توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير عند الصحابة
أوجه التوظيف ومن قاموا به

تعدّ السِّيَر والمغازي أحد المصادر المهمّة في تفسير القرآن الكريم، وهذه المقالة تتناول توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير عند الصحابة من خلال بيان أوجه هذا التوظيف ومَنْ قاموا به من الصحابة، بعد تمهيد في إبراز فكرة توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير.

مدخل:

 الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

  فتعدّ السِّيَر والمغازي أحد المصادر المهمّة في تفسير القرآن الكريم، وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها -كغيرها من مصادر التفسير- لم تلقَ عناية بدراستها من خلال تطبيقاتها في كتب التفسير ومن ثمَّ بناء القواعد والأحكام النظرية المتعلّقة بها انطلاقًا من تطبيقات المفسِّرين.

ولذا أردنا في هذه المقالة أن نتناول مسألة من أبرز المسائل المركزية التي تتعلّق بهذا المصدر من مصادر التفسير، وهي مسألة أوجه توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير، من خلال تفسير الصحابة -رضوان الله عليهم- نظرًا لمركزية تفسير السَّلَف وأهميته.

وتأتي مقالتنا مقسومة إلى قسمين؛ نبيّن في القسم الأول منها أوجه توظيف الصحابة للسِّيَر والمغازي في التفسير، ونرصد في القسم الثاني منها مَن حضر عندهم توظيف السِّيَر والمغازي من الصحابة ومقدار الروايات عندهم التي لها تعلّق بهذا الأمر. وذلك بعد تمهيد نبرز فيه فكرة توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير وحدود تناولنا للمسألة في المقالة وطريقتنا في ذلك.

تمهيد:

 اعتمد الصحابة في تفسيرهم للقرآن على عدد من المصادر؛ كالنظائر القرآنية وأسباب النزول واللغة العربية والأخبار وغيرها، وتأتي فكرة المقالة في تسليط الضوء على إحدى المسائل المركزية المتعلّقة بمصدر السِّيَر والمغازي في التفسير عند الصحابة، وهي مسألة أوجه توظيفهم للسِّيَر والمغازي في التفسير.

وقد سلكنا في جمع المرويات التي جاء فيها توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير عند الصحابة منهجًا استقرائيًّا دقيقًا، وفصَّلنا منهجنا وطريقتنا في الاستقراء والجمع في دراستنا: (المفسِّرون من الصحابة -جمعًا ودراسة وصفية-)[1].

تعدّ السِّيَر والمغازي أحد أقسام علم التاريخ إلا أنها خاصّة بنوعٍ معين من التاريخ وهو الأخبار الخاصة بالغزوات التي خاضها النبي -صلى الله عليه وسلم-[2]، وهو مقصودنا في هذه المقالة.

ويجدر بنا أن ننبّه على أن التفسير عملية مركّبة من عدّة عوامل تسهم في إنتاج ثمرته النهائية[3]، ونعني بذلك أن الصحابي مثلًا عندما يوظّف السِّيَر والمغازي في التفسير فيما يظهر لنا من خلال فهمنا لكلامه فإنه في الحقيقة لم يقتصر على توظيف السِّيَر والمغازي فقط، وإنما هناك موارد كامنة أسهمتْ كذلك في إنتاج الصحابي لهذا المعنى أو غيره كاستخدامه للغة فهو حتمًا قد وظَّف اللغة في إنتاجه لذلكم المعنى، أو السياق، بالإضافة إلى ما يظهر لنا من توظيفه للسِّيَر والمغازي، فهي عملية مركّبة، ولكن لا سبيل لنا إلى دراسة تلك الموارد سوى عن طريق إفراد كلّ موردٍ وحده من خلال جمع مروياته والنظر فيها.

وقبل أن نشرع في بيان أقسام المقالة فمن المهم الإشارة لكوننا لم نقف -فيما طالعناه- على دراسات علمية اعتنت بدراسة أوجه توظيف المفسِّرين للسِّيَر والمغازي بصورة تطبيقية. 

وأمّا أهمية دراسة أوجه توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير فتبرز من خلال الآتي:

1- تحديد أوجه توظيف المفسِّر للسِّيَر والمغازي في التفسير بصورة دقيقة:

إنّ الاستقراء التام لكافة الروايات والمواضع التي وظَّف فيها المفسِّر السِّيَر والمغازي في التفسير يتيح لنا الوقوف بدقّة على هذه الأوجه، وتحديد أيّ هذه الأوجه أكثر حضورًا عند المفسِّر، ما ينعكس على اكتشاف وبيان كثير من المسائل المركزية في التفسير؛ كمفهوم التفسير والحيثيات المكونة له في الكتب على اختلاف الأزمنة والمناهج والمقاصد.

2- معرفة منهج المفسِّر في توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير:

إنّ مِن أبرز الانعكاسات على دراسة أوجه توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير بصورة دقيقة عند المفسِّر أنها توقفنا على منهج المفسِّر وطريقته في هذا التوظيف بصورة واقعية من خلال تفسيره، بعيدًا عن تحكيم أيّ تنظيرات مسبقة لم تخرج من رحم كتابه، وبذلك نقف على المنهج الحقيقي للمفسِّر.

3- بناء أصول التفسير وقواعده:

يعدّ بناء أصول التفسير وقواعده مشغلًا من أهم المشاغل في حقل الدراسات القرآنية، وقد أبانت بعض الدراسات عن وقوع إشكالات مركزية في بنائه المعاصر[4]، وإنّ دراسة أوجه توظيف المفسِّر للمصادر في تفسيره بصورة منهجية دقيقة لمن أهم الخطوات وأبرزها في الخطو إلى التأصيل الجيد والبناء الدقيق لأصول التفسير وقواعده حال القيام بها عند كافة المفسِّرين وخاصة المؤسِّسين والروّاد منهم في صناعة التفسير.

القسم الأول: أوجه توظيف الصحابة للسِّيَر والمغازي في التفسير:

بلغت المرويات التي وظّف الصحابة فيها السِّيَر والمغازي في التفسير (42) رواية، جاءت كلّها في بيان المعنى، ومن أمثلتها ما يأتي:

1- عن ابن عباس، قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: 152]، «فإنّ أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال، حتى نزل أُحُدًا، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأذّن في الناس، فاجتمعوا، وأمَّر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد ابن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللواء رجلًا من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير، وقال: استقبِل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك، وأمَرَ بخيلٍ أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم، وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الزبير أن يَحمِل، فحَمَل على خالد بن الوليد، فهزمه ومَن معه»، كما قال: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 152]، «وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم، وأنه معهم»[5].

2- عن عبد الله بن مسعود قال: «‌لقد ‌قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلتُ لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، قال: فأسرنا رجلًا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا»[6].

3- عن عبد الله بن مسعود، «في قَوْله: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ قَالَ: كَانَت بدر لسبع عشرَة مَضَت من شهر رمَضَان»[7].

4- عن عبد الله بن عباس، قوله: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [الأحزاب: 9] الآية، قال: كان ‌يوم ‌أبي ‌سفيان يوم الأحزاب»[8].

القسم الثاني: الذين قاموا بتوظيف السِّيَر والمغازي من الصحابة رضي الله عنهم:

جاء توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير عن اثنين من الصحابة، وهما عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وجاء أكثرها عن ابن عباس حيث ورد عنه (38) رواية، وأمّا ابن مسعود فجاءت عنه أربع روايات.

وهذه الكثرة الواردة عن ابن عباس في توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير ليست بغريبة؛ فقد كان متضلعًا بمعرفة السِّيَر والمغازي وكان يعلِّمها ويخصّص لها يومًا في دروسه[9]، وكانت عناية ابن عباس بالمغازي في وقت مبكّر منذ أن كان شابًّا، يقول: «كنتُ ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما نزل من القرآن في ذلك»[10].

خاتمة:

سلّطنا الضوء في هذه المقالة على مسألة مركزية في مصادر التفسير، ألا وهي مسألة أوجه توظيف السِّيَر والمغازي في تفسير القرآن الكريم، بالنظر في مرويات الصحابة رضوان الله عليهم، وقد بلغت مرويات توظيف السِّيَر والمغازي في التفسير عند الصحابة اثنتين وأربعين رواية، وبلغت أوجه توظيفهم للسِّيَر والمغازي في التفسير وجهين، وهما: بيان المعنى، وبيان المعنى بذكر قصة، وجاءت أكثر هذه الروايات عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.

وننبّه على أن ما ذكرناه في هذه المقالة إنما هو لبنة أُولى في دراسة أوجه توظيف الصحابة للسِّيَر والمغازي في التفسير، وأن هذا الموضوع بحاجة إلى تكثيف الدراسات التحليلية حوله لتدقيق النظر في الأوجه التي ذكرناها، والتي يمكن تفريع بعضها إلى عدّة أوجه أكثر دقّة، وكذا إعادة النظر فيها بصورة عامة من خلال الدراسة التحليلية المعمقة.

ومن خلال مقالتنا هذه ندعو المؤسّسات العلمية والبحثية والجامعات إلى العناية بدراسة أوجه توظيف السَّلَف بصورة عامة لمصادر التفسير دراسة تحليلية، وكذلك دراسة أوجه توظيف المفسِّرين لمصادر التفسير في تفاسيرهم، فهذه من المشاريع الرائدة شديدة الأهمية والتي تسهم بصورة كبيرة في تأسيس أصول التفسير ومعرفة مناهج المفسِّرين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

[1] ينظر: المفسِّرون من الصحابة جمعًا ودراسة وصفية، د/ عبد الرحمن المشد، إصدار مركز تفسير للدراسات القرآنية، عام 1437هـ= 2016م، (1/ 11- 34).

[2] يقول الطناحي: «المقصود بمصطلح السيرة النبوية هو ما يتصل بسيدنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من حيث الحديث عن نسَبه الشريف، ومولده ونشأته، وبعثته، وصفاته، وتصرّف أحواله إلى أن لقي ربه راضيًا مرضيًّا بعد أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وترك أمّته على مثل المحجة البيضاء، فهذا هو الأصل في مصطلح (السيرة النبوية)، لكنه قد استعمل أيضًا مضافًا إليه حديث المغازي والحروب التي خاضها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإعلاء كلمة الله في الأرض، فصار هذان المصطلحان يتعاقبان على موضوع واحد، فكتاب ابن إسحاق يقال له: السيرة، ويقال له: المغازي، وقد جمع بعض المؤلِّفين المصطلحين في العنوان الذي اختاره لكتابه، كما ترى في كتب ابن عبد البر، وابن الجوزي، وابن سيد الناس، على أن هناك بعض الكتب التي تنصرف خالصة إلى السيرة النبوية بمعناها الأصلي الذي ذكرته، وذلك ما عرف بكتب دلائل النبوة، والشمائل، والخصائص» (الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم، لمحمود الطناحي، ص34).

[3] وللتوسّع في معرفة هذه الفكرة يمكن الرجوع إلى: (منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته -محمد عناية الله أسَد سُبحاني أنموذجًا-) للباحث/ خليل محمود اليماني، وهو بحث منشور على موقع مرصد تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3871

[4] ينظر: (تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثًا؛ قراءة في منهجية التأسيس، مع طرح مقاربة منهجية لتأسيس العلم) للباحث/ خليل اليماني، وهو بحث منشور على موقع تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/research/67
- (أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة)، إصدار: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- (التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقديّة لمنهجية الحكم بالقاعدية)، إصدار: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- ويمكن متابعة السجال الحاصل في قضية أصول التفسير ومناقشتها من خلال مطالعة المواد التي اشتمل عليها ملف أصول التفسير وقواعده من خلال الرابط الآتي: tafsir.net/article/5356

[5] أخرجه الطبري في جامع البيان (6/ 130- 131).

[6] أخرجه الطبري في جامع البيان (5/ 251).

[7] عزاه السيوطي في الدر المنثور لسعيد بن منصور ومحمد بن نصر والطبراني (4/ 71).

[8] أخرجه الطبري في جامع البيان (19/ 29).

[9] ينظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 368).

[10] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 371).

الكاتب

الدكتور عبد الرحمن المشدّ

حاصل على دكتوراه التفسير وعلوم القرآن من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))