نصر أبو زيد وطبيعة القول القرآني، أولًا: الأبعاد السياسية والاجتماعية لخطاب نصر أبو زيد

الكاتب : طارق محمد حجي
هذا المقال هو الأول من ثلاثة مقالات تتناول خطاب المصري نصر حامد أبو زيد «ذي الأهمية الكبرى في سياق القراءة الحداثية»، وفيه نتناول السياق الاجتماعي والسياسي والمعرفي الخاص الذي نشأ فيه خطاب أبو زيد، انطلاقًا من أهمية هذه السياقات في فهم الكثير من ملامح خطاب نصر، وقد اختار المقال خطين رئيسين في حياة نصر الاجتماعية والمعرفية، الخط الأول هو غلبة الهم السياسي والاجتماعي على الخطاب، والخط الثاني هو «التغريبية اليابانية»، أي تلك المرحلة التي عايش فيها نصر طريقة تعاطي اليابان كمجتمع يتدين «دون نص» مع إشكالات الدين والحداثة، يتتبع المقال هذين الخطين محاولًا إبراز أثرهما على تشكل بعض ملامح خطاب نصر حول القرآن.

في المقال السابق كنّا قد توصلنا لتحديد الملامح العامة التي نظنُّها مُحدِّدة لـ«القراءة الحداثية للقرآن»، بحيث على أساسها تفترق هذه القراءات عن غيرها، مهما تشابهت معها في بعض التفاصيل أو مهما تَغيَّت نفس الرهانات والأهداف[1]، وكما قلنا هناك فإنَّ هذا التحديد للملامح العامة لا يُعطينا التصوّر الكامل والدقيق حول القراءة الحداثيّة، فتكوين مثل هذا الفهم رهين بالانتقال لتناول برامج القراءة الحداثية عند كلّ عَلَمٍ من أعلامها، فكلّ خطاب من هذه الخطابات يَحْمِلُ -وإلى جانب الرهانات العامة للقراءة الحداثية- رهانات خاصة به، كما ينطلق وبالإضافة للسياق المعرفي الأوسع «التأسيس الثاني للنهضة» من سياقات معرفية وسياسية واجتماعية مخصوصة، تعمل على تشكيل خاصّ لمنطلقاته ولأدواته، كما يختلف كلّ خطاب من هذه الخطابات في الأدوات والتقنيات المنهجية المُستخدَمة، ومساحات الاشتغال والتي ترجع لاختلاف المدخل المنهجي وإطار وحدود المقاربة عند كلّ خطاب من هذه الخطابات. إدراك هذه الاختلافات لا يُطلعنا فحسب على خصوصية كلّ برنامج من برامج القراءة الحداثية، بل وكما سيتضح لنا في ختام هذه الرحلة، أنَّه يَنعكس كذلك على فهمنا لأبعاد القراءة الحداثية في العموم.

لذا فإننا سنحاول في مقدمة تناولنا كلّ خطاب من خطابات أعلام القراءة الحداثية تقديم تعريف بصاحب هذا الخطاب، لا نَقصدُ مجرّد التعريف بحياته وكتاباته، بل نقصد تعريفًا بالأبعاد الخاصة لخطابه، وتحديدًا التعريف برهانات الخطاب الخاصّة المٌنغَرِسة في الهموم الشخصية والسياسية والفكرية لصاحب الخطاب، فلهذه الرهانات أثرها الكبير في تشكيل الرهانات الأصلية للقراءة الحداثية، كما في إضافة مساحات جديدة تنضاف في الأخير للرهانات الأوسع للخطاب، وتصبحُ بشكل أو بآخر من مُحدِّدات القراءات الحداثية في العموم، وربما يجعلنا هذا قادرين على استشراف بعض آفاق هذه القراءة مستقبلًا.

 ونحن نبتدئ هذه الرحلة بتناول خطاب نصر أبو زيد الذي يُعتبرُ ربَّما أشهر رواد هذه القراءة، كما أنَّ لخطابه أهمية خاصة في سياقات هذه القراءات من أكثر من جهة، كما سنحاول أن نوضح تفصيلًا.

 

نبذة تعريفية بنصر أبو زيد:

نصر حامد أبو زيد أستاذٌ جامعي مصري، وُلِد في قرية قحافة بطنطا في 10 يوليو 1943، ودَرَس في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، تخرّج عام 1972بتقدير جيد جدًّا، وأصبح مُعيدًا في نفس القسم، ثمَّ قدَّم رسالته للماجستير في «التأويل العقلي عند المعتزلة» عام 1976، ورسالته للدكتوراه «فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي» عام 1981.

سافر نصر لبعثتين مهمّتين؛ بعثة لأمريكا في منحة من مؤسسة فورد عام 1978، وهي فترة مهمة في حياة نصر الفكرية؛ حيث زار فيها عددًا من المكتبات والجامعات، واطَّلع على كثير من مناحي البحث المعاصر في الألسنيات ومناهج تأويل النصوص، كذلك وبسبب موضوع البعثة فقد تعمَّق نصر في قضايا الأدب الشعبي والفولكلور وله بعض دراسات متفرقة في هذا الأمر، مثل «الفوازير وظيفتها وبنائها اللغوي»[2]، وكذلك مقالة عن «السيرة النبوية كسيرة شعبية»[3]. كذلك سافر نصر في بعثة لليابان كأستاذ زائر في جامعة أوساكا، وهناك كَتَبَ أهمَّ كتابين في مسيرته «مفهوم النص، دراسة في علم القرآن» و«نقد الخطاب الديني». له عدد من المؤلفات المهمّة بالإضافة لهذين الكتابين، كتاب «النص، السلطة، الحقيقة» وكتاب «إشكاليات القراءة وآليات التأويل»، وكتاب «الخطاب والتأويل»، وكتاب «التجديد والتحريم والتأويل»، وهو آخر كتبه، وله أهمية خاصة حيث يَشملُ دراسته «مقاربة جديدة للقرآن، من النصّ إلى الخطاب، نحو تأويلية إنسانوية»[4].

أثارت كُتبه عددًا كبيرًا من النقاشات والسجالات بل والاتهامات، وتعالتْ حدَّة الأمر بعد تَقدُّمه بكتبه لنيل درجة الأستاذية في جامعة القاهرة، حيث رُفِضت الترقية، ثم خَرَجَ النقاشُ من الجامعة إلى الشوارع، وانتهى الأمرُ بقضيته إلى المحكمة، فصدر حكم عام 1995 من محكمة استئناف القاهرة بالتفريق بينه وبين زوجته دكتورة ابتهال يونس أستاذ الحضارة الفرنسية ولغاتها وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة، بدعوى الرِّدة[5].

في أعقاب هذا سافر نصر إلى هولندا ليُدرِّس الفكر الإسلامي بجامعة ليدن، حاول العودة لجامعة القاهرة مرارًا لكنَّ الأمر لم يُفلِح رغم صدور قرار ترقيته أستاذًا بالفعل عام 1995، لكنَّه عاد لمصر مرات؛ قدَّم فيها عددًا من المحاضرات المهمة في مكتبة الإسكندرية، وكما زار فيها بلدته قحافة، وتُوفِّيَ نصر عام 2010م.

نصر حامد أبو زيد، رهانات خاصة:

كما قلنا فإنَّ محاولتنا في هذا المقال هي التأريخ لخطاب نصر أبو زيد (1943 - 2010)، بمحاولة تسييق هذا الخطاب في سياق هموم نصر الاجتماعية والسياسية والفكرية التي رافقت تجربته الحياتية، وفهم الرهانات الخاصة، التي يبغي نصر تحقيقها عبرَ قراءته الحداثية العلمية للقرآن، وعبر القول بـ«تاريخية النصّ الديني» بالتحديد، ففي ظنّنا إن كثيرًا من أبعاد خطاب نصر تَغِيْبُ عنَّا إذ نحن لم نُدرك عمق هذه الرهانات، فالصلةُ بين فكر نصر وحياته هي صلةٌ طالما أصرَّ عليها نصر نفسه، فكما يقولُ في «صوت من المنفى»: «أؤمن تمامًا بأنَّ التجربة الحياتية تقع في قلب ما نسمّيه بالمعرفة. تجاربنا وخبراتنا هي التي تُشكِّل المعرفة؛ إذ أنها ليست كيانًا مستقلًّا يوجد بمعزل عن فهمنا وتأويلنا للحقائق والأحداث، فهذا التأويل لدرجة بعيدة يَنْبُعُ من تجاربنا الشخصية»[i]، ونحن نستطيع وعبر تتبُّع الخيوط الرئيسة لسيرة نصر والتي تمَّ عرضها مرتين، مرة في كتاب «أنا نصر أبو زيد» ومرة في كتاب «تأملات في المنفى» أن نضع يدنا على خطين رئيسين، نظنُّ أن لهما قدرة كبيرة على تكثيف الكثير من مراحل هذه الحياة، وبالتالي على إضاءة جوانب مهمة من خطاب نصر، الأول: يتعلق بـ«الهمِّ السياسي والاجتماعي المسيطر على خطاب نصر طوال تمرحلاته»، والثاني: يتعلق بـ«أثر التغريبة اليابانية على فكر نصر»، فكثير من أبعاد هذا الخطاب تتضحُ إذا نحن أولينا هذين الخطين قدرًا مناسبًا من التحليل كمدخل لتسييق خطاب نصر وتجذيره في حياته وسياقاتها.

أولًا: الهمُّ السياسي عند نصر وفكرة تاريخيّة القرآن:

كثير من الباحثين كانوا قد أشاروا لغلبة البعد النضالي والسجالي على خطاب نصر أبو زيد، فهذا الخطاب ليس محض خطاب أكاديمي أو حتى خطاب معرفي منعزل في مقصورة الإعلان عن آرائه الخاصة، بل هو خطابٌ سجالي ونضالي مُوجَّه في اتجاه عدد كبير من الجبهات، وفي ظنّنا وما نريد التأكيد عليه هو أن هذا الطابع السجالي والنضالي ليس طابعًا طارئًا على الخطاب، طرأ عليه بحكم السجالات التي سُحِب إليها بعد كتبه «مفهوم النص»، و«نقد الخطاب الديني»، و«الإمام الشافعي وتأسيس الأيدولوجية الوسطية»، وبعد رفض الجامعة ترقيته لدرجة أستاذ بكلية الآداب، وصراعاته الطويلة مع بعض أعلام التيار الإسلامي مثل؛ عبد الصبور شاهين، وفهمي هويدي وغيرهم، ثمّ تفريقه عن زوجته بقرار المحكمة، بل نظنُّ أن هذه السجالية والنضالية أساسية ورئيسة في هذا الخطاب -ربما هي التي دعت لتقليب هذه الجبهات عليه كما يصرُّ هو نفسه-، إنها ربَّما أكثر حتى من كونها «طقس الخطاب» كما يقول الربيعو مستعيرًا من فوكو[6][ii]، وهذا لأنَّ فكرة «تاريخية القرآن» عند نصر، أي هذه الفكرة المركز في الخطاب ليست فكرة معرفية محضة، بل في حقيقة الأمر هي فكرة تحمل رهانًا سياسيًّا أساسيًّا، هذا الرهان ليس وكما قد يُظن -أو كما قد قيل بالفعل- رهانًا في مواجهة تيارات سياسية بعينها، قُصِد بها لـ«سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين بحرمانهم حقّ احتكار التأويل»[iii]، بل هو رهان تجاه الحقل السياسي العربي في مجمله، فأحد رهانات فكرة التاريخية عند نصر -كما سنوضح- هي الخروج من أفق الحقل السياسي العربي المنبني في عمقه «الفكري والتاريخي» على الاستبداد لفتح الطريق لبناء جديد لحقل السياسة، مما يجعل الفكرة المركز في الخطاب فكرة سياسية ومعرفية في آن تبغي فتح أُفق جديد للمجالين، تتجاوز عيوب كلّ مجال كما هو منبني في الثقافة العربية، كما تحاول تجاوز العلاقة المُستَقِرَّة بينهم «علاقة المثقف بالسياسي»، والراجعة لطبيعة انبنائهما هذا. إننا وإن كنَّا نتفق مع الربيعو في غلبة البعد السياسي على خطاب أبو زيد، إلا أنَّنا نظن أن رهان هذا البعد السياسي أعمق كثيرًا من صراع تيارات إسلامية وعلمانية.

وقبل أن نقومَ بشرح هذا بصورة أكثر وضوحًا، نودُّ التأكيد أولًا على أنَّ هذا الربط بين فكرة تاريخية النصوص وبين السياسة وإشكالاتها، والذي يُلِحُّ على أحد مستوياته الربيعو، هو ربط يُلِح عليه نصر نفسه باستمرار، وهو وفقًا له عامل أساس إن لم يكن هو العامل الأساس بـ «أل التعريف» الذي دفع التيارات المناهضة لخطابه لمحاولة إسكاته بأي ثمن[7]!

 من القائل إلى قوانين إنتاج الخطاب، من العلة الواحدة إلى القانون، من الجاهلية إلى العقلانية:

حتى نستطيع تبيّن الرهان السياسي -في مستواه الأعمق والخاصّ بالحقل السياسي العربي- لأفكار نصر؛ فإنَّ علينا التنبُّه لكون هذا الخطاب يقوم على ثلاثة مرتكزات، بل دعنا نقول ثلاثة أوجه أو تمظهرات لمرتكزٍ واحدٍ، يتسع ليشمل في اشتغاله ثلاث مساحات هي «النص، الخطاب الديني، السياسة» ترتبط بمحطات مهمة في مسيرة نصر هي على التوالي كتابات، «مفهوم النص، 1987»، و«نقد الخطاب الديني، 1990»، و«النص السلطة، الحقيقة، 1995»، هذا المرتكز هو «الانتقال من براديغم[8] العناية إلى براديغم القانون» أو «تكريس القانون في مواجهة الإرادة».

فالمُتتبِع لمسيرة الكتابات الحداثية العربية المُرتبِطَة بالنصِّ القرآني وبإشكال علاقة التشريعات الإسلامية بالتشريعات الحديثة والنصّ القرآني بالعقل العلمي الحديث، يعلم جيدًا أنَّ كتابي نصر هذين يُعدَّان انعطافة أساسية في هذه المسيرة؛ وهذا لأن حتى الكتابات التي كانت تعلن ارتباط بعض التشريعات أو القصص القرآني أو المعتقدات القرآنية حتى بالبيئة الجاهلية -فيما قبل نصر- كانت تُبرِّر حضور هذه الآيات «النسبية - العربية - الأسطورية - الاجتماعية» في القرآن «المطلق - المتعالي -  الموجّه للعالمين - القادم من خارج الاجتماع»، انطلاقًا من صفات «قائل القرآن»، فالله هو «الذي اختار أن يحكي بمعهود العرب»[iv] عناية بنا، والله هو الذي راعى البيئة الجاهلية ومدى قدرتها على التطور؛ فعبَّر بمعهودها واقتصر بالإصلاح على ما يُناسبها، فكلّ هذه الكتابات تتحرك داخل ما يمكن اعتباره «براديغم العناية» المُنبني لاهوتيًّا على الإرادة والرحمة الإلهية، ولغويًّا على المجاز والتمثيل كآلية تقريب مناسبة لحقيقة تظلّ مُطلَقة ومفارِقة[v]، وهذا الأمر يختلف تمامًا عن رؤية نصر، والتي لا تُبرِّر حضور «النسبي» في القرآن بصفات الإله، بل تُفسِّره باستقلال القانون تجاهه، فالقرآن وما يحضر فيه من مفاهيم وقصص واستراتيجيات للتطوير الدلالي تُقرأ من حيث توافقها مع قوانين تشكّل النصوص في التاريخ، ومن مركزية المُرسَل إليه في نصّ الرسالة، وليس من أي تدخل إلهي مُطلَق في مجرى التعبير، فمن الأساس (لا يوجد في النصّ معنى جوهري ثابت مفارِق له إطلاقية المطلق وقداسة الإله)[vi]، من هنا يصبح التعامل مع النصّ (منذ تموضع بشريًّا)[vii]، وبعيدًا عن الانشغال بنَسَبِه الإلهي، وكون هذا النَسَب لا يُشكِّل فارقًا في بناء برنامج القراءة والفهم لنصّ يظلّ لغويًّا قبل كلّ شيء، تعاملًا منطقيًّا في إطار خطاب ينطلق من كون قانون تَشَكُّل النصّ وبالتالي آليات فهمه مُستَقِلَّة أصلًا تجاه الإلهي.

هذه الفكرة المُرتَكز والتي تَبرُز هنا في التعامل مع القرآن، نراها مرة أخرى في «نقد الخطاب الديني» تشتغل في مساحة أخرى هذه المرة هي مساحة «الطبيعة، والاجتماع»، حيث ينتقد نصر الخطاب الديني كونه في تناوله للطبيعة يُرجِع العلل كلها لعلّة واحدة مُنكِرًا استقلال قوانين الطبيعة والاجتماع[viii]، وكما يصرُّ نصر فقوانين الطبيعة كقوانين الخطاب هي مُستَقِلَّة تجاه الإلهي، فالطبيعة والقرآن نصَّان لا يُقرآن بالإحالة على الخالق والقائل أو يُفهمان عبر الاستنجاد بعنايته، بل يُقرآن انطلاقًا من القوانين التي تحكمهما، ويُفهمان في إطار مركزية الإنسان «المخلوق له» و«المُرسَل إليه».

ربما تظل هاتان المساحتان واضحتي الترابط، حيث الربط بين قراءة القرآن وقراءة الكون والتناظر بينهما ليست جديدة بالصورة الكبيرة، لكن ربَّما ما يحتاج توضيح أكثر هو فعل المرتكز الأساس لتفكير نصر في مساحة السياسة، خصوصًا أنَّ هذا هو إشكالنا الرئيس هنا.

وفي الحقيقة، فإن هذه الصلة بين المرتكز «الانتقال من الإرادة للقانون» وبين السياسة وثيقة جدًّا في خطاب نصر، ونحن نراها بوضوح شديد في «نقد الخطاب الديني» كذلك كما في كتاب آخر مهمّ هو «النص، السلطة، الحقيقة»؛ ففي «نقد الخطاب الديني» نجدُ هذا الاشتغال لهذا المرتكز في حديث نصر عن «الحاكمية» كأحد منطلقات الخطاب الديني، حيث يعتبر نصر الحكم المناهض لـ«حكم الجاهلية» -المُدان في القرآن- ليس هو «حكم الله» كما تدَّعي التيارات الإسلامية، بل حكم العقل «العقلانية»؛ فلأنَّ الجاهلية في لغة قبل القرآن -أي في السياق التداولي للمُخاطَبين به- تعني (الخضوع لسطوة الانفعال، دون الاحتكام لرزانة العقل وقوة المنطق)[ix]، وإدارة العلاقات الاجتماعية بمنطق القَبَليَّة، تصبح الدعوة لتحكيم الله ورفض حكم الجاهلية هي دعوة لتحكيم العقل[x]، وتجاوز القَبَليَّة والقهر، بهذا فإنَّ السياسة عند نصر تصبح «جاهلية» مدانة قرآنيًّا إذا قامت على الجهل على «اللا عقل» أي اللا قانون -اشتغال نمط الإرادة المُنفلِتَة من القانون في مساحة السياسة-،  أيًّا كان مُمثِّل هذا اللا قانون، من هنا نفهمُ كون خطاب نصر وكما عارض التيارات الإسلامية؛ لأنها في ظنِّه بعد أن تتحدث عن حاكمية الله تنتهي إلى تحكيم بعض البشر (فتنتقل من الحاكمية الإلهية لحاكمية رجال الدين)[xi]، فتُماهِي حكم البشر المُتحيِّز أيدولوجيًّا واجتماعيًّا بحكم الله، فتقيه ضرورة التَقيُّد بالقانون وبالعقل، فقد عارض كذلك الأنظمة العربية التي اعتبرها أنظمة غير مدنية ولا ديموقراطية، قائمة في حكمها على العنف والقهر و«اللا قانون» أي اللا عقل[xii].

من هنا نحن نستطيع اعتبار خطاب نصر في تجلياته كلها هو خطاب «تكريس القانون في مواجهة الإرادة»، «براديغم القانون في مواجهة براديغم العناية»، أكان هذا القانون هو قانون تَشَكُّل النصِّ أم قانون الطبيعة أم قانون العقل، وأكان هذا في مواجهة الله القائل أو الله الخالق أو السياسي المُنفَلِت من كلّ قانون (كإله يتدخل في الطبيعة بمناسبة وبدون مناسبة)، إنّ «حاكمية الله الشاملة» هذه والتي يُراد لها أن تعمل في النصِّ وفي المعرفة وفي الاجتماع وفي التاريخ -وفقًا لنصر- ليست إلا محاولة لإلغاء «حاكمية الإنسان»، وليست لها نهاية سوى تحكيم «اللا عقل» والإرادة المُنفَلِتة من قانون على «العقل» في كلّ مناشط الفعل الإنساني، كما يتمظهر تمامًا في آليات الخطاب الديني الذي يناهضه نصر.

هذا الربط بين المجالات الثلاثة «النص»، «المعرفة»؛ معرفة الطبيعة وصياغة الثقافة، «السياسة»؛ ليس اختراعًا نصريًّا، بل هو قائم -فيما يرى نصر- على ارتباطهم في بناء الثقافة العربية، في حقل السياسة وحقل المعرفة، ومركز حقل المعرفة، أي قراءة القرآن ثم قراءة الطبيعة، ثم مجمل حقل المعرفة خصوصًا ما يعتبره نصر انبناء الثقافة على آليات السياسة «الانتقائية والذرائعية»، ووجود «وصاية المثقف»، فكلّ هذه المساحات مُرتَبِطة ومُتداخِلَة، حيث تتمركز في بؤرة واحدة هي (إشكال قراءة القرآن كأصل مفارق للتاريخ وقوانينه)، فهو الأساس الذي تقوم عليه قوانين المعرفة كتفكير بأصل مفارِق أو تفكير بالنقل، والذي يتجاوب مع استبداد سياسي قائم على اللا قانونوعلى نفي الفاعلية الإنسانية، وعلى ثقافة قائمة على توالد النصوص، ومثقف يعتبر نفسه «الوصي» و«الأب» و«الحامي»، يريد تسيير التاريخ دون احترام لقوانينه تمامًا كالإله الذي يخرق قوانين الطبيعة والتاريخ، وكالسياسي الذي يخرقُ قوانين الاجتماع والعقل الإنساني[9]؛ لذا فإنَّ الحلّ عند نصر لكلّ هذه الإشكالات هو القيام بقراءة علمية للنصوص تواجه التعامل معها بـ«لا علمية» كأصول مفارِقة للتاريخ وقوانينه.

فقراءة القرآن «علميًّا» تستطيع تجاوز كلّ هذه الإشكالات المُتداخِلَة، والمُنبنية على نفس الأساس «غياب القانون»؛ لأنها تعمل على تكريس «استقلال القانون»، وفي أعمق مساحات العقل العربي، أي مساحة الاشتغال بالقرآن، وهي المساحة المُؤسِّسة لآليات اشتغال العقل العربي، فإذا تمَّ الانتقال في التعامل مع القرآن من التعامل معه كنصّ مفارِق للقانون إلى التعامل معه كنصّ تحكمه قوانين تَشكُّل الخطاب والسياقات التاريخية والاجتماعية التي تعيدُ الإنسان لمركز الرؤية، سيكون هذا مركز انبناء جديد لحقل المعرفة العربي، كما لحقل السياسة المُتأسِّس عليه، وفي هذا تجاوز لإشكالات كلّ حقل كما للعلاقة بينهما، والتي أولاها نصر اهتمامًا كبيرًا حتى أنَّها أصبحت ربما من أهم رهانات هذا الخطاب ومميزاته.

إنّ هذا الانبناء المُتداخِل لكلّ هذه المساحات، «القرآن، السياسة، الثقافة» «النص، السلطة، الحقيقة»، في رؤية نصر، والذي يجعل الخروج من هذه الإشكالات رهين بخطوة واحدة لها كثير من الأبعاد هي «قراءة النصوص علميًّا»، يجعلنا نُعدِّل قليلًا ما قُلناه بالأعلى عن كون هذا الرهان هو رهان سياسي حتى لو من مستوى أعمق كما أصررنا، لنقول إنه رهان ذو وجهين، سياسي ومعرفي، يُؤسِّس نفسه بوجهيه هذين في هذا التشابك بين الحقلين، كما انبنيا في الثقافة العربية التراثية والنهضوية بل وحتى المعاصرة.

ورغم تأسيس نصر لرهانه السياسي بصورة جيدة معرفيًّا في هذا التشابك، إلا أن الوجه السياسي الصِّرف ظلّ حاضرًا بصورة كبيرة في كلّ أبعاد الخطاب، وهذا كان له آثار كثيرة على خطاب نصر، فمن هنا جاءت نضاليّة هذا الخطاب وسجاليته الفجّة في أحيان كثيرة، كما أثَّر هذا على علاقة مآلات الخطاب بطموحاته، فبعدما كان الطموح هو تأسيس نظرة جديدة لطبيعة النص القرآني، اندرج الخطاب مرة أخرى كغيره في الصراع حول تأويل آيات بعينها[10] تأويلات لا تخلو من تعسف واضح، وابتعاد عن تأسيس منهجي مُرْضٍ، كما أنَّ هذه الرهانات كان لها أثرٌ كبيرٌ على طبيعة المقاصد التي استعملها نصر كمرتكزات للقرآن ولتنظيم بنيته، فهذه المقاصد ظلَّت ذات طابع سياسي اجتماعي واضح، «الحرية والعدل والحكم العقلاني»، وظلَّت قائمة على التفريق بين حال حقل السياسة العربي والآخر الغربي، أو قُلْ: بين واقع حقل السياسة العربي وواقع آخر مأمول، أكثر من كونها ناشِئَة من قراءة دقيقة وجيّدة للنصّ -الذي وللمفارقة- جاء خطاب نصر فيما يُعلنُ لإنقاذه من القراءات المُغرِضَة والإسقاطية والتلوينية من قِبَل الجميع يسارًا ويمينًا!

ثانيًا: التغريبة اليابانية، أو نحو إسلام ياباني:

في الحقيقة نحن نستغرب كثيرًا حين نقرأ الكثير الذي كُتِب عن نصر أبو زيد، ثم لا نجد إلا الاهتمام الضئيل وربما النادر بهذه المرحلة المهمّة من حياته، أي مرحلة «التغريبة اليابانية»، رغم أن هذه المرحلة هي التي كتب فيها نصر أهم كتاب في مسيرته «مفهوم النصّ»، وكتب في هدوئها -كما يقول- دراسات اعتمد عليها لاحقًا في دراسته عن «الخطاب الديني المعاصر آلياته ومنطلقاته»، التي ضُمِّنت لاحقًا كتابه شديد الأهمية «نقد الخطاب الديني»، ورغم اهتمامه الكبير بالفكر الياباني لدرجة تقديم ترجمة جديدة لكتاب «البوشيدو، روح اليابان»[11]، كما أن قراءة متأنية لـ«صوت من المنفى» توضح لنا تمامًا مدى مركزية وأهمية هذه الرحلة في تفكير نصر، ومدى تأثير هذه الرحلة، وهذا الانفتاح على الفكر الياباني على بلورة وكشف الكثير من أفكار نصر حول الأديان الكتابية، وحول معنى الكتاب وحول مركزية النصوص، وهي مجموعة من الإشكالات التي لا يختلف أحد في مدى مركزيتها طوال تمرحلات خطاب نصر؛ لذا سنحاول هنا تناول هذه الفترة المُتجاهَلة لنتبين مدى أهميتها في فهم الكثير من أبعاد خطاب نصر.

كما يخبرنا نصر في «صوت من المنفى» فإنَّ أبحاثه تندرج في إطار (كيفية دمج الحداثة والتقدم بالفكر الإسلامي)[xiii]، وكيفية بلورة إجابة لسؤال النهوض، مع المحافظة على القيم الروحيّة لكن بشكل بعيد عن مثالِب خطاب النهضة المُتمثِّلة في تلفيقيته وذرائعيته وانتقائيته ولا علميته، وما يجعل رحلة اليابان مهمّة بصورة كبيرة في فكر نصر؛ هي أنَّها تُطلعه على تجربة أُخرى مغايرة للصلة بالحداثة وبالأصالة كليهما، ليست تجربة مغايرة للإسلام فحسب، بل في الحقيقة تجربة مغايرة لأي تجربة كتابية يهودية أو مسيحية أو إسلامية، هذا لأن المجتمع الذي يعاين نصر صلته بالحداثة -وهو مجتمع متدين بالطبع كما يصرُّ نصر- هو مجتمع دون نص[xiv]!

فالياباني لم يعش تلك الصراعات التي نَعيشها نحن بين الحداثة والتقليد؛ وهذا لأنَّ الياباني لا يعرف في تديُّنه نصًّا تكون كلّ كلمة فيه حرفًا إلهيًّا يحتاج لتأويل قبل إدخال أو استدخال أيّ نمط تفكير أو تصور أو تشريع جديد، بالطبع نصر لا يدعو هنا للتحرر من النصوص -كما شاعت التهمة عنه- بل يدعو للتحرر تحديدًا من «سلطة النصوص»[xv]، أو بتعبير أدقّ إنَّ نصر يدعو للسؤال حول السلطة المعطاة للنصّ على العقل، وعن الشمولية التي يُنظَرُ بها إلى مضامينه، والمساحات التي يغطيها من النشاط البشري، هل هي قائمة في النصّ ذاته؟ أم أنَّها مضفاة عليه من خارجه لتحويله لـ«سلطة»؟ أو كما سيتبلور السؤال لاحقًا في آخر مراحل خطاب نصر، هل «نصيّة القرآن» أصلية أم أنَّها مُقحَمة لتنظيم خطاب هو في أصله لا يمكن حصره في بؤر مركزية تقضي على توتره بتأويل كلياني سلطوي؟[12]
بالطبع نحن هنا لن نناقش مفهوم السلطة ودلالته في خطاب نصر ودلالته في الفلسفة المعاصرة بل وفي الهرمنيوطقيا المعاصرة، فسندعُ هذا للمقالات القادمة التي تتناول فيما تتناول المفاهيم المركزية لخطاب نصر، ما يهمنا هنا هو هذه النظرة التي ينظر بها نصر لعلاقة النص بالحداثة، حيث يبدو النصّ بطبيعته المُستَقِرَّة طوال القرون الأربع عشر في النظام الفكري الإسلامي -كنصّ مفارق أزلي له بنية مُوحّدة لدلالاته، والتي هي دلالات واضحة في كثير من المساحات انطلاقًا من كونه «هدي» و«بيان»- كعائق أمام الاندماج مع الحداثة، من هنا يصبح دمج الحداثة والتقدّم بالفكر الإسلامي رهينًا لا بتأويل جديد لنصوص تظل مفارقة وأزلية وشاملة (ذات حاكمية تنسحب من النصّ للفكر للثقافة للسياسة)، بل بنظرة جديدة تمامًا لطبيعة النص القرآني، يُصْبِحُ النصُّ فيها تاريخيًّا، مُفكَّرًا فيه لا مُفكَّرًا به أو تحت فضائه، ثم يصبح مجموعة من خطابات ذات طبيعة تداولية، مُتعدِّدة السياقات من جهة ومُتعدِّدة المُستقبِلين التاريخين من جهة أخرى؛ مما يخلصه من العوائق في مواجهة الحداثة، وييسر تحويل الإسلام لدين بلا نصّ -حتى بالحدِّ الأدنى لمفهوم النصّ، أي مُجرد وجود بؤرة دلالية مركزية تُوحِّد دلالات النص-، أو ما يمكنُ التعبير عنه في جملة واحدة: (أن يصبح الإسلام يابانيًّا).

ورغم أن تناول آلان روسيون لنصر أبو زيد في كتابه «الهوية والحداثة، الرحالة المصريون في اليابان»، والذي يتناول علاقة المصريين باليابان في سياق أسئلة الحداثة والدين والحضارة، و«أسلمة اليابان» كما يُعبِّر، لم يكن مُتعلِّقًا بالصورة الكبيرة بإشكالنا هنا أي علاقة النصّ بالحداثة، إلا أننا نستطيع الاستفادة من الكتاب بتوجيه الأسئلة المركزية فيه إلى خطاب نصر خصوصًا في تلك القضية بالذات قضية النصِّ، فإذا كان آلان روسيون في أحد أسئلة كتابه المركزية يتساءل عن (كيف تكون أسلمة اليابان ممكنة مع الحفاظ على هوية يابانية تجعلها نموذجًا في تحديث محافظ على الهوية؟)؛ فإنَّنا نظنّ أنه يمكن توجيه سؤال شبيه لنصر، فإذا كان اشتغال ودافع بحوث نصر هو محاولة للإجابة على سؤال: (كيف يمكن إيجاد إسلام قادر على أن يخوض تجربة التحديث دون رفض نفسه؟) وإذا كانت الإجابة هي: (عن طريق التحرر من نصيّة «النصوص» وسلطتها)؛ فإننا نستطيع أن نُوجِّه لهذه الإجابة سؤال آلان روسيون السابق مُعدَّلًا -ربما معكوسًا- (كيف يمكن أن يصيرَ الإسلامُ إسلامًا بلا نصّ «إسلامًا يابانيًّا»، دون أن يفقد مرتكزاته المطلوب منها أن تقود التحديث أو على الأقل -وحتى نكون وافين لتعبيرات نصر كما نحاول طوال المقال- تندمج معه في تركيب إبداعي؟)، ألسنا هنا بهذه المحاولة للتخلص من «النص» أمام إهدار لأحد شقي التركيب المبدع، الذي يسعى نصر لإنجازه مُتأسِّيًا بالتجربة اليابانية؟ بأي درجة سيظل الإسلام إذا صار بلا «نص» إسلامًا؟!

إنَّ نصر -وعبر تغريبته اليابانية- يضع يده على الفارق بين الأديان الكتابية والأديان اليابانية، والذي يمكن أن نُعبِّر عنه بصورة أدق قليلًا مما يُعبِّر هو مستعينين باللاهوتي البروتستانتي الألماني بول تيليش (1886، 1965) فنقول: إن هذا الفارق هو في مركزية تجلِّي «قداسة الوجوب»[xvi] في الأديان الكتابية، أي مركزية تجلي الإله الإبراهيمي كآمِر بمجموعة من الوصايا والتشريعات، نحن نظنُّ هذا التحديد دقيقًا انطلاقًا من أنه ليس القرآن هو العائق أمام التحديث بالنسبة لنصر ولا حتى «نصية القرآن» في الحقيقة، بل هو تجلِّي «الآمرية الإلهية» في القرآن، كما تشير المقاطع اللاحقة في صوت من المنفى وغيرها في مجمل أعماله[13]، لكن نصر بعد أن يضعَ يده على هذا الفارق وبعد أن يعطيه أهمية كبيرة في المقارنة بين تجربتي العلاقة بالحداثة الإسلامية واليابانية، يعتبر الحلّ هو محاولة إذابة هذا الفارق بتخليص الإله الإسلامي من آمريته، هذه الآمرية التي ورغم تناول نصر لها في أكثر من موضع من كتاباته فإنَّه لا يُدقِّق في بحث حضورها في نص الإسلام «القرآن» فيُحيلها سريعًا لتلاعبات «الخطاب الديني السلطوي» أو «الرؤى الاستشراقية» تجاه الإسلام، بهذا يبدو وكأنَّ طريق الإسلام نحو الاندماج بالحداثة يمرُّ حتمًا بتجربة يابانية تُخَفِّف من حمولته الكتابية الآمرية «المعيقة» على أنها شيء بالأساس لا ينتمي إليه!

إنَّ هذه المركزية الكبيرة لقضية التخلص من (تعالي النصّ ومفارقته) على أنَّها تأسيس لسلطة مضفاة عليه، ولاحقًا للتخلص من «نصيته» على أنها إهدارٌ لحيويّته، وعلاقة هذا بالحداثة والتقدم، لا يمكن فصلها عن تلك التجربة التي عاشها نصرُ في سياق دين بلا نصٍّ، أنجز تجربة تحديث ناجحة ولافتة في مقابل انكسار مستمر للمشروع العربي والإسلامي، كما أنّنا لا يمكننا أن نغفل كذلك عن الأثر الكبير لمركزية هذه القضية في نشأة تلك الجملة من الروابط التي يقيمها نصر طوال خطابه ما بين: تعالي النص والجمود، أزلية النص وسكونه، تاريخيّة النص وتعدد المعنى، وحدة النص والتأويل الكلياني، وهي كلها روابط في غاية التعسف -والتَشنُّج أحيانًا-، فكما سنحاولُ أن نوضِّحَ لاحقًا فإن الربط بين كلّ هذه الأطراف لا يدل عليه أي دليل لا من واقع ولا من نظر.

إننا لا نستطيع ربَّما فهمَ الكثيرِ من هذه الروابط كما في توترات خطاب نصر وحتى تناقضاته وغياب الدقة عن كثير من مفاهيمه وتصوراته واستخدامه أدواته، إلا عبر استحضار هذين الخطين في حياة نصر، أو بتعبير أدقّ إلا عبر استحضار التغريبة اليابانية في ضوء الهمّ السياسي والهمّ النهضوي الأعم المسيطر على نصر، إنّ غلبة الهمّ النهضوي الفكري والسياسي الذي حمله هذا الرجل المسافر إلى اليابان في حقبة شهد فيها انكسار المشروع العربي والوطني، وتَحوُّل الوطن لسوبر ماركت ضخم يُلاحَقُ فيه المثقفون وأساتذة الجامعات[14]، تُفسِّر لنا كثيرًا من أبعاد وجوانب وسمات هذا الخطاب، إنَّ هذا الخطاب في كلّ تمرحلاته وتغريباته ظلَّ مهجوسًا تمامًا بأهداف التحديث الفكري والسياسي حدّ محاولة التكريس لقيم الحرية أنطولوجيا في صورة العالم، التي يحملها المسلم بكلّ حدودها «الله - الطبيعة - التاريخ - الإنسان»، لكن هذه الرغبة القوية التي كانت تُحرِّك حياة وفكر هذا الرجل كانت تُبعِده في كثير من الأحيان عن الرصانة والدقة المطلوبة من خطاب يُصِرُّ على كون رهانه الأساس هو «تكوين وعي علمي».

 

[1] في المقال السابق حدّدنا القراءات الحداثية بأنَّها: قراءات معاصرة تقف خارج التقليد، وتستخدم مناهج مستقاة من الفكر الغربي الحديث «سواء الحداثي أو ما بعد الحداثي» لتشغلها على النصّ القرآني، وترتبط في نشأتها بمنعطف التأسيس الثاني لخطاب النهضة العربية وما له من ملامح فكرية خاصة، وبالتالي فرغم تشابه رهاناتها مع مجمل رهانات النهضة إلا أنَّها تحاول تحقيق التحديث بصورة أكثر جذرية وعمقًا وأبعد عن التلفيق والتجاور والتساكن، فهي تمثِّلُ وفقًا لروادها الحل لأزمة التنوير والطريق؛ لتجاوز فشله.

[2] وقد نشرت في مجلة الفنون الشعبية، والتي تصدر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، مصر، العدد 18، مارس 1978.

[3] وقد نُشرت هذه الدراسة في جامعة أوساكا في مجلة الدراسات الأجنبية، عدد 71، عام 1986، وأُعيد نشرها مرة أخرى في مجلة الفنون الشعبية، العدد 33، عام 1991.

[4] ثبت بمؤلفات نصر حامد أبو زيد:

«الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط3، 1996» - «فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 1996» - «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيموطيقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب» - «مفهوم النصّ، دراسة في علم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1990»، وهو الكتاب الذي عرض فيه نصر نظرته الجديدة لطبيعة النصّ الديني كمنتَج ثقافي، وابتدأ فيه دعوته لتكوين وعي علمي بالنصوص وبالتراث - «نقد الخطاب الديني، دار سينا للنشر، القاهرة، ط2، 1994»، في هذا الكتاب عددٌ من أهم دراسات نصر، فدراسته عن الخطاب الديني وآلياته ومنطلقاته شديدة الأهمية في بيان أفكار نصر حول النصوص والثقافة والسياسة، وسنتناول في هذا المقال كيف ينطلق نصر في دراسة كلّ هذه المساحات من فكرة مركزة؛ هي تجاوز (نموذج الإرادة إلى نموذج القانون)، كذلك دراسته عن (قراءة النصوص الدينية، دراسة استكشافية لأنماط الدلالة)، دراسة شديدة الأهمية في بيان ما يقصده نصر تحديدًا بحضور التاريخ في القرآن، وكيفية استخدامه لبعض التقنيات التأويلية المعاصرة مثل تقنية هيرش في التفريق بين (المعنى) و(المغزى) من أجل التوسّل بالتسييق التاريخي للآيات للوصول لدلالاتها، بل للوصول للمراكز الدلالية في القرآن (المقاصد) - «إشكاليات القراءة وآليات التأويل»، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط7، 2005، وفيها دراسته المهمة عن (الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النصّ) الذي يستعرض فيها نقاش الهرمنيوطقيا المعاصرة لجدل (المؤلف - النص - الناقد) أو (قصد - نص - تفسير)، وكيف تنظر للعلاقة بين المؤلف ونصّه وقارئه - «النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط1، 1995»، في هذا الكتاب أيضًا عددٌ من الدراسات المهمّة، والتي تبتدأ بتمهيد طويل بعنوان (التراث بين التوجيه الأيدلوجي والقراءة العلمية)، حول جدل السياسة والثقافة واستخدام آليات الفكر السياسي في حقل المعرفة، وحول تحليل خطاب النهضة والخطابات الكبرى المتناسلة منه (محمد عبده، طه حسين، زكي نجيب محمود)، وكشف العيوب البنيوية في هذا الخطاب، وإبراز فكرة التاريخية كوسيلة لتجاوز عيوب هذا الخطاب - «الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1996» - «دوائر الخوف، دراسة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط3، 2004» - «الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط3، 2008»، هذا الكتاب يضمُّ عددًا من الدراسات المهمة جدًّا، أهمها دراساته عن زكي نجيب محمود (زكي نجيب محمود، رمز التنوير)، وعن الغزالي وابن رشد (مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد)، وعن محمد أركون (اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة)، وكذلك دراسته عن المقاصد الكلية للقرآن (قراءة جديدة، للمقاصد الكلية للشريعة) - «هكذا تكلم ابن عربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002» - «التجديد والتحريم والتأويل، بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط1، 2010»، هذا الكتاب شديد الأهمية حيث يضمُّ آخر دراسات كتبها نصر، وفيها دراسته (مقاربة جديدة للقرآن: من النصّ إلى الخطاب، نحو تأويلية إنسانوية)، وهي نسخة معدلة من محاضرة اعتلاء كرسي (ابن رشد) لـ(الإسلام والهيومانيزم)، في جامعة (الدراسات الهيومانية) بمدينة أوترخت بهولندا، 2004، وهي مرحلة مختلفة في تعامل خطاب نصر مع القرآن.

[5] حول التقارير التي كُتِبَت من لجنة الترقية، وعمومًا حول المقالات التي كُتِبَت حول كتاباته «نقد الخطاب الديني» و«الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية» من قِبَل عبد الصبور شاهين وفهمي هويدي وغيرهما، كتب نصر في مقدمة كتاب «نقد الخطاب الديني»، تحت عنوان «أبو زيد ونقد الخطاب الديني»، وفي مقدمة «الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية» تركَّز سجال أبو زيد مع محمد بلتاجي عميد كلية دار العلوم وقتها بالإضافة لعبد الصبور شاهين، كذلك كتب حول قضيته في كتاب «التفكير في زمن التفكير» فأورد في هذا الكتاب بعض الوثائق، مثل عريضة دعوى التفريق بينه وبين زوجته، وبعض مذكرات الدفاع مقدمة من الأساتذة؛ خليل عبد الكريم، رشاد سلام، أميرة بهي الدين، صفاء زكي مراد، وخطاب تضامن من اتحاد المحامين السوريين، ونصَّ حكم المحكمة برفض الدعوى.

[6] يرى الربيعو أنَّ خطاب نصر يسيطرُ عليه «طقس المعركة»، (إنه يعتبر نفسه منذ البداية منخرطًا في معركة قديمة وجديدة، تخوضها قوى الخرافة والأسطورة باسم الدين والتمسك بالمعاني الحرفية للنصوص الدينية)، وأن هذا مرتبط بكون نصر (ينهل في رؤيته للخطاب الديني من خلفية أيدولوجية تقوم على التضاد، أبيض وأسود، عقلاني وخرافي)، ومفهوم طقس الخطاب الذي يستعيره الربيعو من فوكو (1926، 1984) يشير لعمليات تحديد ما هو ممنوع الحديث فيه، وما هو مقبول الحديث فيه، وهي عملية تتمُّ عبر طقوس تخص كلّ ظرف للخطاب. انظر: نظام الخطاب، ميشيل فوكو، ترجمة، محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، لبنان، ص4.

وبالنسبة لنصر فإنَّ هذه التقسيمات بين الأبيض والأسود والعقلاني والخرافي والتي تحدد أطراف المعركة هي وفقًا للربيعو طقس الخطاب الذي يمنع الحديث عن نقد نصر معرفيًّا من قبل (العقلانيين)، حيث كلّ نقد سيكون عبارة عن وقوف إلى جانب (الظلاميين)، وهذا التحليل من الربيعو غير كافٍ في ظننا لتفسير سجالية ونضالية خطاب نصر، حيث أنه يتعامل معها كأداة خارجية للخطاب غرضها الحشد، في حين ظننا الذي سنحاول الدفاع عنه في هذا المقال هو أنَّ خطاب نصر خطاب يتشابك فيه السياسي والمعرفي في أعمق مساحاته أي من خلال فكرة التاريخية ذاتها، بحيث يكون الهمُّ السياسي سواء في أعمق جذوره (فكرة القانون ذاتها) أو في تمظهراتها الواقعية أحد مساحات اشتغالات الخطاب عبر الفكرة المركزية التي تؤسس التاريخية وهي «تكريس القانون في مواجهة الإرادة». 

[7] يكرر نصر في كتابيه «أنا نصر» و«صوت من المنفى» قصة جرت له في أحد المحال التجارية، تعبر تمامًا عن رؤيته للصراع مع منتقديه على أساس كونه ليس مجرد خلاف معرفي، بل إنه في أحد أوجهه صراع سياسي واقتصادي، ابتدأت هذه القصة بتعرف أحد المارة على نصر ثم توجيه اتهامات الكفر والزندقة له، وكان ردّ نصر ونقاشه مع هذا الرجل قائمًا على أساس كون الاتهامات التي وجهها له منتقدوه مرتبطة تحديدًا بكشف نصر ما يعتبره تلاعبًا بالنصوص تقوم به شركات توظيف الأموال، والتي أشار نصر في أكثر من موضع إلى كون أهم المنتقدين عبد الصبور شاهين هو أحد المروّجين لها. انظر: صوت من المنفى، ص 100-104.

[8] نستخدم هذا المصطلح هنا بالمعنى الذي يستخدمه به توماس كون فيلسوف العلم الأمريكي (1922-1996) في كتابه «بنية الثورات العلمية، 1962»، كنموذج فكري إرشادي، فكون رأى أنَّ تطور العلم يقوم على أساس تغير في البراديغمات أو النماذج الفكرية الإرشادية التي تشمل مجموعة المبادئ والرُّؤى والأُطر المنهجية التي تؤطّر النتاج العلمي، وتطرح الإشكالات وتحدد مساحات البحث في فترة ما، فبعد فترات من سيادة (العلم العادي) المتحرك في نفس البراديغم ومع زيادة الإشكالات المطروحة التي لا يفي البراديغم السائد بحلها، يتطور العلم عن طريق طرح (العلم الثوري) لبراديغم جديد، براديغم لا يضيف معلومات تجريبية جديدة أو يحلّ إشكالات جزئية، بل يقدم نموذجًا جديدًا يستطيع أن يفتح مرحلة علمية جديدة، ونستطيع القول بأن بعض الإشكالات التي طرحها الاستشراق أو طرحتها الرؤية المدنية الحديثة في إطار الفكر والمعرفة والسياسة على مفكري النهضة دارت بشكل ما في إطار هذا التنافر بين (إطلاق النص) من جهة و(احتوائه ما ترى الرؤية الحديثة أنها نسبنته) من جهة أخرى، (إطلاق الإرادة الإلهية) من جهة و(رسوخ فكرة القانون الطبيعي في العلم الحديث) من جهة أخرى، وهذه الإشكالات كان يتم احتوائها عبر بلورة (براديغم الإرادة المراعية)، إلى أن قام منعطف التأسيس الثاني بمحاولة ترسيخ فكرة القانون في مواجتهها، ونظن أنَّ هذا المصطلح (براديغم) متماشٍ تمامًا مع تصورات نصر نفسه أو حتى تصورات خطاب النهضة في تأسيسه الثاني عن ما يقدمه تجاه هذه الإشكالات، حيث يقدِّم هذا التيار أفكاره على أنَّها تطرح الحلّ الجذري للإشكالات العربية، والذي لا يناقش إشكالًا أو رؤية معينة، بل يعمد لتغيير النماذج الفكرية التي تنتظم داخلها كلّ الإشكالات في أبعادها المعرفية الأعمق، وطرح نماذج جديدة تفتح الأفق لعصر عقلي جديد في التعامل مع كلّ هذه الإشكالات.

[9] في نفس السياق يشير نصر لترابط قيم التعددية السياسية والتعددية الفكرية، أو ما يسميه بـ«الديموقراطية بمعناها الشامل»، في مقابل قيم القهر السياسي والوصاية الفكرية والتأويل الواحد، انظر: «النص، السلطة، الحقيقة»، ص64.

[10] ربما هذا هو أحد أسباب تحوّل القراءات الحداثية من كونها قراءات للقرآن إلى كونها قراءات لبعض آيات لا أكثر، وهو ما أشار إليه طه عبد الرحمن، وإن كنا نختلف معه في اعتباره تفسير القرآن هو هدف للقراءة الحداثية لا توفِّيه، حيث نظنُّ أن هذه القراءات رهانها الأساس لا تقديم تفاسير جديدة بل تقديم رؤية جديدة للأطر المنهجية لعملية قراءة القرآن وعلى رأسها تصورها لطبيعة النصّ، وهو هدف لم ينجز بالصورة الكبيرة في ظننا بسبب العودة للدخول في الجدل التأويلي حول آيات بعينها.

[11] ترجم نصر أبو زيد أثناء وجوده باليابان كتاب «البوشيدو، روح اليابان» للدبلوماسي الياباني اينازو يتوبي (1862-1933)، وكتب له مقدمة طويلة، وهو كتاب يدور حول إشكالات النهوض ودور الدين في الحضارة والعلاقة بالحداثة، بالإضافة للتعريف بالقيم اليابانية الأصيلة مثل الفروسية وتقاليدها، وكما يظهر من المقدمة فالكتاب كان مرتبطًا بالهموم الوطنية لنصر الذي لم يتفق يومًا مع سياسات الانفتاح -«السداح مداح» بتعبيره- ومع تبني النموذج الرأسمالي الغربي كطريق وحيد للتقدم، كان نصر ينعي بترجمته غياب كثير من القيم العربية الأصيلة في ظل حضور (التاجر) الذي يحكم مصر. انظر: جمال عمر، «أنا نصر أبو زيد»، دار العين، القاهرة، ط1، 2013، ص90، 91، 92.

[12] في المرحلة الأخيرة من خطاب نصر عرض لإعادة تعريف القرآن وبلورة رؤية للتعاطي معه كخطابات متداولة لا كنصّ، وفي هذه المرحلة نحن نستطيع الحديث عن تخلص من (النصوص) لا من سلطتها المضفاة عليها من الخارج فحسب، (الهيمنة والشمول والحاكمية)، أو بتعبير أدقّ، فهذه المرحلة تعلن أن (النصيّة) نفسها حتى في حدّها الأدنى، أي مجرد وجود مركز دلالي يوحِّد دلالات النصّ، هي أمرٌ خارج عن القرآن وسلطة مضفاة عليه من الخارج، من المفسرين الذي يتعاملون مع الله (كمؤلف لنصّ في أرقى مستويات البناء)، وهو موقف ليس جديدًا كلّ الجدة داخل خطاب نصر، فنحن نجده في فترة سابقة أيضًا في الدراسة التي كتبها نصر حول أركون وخلافه معه في قضية وحدة النص وتساؤله كيف يمكن الحديث عن تاريخية للنص ووحدة له في آن؟ لذا فعندما نذكر في سياق كلامنا أن نصر يتعامل مع الإسلام كدين بلا نصّ، أو أن نصر يريد التحرر من ثقل النصوص، فإننا لا نقصد كونه يريد إسلامًا بلا قرآن، بل نقصد ما يقوله بالتحديد، أي إسلام له قرآن منزوع النصيّة المنظور لها كسلطة مضفاة عليه من خارجه. انظر: «مقاربة جديدة للقرآن، من النص إلى الخطاب» في كتاب «التجديد والتحريم والتأويل، المركز الثقافي العربي، ط1، 2010».

[13] محاولة نصر تجاوز «الآمرية الإلهية» يعدُّ في ظننا أعمّ وأشمل من موقفه من قضية النصّ وسلطته ووحدته ومركزه الدلالي، وكلّ هذه القضايا والتي تحرك فيها موقفه أكثر من مرة كما سنوضح في المقالات القادمة، وهذه العمومية والشمول والمركزية لقضية الآمرية تعود لسببين؛ رغم كونهم متعاكسين إلا أن ما يوحد بينهم هو المنطلق السياسي لهما؛ السبب الأول: هو ارتباط الآمرية ببعض الرؤى الأساسية التي يحملها الإسلام السياسي عن قضايا مثل تحكيم الشريعة ومثل مقاطعة البنوك الربوية والدعوة لاقتصاد إسلامي، مما يجعلها موضع رئيس لاهتمام نصر المنتقد لهذه الرؤى. والسبب الثاني: هو كون نصر يحاول تأسيس تجاوزه لاستبداد السياسة عبر تجاوز قيام علاقة الله بالإنسان على الآمرية الإلهية في مواجهة العبودية الإنسانية، ففي ظنه أنّ هذه العلاقة هي التي تؤسس لإمكان إزاحة الفاعلية الإنسانية من كافة المناشط وعلى رأسها السياسة، ورغم أن هذه العلاقة لا تقتصر على «الآمرية» بل تتعداها لشمول التدخل الإلهي والعلم المحيط، إلا أن مركزية الآمرية ترجع كما قلنا لقضية غلبة الرهان السياسي على الخطاب.

[14] نصر كان ضمن مجموعة من الأساتذة أطاحت بهم «مذبحة الأساتذة» في عصر السادات؛ بسبب توجهاتهم المناهضة لسياساته، والتي قضت بنقله ليشغل وظيفة موظف في وزارة الشؤون الاجتماعية! «أنا نصر أبوزيد»، ص79.

 

[i] «صوت من المنفى»، نصر حامد، إستر نيلسون، ترجمة: نهى هندي، الكتب خان، القاهرة، ط1، 2015، ص35.

[ii] الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر، تركي علي الربيعو، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط1، 2006، ص130.

[iii] نفسه، ص145.

[iv] الفن القصصي في القرآن، محمد أحمد خلف الله، دار سينا - الانتشار، لندن، بيروت، القاهرة، ط4، 1999، ص257.

[v] نفسه، ص188.

[vi] النص، السلطة الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط1، 1995، ص33.

[vii] نفسه، ص97.

[viii] نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، دار سينا، القاهرة، ط2، 1994، 1994، ص82.

[ix] نفسه، ص96.

[x] المصدر السابق، نفس الصفحة.

[xi] نفسه، ص97.

[xii] النص، السلطة الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، ص64.

[xiii] صوت من المنفى، ص267.

[xiv] نفسه، ص162.

[xv] نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص32.

[xvi] بواعث الإيمان، بول تيليش، ترجمة سعيد الغانمي، منشورات الجمل، (كولونيا) ألمانيا - بغداد، ط1، 2007، 68.

الكاتب

الأستاذ طارق محمد حجي

باحث مصري له عدد من المقالات البحثية والأعمال المنشورة في مجال الدراسات القرآنية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))