التعريف بكتاب " القرآن الكريم بين ترتيب المصحف وترتيب النزول دراسة منهجية نقدية في الترتيب المصحفي والتاريخي للقرآن "
للدكتور سعيد بوعصاب

أثارت الدعوة إلى ترتيب المصحف حسب النزول جدلًا بين الدارسين المُحْدَثين بين مؤيد ومعارض، وقد ناقشت دراسة "القرآن الكريم بين ترتيب المصحف وترتيب النزول" هذه المسألة مناقشة علمية رصينة، ويأتي هذا المقال ليسلط الضوء على هذه الدراسة وأبرز نتائجها

صدر مؤخرًا كتاب «القرآن الكريم بين ترتيب المصحف وترتيب النزول، دراسة منهجية نقديّة في الترتيب المصحفي والتاريخي للقرآن» للدكتور سعيد بوعصاب، يعتبر الإصدار من الكتابات الحديثة في علوم القرآن، فهو من منشورات مركز الدراسات القرآنية التابعة للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، الطبعة الأولى، 1438هـ / 2017م في مجلد متوسط يتكوّن من 168 صفحة، مؤلفه أستاذ للتفسير وعلوم القرآن بجامعة القرويين، كلية العلوم الشرعيّة بالسمارة.

أهمية الكتاب:

تأتي أهمية الكتاب من خلال موضوعه المتميّز، الذي يعالج إشكالية الدعوة إلى ترتيب المصحف حسب النزول، والذي أصبح مثارَ جدلٍ بين الدارسين المُحْدَثين في العصور الأخيرة بين مؤيدين ومعارضين، فجاءت هذه الدراسة لمناقشة الموضوع في منهج وصفي تاريخي تحليلي نقدي؛ مما جعلها مقاربة تأصيلية نقديّة تتوخى الأسلوب العلمي الموضوعي الهادئ.

محتويات الكتاب:

تصدّرت مقدمة الكتاب ببيان أهمية موضوع المطالبة بإعادة ترتيب القرآن في المصاحف حسب النزول؛ حيث ظهر في الناس في زماننا مَنْ يطالب بذلك بعد أن كان إجماع السلف منذ العهد النبوي على الترتيب المصحفي للقرآن الكريم. كما بيّن المؤلف الدافع إلى الكتابة في الموضوع، والتي لخصها في: كون الكتابة في هذا الباب تعتبر من العبادات، وأنَّ دعوات المطالبة بإعادة الترتيب، فيها ما هو مقبولٌ بشروط، وفيها ما هو مردود، وأنَّ في جانب من هذه الدعوات المسّ بقدسيّة المصحف، وأن في الكتابة في هذا الموضوع التنبيه إلى المناسبات السامية التي تضمنها الترتيب المصحفي، الذي تولد عنه «علم التناسب القرآني»، وأنَّ المؤلفات التي ناقشت موضوع الترتيب أو التفسير حسب النزول للقرآن الكريم تعدُّ قليلة ونادرة.

وقد مهّدَ الباحثُ للكتاب بفصل تمهيدي، تناول من خلاله منهج التنزّل القرآني، بما يشمل المفهوم والظروف التي أحاطت به، والمقاصد والأغراض المتوخاة من تنجيم النزول القرآني، ثم أسباب النزول.

وقسّم الكتاب إلى قسمين أساسيين، خصص الأول منهما لدراسة الترتيب المصحفي للقرآن الكريم، مبينًا ترتيب الآيات في القرآن الكريم وترتيب السور والتناسب بين الآيات والتناسب بين السور، وأقوال العلماء في ذلك، مع عرض أدلة كلّ فريق. كما خصص القسم الثاني للدعوة إلى ترتيب وتفسير القرآن الكريم وفق منهج النزول، مع مناقشة الداعين إلى ذلك، كما ناقش دوافعهم لهذا المنهج ومدى قدرته على التطبيق. وقام بمناقشة عامة لمنهج الجابري في المنهجيّة المقترحة لتحقيق فهم القرآن الكريم، وركز على قضايا جزئية لها علاقة بالتفسير حسب النزول. وقد ذيّل المؤلف كتابه بخاتمة تضمنت أهم النتائج التي توصّل إليها البحث.

الأفكار الرئيسة للكتاب:

أولًا: أصالة الترتيب المصحفي للقرآن الكريم:

بدأ المؤلف بطرح أسئلة منهجية تتمحور حول الترتيب المصحفي الذي عليه المصحف اليوم في جميع أقطار الدنيا، هل هو من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أم من فعل الصحابة -رضوان الله عليهم-؟ هل هو اجتهاد وقع عليه الإجماع أم هو أمر ٌمختلف فيه؟ مع التذكير بأنَّ القرآن الكريم تكفّل الله بحفظه في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، هذا الحفظ الذي يشمل كلّ ما يتعلق بالقرآن الكريم بما فيه حفظ الترتيب.

ترتيب الآيات والتناسب بينها:

أورد المؤلف نصوصًا صريحة تعتبر أدلة وبراهين على أن ترتيب الآيات في القرآن الكريم ترتيبٌ توقيفيٌّ من لدن ربّ العالمين -سبحانه وتعالى- أوحى به إلى جبريل -عليه السلام-، ومنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر صحابته الكرام بوضع الآيات في مواضعها، وهو أمر أجمع عليه علماء الأمة. وبهذا استخلص أنه لا يجوز إعادة ترتيب الآيات في المصحف الشريف وفق ما يخالف ذلك.

وقد تطرق المؤلفُ إلى علم التناسب الذي يدرس ترتيبَ الآيات وإحكامها في القرآن الكريم، وأعطى أمثلة تطبيقية مما يزيد الأمر وضوحًا على أنَّ الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم أمر ثابت، وبرهان ساطع ضد التخرّصات التي يدعيها أعداء الإسلام.

ترتيب السور والتناسب بينها:

إذا كان ترتيب الآيات أمرًا توقيفيًّا وليس للصحابة -رضوان الله عليهم- رأي في ترتيبه ولا في نسق آياته، وليس لهم فيه إلا التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ ترتيب السور على عكس ذلك؛ فقد اختلفوا فيه، وتعددت أقوال العلماء بين ثلاثة مذاهب: تتلخص في التوقيف الخالص، أو توقيف للبعض واجتهاد للآخر، أو اجتهاد خالص. وقد ناقش المؤلف هذه المذاهب الثلاثة، ورجّح المذهب الأول، الذي يقول بأنَّ ترتيب السور توقيفي، وردَّ المذهب الثاني والثالث، وساق أدلة لتأكيد ذلك، إلا أنه من خلال جرد النصوص والأدلّة يتبيّن أن السرّ في وجود الاختلاف بين العلماء في هذه المسألة راجع إلى الخصائص التي تتميز بها السور القرآنية، والتي تتلخص فيما يلي:

1- السورة من تسميتها يتبين أنها قطعة من القرآن تامّة لها بداية ونهاية؛ مما جعلها تتسم بالكمال في حدّ ذاتها.

2- ابتداؤها بالبسملة دليل على أنَّها كتاب من الله قائم بذاته اعتبارًا بقوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:2-3]، وقوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]. فكلّ سورة تعتبر كتابًا مستقلًّا من الله تعالى، وأنَّ سورتي الأنفال والتوبة هما كتاب واحد ينقسم إلى جزأين.

3- صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة، فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلتُ: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلتُ: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوّذ».

4- اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة دليل على الاجتهاد في الترتيب قبل كتابة المصاحف العثمانية.

5- استقرار ترتيب السور في المصاحف العثمانية حين أجمع الصحابة -رضوان الله عليهم- على الترتيب النهائي لسور القرآن الكريم دليلٌ على أنَّ الأمر يعود إلى ما جَدّ من خلال العرضة الأخيرة للرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي جبريل -عليه السلام-.

فهذه الخصائص المجتمعة وغيرها مما بينه المؤلف أثناء عرضه للأدلة، يتبين من خلالها أنَّ أمر ترتيب السور في القرآن الكريم خضع للتوقيف والاجتهاد قبل المصاحف العثمانية، واستقر على توقيف الترتيب عند كتابتها، هذا فضلًا عن كون القرآن الكريم محفوظًا من الله تعالى، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فهذه الآية هي دلالة صريحة على الحفظ الرباني للقرآن الكريم، وينبغي أن تمثل الأساس المنهجي للتعامل مع كلّ ما يتعلق بالمراحل التي قطعها القرآن منذ مرحلة التنزيل إلى أن كتب في المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه، وما تبع ذلك من عناية المسلمين به قراءة وكتابة وتجويدًا وترتيلًا.

أمَّا علم تناسب السور وما يحمله من تناسق وإحكام بين السابق منها واللاحق، فقد ألّف فيه العلماء الكتب، وقد ذكر المؤلف أمثلة لذلك، فهو علم يؤكد على التوقيف في ترتيب السور بما تتميز به من إحكام، ذلك الإحكام في التناسق الذي لا يتأتى إلا عن طريق الوحي.

ثانيًا: الدعوة إلى ترتيب وتفسير القرآن الكريم وفق منهج النزول:

ترتيب القرآن الكريم وفق منهج النزول:

تميز عصرنا بالدعوات التي تنادي من هنا وهناك بإعادة ترتيب القرآن وفق منهج النزول، وقد تعامل المؤلف مع هذه القضية بتقسيمها إلى قسمين، القسم الأول: من ينادي بترتيب المصحف وفق منهج النزول، وهم جماعة من المستشرقين، وبعض من تأثّر بهم وبدراستهم من الحداثيين. القسم الثاني: من يدعو إلى تفسير القرآن حسب منهج النزول، وهم جماعة من العلماء من أهل الفضل والذكر، بالإضافة إلى باحثين آخرين معاصرين جاؤوا بطرح مخالف.

وقد عرض المؤلف لبعض المستشرقين السبّاقين لفتح باب الدعوة إلى إعادة ترتيب القرآن على وفق منهج النزول، مثل: مارجليوث آربري، وبلاشير، وجوستاف فايل، وتيودور نولدكه، وشفالي، وفلوجل، كما ذكر بعض المعاصرين المتأثرين بهؤلاء، مثل: يوسف راشد، وميرزا باقر، والدكتور يوسف صديق.

وقد استطاع المؤلف أن يُناقش بعض المبررات التي استندوا إليها بالرّد على كلّ منها على حدة؛ وقد ردّ على أنَّ كون الترتيب المصحفي يبلبل الأفكار، بأنها هي فِرية يدحضها الترتيب الدقيق والمتناسق للآيات والسور الذي تناوله العلماء بالدرس والبيان، وقد أورد المؤلف أمثلة لذلك فيما سبق من الكتاب.

وأمَّا أن كون الترتيب المصحفي يخالف منهج التدرج في التشريع الذي روعي في النزول، فكان ردّه عليه بأن الأمر يختلف بين بداية الدعوة الإسلامية وبين ظهور الإسلام في كلّ أصقاع العالم، كما أنَّ المنهج القرآني في تلوين البيان وتنويع العلوم هو بالغ الأهمية في التشويق، وهو من أحكم وسائل التربية العملية.

وأما أن الترتيب المصحفي النهائي بأنه يفسد نظام التسلسل الطبيعي للفكرة، فشعور القارئ يدحضه بما يجد من كمال وانسجام السور فيما بينها.

كما أكّد استحالة محاولة الإتيان بترتيب للقرآن على وفق منهج النزول؛ وذلك لأسباب منها:

1- أننا لا نملك روايات صحيحة تضبط لنا تاريخ النزول لكلّ آية وسورة.

2- أن السّور الطوال نزلت متفرقة وتراخى زمن نزولها، واستمر طويلًا كالبقرة.

3- هناك سور مكيّة تخللتها آيات مدنيّة، وسور مدنية تخللتها سور مكية. فكيف يكون العمل مع هذه الآيات؟ وتحت أي قسم ستدرج؟

تفسير القرآن الكريم حسب النزول:

بعد أن عرض المؤلف لأصحاب هذا الاتجاه واستعرض المبررات والدوافع التي حملتهم على اختيار التفسير حسب النزول؛ أكد أنَّ أغراضهم سليمة، وأن عملهم لا يطعن في قدسية الترتيب المصحفي؛ لأن ما قاموا به يعتبر كتاب تفسير لا مصحف للتلاوة، وشتان بين الأمرين، وإن عملهم هذا يمكن أن يصنّف ضمن المناهج التي يسلكها العلماء في تفسير كتاب الله تعالى، وهو ما يعتبر ضمن تعدد المناهج في التفسير. وموازاة مع ذلك أفرد التعليق على عمل الدكتور محمد الجابري في مبحث خاصٍّ، مُرْجِعًا سبب ذلك لاختلاف منهجيته عمّن سبقه من الحداثيين. هذه المنهجية التي بناها عبر مساره الفكري والفلسفي، فضلًا عن أنه أقحم نفسه في مجال الدراسة القرآنية بدون تخصص في الموضوع، فهو من أعلام التيار الحداثي في المغرب العربي، والذي يشكّل معهم ظاهرة «القراء الجدد» لتراث الأمة الإسلامية.

عرض المؤلف للخلفية الفكرية والثقافية التي تؤطّر عمل الأستاذ الجابري في مشروعه، والتي لخصها في المحاور التالية:

1- ضرورة فهم القرآن الكريم فهمًا جديدًا وفق معطيات العصر.

2- اعتبار القرآن الكريم «ظاهرة»، ومن ثم يمكن عرضه على بساط البحث والنقد.

3- إعادة تعريف القرآن الكريم وفق الظاهرة التي رآها وحددها.

4- تجاوز المنقول حول النص القرآني من أجل تحقيق ما سماه «فصل النصّ عن الهوامش والحواشي؛ لكي يتأتى الوصل بين عصرنا وبين النصّ نفسه».

5- النظرة التاريخية للقرآن الكريم، فجاءت دعوته إلى اتخاذ منهجه التفسيري من أجل الاطلاع على مسار الكون والتكوين.

واستطاع المؤلف أن يُناقش الأستاذ الجابري بطريقة علمية هادئة؛ مما يجعل القارئ لا يستغني عن قراءة الكتاب، والاستفادة من الطرح المتبع فيه أثناء تتبع الأفكار، ومناقشتها في سبيل إبراز أهمية علوم القرآن في الكتابات المعاصرة.

 

 

 

الكاتب

الدكتور عبد الكريم عزيز

الأستاذ الجامعي بالمغرب له عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية في الدراسات القرآنية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))