الترجيح والتوفيق بين نصوص القرآن
الترجيح والتوفيق بين نصوص القرآن[1]
من المعلوم في الإسلام بالضرورة أنَّ القرآن كتاب الله المنزل على رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، فإذا كان الأمر كذلك فمن المحال عقلًا أن يوجد تعارضٌ حقيقي بين آياته لصدورها من مصدرٍ واحدٍ، وهو الله العليم الحكيم سبحانه.
على أنَّنا إذا قرأنا القرآن، نرى أنَّ ظواهر الآيات تبدو وكأنها متعارضة، ولكن سرعان ما تظهر الحقيقة إذا ما تعمّقنا في الفهم، واطلعنا على حقائق الألفاظ ومجازاتها، ومدلولات التراكيب، وأنماط الأساليب، وإذا خطونا في الدراسة خطوات أوسع فدرَسنا القواعد الأصولية، وجدنا القرآن كالكلمة الواحدة، وعند ذلك ظهر لنا جليًّا زيف طعن أعداء الله من الملاحدة، وانهارت شبهاتهم، وتمزقت سرابيلهم التي كانوا -وما زالوا- يتسربلون بها، من أجل القضاء على الإسلام وإطفاء نوره.
ولكن قد يتساءل المرء فيقول: ترى لِمَ تتعارض ظواهر بعض النصوص؟ يُجيبنا الزركشي في البحر فيقول: «اعلم أنّ الله لم ينصّب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنيّة، قصدًا للتوسيع على المكلفين؛ لئلا ينحصروا في مذهبٍ واحدٍ لقيام الدليلِ القاطعِ عليه، وإذا ثبت أنّ المعتبر في الأحكام الشرعية الأدلة الظنية، فقد تتعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها، فوجب الترجيح بينها، والعمل بالأقوى»[2].
ولا بد لنا قبل الدخول في الموضوع من تحديد المصطلحات التي نستعملها في البحث، فالنصّ اسم مشترك يُطلق عند العلماء على ثلاثة أوجه: الأول، وهو الأشهر ما لا يتطرق إليه احتمال أصلًا كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فإنه نصّ في معناه لا يحتمل غيره، فكلّ ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سُمي بالإضافة إلى معناه نصًّا في طرفي الإثبات والنفي، فعلى هذا حدّه اللفظ الذي يفهم على القطع معنى، فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نصّ. الثاني، ما أطلقه الشافعي -رحمه الله-، فإنه سمى الظاهر نصًّا، وهو منطبق مع اللغة، تقول العرب: نصّت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، ولا مانع منه في الشرع، فعلى هذا حدّه الظهر وهو اللفظ الذي يغلب على الظنّ فهم معناه منه من غير قطع، فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغائب ظاهرٌ ونصّ. الثالث، التعبير بالنصّ عمّا لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل، أمَّا الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ من كونه نصًّا[3]، ويرجّح ابن قدامة الأول دفعًا للترادف والاشتراك بين الألفاظ، فإنه خلاف الأصل[4].
والتعارض تقابل النصّين أو الدليلين على سبيل الممانعة[5]، أي أن يقتضي كلّ من الدليلين عدم ما يقتضيه الآخر[6]، والترجيح في جعل الشيء راجحًا أي فاضلًا زائدًا، ويطلق مجازًا على اعتقاد الرجحان. وفي الاصطلاح بيان الرجحان، أي القوة التي لأحد المتعارضين على الآخر[7].
وللجمهور أدلّة قوية على جواز الترجيح، نقلها الرازي في كتابه المحصول: أولها، اجتماع الصحابة على العمل بالترجيح. وثانيها، أن الظنيين إذا تعارضا ثم ترجّح أحدهما على الآخر، كان العمل بالراجح متعينًا عرفًا، فيجب شرعًا لورود أحاديث تأمر بلزوم الجماعة وذم من خرج عنها، ولزوم السواد الأعظم. وثالثها، أنّه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح على الراجح، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بداهة العقل[8].
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يمكن التعارض بين نصّين قاطعين إلا بأن يكون أحدهما ناسخًا[9]، ولا يوجد دليلان أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف[10]، فلا بد أن يكون أحدهما أرجح من الآخر في نفس الأمر من كلّ وجه، وعند البحث لا بد أن نجد له جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير[11]، والظاهر أنَّ بعض الأصوليين ثبت عندهم هذا عن طريق الاستقراء، ولأجله جزم الشاطبي بعدم وقوع هذا النوع من التعارض، واستدل عليه بأدلة كثيرة نجملها فيما يلي: الأول، قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَـزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}. فهذه الآيات بمجموعها تدلّ على أنَّ القرآن لا اختلاف فيه، وأنَّه يرفع التنازع ولا يرتفع إلا بالرجوع إلى شيء واحد وطريق واحد[12]. الثاني، وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، فهو دليل على أن الباقي لا يمكن أن يتعارض؛ إذ لو حدث تعارض لم يبق للنسخ فائدة. الثالث، إن كان هنالك تعارض لأدَّى ذلك إلى تكليف ما لا يطاق. الرابع، أن الأصوليين متفقون على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة، وقولهم بلزوم الترجيح يتنافى مع كون الاختلاف في الدين وإلا لصحّ إعمال أحد الدليلين المتعارضين جزافًا، وهذا باطلٌ بالاتفاق[13].
ويمكن أن نُضيف أنَّه لو كان هنالك تعارضٌ لحدث تناقضٌ، ومن المعلوم أن أحد طرفي التناقض لا بد أن يكون صدقًا والآخر كذبًا، ومعاذ الله أن يكون ذلك في كتاب الله.
قال الغزالي: «وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصّين قاطعين، فكذلك في علتين قاطعتين، فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع آخر»[14].
أمَّا إذا كان أحد المتعارضين قطعيًّا والآخر ظنيًّا، فلا يكون التناقض؛ لأن الظني ينتفي أمام القطعي.
وأمَّا إذا تعارض نصّان ظنيّان، رجحنا بينهما، ولا بد أن يكون هناك مرجح لأحدهما على الآخر في نفس الأمر[15]؛ ولأنه يؤدي إلى وقوع الشبهة وهو منفرٌ عن الطاعة[16]، وإذا توهمّ شيء من هذا النوع أي إذا تعادل النصّان من غير وجودِ دليلٍ آخر، فقد ذهب بعض المعتزلة والباقلاني إلى أنَّ المجتهد مخيّر في ذلك، وذهب آخرون إلى أنهما يتساقطان، ويطلب الحكم من موضع آخر أو يرجع المجتهد إلى عموم أو إلى البراءة الأصلية، وحُكي عن بعضهم التوقف. وقيل: يأخذ بالأغلظ، وقيل: يصير إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كلّ أمارة على أمر[17].
قال الغزالي: «إذا تعارض الدليلان فأما أن يستحيل الجمع أو يمكن، فإن امتنع الجمع لكونها متناقضين كقوله مثلًا لا يصح نكاح بغير ولي ويصح نكاح بغير ولي، فمثل هذا لا بد أن يكون أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا، فإن أُشكل التاريخ فيُطلب الحكم من دليل آخر، ويقدر تدافع النصّين، فإن عجزنا عن دليل آخر، فنتخير العمل بأيهما شئنا؛ لأن الممكنات أربعة: العمل بها وهو متناقض، أو اطراحهما وهو إخلاء الواقعة عن الحكم وهو متناقض، أو استعمال واحد بغير مرجح وهو تحكّم، فلا يبقى إلا التخيير الذي يجوّز ورود التعبد به ابتداءً»[18].
ويقول ابن قدامة في سبب جواز تعارض العموم بلا مرجّح أنه يكون مبينًا للعصر الأول، وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة، ويكون ذلك محنة، تكليفًا عليمًا لنطلب دليلًا آخر، ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا، وأمَّا التنفير فباطل، فقد نفر طائفة من الكفار من النسخ ثم لم يدل ذلك على استحالته[19].
وأمَّا إذا تعارض النصّان وأمكن العمل بهما، فلا يرجح أحدهما على الآخر؛ لأن إعمال النصين أولى[20]. قال الرازي في المحصول: «العمل بكل منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كلّ وجه وترك الآخر»، قال الشوكاني: «وبه قال الفقهاء جميعًا»[21].
وذهب ابن حزم إلى إعمال النصّين المتعارضين مطلقًا؛ لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، وليست هناك آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكلٌّ من عند الله -عز وجل-، وكلّ سواء في باب الطاعة والاستعمال ولا فرق، ومن أجل توضيح رأيه يضرب أمثلة كثيرة، فقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ}، ليس فيه ما يردّ قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}، كما ليس فيها إباحة نكاح الأخت والبنت المحرمتين وإن كانتا من الأيامى، ولكن إحدى الآيتين مضمومة إلى الأخرى، فتنكح الأيامى ما لم يكنّ زواني، من أنه يبعد عنده في اللغة وقوع اسم أيّم على الزانية، فالواجب استعمال الآيتين معًا؛ لأن استثناء بعضهما من بعض ممكن[22]، ولا يجوّز ابن حزم أن يقال بأن شيئًا من النصوص قبل شيء، ولا أنّ شيئًا منها بعد شيء، وسواء نزل بعضها قبل بعض، أو نزلت معًا لا فرق عندنا بين شيء من ذلك، وليس شيء مما نزل بعد رافعًا لشيء نزل قبل إلا بنصٍّ جلي في أنه رافع له أو إجماع على ذلك، وإلا فهو مضاف إليه، معمول به ضرورة لا بد من ذلك[23].
يقول أبو زهرة: «إنّ مسلك ابن حزم هو مسلك ظاهري أساسه احترام النصوص، وعدم الترجيح بينها بأي وجه من وجوه القياس أو إسقاط بعضها»[24].
ومن الجدير بالذكر هنا أنَّ من يقرأ باب الترجيح في كتابه «الأحكام» يجد قوة كلام ابن حزم، ومقدار توفيقه في إسناد رأيه، بدفع التعارض والترجيح بين الآيات ذات الموضوع الواحد.
وبعد عرضنا لأسس الموضوع نأتي إلى استعراض أهم القواعد التفصيلية التي وضعها الأصوليون والمفسرون للتوفيق بين الآيات أو دفع التعارض الظاهري؛ فمنها: تقديم المكي على المدني عند التصنيف، وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه -صلى الله عليه وسلم- بعد عودِه إلى مكة والمدينة قبلها، فيقدم الحكم بالآية المدنية على المكية في التخصص والتقديم إذ كان غالب الآيات المكيّة نزولها قبل الهجرة.
ومنها: أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة والآخر على غالب أحوال المدينة، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحوال أهل المدينة، كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا}، مع قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، فإذا أمكن بناء كلّ واحدة من الآيتين على البدل جعل التخصيص في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} كأن قال: إلا من وجب عليه القصاص.
ومنها: أن يكون أحد الظاهرين مستقلًّا بحكمه والآخر مقتضيًا لفظًا يزاد عليه؛ فيقدّم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب، كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، مع قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر، وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببًا، فيقدّم المنع من الإحلال عند المرض بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} على ما عارضه من الآية.
ومنها: أن يكون كلّ واحدٍ من العمومين محمولًا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد؛ فيقدّم ذلك على تخصيص كلّ واحدٍ منهما من المقصود بالآخر، كقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} بقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فيخصّ الجمع بملك اليمين بقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}، فنحمل آية الجمع على العموم والقصد فيها بيان ما يحلّ وما يحرم، وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال.
ومنها: أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه، كقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} مع قوله تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية، فيمكن أن يقال في الآية بالتبيّن عند شهادة الفاسق، إذ كان ذلك من كافر على مسلم أو فاسق على كافر، وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقًا، أو يحمل الظاهر في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} على القبيلة دون الملة، ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة؛ لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ وتخصيص الغير بالقبيلة، لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير.
ومنها: ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرًا، كتقديم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} على قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}، فإن قوله: (وَأَحَلَّ) يدل على حلّ البيع ضرورة، ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلًا أو تكون منحطة عن النصّ[25].
ومنها: تقديم العام الذي لم يخصص على العام الذي قد خصص، وعللوا ذلك بأنَّ دخول التخصيص يضعف اللفظ ويصير به مجازًا. قال الفخر الرازي: لأن الذي خصص قد أزيل عن تمام مسماه.
ومنها: أن يقدم العام الذي لم يرد على سبب على العام الوارد على سبب، قالوا: لأن الوارد على غير سبب متفق على عمومه، والوارد على سبب مختلف في عمومه[26].
وهناك طرق أخرى كثيرة للترجيح كتقديم الحقيقة على المجاز لتبادرها إلى الذهن، وتقديم المجاز الأشبه بالحقيقة على ما لم يكن كذلك، وتقديم ما كانت حقيقة شرعية على ما كانت حقيقة لغوية، وتقديم ما كان مستغنيًا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه، وتقديم الدالّ المراد من وجهين على الدال المراد من وجه واحد، وتقديم ما دلّ على المراد بغير واسطة على ما دلّ عليه بواسطة، وتقديم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك؛ لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة ما لم يكن معللًا، وتقديم ما ذكرت فيه العلة متقدمة على ما ذكرت فيه العلة متأخرة[27].
وأمَّا التوفيق بين الآيات واستعمال كلّ آية في محلها الخاص فله نماذج كثيرة، منها: الجمع بين كليين إذا كان له اعتباران في الحقيقة، مثال ذلك: أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين ظاهرهما التضاد، حيث ذمّها في وصف ودعا إلى عدم الالتفات إليها وترك اعتبارها، وفي وصف آخر مدحها ودعا إلى الالتفات إليها وأخذ ما فيها؛ لأنه شيء عظيم مهدى من ملك عظيم. فمثال الوصف الأول: قوله تعالى: {اعلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}، وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، وقوله تعالى: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} إلى آيات كثيرة. ومثال الوصف الثاني: قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} والآيات الدالة على أن الله خلق للناس الدنيا، وأنعم ما فيها عليهم كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} إلى غيرها من الآيات. فالآيات الأولى تتحدث عن الدنيا باعتبارها فقط منبعًا للشهوات وطريقًا إلى اللذات وحشرًا مع البهائم، فهي من هذه الجهة قشر بلا لب، وباطل بلا حقّ. وهذه وجهة الكفار الذين لم يبصروا منها إلا هذه الجوانب، وأمَّا الآيات الثانية فباعتبار أنها ملأى بالمعارف والحكم والنّعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى والتي توجب العبودية والشكر، وهذه وجهة المؤمنين. فالدنيا من الوجهة الأولى مذمومة ومن الوجهة الثانية محمودة، فذمها بإطلاق لا يستقيم ومدحها بإطلاق لا يستقيم. قال الشاطبي: فتأمل في هذا الفصل، فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة. فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه، كما يفهمون طلبها من غير وجهه، فيمدحون ما لا يمدح شرعًا، ويذمون ما لا يذم شرعًا[28].
ومنها: استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ} مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات وبقي سائر المشركات على التحريم.
قال ابن حزم: «ولا نبالي في هذا الوجه سواء كنا نعلم أيّ النصين ورد أولًا أو لم نعلم ذلك، وسواء كان الأكثر معاني ورد أولًا أو ورد أخيرًا، كلّ ذلك سواء، ولا يترك واحد منهما للآخر، ولكن يستعملان معًا»[29]. ومنها قوله تعالى: {إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}، وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}، فالآية الأولى بعض هذه وداخلة في مجملها[30].
ومنها: أن يكون أحد النصّين فيه أمر بعمل ما، معلق بكيفيةٍ ما أو بزمانٍ ما أو على شخصٍ ما أو في مكانٍ ما أو عددٍ ما، ويكون في النصّ الآخر نهي عن عملٍ ما بكيفيةٍ ما أو زمانٍ ما أو مكانٍ ما أو عددٍ ما أو عذرٍ ما، ويكون في كلّ واحدٍ من العلمين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيءٌ يمكن أن يستثنى من الآخر، وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كلّ نصّ من النصّين المذكورين حكمان فصاعدًا، فيكون بعض ما ذكر في أحد النصّين عامًّا لبعض ما ذكر في النصّ الآخر ولا شيئًا آخر معه، ويكون الحكم الذي في النصّ الثاني عامًّا أيضًا لبعض ما ذكر في هذا النصّ الآخر ولا شيئًا آخر معه، فمن ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} مع قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، فليس أحد النصّين أولى بالاستثناء من الآخر إلا بنصٍّ أو إجماعٍ؛ لأنه جائز أن يقول قائل: معناه كنتم خير أمة للناس إلا بني إسرائيل، الذين فضلهم الله على العالمين. وجائز أن يقول قائل: معناه أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين هم خير أمة أخرجت للناس، فلا بد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر، وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني.
قال ابن حزم: فوجدنا قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قد قام البرهان على أنه ليس على عمومه؛ لأنه للملائكة أفضل بيقين فوقفنا على هذا، ثم نظرنا قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لم يأتِ نصٌّ ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره لأن الملائكة يدخلون في العالمين، وقد خرج من عموم ذلك الجنّ بالنصوص في ذلك ولا يدخلون في الأمم المخرجة للناس. فلما كان هذا النصّ، لم يأتِ نصٌّ آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لأحد أن يخصه، فإذا لم يجز تخصيصه فالغرض الحمل له على عمومه، فإن ذلك فرض، فقد وجب تخصيص أحد ذينك النصّين من الآخر، ولم يجز تخصيص هذا، فقد وجب تخصيص الآخر ولا بد؛ إذ لا بد من تخصيص أحدهما، وهذا برهان ضروري صحيح[31].
هذه نماذج واضحة تكفي -فيما أعتقد- لفهم طبيعة القواعد العلمية الرصينة التي وضعها علماؤنا المحققون -رحمهم الله تعالى-، والتي عن طريقها أثبتوا موضوعيًّا أن القرآن العظيم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عليم حكيم، لا تعارض فيه ولا تناقض، فآياته يأخذ بعضها برقاب بعض في تنسيق رائع، واضعة أمام البشرية فطرتها، وقواعد حياتها الكلية، ومقدمة الأسس الصحيحة للتفكير والانطلاق نحو البناء والتعمير وإقامة الحضارة، وأداة أمانة الخلافة على الأرض.
[1]مجلة كلية الآداب - العدد السادس عشر 1973، ص: 345-356.
[2] الشوكاني، إرشاد الفحول ص 273.
[3]الغزالي، المستصفى 1 / 157.
[4]روضة الناظر وجنة المناظر ص91، 92.
[5]التفتازاني، التلويح والتوضيح 2 / 612.
[6]الخضري، أصول الفقه ص394.
[7]التلويح والتوضيح 2 / 612، إرشاد الفحول ص273.
[8]إرشاد الفحول ص273، 274.
[9]المستصفى 2 / 126. الآمدي، الإحكام 3 / 175.
[10]الشاطبي، الموافقات 4 / 294.
[11]إرشاد الفحول ص275.
[12] الموافقات، 4 / 119 – 120.
[13]الموافقات، 4 / 122. الآمدي، الإحكام 3 / 175.
[14]المستصفى، 2 / 127.
[15]السبكي، جمع الجوامع 2 / 359. إرشاد الفحول 375.
[16]روضة الناظر وجنة المناظر ص131.
[17]روضة الناظر ص200، إرشاد الفحول ص275.
[18]المستصفى 2 / 32.
[19]روضة الناظر ص131.
[20]جمع الجوامع 2 / 257.
[21]إرشاد الفحول ص276.
[22]الإحكام في أصول الأحكام 3 / 364.
[23]المصدر السابق 3 / 376.
[24]ابن حزم ص3 / 326.
[25]الزركشي، البرهان في علوم القرآن 2 / 49، 50. راجع: المستصفى 2 / 34، وإرشاد الفحول ص280، وروضة الناظر ص200.
[26]إرشاد الفحول ص278.
[27]المصدر السابق ص378 وما بعدها.
[28]الموافقات 4 / 304 – 310.
[29]الإحكام في أصول الأحكام 2 / 152.
[30]الإحكام في أصول الأحكام 2 / 153.
[31]الإحكام في أصول الأحكام 2 / 158.
مواد تهمك
- التفسير الفقهي؛ النشأة والخصائص
- المفردة القرآنية؛ المراحل التي تمرُّ بها حال تفسيرها
- رسالة في علوم القرآن لابن تيمية: عرض وتعريف
- اجتهاد ابن تيمية التأسيسي لأصول منهج علم التفسير من خلال مقدمته في أصول التفسير؛ عرض وتقويم (2-2)
- سلسة التفسير الفلسفي للقرآن (2): «التفسير الفلسفي للقرآن» بين تاريخ الفكر الإسلامي وتأسيس المرزوقي