أثر ابن تيمية على نجم الدين الطوفي في استمداد أبواب الإلهيات من القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. أمَّا بعد، فإنَّ القرآن الكريم هو العصب الرئيس الذي تقوم عليه الحضارة الإسلامية، وتستند عليه في علومها كافّةً، لا سيما الشرعية منها التي منه تستمد وعليه تعتمد، إلا أنَّ الناظر في أبواب الإلهيات لدى عموم المتكلمين قد يلحظ أنهم بنوا نهجها وفق تراتبٍ معيّن للأدلة المستعملة في هذه الأبواب؛ مما قد يمثّل حيدًا عن اعتبار القرآن هو النصّ المركزي الذي ينبغي أن تستندَ إليه أبواب الإلهيات في علم الكلام؛ وهو الأمر الذي اشتبك معه ابن تيمية اشتباكًا كثيرًا محاولًا نقضه، دالًّا على كفاية دلالة القرآن على المطالب الدينية أصولًا وفروعًا، وأنَّها وافية بها من كلّ الجهات. وغير خافٍ أن هذا النقد التيمي له أثره وأهميته في إعادة المركزية للنصّ القرآني في التعاطي مع أحد أجلّ أبواب الدين وهي أبواب الإلهيات؛ ومن ثم كان تتبّع الأثر الذي أحدثه هذا النقد أمرًا له أهميته لارتباطه الشديد بالقرآن الكريم ومركزيته التي ينبغي أن تكون له كما هو معلوم، وهو ما سوف نتغياه مع تجربة الإمام الطوفي، والتي حاول فيها استثمار النقد التيمي لبناء أبواب الإلهيات المباشر من خلال القرآن الكريم.
مدخل:
وقد استقرّ عند عموم المتكلمين من لدن الفخر الرازي (ت 606) أصلٌ مؤثّرٌ في النظر في أبواب الإلهيات؛ هو أنَّ الأدلة المستعملة في أبواب الإلهيات تنقسم إلى قسمين من جنسين منفصلين، هما: دليل العقل، ودليل السمع، ثمَّ بنوَا على ذلك التفريق بينهما أصلًا آخر هو أن دليل العقل مقدَّم -من حيث رتبة الاستدلال- على دليل السمع، فيكون دليل العقل بهذا الاعتبار أصلًا لدليل السمع، بحيث يَثبت السمع -من حيث كونه دليلًا- استنادًا على دليل العقل، أي أنَّ العقل هو دليل ثبوت صحة السمع.
فإذا استقرّ ذلك كان المآل إذا وقع تعارض بين دليلي العقل والسمع أن يُقَدَّم الأصل على فرعه؛ إذ في تقديم الفرع على الأصل إهدارٌ للأصل والفرع معًا، إذ لو فسد الأصل لسرى الفسادُ إلى الفرع ففسَد بفساد أصله. فيكون دليل العقل مقدَّمًا على دليل السمع عند التعارض. وهذا هو قانون التعارض المشهور الذي صاغه الفخر الرازي في شكله الأخير وجرّد ابن تيمية (ت 728) كتبه للردّ عليه وتعقُّبه.
وقد كان من جملة مواقع الدليل العقلي في الاستدلال أنَّ أبواب الإلهيات في جملتها لا يصلح أن يُستَعْمَل فيها دليل السمع؛ إذ السمع متوقِّفٌ ثبوته على ما ينفصل عنه البحث في الإلهيات، فلو ثبتت الإلهيات بالسمع لأفضى ذلك إلى ثبوت السمع بنفسه وهو الدَّوْر الممتنع! إذن، فالاستدلال بالسمع لا يصحّ إلا إذا انتهى المتكلّم من تثبيت أبواب الإلهيات والنبوات -اللذين هما دليل صدق السمع وصحَّته-، فإذا انتهى المتكلّم من ذلك أمكن حينها أن يستدلّ بالسمع فيما تبقّى من مطالب الاعتقاد كتفاصيل البعث والحساب والجنة والنار ونحوها مما يُسمَّى بـ«السمعيات».
هذا هو النهج الكلي للنظر في مسائل الإلهيات، وقد استقرَّ عند الرازي وعامّة المتأخرين وإن تخللته بعض الاستثناءات. وقد كان هذا المسلك من أهم مناطات نقد ابن تيمية لمسالك المتكلّمين؛ إذ إنه يُفضي -في نظر ابن تيمية- في نهاية الأمر إلى إضعاف دلالات القرآن والسنّة على المطالب الإلهية بحجّة أنهما أدلة سمعية لا يصلح الاعتماد عليها في المطالب الإلهية؛ ولأن غايتها إفادة الظنّ الذي لا يصلح هو الآخر في البناء العقدي الذي ينبغي أن يُقام على أصول قطعية لا مجال للظنّ فيها.
وقد سلك ابن تيمية في نقده ذاك مسالك شتّى كان من أهمّها بيان جهات دلالة القرآن على المطالب الدينية أصولًا وفروعًا، وأنها وافية بها من كلّ الجهات. فإن كان النهج الكلامي المتأخِّر قد حصر دلالة القرآن والسنة على دلالة الأخبار -بناءً على اعتبارهما دليلين سمعيَّين- فتدلّ على المطلوب من جهة كونه خبرًا لا غير؛ فإن ابن تيميّة أوضح أنَّ دلالة القرآن تشمل دلالة الأخبار ودلالة العقول معًا بما حوته النصوص من قضايا عقلية صحيحة في ذاتها، فتكون دلالة القرآن والسنة من الجهتين معًا، في أجناسٍ أُخرى من النقد الذي وجّهه ابن تيمية لمسالك المتكلمين. وكان الغرض الكليّ لابن تيمية من هذا المسلك هو إعادة القرآن أصلِ الأصول متبوعًا لا تابعًا، تُستَمدّ منه كلّ المطالب الإلهية والدينية، لا يُحوِج ناظرَه إلى غيره فيها.
وقد كان لنهج ابن تيميّة ذاك أثرٌ في بعض أئمة عصره ومن أتى بعده، يمكننا بالتتبّع أن نتلمّس ذلك بجلاء، وكان من جملة من تنبّه لمكمن النقد التيمي للمسلك الكلامي في التعاطي مع القرآن الكريم واستعمله نجمُ الدِّين سليمان بن عبد القَوي الطوفي الحنبلي (ت716)، وهو من طبقة ابن تيميّة، والتقى به في سفرته إلى دمشق عام (705) وأخذ عنه، وأثنى عليه ثناءً عريضًا[1].
الطوفي وتأثره بابن تيمية في كتابه الإشارات الإلهية:
صَنَّفَ الطوفي مصنّفات كثيرةً شمِلت أبوابًا شتّى من العلوم، ما بين أصول فقه وحديث ولغة واعتقاد وغيرها. لكن الذي يعنينا ها هنا هو كتابه «الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية»[2].
وهذا الكتاب طريف جدًّا في بابه؛ إذ قَصَد الطوفي فيه أن يستنبط المباحث الأصولية -دينًا وفقهًا- من القرآن الكريم مباشرةً، مستندًا إليه استنادًا أوّليًّا، لا يجرِي في التعاطي معه المجرى الكلامي الذي يعتبر دلالة النّصوص دلالة سمعية خبرية لا يمكن الاعتماد عليها في مسائل الأصول، بناءً على التفصيل الذي سبق ذكره.
وقد عقَد الطوفي في مقدمة الكتاب عدّة فصول قدّم بها بين يدي الكتاب، فشرح عنوان الكتاب ومقصده منه، وعرّج على الأصول الفقهية المستعملة في لسان الأصوليين مورِدًا تعريفاتٍ موجزة لها، ثم أفاض نوعَ إفاضة في كلامه عن قاعدة القدر لعمومها في أبواب أصول الدين. وقد كان الفصل الثاني من المقدمة بعنوان «ذكر السبب الباعث على وضع الكتاب» دليلًا على أن أصل وضع هذا الكتاب كان بتأثير تيميّ خفيّ متعلّقٌ بمكمن نقد ابن تيميّة لمسلك المتكلمين في التعاطي مع القرآن الكريم محاولًا إثبات وفاء القرآن بكلّ المطالب الدينية[3].
فقد ذكر الطوفي أن ها هنا باعثين على وضع هذا الكتاب، أحدهما كليّ والآخر جزئي؛ «أمَّا الكليّ فهو أن المسلمين منذ ظهر الإسلام يستفيدون أصول دينهم وفروعه من كتاب ربّهم وسنة نبيهم واستنباطات علمائهم، حتى نشأ في آخرهم قومٌ عدَلوا في ذلك عن الكتاب والسُّنَّة إلى محض القضايا العقلية، ومازجين لها بالشُّبَه الفلسفيّة والمغالطات السفوسطائيَّة، واستمرَّ ذلك حتى صار في أصول الدين كالحقيقة العرفية، ولا يُعرَف عند الإطلاق غيره، ولا يُعدُّ كلامًا في أصول الدين سواه، فجاء الضعفاءُ العلم بعدَهم فوجدوا كلامًا فلسفيًّا ليس من الدّين في شيء، مع أنَّ أئمَّة الدين ومشايخَهم نهوا [عنه][4] مثله، وشدَّدوا النكير على من تعاطاه، فضاعت أصول الدين عليهم، وضلَّت عنهم؛ إذ لم يعلموا لهم أصول دين غيره لغلبته عرفًا»[5].
هذا إذن هو باعث الطوفي لتصنيف الكتاب ووضعه على هذا النهج، فطوائف المتأخرين من المتكلمين عدَلوا عن استفادتهم أصول الدين من القرآن الذي هو أصل الأصول مخالفين بذلك سائر السلف الأول. ثم علّل الطوفي عدول المتأخّرين في أصول الدين عن اعتبار الكتاب والسُّنَّة بثلاثة معانٍ: أحدِها أو جميعِها، وهي إمَّا جهل المتأخرين بجهات استنباط أصول الدين منهما، أو «ظنًّا منهم أنَّ أدلّةَ السمع فرعٌ على العقل، فلا يُستدَلُّ بالفرع مع وجود الأصل كشاهد الفرع مع شاهد الأصل، أو زعمًا منهم أنَّ الكتاب غالبه الظواهر، والسنّة غالبها الآحاد، ومثل ذلك لا يصلح مستندًا في المطالب القطعية الدينيّة؛ أو لأن خصومهم من الفلاسفة والزنادقة ونحوهم لا يقولون بالشرائع، ولا يرون السمع حجة، فلا يُجدِي الاحتجاج عليهم بها[6]»[7].
إنَّ هذه التعليلات التي أوردها الطوفي هي جوهر النقد التيمي لمسالك المتكلمين وطوائف من الأصوليين، فعدمُ الإحاطة بمسالك الاستنباط من القرآن والسنة ألجأ بعضَهم إلى العدول عن الاستمداد منهما في بعض أبواب الدين. وهذا الخلل في النظر قد أفاض ابن تيمية في بيان بطلانه ونقضه في ثنايا أعماله، والتي كان من جملتها جزءٌ برأسه فيها بعنوان «قاعدة في شمول النصوص للأحكام»[8]. وقد أُتِي من زعم خلاف ذلك من قلّة خبرته بمسالك الدلالات القرآنية على المطالب الدينيّة، حتى عرّض ابن تيمية وابن القيم من بعده بأبي المعالي الجويني (ت 478) في بيانه أنَّ النصوص لا تفي بعُشرِ معشار الحوادث والوقائع التي لا تنحصر أو تدخل تحت العدِّ وعليه فيجب أن يُلجَأ إلى القياس لكي تسترسل أحكام النصوص على الحوادث.
أمَّا السبب الثاني الذي أورده الطوفي فهو ظنُّ بعضِ المتأخرين أنَّ أدلةَ السمع فرعٌ على أدلّة العقل، فلا يمكن -والحال تلك- أن يُستدَلّ بالفرع مع وجود أصله. وهذا هو القانون الرازيّ المشهور في التعارض، والذي أفرد ابن تيمية للردّ عليه كتابه الكبير «درء تعارض العقل والنقل» وتتبّعه بدقّة.
والسبب الأخير هو ظنُّ مَن ظنَّ من المتأخرين أنّ غالب الكتاب ظواهر وغالب السنة آحاد، ووجه منعهم من الاعتماد عليهما أن المطالبَ الإلهية مطالبٌ يُرام فيها القطع والجزم الذي لا مدخل فيهما لأدنى احتمالٍ مخالفٍ، ودلالات الظواهر لا قطع فيها؛ إذ هي ممكنة التأويل ولو من وجه بعيدٍ، فلا تصلح من ثمَّ للاستدلال بها على القطعيات. أمَّا السُّنَّة فسبيل ثبوت جمهورها هو نقل الآحاد، الذي لا يفيد يقينًا بل غلبةَ ظنٍّ. فإذن لا يمكن -لهذا الوجه- الاستدلال بالقرآن أو السنة في المطالب الإلهية لاشتراكهما في ظنية الدلالات اللفظية واختصاص الأخيرة بظنيّة جهة الثبوت. هذا وجه استدلالهم في المنع.
وهذا المسلك يُعزَى -تأصيلًا ودفعًا لمخالفه- في المتأخرين إلى الفخر الرازي؛ إذ إنه قد صاغ ذلك في قاعدة مشهورة دارت في كتب كثيرة من بعده وهي بيان أنّ الأدلة اللفظية -التي هي الأدلة السمعية- لا تفيد اليقين لطريان معارضات عشرة على دلالاتها تمنع من إفادتها اليقين، كاحتمال الاشتراك والحذف والإضمار والمجاز والمعارض العقلي وتوقّف دلالة الألفاظ على نقل اللغة التي سبيلها الآحاد المفيد للظنّ الغالب في أرفع أحواله.
وهذه القاعدة التي صاغها الرازي -المعارضات العشرة- نالت من ابن تيمية نصيبًا وافيًا من النقد والتفكيك في كثيرٍ من جوانبها وبطرائق شتى من الاستدلال وربطها بأبواب أخرى من الأصول كجهة دلالة النصوص على المطالب وبيان أنَّها وافية بجميع المطالب الدينيّة (مرتبط بالسبب الأول)، بل بأشكَل المطالب الإلهية وهي بعض مسائل المواريث. هذا المسلك استصحبه الطوفي في بواعث تأليف الكتاب لبيان حَيْدِ هذا النهج عن نهج السلف الأول في الاستدلال والنظر وهو متشبّع في ذلك بالمسلك العام لابن تيمية.
هذا عن الباعث الكلي لوضع كتاب «الإشارات الإلهية». امتدَّ الطوفي بعد بيانه هذا الباعث إلى بيان الباعث الجزئي لوضع الكتاب، وهو سببٌ ذو دلالة على ما نحن بسبيل تقريره من تأثّره بابن تيميّة في هذا الباب؛ فقد جاء تفصيل الباعث الجزئي إجابة على سؤالٍ ورد على بعض المفتين صورته: «أن الناس هل لهم أصول دين؟ فإن لم يكن لهم أصول دين فكيف يكون دين لا أصل له؟ وإن كان لهم أصول دين فهل هي هذه الموجودة بين الناس ككتب الإمام فخر الدين ابن الخطيب (الرازي) وأتباعه ونحوها؟ أم غيرها؟ وكيف ذمّ أئمة الشرع الاشتغال بأصول الدين مع أنه لا بدَّ للدّين من أصول يُعتَمد عليها؟»[9].
بيّن الطوفي في صدر الإجابة أنَّ السائل إنما أُتِي من جهله بأن أصول الدين التي اشتغل بها المتكلمون هي من فروض الكفايات، وهي مع ذلك جاءت في القرآن والسنَّة مقرَّرةً أحسن تقرير مبيّنةً أبلغَ بيان.
أمَّا أصول الدين وإن كان للدين أصول أم لا، فللدين أصولٌ لا شكّ؛ إذ لا وثوق بفرع لا أصل له. وأصول الدين -على ما أبانه الطوفي- هو العلم الباحث في العقائد الإسلامية، وجملتها لا تخرج عن الكلام في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. وهذه الجمل جاءت في كتب السلف مجرّدةً بالاستدلال من القرآن والسنة بغير ولوج في مضايق الفلسفة والكلام، أما المتأخّرون فقد جاءت كتبهم فيها ممزوجة بما ليس من أصول الدين «إما مزجًا اضطراريًّاكجوابٍ عن شبهة فلسفيّة أو مزجًا اختياريًّا كما ضمّنه الإمام فخر الدين وغيره كتبَهم من المباحث الفلسفية المستقلّة، كالكلام في الفلكيّات والعناصر والنفوس وغيرها؛ تكثيرًا لسواد كتبهم، وتنبيهًا على فضائلهم، أو غير ذلك مما نوَوه»[10].
ثم حرّر الطوفي مناط الذّم الذي ورد عن الأئمة لما سمّاه السائل «أصول الدين» تحريرًا ذكيًّا، فشرع أولًا سائلًا «كيف يذمّون الاشتغال بعلمٍ قد صنّفوا وتكلّموا فيه، وهو مستنَد دينهم، وقد أفتَوا بأنه فرض كفاية في مذاهبهم، وهذا مما لا يُقْبَل عليهم، ولا يجوز صدورُه منهم»[11].
أمَّا المناط الذي توجّه إليه الذّم، فبيانه -بحسب تقرير الطوفي- أنَّ أصول الدين لفظٌ مشتركٌ أو هو كالمشترك، فتارةً يُطلق مرادًا به العلم الباحث عن أحكام العقائد الإسلامية بالحجج الشرعية المؤيّدة بالبراهين العقلية[12]، وهذا النوع لم ينه أحدٌ من الأئمة عنه، بل هو فرضٌ على الموحّدين. وتارةً يُطلق أصول الدين ويُراد به «العلم الباحث عن الأحكام العقلية المحضة الفلسفية والكلامية التي هي فضول في الشرع لا من ضروراته ولا مكمّلاته فذلك الذي ذمّه الأئمة، على أنهم عبّروا عنه بالكلام ولم يذمّ أحدٌ منهم أصول الدين قطّ»[13]. وهذا التوجيه قريبٌ جدًّا مما ذكره ابن تيمية من أن ذمّ الأئمة توجّه إلى الكلام المبتدَع الذي افترعه المتأخرون ووسّعوا مجالات القول فيه بالظنّ والأولى والأخلق، وليس لأصول الدين المستندة إلى القرآن والسنة.
وقد حصر الطوفي بعد ذلك أوجه هذا الذمّ في ثلاثة أوجه؛ أولها: أنَّ علم الكلام -لا أصول الدين- فضولٌ في الدين لا من أصوله. وثانيها: أنَّ العقل بمجرّده قاصرٌ عن درك الحقائق الإلهية، فربما «زلَّ فضلَّ، كما جرى لأكثر الفلاسفة والمتكلمّين في غالب أحكامهم». وثالثها: أنَّ صاحب الكلام صار كالمزاحم لله في الاطلاع على حقائق الموجودات ودقائق المصنوعات، فذمّوه لذلك.
ثم شرع الطوفي بعد ذلك في استقراء القرآن آية آية بما رآه دالًّا على المطالب الأصوليّة فقهًا ودينًا، ولم يجرِ في جزئيات المسائل على متابعة ابن تيمية كما سبق ذكره، بل خالفه في كثيرٍ منها، إلا أنّ إفادته من الشيخ كانت بادية في المنهج العام لوضع الكتاب والباعث وراءه، ولعلّ تتبّع بقيّة ما حُفِظ لنا من كتب الطوفي يبيّن بمزيد من الأدلة التفصيليّة صدق هذا الفرض.
والحمد لله رب العالمين
[1] لنجم الدين الطوفي شرح على تائيّة ابن تيمية في القَدَر، طُبِعت مؤخّرًا بتحقيق د. محمد نور الإحسان بن يعقوب.
[2] طُبِع بتحقيق أبي عاصم الحسن بن عباس بن قطب، عن مكتبة الفاروق الحديثة سنة 2012م.
[3] لا يعني ذلك متابعة الطوفي لابن تيمية في فروع المسائل الكلامية وجزئيّاتها، بل خالفه في كثيرٍ منها، لكنّ الكلام في هذا السياق على النهج العام للنظر والتفقّه. ومن اللافت أنّ كتاب الطوفي «الإشارات الإلهية» يجري في مضمار كتاب «نُكَت القرآن» لأبي أحمد محمد بن علي الكرجي القصّاب (ت حوالي 360)؛ إذ نهج القصَّاب في هذا الكتاب النهج نفسه بالوقوف على الآيات آيةٍ آيةٍ وبيان وجه الاستدلال منها استقلالًا، وكانت غالب نُكَته في أبواب الاعتقاد وأصول الدين والردّ على مخالفيه من المجبرة والمعتزلة ومتقدّمي الأشعرية والكُلَّابيَة.
[4] هكذا في المطبوع ولعل صوابها [عن].
[5] الإشارات الإلهية، 1/ 206.
[6] وهذا بناءً على أن القرآن والسُّنّة دلالتهما من باب دلالة الخبر فحسب، وهي ثغرة منهجية أفاد منها ابن تيمية في نقده للرازي والمتكلمين من ورائه. ويظهر هنا أن الطوفي كان واعيًا بهذا الإشكال هو الآخر.
[7] الإشارات الإلهية، 1/ 206.
[8] طُبِعت بتحقيق محمد عزير شمس في المجموعة الثانية من جامع المسائل الصادر عن دار عالم الفوائد بمكة المكرَّمة.
[9] الإشارات الإلهية، 1/ 207.
[10] الإشارات الإلهية، 1/ 206، 207.
[11] الإشارات الإلهية، 1/ 208.
[12] لاحظ هنا تفريقه بين الحجج الشرعية والبراهين العقلية، وجعل الأولى هي الأساس الذي يُطلب الثاني لتأييده.
[13] الإشارات الإلهية، 1/ 208.