل المتفرقة؛ توكيدًا للمعنى الإيجابي، وإيضاحًا للحقّ الذي يجب أن يتبع.

إلَّا أنّ المتدبرين للقرآن لا يخرجون من هذا الاستعراض البديع إلا مؤمنين موقنين بأن الاتباع الذي يدعو إليه القرآن هو عين الاستقلال التام للفكر والإرادة والعقل والوجدان؛ لأنه يحميها من شرور الأهواء، ويؤويها إلى حِمَى الحقّ وحده، والاحتماء بالحق الذي قامت به السموات والأرض، واستقر عليه تدبير الكون ونظامه، استقلالٌ ما وراءه استقلال. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون: 71]، هذا حقّ القرآن علينا؛ يجب أن نتخذ الآيات المنبّهة عليه فواتح في المدارسة، وأن تتجاوب أصداؤها في جوانب نفوسنا؛ حتى لا ندخل حرمه إلا بعد أن نكون عرَفْنا حقه.

إنه لم يمضِ على المسلمين في تاريخهم الطويل عصرٌ هم فيه أبعد عن القرآن منهم في هذا العصر، ولم يمضِ على الدعاة إلى الحق وقت عظمتْ فيه العُهْدة واستغلظ الميثاق مثل هذا الوقت، وإنه لا مَخرج لهم من هذه العُهْدة ولا تحلل من هذا الميثاق إلا بالدعوة إلى القرآن، فلا عجب -ونحن نشعر بثقل هذه الأمانة- من أن ترتفع أصواتنا بالدعوة إليه، وإنما العجب الذي لا عجب بعده أن نسكت أو نقصر! وإنّ مِن أحكمِ الوسائل لجذب الأمّة إلى القرآن، وصْفَ القرآن، وتشويقَ الناس إلى الإقبال عليه وتدبّره وفهمه.

فمن التسديد في الرأي والمقاربة في العمل أن تُرْشَدَ الأمّة الإسلامية إلى معرفة ما ضيّعت من خير وما خسرت من هداية؛ بتضييعها للقرآن، وإنما تعرف ذلك ويبلغ مكامن الوجدان من نفوسها، مِن وصْفِه والإشادة بشأنه، والتنويه بجلاله وخطَره، والتنبيه على ما يحتوي عليه من العلوم الكثيرة بألفاظ قليلة، وتقريب ما ينطوي عليه من المرامي المفيدة بالكلمات القريبة، وشرح ما فيه من الحقائق المتفرقة بالجمل الجامعة، فإنّ ذلك يكون أدعى لرجوع النفوس الجامحة عنه إليه، وأعون على فَيْأَتِهَا إلى حِماه والاستظلال بظلّه والاستمساك بحبله.

وليت شِعري، أيّ بيان يضطلع بهذا؟! إنّ وصْفَ القرآن وأساليب التشويق إلى القرآن لا توجد على أكملها في غير القرآن، فلو أن البلغاء من كلّ أمّة وفي كلّ جيل اجتمعوا على أن يصفوه ببعض ما وصف به نفسه، وكانت قلوبهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ، وألسنتهم على لسانِ رجلٍ واحدٍ لعجزوا وقعد بهم القصور دون الغاية من ذلك.

ولقد وصفه جماعة من الباحثين في إعجازه وأسراره، والمتكلمين على قصصه وأخباره والمنقِّبين على مَثُلاته وعِبَره، والغائصين على نُكَت التناسب بين آيهِ وسُوَره؛ فجاؤوا بما يشبه قصورهم الإنساني لا بما يشبه كماله الإلهي! ووصَفه قبلهم أعداؤه اللُّد من مَضَغَةِ الشيح والقيصوم أوصافًا منصفة، فما بلغ هؤلاء ببلاغتهم، ولا أولئك بإيمانهم وعلومهم غايةً مما يريدون.

 وصَفه الوليد بن المغيرة فقال: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر»، فعبّر بهذا الوصف عن وجدانه النفسي وعن أثر القرآن في ذلك الوجدان؛ ولاتصال الشعور بالوجدان جاء هذا الوصف شِعريًّا كما ترى، وكأنه إنصاف منتزع من نفس جائرة، وإقرار مقتلع من سريرة حائرة.

ووصَفه شرف الدين البوصيري وصفًا لا غاية بعده من كلام المخلوق في الروعة الشعرية، وتمكّن الاقتباس، وصِدْق التمثيل، فقال:

الله أكبر إن دين محمد   

                       وكتابه أقوى وأقوم قيلا

طلعتْ به شمس الهداية للورى   

                       وأبى لها وصف الكمال أُفولا

والحقّ أبلج في شريعته التي   

                       جمعتْ فروعًا للهُدى وأصولا

لا تذكروا الكُتْبَ السوالف عنده   

                       طلع الصباح فأطفِئُوا القنديلا

ويا لله لهذا التمثيل المحكم في المصراع الأخير وما يحدثه في النفوس المفتونة بالمحسوسات!

إننا نعدّ من إعجاز القرآن في البلاغة ما هو شائع في جميع آياته من الدقّة المتناهية في تحديد المعاني، وتصوير الحقائق، وتنزيل الألفاظ في مراتبها، وتلوين الأساليب، والتزاوج بين الصِّفَتَيْن أو الصفات حتى كأنهما صفة واحدة؛ كالقوي الأمين، والغني الحميد، والحفيظ العليم، والعليم الحكيم؛ فليقصر الواصفون وليدَعوا القرآن يصف نفسه بتلك الدقة العجيبة وذلك التصوير الرائع، وليسلك الدعاة سبيلهم إلى نفوس الناس بهذه الأوصاف الرائعة من هذه الآيات الجامعة؛ فإن ذلك أدعى إلى التأثير والتأثّر، وأبلغ في باب التشويق من كلّ تبويب في الكلام وتحبير وتزويق، أين يقع كلّ ما وصفه به البشر من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57]، وما في هذه الآية من جمْع أصول الإصلاح التي جاء بها القرآن مرتّبة في الذكر ترتيبها في الوجود؟!

وأين يقع كلّ ذلك من قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[المائدة: 15، 16]؟! اللهم لا.

كانت الأمّة العربية قبل الإسلام -ومثلها جميع الأمم- في جاهلية جَهْلاء، فهي من الوجهة الفكرية في أحطّ الدرجات، ومن الوجهة الاجتماعية في أخسّ الحالات، وكانت لا تملك من أسباب النهضة إلا لسانًا قويمًا، وفطرة غير معقدة، ولكن ماذا يُغني اللسان الخصيب إذا كان يصدر عن فكر جديب؟! فجاءها الله بالقرآن وفيه كلّ ما كان الفكر العربي يتطلبه من العقائد النقية والحقائق العلمية، وكلّ ما كان اللسان العربي يصبو إليه من آفاق وميادين، فنهض العرب به وبلسانهم الذي نزل به، وأنهضوا الأمم معهم، تلك النهضة التي زلزلَت العالَم الروحي العقلي فأذهبَتْ مخارقه وثبّتَتْ حقائقه، وزلزلَت العالَم المادي فذهبت بطغيانه وشروره ورذائله، وأقرّته على التشريع العادل والمعاملة الرحيمة، ثم لاءمت بين الروح والمادة بمعاني التوسط والاعتدال البادية في عقائد الإسلام وآدابه وأحكامه، وجاءت بالمعجزة الكونية الكبرى في تحقيق الحُلم الإنساني بتلك الملاءمة، وهي أمنية عجزت عن تحقيقها كلّ تعاليم الأرض، ولم تفِ بها تعاليم السماء قبل الإسلام؛ لحكمةٍ وأمْرٍ قد قُدِر.

وانساح الإسلام في الأرض يُزجي جيوش الأخلاق قبل جيوش الخلائق، وبسط ظلّه على الأقطار الممتازة بخصوبة الأرض، وعلى الأمم الممتازة بخصوبة الفكر، وزرع تعاليمه في عقول مستعدة، وأفاض عليها من روحه: إنّ الغاية في هذا الوجود سيادة في الحق وسيادة بالحق، وأن لا سبيل إليهما إلا بالعلم والعمل، وأن عمران الأرض متوقف على عمران العقول والنفوس، وبنَى بذلك تلك الحضارة التي لا يُنكرها إلا مكابر يماري في الشمس وضحاها.

إنّ الآفة الكبرى التي قضت على الحضارات وجعلت عاليها سافلها، هي التفرق بين بُناتها والمستحفظين عليها، وقد كان للمسلمين -من بين الأمم القديمة والحديثة- معتصم باذخ، لو اعتصموا به لوقاهم من التفرق فوَقى حضارتهم من الانهيار، وهو القرآن ودينه الإسلام، نعمةٌ خُصُّوا بها دون الأمم.

كانت تعصف بهم من عواصف التفرّق، وتثور فيهم من طبائع المُلْك وغرائز المنافسة فيه ما أقلّه كافٍ في تدمير الممالك وتَتْبير الحضارات، فيرجعون إلى القرآن ويعتصمون بالإسلام فيجدون فيهما الْوَزَر الواقي، إلى أنْ داخلَتْهم الأعراق المدسوسة، ومازجَتْهم الجراثيم الغريبة، وابتُلوا بلقاح سوء مما أَفسد مَنْ قبلهم، وكان من تأثير ذلك أنهم انتقلوا من التفرق الذي يعصم منه الدين إلى التفرق في الدّين نفسه وفي القرآن نفسه، ثم زَهدوا في الدين فلم تبق إلا الصور العملية بلا روح، وزهدوا في القرآن إلا الألفاظ المتلُوَّة بلا نذير، حتى كانت عاقبة أمرها خُسرًا، وذاقت السوء بما صدّت عن سبيل الله.

إنّ أسلافنا قاموا بما شرط عليهم القرآن في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}[الحج: 41]، فتحقق معهم وعد الله في القرآن: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}[النور: 55]، فكانوا خلفاء الأرض يقيمون فيها الحقّ والعدل، وينشرون فيها الخير والرحمة، ويطهرونها من الشرك والوثنية، ويحققون حكمة الله بإقامة سننه الكونية والشرعية، لا يراهم الله إلا حيث يُرضيه أن يراهم؛ لأن مما أفادهم القرآن استجلاء العِبَر من قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[يونس: 14]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}[الأنعام: 165]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}[الأعراف: 100].

وكان هؤلاء السلف يعلمون لماذا أُنزل القرآن، ويعلمون أنه كتاب الدهر ودستور الحياة، وحجة الله الباقية إلى قيام الساعة، وأنه وافٍ كلّ الوفاء بإسعاد البشر في الحياتَين، وأن عدم فهمه وعدم العمل به وعدم تحكيمه كلّ ذلك تعطيل له. ففهموه أولًا وحكّموه في أهوائهم ونزعاتهم، فاستأصل باطلها ولطف من نزواتها، ورجعوا إليه في فهم الحقائق الغامضة في الحياة والدقائق المشكلة في الكون والأخلاق التي يجب أن يتعايش بها الناس، فرجعوا إلى معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد انضوت تحت لوائه أمم مختلفة الأهواء والمنازع والفهوم؛ فوحّد أهواءها، وقارب بين منازعها وفهومها، ووفّق بين مصالحها، وهذه النقطة التي عجزت عنها التربية التعليمية والقوانين الوضعية إلى يومنا هذا.

يعتقد المسلمون كلُّهم أن سلَفهم كانوا أكمل إيمانًا من خلَفهم وهذا صحيح، ولكنهم لا يبحثون عن علّة كمال الإيمان في السلَف، حتى لكأنهم يعتقدون أن ذلك بوضع إلهيّ وتخصيص ربانيّ لا يدَ للكسب فيه، وهذا خطأ فاحش وجهل فاضح.

وما دام الكلام في الإيمان، فهاته وانظر كيف فهمه السلَف؟ ومن أيِّ مَعِينٍ استقَوا فهمه؟ ومن أيِّ أفقٍ استجلَوا حقائقه؟ ثم انظر كيف فهمه الخلف؟ ومن أين سقطتْ عليهم هذه الفهوم السخيفة؟ ثم أرجِعْ كلّ معلول إلى علته بلا إجهاد للذهن ولا إنضاء للقريحة.

إنّ السلف تذرّعوا لفهم القرآن ذريعتَيْن: الذوق العربي الصحيح، والسنة النبوية الصحيحة، وقد كانوا يؤمنون بأنه كلٌّ لا يتجزأ، وأن بعضه يفسِّر بعضه، وقد استعرضوه بعد فهمه بتلك الذرائع، فوجدوه يُعرِّف الإيمان بالصفات اللازمة والتي يتكون من مجموعها، فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[الحجرات: 15] الآية، ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}[الأنفال: 2- 4]، ويقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون: 1] إلى آخرها، ويقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة: 177] إلى آخرها، ويقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: 63] إلى آخرها، ويقول غيرها من الآيات الجامعة لشعب الإيمان وخصاله وصفاته الذاتية، ثم وجدوه لا يذكر الإيمان في المَعارِض المختلفة إلا مقرونًا بالعمل الصالح، ففهموا من القرآن ما هو الإيمان وما هي الأعمال الصالحة؛ فآمنوا وعملوا الصالحات، فكان إيمانهم أكمل إيمان بالعمل والكسب لا بشيء آخر من الخوارق والاختصاصات، وعلى هذا النحو فهموا العبادة وتوحيد الله وكمالاته المطلقة، والرسل ووظائفهم، والملائكة... إلخ.

أما الخَلَف فقد عدَلوا عن هذا كلّه منذ صاروا يفهمون الإيمان من القواعد التعليمية، وفقدوا الذوق والاسترشاد بالسنّة.

إنّ هذه القواعد الجافّة التي لا صلة بينها وبين النفس إنما تنفع في الصناعات الدنيوية، أما في الدين فإنها لا تغني غَناء، وقد أفسدته منذ أصارها الناس عمدة في فهمه، حتى ضعف إيمانهم وضعفت تبعًا له إرادتهم وأخلاقهم، وكيف يُفلح من يَعدِل في تفهُّم الإيمان عن الآيات المتقدمة إلى قولهم: إنّ الإيمان هو التصديق، وإنّ النطق شرط أو شطر فيه، وإنّ النسبة بين الإيمان والإسلام كذا... إلى آخر القائمة؟! وكيف يكون مؤمنًا -حقًّا- من يبني إيمانه على هذا الجُرف الهاري؟!

إنّ هذا موضوع واسع الجنبات، وهو يتصل بباب أمراض المسلمين وأسبابها، ولا تتسع هذه الكلمة لبعض القول فيه، فكيف باستيعابه؟!

تدبُّر القرآن واتِّباعه هما فَرْقُ ما بين أول الأمّة وآخرها وإنه لفرقٌ هائلٌ، فعدم التدبر أفقدَنا العلم، وعدم الاتباع أفقدَنا العمل، وإننا لا ننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه، ولا نُفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 157].

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (الشهاب)، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، يونيو - يوليو 1938م، ص156، كتصدير لأحد أعداد المجلة، وعنونت بـ(تصدير هذا العدد)، فاخترنا لها هذا العنوان المناسب لموضوعها.

وطُبعت ضمن (آثار محمد البشير الإبراهيمي)، جمع نجله: د. أحمد طالب الإبراهيمي - ط. دار الغرب الإسلامي (1/320)، وقد ختمها الكاتب -رحمه الله- بالكلام عمَّا خُصِّص به هذا العدد من المجلة من الكلام على ختم الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- لمجالس تفسيره، مع ذكر بعض جهود معاصريه، مما هو خارج عن موضوع المقالة، فاقتصرنا على صُلب المقالة وحذفنا ما يتعلق بموضوع العدد. (فريق موقع تفسير).

الكاتب

محمد البشير الإبراهيمي

أحد أعلام الفكر والأدب في العالم العربي، ومن رواد الحركة الإصلاحية في الجزائر، وتوفي عام 1385هـ/ 1965م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))