التفسير الوجيز لابن الصلاح الشهرزوري (ت 643هـ)
تحقيق نسبته وبيان بعض ملامحه
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى اللهُ وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد:
فإنّ الله تعالى يمنّ بما شاء من فضله على مَن شاء من عباده، وكان مِن أعظمِ ما اختصّ الله به هذه الأمة القرآنُ الكريم والسنّةُ النبوية، المصدران الأوّلان في مصادر التشريع الإسلامي. وقد قيّض اللهُ لهما رجالًا قاموا بخدمتهما، فتركوا المنام، وزهدوا في طيب الطعام ورغد العيش، تلذّذوا بالارتحال مِن دار إلى دار، ما حلّوا في بلدة إلا خرجوا بأنفَسِ ما فيها من العلوم النافعة والأحاديث الجامعة، فبارك اللهُ لهم في الأعمار، ورفع لهم ذِكْرهم في الديار.
ومِن هؤلاء الأئمة الأعلام الإمامُ الحافظ أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري المشهور بابن الصلاح رحمه الله، ولا يخفى على طالب العلم -ناهيك عن العلماء- المكانة العلمية السامية التي تبوّأها الإمام ابن الصلاح؛ فقد كان إمامًا بارعًا متبحِّرًا في كثير من العلوم، يُضْرَب به المثل لا سيما في علم الحديث، يدلّ على ذلك ما صنّفه في ذلك المجال، واهتم العلماء قديمًا وحديثًا بدراسة مصنّفاته، وفهم معانيها.
ومن مصنّفات ابن الصلاح التي ذكرَتْـها فهارس المكتبات كتاب (التفسير الوجيز)، وهذا الكتاب لم يُطبع حتى الآن، ولقد وقف الباحثُ على ثلاث نُسَخ خطّية من هذا التفسير، وتأتي هذه المقالة لتحقيق نسبة هذا التفسير لابن الصلاح، وتبيّن طرفًا من ملامحه، وذلك بعد تمهيد نسلّط فيه الضوء على النُّسَخ الخطّية لهذا التفسير، ونُشير لأسباب عدم طبعه وعدم شُهرته[1].
التمهيد:
أولًا: وصف النُّسَخ الخطّية ونماذج منها:
أ. النسخة الأولى:
تقع النسخة الأولـى من التفسير الوجيـز فـي مكتبـة رفاعة الطهطاوي، في مدينة سوهاج، بمصـر، برقم (21/ تفسير)، وهذه النسخة تقع فـي (332) ورقـــة، وعدد الأسطر فـي الصفحة (19) سطرًا، وعدد الكلـمـات فـي السطر (15) كلمة تقريبًا، ومقاس اللوحة (20.5×15سم)، ولم يُكتب على هذه النسخة تاريخُ نَسْخهـا، ولا اسم الناسـخ. كُتبت النسخة بخط النَّسْخ، وهي واضحة، كُتبت باللون الأسود، وأسماء السـور كتبت بالحُمرة، وهذه النسخة مكتملـة تامة، حيث تبـدأ بمقدمـة المؤلِّف، وتنتهـي بتفسير سـورة الناس، ويوجد على صفحات النسخة بعض الحواشـي والتعليقـات، وكُتب على طُرَّة النسخة: «تفسير وجيز لابن صلاح».
ب. النسخة الثانية:
تقع النسخة الثانية من التفسير الوجيز فـي مكتبة وليّ الدين أفندي، فـي مدينة إسطنبـول، بتركيـا، برقـم (282)، وهذه النسخة تقع في (245) ورقـة، وعدد الأسطر فـي الصفحة (27) سطرًا، وعدد الكلمـات في السطر (15) كلمة تقريبًا، ولم يُكتب على هذه النسخة تاريخُ نسخها، ولا اسم الناسخ. كُتبت النسخـة بخط النَّسْــخ، وهـي واضحـة، كُتبت باللـون الأسود وأسماء السور كتبت بالحُمرة، وهـي نسخـة مكتملة تامـة، تبـدأ بمقدمـة المؤلِّف، وتنتهـي بتفسير سـورة النـاس، ويوجد على صفحات النسخة بعض الحواشـي والتعليقات، ولم يُكتب العنوان على طرَّة النسخة ولا اسم المؤلِّف.
ج. النسخة الثالثة:
هذه النسخـة من التفسير الوجيز مصوّرة في مركز البيان للبحوث والدراسات، فـي تركيا، وهذه النسخة تقع في (204) ورقة، وعدد الأسطر فـي الصفحة (25) سطرًا، وعدد الكلمات فـي السطر (15) كلمة تقريبًا، ولم يُكتب على هذه النسخة تاريـخ نسخها ولا اسم الناسخ. كُتبت النسخة بخط النسخ، وهي واضحة، كتبت باللون الأسود، وأسماء السور كتبت بالحُمـرة، وهـذه النسخـة مكتملـة تامة، تبدأ بمقدمـة المؤلِّف وتنتهـي بتفسير سـورة الناس، ويوجد على صفحات النسخة بعض الحواشـي والتعليقـات، ولم يُكتب العنوان على طرَّة النسخة ولا اسم المؤلِّف.
ثانيًا: أسباب عدم تحقيق (التفسير الوجيز لابن الصلاح) من قبل:
إنَّ كتاب التفسير الوجيز لابن الصلاح (ت: 643هـ)، من المخطوطات التي بقيت في المكتبات لعقود من الزمن دون تحقيق، ويأتي السؤال: لماذا لم يُحَقّق هذا المخطوط من قبل؟ مع أنَّ المؤلف من كبار العلماء المشهورين!
والإجابة عن ذلك كما يأتي:
بإمكاننا القول أنَّ من المحتمل أنَّ عدم تحقيق هذا المخطوط من قبل يرجع لسببين، هما:
1. أنَّ اسم المخطوط مدَوَّنٌ في فهرس مكتبة رفاعة رافع الطهطاوي في مصر كالآتي: (التفسير الوجيز- تفسير الفاتحة. لابن الصلاح. شيخ الإسلام تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري. المتوفى 643هـ)[2]. فكتابة جملة (تفسير الفاتحة) في عنوان المخطوط صَرفت الأنظار عن تحقيق المخطوط اعتمادًا على ما ذُكر في الفهرس من أنَّه لسورة الفاتحة فقط، وليس تفسيرًا للقرآن الكريم كاملًا، فكان هذا هو السبب الرئيس الذي صَرف الأنظار عن الوقوف عليه وتحقيقه.
2. من الأسباب كذلك صعوبة الحصول على المخطوط؛ فمكان نسخة هذا المخطوط هو مكتبة رفاعة الطهطاوي في مدينة سوهاج في مصر، والحصول على أيّ مخطوط من هذه المكتبة صعب المنال، حيث ظلّت المكتبة مغلقة ومهملة لعشرات السنين، ولم يُسمح بالتصوير منها إلا قبل أشهر، ولا يمكن -إلى الآن- الحصول على مخطوط منها عن طريق التراسل كما هو شأن أغلب المكتبات، بل إنَّ هذه المكتبة لم تصوّر مخطوطاتها إلى اليوم، وقد احتجتُ لكي أحصل على نسخة مصوّرة من المخطوط أن أقوم بإرسال أحد الزملاء الدارسين في مصر إلى المكتبة نفسها، وبعد جهد سمحوا له بتصوير المخطوط بكاميرا هاتفه.
وحينما وصَلَتْ نسخة المخطوط بين يديّ تأكّدَ لي أنه تفسير للقرآن كاملًا؛ وذلك لأن المذكور في فهرس المكتبة أنَّ عدد أوراقه (320) ورقة، فيستحيل عقلًا أن يكون تفسير الفاتحة في ذلك العدد من الأوراق، فعزمتُ على الحصول على نسخة مصورة للمخطوط، واستغرق هذا الأمر من الوقت أكثر من ستة أشهر.
ثالثًا: سبب عدم شهرة (التفسير الوجيز لابن الصلاح):
لا يوجد سببٌ أكيدٌ وواضحٌ لعدم اشتهار التفسير الوجيز، لكنني هنا أذكر سببًا احتماليًّا لذلك، وهو أنَّ هذا الكتاب كان عبارة عن (مجالس إملاء) أملاها المؤلِّف على طلبته، ولم يكن مقصودًا بالتأليف، كما هو شأن أغلب كتب التفسير؛ ولذلك نجده مقسَّمًا إلى مجالس سُمِّيت بالمطالب، وأشير إلى كونها مجالس كتابة كلمة (مجلس) في نهاية أسماء عدد من المطالب المذكورة فيه.
ومجالس التفسير هذه عبارة عن مجالس كبيرة يحضرها العامة وطلبة العلم، ولها تأثيرٌ كبيرٌ على الناس، وهذه المجالس تحاكي اليوم ما يسمَّى بالتفسير الإذاعي والتلفزيوني؛ كتفسير الشعراوي، وغيره. وهي أيضًا قريبة من أسلوب المحاضرات الجامعية العلمية، وهذه المجالس تحاكي التصنيف.
وبالتالي فإنَّ هذا التفسير من إملاء المؤلِّف، نقله عنه أحدُ طلابه الذين كانوا يحضرون مجالسه.
وسيأتي الكلام عن ذلك بشيء من التفصيل في القسم الثاني من هذه المقالة.
القسم الأول: تحقيق نسبة التفسير الوجيز إلى ابن الصلاح:
إنَّ التفسير الذي بين أيدينا موسوم بـ(التفسير الوجيز)، ومؤلفه هو: عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح، المتوفى سنة (643هـ).
وفيما يأتي بيان الأدلة على ذلك:
أولًا: إنَّ من الأدلة القوية التي يستدلّ بها المحقّقون على اسم مخطوط ما ونسبته إلى مؤلِّفه أن يُكْتَب اسم المخطوط واسم مؤلِّفه في أول لوحة من المخطوط.
وقد تحقّق ذلك الأمر في هذا المخطوط؛ ففـي نسخة مكتبـة رفاعـة الطهطـاوي كُتِب فـي طُرَّة النسخة:
«تفسير وجيز لابن صلاح».
(صورة طرة نسخة مكتبة رفاعة الطهطاوي)
ويرى المحققون صحة إثبات اسم المخطوط واسم مؤلِّفه المدوّن على أول لوحة من المخطوط إلا إذا ظهر ما ينافي ذلك من الوقوف على أيّ إشارة في نصّ المخطوط يثبت بها قطعًا عدم صحة نسبة المخطوط للمؤلِّف. وغالبًا ما يظهر ذلك أثناء دراسة المخطوط وتحقيقه.
تنبيه: كُتِبَ بعد اسم المخطوط واسم مؤلِّفه عبارة: «قد سمعتُ من بعض أساتذتي أن ابن الصلاح تلميذ الغزالي رحمهما الله تعالى». قلتُ: ومعلوم خطأ هذه العبارة؛ إِذْ وفاة الإمام الغزالي سنة 505هـ أي قبل وفاة ابن الصلاح بـ138 سنة. إلا أن يقصد بذلك أن يكون من تلاميذ تلاميذه فتكون العبارة قِيلت تجوّزًا، أو أن يكون المراد غير ذلك. الخلاصة أنَّ هذه العبارة لا تعنينا بقدر ما يهمّنا أنَّ اسم المخطوط واسم المؤلِّف مكتوبان على أول لوحة من المخطوط.
ثانيًا: لقد ذُكِرَ اسم المخطوط منسوبًا للمؤلِّف في عدد من الفهارس العلمية، ومنها:
1. معجم تاريخ التراث العربي الإسلامي[3].
2. فهرس مكتبة مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية[4].
3. فهرس مكتبة بايزيد وليّ الدين، إستنبول- تركيا[5].
4. فهرس مخطوطات مكتبة رفاعة رافع الطهطاوي[6].
ثالثًا: من خلال الاستقراء للتفسير كاملًا نجد أنَّ جميع المصادر التي ذكرها المؤلِّف في تفسيره من المصادر المؤلَّفة قبل القرن السابع الهجري، ولم أقف على أيّ مصدر بعد القرن السابع الهجري، وسيأتي في القسم الثاني من هذه المقالة ذِكْر مصادر المؤلف.
رابعًا: أنَّ مما ورد في ترجمة ابن الصلاح وصفه بأنَّه كان مفسِّرًا.
قال ابن خلكان -وهو من تلاميذ المؤلِّف- في وصف شيخه ابن الصلاح: «كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلّق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسدّدة، وهو أحد أشياخي الذين انتفعتُ بهم»[7].
وكون ابن الصلاح وُصِفَ بأنَّه مفسِّر لا يتنافى مع أن يكون ألَّف كتابًا في التفسير، أو جُمِع له كتابٌ في التفسير.
خامسًا: مع أنَّ هذا التفسير وجيز ومختصَر، ولم ينهج فيه المؤلِّف نهج التفصيل والإطالة، إلا أننا عند المقارنة بين مسائل التفسير في فتاوى ابن الصلاح وما ذكره في تفسيرها، وبين ما ذكره في التفسير الوجيز نجد التوافق في ذكر المعاني، بل أحيانًا يورد نفس اللفظ، من ذلك على سبيل التمثيل:
1. في المراد بالوفاة في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42].
فَسَّرَ ابن الصلاح في الفتاوى الوفاة بقبض الأرواح، فقال: «ومنهم مَن ذهب إلى أنّ الرُّوح تتوفى عند النوم بقبضها من الجسد ومفارقتها له، وهذا الذي نجيب به، وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة»[8].
وهنا في التفسير الوجيز فَسَّرَ الوفاة أيضًا بقبض الأرواح، فقال: «﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾: الله يقبض الأرواح عند نومها»[9].
2. في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ [يوسف: 44].
فَسَّرَ ابن الصلاح في الفتاوى الأضغاث بالأحلام المختلطة، فقال: «فمعنى الآية أنهم قالوا للمَلِك: إنّ الذي رأيتَه أحلامٌ مختلطة ولا يصحّ تأويلها»[10].
وهنا في التفسير الوجيز فَسَّرَ الأضغاث أيضًا بالأحلام المختلطة، فقال: «﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾: أباطيل أحلام، ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾: يعني ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل»[11].
3. في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102].
فَسَّرَ ابن الصلاح في الفتاوى التقوى بأن يُطاع الله فلا يُعصى، فقال: «وحقُّ تقاته؛ أن يُطاعَ فلا يُعصى»[12].
وهنا في التفسير الوجيز فَسَّرَ التقوى بأن يُطاع الله فلا يُعصى، فقال: «﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكَر فلا يُكْفَر»[13].
4. في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 4- 7].
فَسَّرَ ابن الصلاح في الفتاوى الساهون بأنهم الغافلون، فقال: «الساهون: الغافلون عن الصلاة»[14].
وهنا في التفسير الوجيز فَسَّرَ الساهون بأنهم الغافلون، فقال: «﴿عَنْ صَلَاتِهِمْ﴾: عن وقت صلاتهم، (سَاهُونَ): غافلون»[15].
وفَسَّرَ ابن الصلاح في الفتاوى الماعون بأنه العارية مِن آلاتِ البيت، فقال: «﴿وَيَـمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾: اختلفوا فيه، والأظهر أنّ الماعون مهمّات آلات البيت مِن قِدْر، ومغرفة، وفأس، ومجرفة، وأشباههما، هذا لما كانت الإعارة واجبة وهو ظاهر الآية»[16].
وهنا في التفسير الوجيز فَسَّرَ الماعون بأنه العارية مِن آلاتِ البيت، فقال: «﴿وَيَـمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾: ويمنعون العارية لمن احتاج إليها، وذلك مثل القِدْر، والفأس، والنار، والمِلح»[17].
سادسًا: إنَّ كتب التراجم في الغالب لا تذكر جميع المؤلَّفات لمن تترجم لهم، بل تهتم بذِكْر أشهرها، ولذلك عند ذكرها لمؤلَّفات بعض الأعلام تذكر أنَّ له تصانيف -تريد كثرتها- ثم تقول: ومنها كذا، أو ومن تصانيفه كذا.
وهكذا تحدّثت كتب التراجم عن مؤلَّفات ابن الصلاح عند ترجمته، من ذلك:
قال ابن العماد: «وصنّف التصانيف... ومن تصانيفه: مشكل الوسيط في مجلد كبير...»[18].
القسم الثاني: بعض ملامح التفسير الوجيز لابن الصلاح:
أولًا: الاستعانة بمن سبق من المفسِّرين الأوائل والنقل عنهم:
استعان ابن الصلاح -في تفسيره الوجيز- بمَن سبَقه من المفسِّرين الأوائل ونقَل عنهم، وكان هذا إجمالًا لا تفصيلًا. فهو ينقل عن المفسِّرين السابقين في ثنايا تفسيره، لكن ذلك ليس غالبًا على تفسيره، بل في مواضع من التفسير.
فنجد المؤلِّف في تفسيره ينقل آراء بعض المفسِّرين من الصحابة، مثل: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس. كما ينقل آراء بعض المفسِّرين من التابعين، مثل: مجاهد، والضحَّاك، والحسن البصري، وقتادة، ومرّة الهمداني، عن طريق مقاتل بن حيان.
واستعان المؤلِّف في بيان المفردات والتفسير بالإمام أبي القاسم الحسن بن محمد بن الحبيب النيسابوري (ت: 406هـ)، ونقل من كلام المفسِّر أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي (ت: 207هـ)، كما نقل من كلام أبي عمرو الشعبي (ت: 109هـ)، كما نقل من كلام أبي الجوزاء أوس بن عبد الله البصري (ت: 82هـ)، ونقل من كلام أبي يحيى زياد بن الفراء (ت: 207هـ)، ونقل من كلام أبي بكر محمد بن عمر الوراق (ت: 240هـ). ونقل من كلام أبي عليّ الحسين بن الفضل الكوفي (ت: 282هـ)، ونقل من كلام الحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، ومحمد بن إسحاق بن يسار (ت: 151هـ).
ثانيًا: الاستقلالية في التفسير:
وهذه أهم خصيصة امتاز بها ابن الصلاح في تفسيره، فمع استعانته ونقله عمّن سبقه، إلا أن هذا لم يكن ذوبانًا لشخصيته، بل تظهر فيه شخصيته بشكلٍ جليّ وواضح، فيستقلّ أحيانًا برأي خاصّ به، ويتعرض أحيانًا لذِكْر نكاتٍ ولطائف في معرض تفسيره للآيات القرآنية، فلم يكن ناقلًا، بل كان له نتاجه المستقل، وتفسيره الخاصّ الذي لا يشابه تفسيرًا آخر.
وفيما يأتي أسوق عددًا من الأمثلة التي توضح ذلك:
في تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: 173]: قال المؤلِّف: «يعني مَن أصابته ضرورة ولم يجد الطعام ثمانية أيام متواليات رُخِّص له أن يتناول من المحرّمات مقدار الشِّبع، ولا يحلّ له فوق ذلك، والباغي: قاطع الطريق. والعادي: المتعمّد لأكله من غير ضرورة؛ فإن الله غفور رحيم: لمن أكل بالضرورة»[19].
وبعد تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115]، قال المؤلِّف: «وإنَّما ذكر في هذا الموضع قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾؛ لأنَّ مِن أول السورة إلى هنا آيات الربوبية، ودلالات التوحيد، والردّ على القدرية، فلذلك قال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾، صدقًا: في قوله لآدم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، عدلًا: في قوله لآدم -لأجل ذريته-: وهؤلاء في النار ولا أبالي»[20].
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 45]، قال المؤلِّف: «وسُمِّي عيسى؛ لأنَّه اختار عيش الآخرة على عيش الدنيا، وعيسى بالعبرانية عيشا»[21].
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]، قال المؤلِّف: «﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾: ولو كان الإنسُ مُعِينًا للجِنّ، والجنُّ مُعِينًا للإنس، فلا يأتون بمثله، وذلك أنَّ لغة العرب لا تخرج عن سبعة أوجه: إمَّا رسالة، وإمَّا خُطَب، وإمَّا شِعر، وإمَّا رَجَز، وإمَّا سَجْع، وإمَّا مَثَل، وإمَّا بِذْلَة؛ والقرآن عربي لا يشبه نَظمه الرسالة، ولا نَظم الخُطَب، ولا نظم الشِّعر، ولا نظم الرَّجَز، ولا نظم السَّجْع، ولا نظم الـمَثل، ولا نظم البِذْلَة؛ فلذلك عجزَت العرب عن الإتيان بمثله»[22].
وفي تفسير قوله تعالى على لسان الخضر: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82]، قال المؤلِّف: «﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾: عن رأيي، فإنما فعلته بالإلهام؛ لأنَّ الخضر كان نبيًّا»[23].
وفي قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45]، قال المؤلِّف: «﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: من الإنشاء والإفناء، ﴿مُقْتَدِرًا﴾: قادرًا. وكان في القرآن بمعنى الماضي، كقوله: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82]، وكان بمعنى المستقبل، كقوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4]، وكان بمعنى الحال، كقوله: ﴿كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: 29]، وكان بمعنى الماضي والمستقبل، كقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾، أي كان قادرًا على الأشياء فيما مضى، ويكون قادرًا في الحال، في المستقبل، وهكذا معنى قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 4]، وكلّ شيء من صفات الله تعالى على هذا المعنى»[24].
وعند قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل: 78]، قال المؤلِّف: «وإنما قدَّم السمع على البصر وأخّر الفؤاد؛ لأنَّ الرجل إذا سمع شيئًا نظر إليه، ثم تفكّر فيه»[25].
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، قال المؤلِّف: «والاختلاف في القرآن قسمان: اختلاف تغاير، واختلاف تناقض؛ فاختلاف التغاير يجوز أن يوجد في القرآن، مثل الاختلاف في القراءات، واختلاف التناقض لا يجوز أن يوجد في القرآن»[26].
ثالثًا: تنوّع طرائق العرض للتفسير:
لقد شملت تفاسير القرن السابع -عصر المؤلِّف- طريقتين في التفسير:
الأولى: التصنيف والتأليف.
الثانية: مجالس التفسير.
أمّا التصنيف: فهو يمثّل باكورة أعمال المفسِّر، وخلاصة عِلْمه ومعرفته في التفسير.
وأمّا مجالس التفسير: فهي مِن أظهر صورِ التفسير البارزة في القرن السابع الهجري، ومثل هذه المجالس كانت مجالس عامة يحضرها العامة وغيرهم، مما كان لها الأثر الكبير على أهل القرن السابع.
ولقد شملَت مجالسُ التفسير هذه صورتين:
1. الصورة الأولى: أخذت طابع الوعظ؛ وتشمل عامة الناس من أهل العلم ومن غيرهم، ومثل هذه الصورة تحاكي في الوقت الحاضر ما يسمَّى بالتفسير الإذاعي.
2. والصورة الثانية: اتخذت طابع الإملاء، وهي قريبة إلى حدٍّ ما من التصنيف؛ لكنَّها تلقى على طلبة العلم خاصة، وهي قريبة إلى حدٍّ ما من أسلوب المحاضرات الجامعية العلمية، وهي تحاكي التصنيف.
والتفسير الوجيز لابن الصلاح ينتمي -قطعًا- للنوع الثاني من التصنيف وهو مجالس التفسير، حيث دوّنت في حواشي المخطوط باللون الأحمر عناوين تلك المجالس بأسماء (مطالب)، ويكتب في نهاية أسماء بعض المطالب كلمة (مجلس)، وهذه العناوين كُتِبَت بنفس خط الناسخ، وهذا الأمر حاصل في النسختين الأخريين، وفي ذلك دليل على أنَّها منقولة عن الأصل هكذا. ومن أمثلة أسماء تلك المجالس المدونة:
مطلب: فَخُذ أربعةً من الطير[27].
مطلب: مات من المنافقين سبعون نفسًا في ساعة واحدة[28].
مطلب: حسد[29].
مطلب: أنواع المجاهد في سبيل الله[30].
مطلب: هجرة وفوائدها[31].
مطلب: قصر الصلاة[32].
مطلب: اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم[33].
مطلب: قصة قتل قابيل لهابيل. وفي الآية ذمّ الحسد[34].
مطلب: لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجًا[35].
مطلب: ﴿وبرزوا لله جميعًا فقال الضعفاءُ للذين استكبروا... ﴾ إلى قوله: ﴿إنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليمٌ﴾. مجلس واني كبير[36].
مطلب: تشبيه الإيمان بشجرة طيّبة[37].
وعند العودة إلى ترجمة الإمام الحافظ أبي عمرو بن الصلاح نجد فيها أنه اشتهر بعقد مجالس الإمـلاء في جميع البلدان التي كان يدرس فيها، وأشهر مؤلّفاته كانت عبارة عن مجالس إملاء، منها كتابه: (معرفة أنـواع علم الحديـث).
رابعًا: الاختصار والإيجاز:
لقد كانت المصنّفات في التفسير في ما قبل القرن السادس تمتاز بطولها وتفصيلها، وفي القرن السابع -عصر المؤلِّف- ظهرتْ كتب التفسير المختصرة والموجزة التي يخفّ حملها وتقضي الوطر. فكانت مصنّفات التفسير في هذا القرن تحوي المطوّلات من كتب التفسير، وفي المقابل المختصرات. والتفسير الوجيز لابن الصلاح من التفاسير التي سَلَكَت منهج الاختصار والإيجاز، وفي كلٍّ عظيمُ نفعٍ وكبيرُ فائدة؛ إِذِ الأمر متعلّق بكتاب الله تعالى الذي لا تنقضي مظاهر إعجازه ولا عجائبه على مَرّ الدهور والعصور.
خامسًا: اتباع مذهب السَّلَف في مسائل الاعتقاد:
ممن ترجم لابن الصلاح الإمام الذهبي في تذكرة الحفّاظ، وكان مما وصفه به قوله: «كانَ حَسَنَ الاعتقاد على مَذْهَب السّلف، يرى الكَفّ عَن التَّأْوِيل، ويؤمن بِما جاءَ عَن الله تَعالى ورَسُوله على مرادهما، ولا يَخُوض ولا يتعمّق»[38].
وفي التفسير الوجيز الذي بين أيدينا نرى ذلك الأمر واضحًا وجليًّا، ونجد أنَّ المؤلِّف وافق مذهبَ السَّلف في كثير من مسائل الاعتقاد، ومن أمثلة ذلك:
عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]. علَّق المؤلِّف على غير عادته في الإيجاز ليتضح مذهبه، وأنَّ مذهبه في الأسماء والصفات هو مذهب السَّلَف، بأنْ نثبت لله ما أثبته لنفسه دون تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
قال المؤلِّف في تفسير الآية: «وهو مختار في إنفاقه، قد يوسّع تارة، ويضيق أخرى، على حسب مشيئته، والناس في تفسير اليد المذكورة في هذه الآية على أربعة فِرَق: فِرقة يقولون: إنَّ اليد القدرة، وفرقة يقولون: إنّ اليد نعمة، وفرقة يقولون: إنّ اليد جارحة، وفرقة يقولون: إنّ اليد صفة من صفات الله تعالى لا يُدرى ما هي، والله تعالى لم يبيّن لنا هذه الصفة وهذه الآية، كقوله تعالى: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، سواء الكلام في هذه الآية وفي تلك، والله تعالى بريء من الجارحة والأبعاض والأجزاء لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾ [الشورى: 11]، ولم يجز أن يكون تفسير اليدين في هذين الموضعين القدرة؛ لأنَّ الله تعالى خلق جميع الخلائق بقدرة، وبَيَّن في هذه الآية أنَّ لآدم على إبليس ميزة من جهة الخِلقة، ولو خلقهما بقدرة لما بيَّن ميزة آدم على إبليس، وكذلك النعمة؛ لأنَّ الله تعالى منعم على خلقه بنعمة الخلق إياهم، فلم يبقَ إلا أن يكون تفسير اليد في هاتين الآيتين صفة من صفاته تعالى لا يُدرى ما هي»[39].
وكذلك عند قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22- 23].
قال المؤلِّف في تفسيره للآيتين: «﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾: وجوه المؤمنين يومئذ مشرقة، ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾: لا إلى غيره»[40].
من خلال تفسير المؤلِّف السابق لآية الرؤية يظهر لنا موافقته لمذهب أهل الحقّ وسلف الأمة، فإنّ اللَّه تعالى يُرَى في الآخرة بالأبصار بغير إحاطة، ولا كيفية كما نطق بذلك كتاب ربّنا، وسنّة نبينا صلى اللَّه عليه وسلم، بأنّ المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة، وبعد ما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المعنى عند أهل العلم بالحديث، فإنه أخبر صلى اللَّه عليه وسلم: (إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِهِ)[41]. وغير ذلك من الأمثلة.
سادسًا: الإشارة إلى عدد من المسائل اللغوية:
مما امتاز به التفسير الوجيز لابن الصلاح عدم إهماله لبعض الإشارات التي تتصل بمسائل لغوية، وهي ذات دلالة أوَّلًا وآخِرًا على عمق ثروته اللغوية، ومن أمثلة ذلك:
في تفسير قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [الحجر: 29]، قال المؤلِّف: «وأضاف روحه إلى نفسه، وهي إضافة ملك؛ وذلك أنَّ الإضافة على ضربين: إضافة تبعيض، وإضافة ملك، فإضافة التبعيض مثل قولك: يد زيد، ورأس زيد، معناه: أنَّ اليد والرأس بعض من زيد، وإضافة الملك مثل قولك: داري، وغلامي، وفرسي، معناه: دار في ملكي، وكذلك الغلام والفرس، ولا يجوز على الله تعالى التبعيض ولا التجزيء؛ لأنَّه واحد لا يشبه شيئًا، ولا يشبهه شيء، فثبت أنَّ من الإضافة إضافة ملك، وإنَّما أضاف روح آدم إلى ملكه بعد أن تكون المخلوقات كلها في ملكه؛ ليزداد آدم بهذه الإضافة شرفًا وتكريمًا، كما تزيد الكعبة شرفًا بأن قال: (بيت الله)، و(ناقة الله)، و(رسول الله)»[42].
سابعًا: عَلى الرغم من أن ابن الصلاح كان من منهجه الاختصار كلّما وجد إلى ذلك سبيلًا؛ إلَّا أنّهُ لَمْ يغفل أن يسوق بَيْنَ تارة وأخرى قولًا أو شِعْرًا أو قصة أو أحداثًا أو غير ذلك، يؤنس به المطالعين، ويذكّر به سنة السالفين:
ومن أمثلة ذلك:
قبل أن يدخل المؤلِّف في تفسير سورة الإسراء ذكر مقدّمة متسلسلة لأحداث حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مولده إلى حادثة الإسراء. ثم انتقل إلى تفسير السورة.
قال المؤلف: مطلب: تاريخ معراج النبي عليه السلام.
«قال أصحاب التواريخ: وُلد النبي -عليه السلام- عام الفيل، وسُلِّمَ إلى ظِئْرٍ من بني سعد، وذهبت أمّه -عليها السلام- به إلى المدينة لزيارة أخواله، والنبي -عليه السلام- يومئذ ابن خمس سنين، وماتت أمّه آمنة والنبي -عليه السلام- ابن ست سنين، ثم سُلِّمَ إلى عبد المطلب فمات عبد المطلب والنبي -عليه السلام- ابن ثمان سنين، ثم سُلِّمَ إلى أبي طالب، وأبو طالب ذهب به إلى الشام والنبي -عليه السلام- ابن اثنتي عشرة سنة، وشهد النبي -عليه السلام- حرب الفجار وهو ابن عشرين، والفجار حرب كانت بين قريش وغيرهم، وذهب النبي -عليه السلام- إلى الشام بأمر خديجة بنت خويلد وهو كان ابن خمس وعشرين سنة، وتزوّج بخديجة بعد ذلك بشهرين، ورجعت قريش إلى حُكمه عند الكعبة وهو -عليه السلام- يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وبُعِث رسولًا إلى الخلق وهو ابن أربعين سنة، ووُلدت فاطمة وهو ابن إحدى وأربعين سنة، ومات أبو طالب وهو ابن ثمان وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا، وماتت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيام، وخرج النبي -عليه السلام- إلى الطائف بعد ذلك بثلاثة أشهر، وقام بالطائف شهرًا واحدًا ثم رجع إلى مكة وقام بمكة بعد ذلك سنة ونصف، ثم عُرِجَ به إلى السماء، فذلك قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾: عجبًا لله الذي أسْرَى. ﴿بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾: أول الليل...»[43].
ثامنًا: طيلة صفحات الكتاب نجد المؤلِّف ذا شخصية بارزة واضحة متميزة، وذلك من خلال إبداء آرائه الجديدة، وقدرته على المناقشة والتصويب وترجيح ما يراه راجحًا من الآراء:
والأمر حاصلٌ تمامًا في التفسير الوجيز، فإنَّ المؤلّف لم يقتصر على بيان الآراء المختلفة فقط، بل ذكر ما ترجّح لديه إن كان لديه ترجيح بين هذه الأقوال، وإن لم يكن لديه أيّ ترجيح بيَّن وجهة نظره الخاصة. من أمثلة ذلك: عند تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه﴾ [القيامة: 4]، قال المؤلِّف: «معناه: بلى -نحن- قادرين على بعثه، كما نقدر أن نسوي بنان الإبل فنجعله كالخف، وأحسن الأقاويل أن يُقال: كما قدرنا على تسوية بنانه مع لطافة تركيبه وكثرة عجائبه، كذلك نقدر على إحيائه بعد تلاشي أعضائه»[44].
خاتمة:
قُمْنَا في هذه المقالة بالتعريج على (التفسير الوجيز) لابن الصلاح، فعرّفنا بِـنُسَخِه المخطوطة، وتكلمنا على نسبة هذا التفسير لابن الصلاح وطرفٍ من الملامح الخاصّة بهذا التفسير. إنَّ الأدلة التي سقناها في القسم الأول من هذه المقالة تجعلنا أمام علم ضروري بأن مؤلِّف (التفسير الوجيز) هو العلّامة أبو عمرو عثمان بن الصلاح -رحمه الله-. ولقد وُصِف ابن الصلاح في كتب التراجم بأنَّه كان مفسّرًا، وهذا يزيد في تأكيد أنَّ له مؤلَّفًا في التفسير. وقد ظهر معنا كذلك أنّ التفسير الوجيز لابن الصلاح كان عبارة عن مجالس إملاء أملاها المؤلِّف على طَلبته، ولم يكن مقصودًا بالتأليف، كما هو شأن أغلب كتب التفسير. وقد استعان ابن الصلاح -في تفسيره الوجيز- بمن سبقه من المفسِّرين الأوائل ونقل عنهم، إلا أنَّ هذا لم يكن ذوبانًا لشخصيته، بل كان يستقلّ أحيانًا بتفسير ورأي خاصّ به، فكان له نتاجه المستقلّ عن غيره.
ويوصي الباحثُ بضرورة تحقيق التفسير الوجيز للعلّامة ابن الصلاح، وإخراجه إلى النور؛ لكونه أحد المصادر المعتبرة في التفسير. كما يوصي بعمل دراسات حول منهج ابن الصلاح في تفسيره، ومقارنته مع كتب التفسير في القرن السادس والسابع الهجري.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] ننوّه أنه قد سُجل حديثًا عام 1444هـ بجامعة الطائف ثلاث رسائل دكتوراه في تحقيق تفسير ابن الصلاح. (موقع تفسير).
[2] ينظر: فهرس مخطوطات مكتبة رفاعة رافع الطهطاوي، يوسف زيدان، معهد المخطوطات، القاهرة، 1996م، ص257.
[3] ينظر: معجم التاريخ، عليّ الرضا قره بلوط، وأحمد طوران قره بلوط، دار العقبة، قيصري- تركيا، ط1، 1422هـ= 2001م، (3/ 1945).
[5] ينظر: فهرس المكتبة، برقم: (282).
[6] ينظر: فهرس المكتبة، ص257.
[7] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن محمد بن إبراهيم، ابن خلكان (ت: 681هـ)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1، 1900م- 1994م، (3/ 243).
[8] فتاوى ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (ت: 643هـ)، تحقيق: د. موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب- بيروت، ط1، 1407هـ، (1/ 141).
[9] التفسير الوجيز، عثمان بن عبد الرحمن، ابن الصلاح (ت 643هـ)، (مخطوط) نسخة مكتبة وليّ الدين أفندي، تركيا، برقم (282)، (186/ و).
[10] فتاوى ابن الصلاح (1/ 142).
[11] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (98/ ظ).
[12] فتاوى ابن الصلاح (1/ 146).
[13] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (27/ و).
[14] فتاوى ابن الصلاح (1/ 151).
[15] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (245/ ظ).
[16] فتاوى ابن الصلاح (1/ 151).
[17] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (245/ ظ).
[18] شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي (ت 1089هـ)، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، ط1، 1406هـ= 1986م، (7/ 384).
[19] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (113/ ظ).
[20] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (60/ ظ).
[21] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (24/ و).
[22] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (119/ و).
[23] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (124/ ظ).
[24] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (122/ ظ).
[25] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (122/ و).
[26] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (112/ و).
[27] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (14/ و).
[28] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (30/ ظ).
[29] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (35/ ظ).
[30] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (40/ و).
[31] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (40/ ظ).
[32] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (40/ ظ).
[33] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (45/ و).
[34] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (47/ ظ).
[35] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (49/ و).
[36] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (105/ ظ).
[37] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (105/ ظ).
[38] تذكرة الحفاظ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْمَاز الذهبي (ت 748هـ)، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1419هـ= 1998م، (4/ 149).
[39] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (50/ ظ).
[40] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (229/ و).
[41] أخرجه البخاري في صحيحه برقم (7434)، (554)، وأخرجه أيضًا مسلم في صحيحه برقم (633).
[42] التفسير الوجيز، ابن الصلاح (107/ ظ).