قراءات المنهجية القرآنية (3- 4)
المنهجية القرآنية عند طه العلواني
ثانيًا: مقاصد العلواني وإعادة بناء علوم الأمة
في هذا المقال نواصل تناولنا لخطاب المفكِّر العراقي طه جابر العلواني، فبعد تناوُلِ تأسيسه لمفهوم حاكمية الكتاب بما يتضمّنه من وحدة القرآن البنائية وتفرّد اللسان القرآني، نتناول هنا رؤيته للمقاصد القرآنية ودورها ضمن خطابه وضمن رؤية مدرسة القراءات القرآنية بل ومدرسة الأسلمة في العموم، كما نحاول بيان الحدود المنهجية لقراءة العلواني للقرآن.
تمهيد:
فكرة (الجمع بين القراءتين) هي فكرة محورية ودعامة أساس في بناء (المنهجية المعرفية القرآنية) التي تحاول (قراءات المناهج القرآنية) اكتشافها وبلورتها كحلّ ومخرج من الأزمة العالمية (المنهجية)، ومحورية هذه الفكرة - المُحدِّد المنهجي تأتي من قدرتها على تحقيق التجاوز الذي تريده هذه القراءات عبر طرحها (المنهجية القرآنية) لإشكالات وأزمات المناهج الإسلامية الموروثة والمناهج الغربية المعاصرة، حيث تَعتبِر هذه القراءات أنّ كلّ نظام معرفي من هذين النظامَين وفي بنائه منظومته المعرفية بل والحضارية =قد تجاهل أو أهمل إحدى القراءتين المأمور بهما قرآنيًّا -كإحدى دعامات منهجيته المعرفية- وركَّز فحَسْب على القراءة الأخرى مما أدَّى به للإخفاق ولغياب التكامل، فالتراث الإسلامي وَفقًا لهذه القراءات قد ركَّز على قراءة (الكتاب المسطور) وتجاهل (الكتاب المنظور) حتى «سقط في إلغاء الفعَّالية الإنسانية، ونفى إرادة الإنسان واختياره واستلبه استلابًا لاهوتيًّا كهنوتيًّا»[1]، في حين ركَّز النظام المعرفي الغربي على قراءة الكتاب المنظور فقطع الصِّلة بين العالم وما وراءه وانتهى إلى تعضية الوجود الكوني ذاته وتجزئته المفضية لعدم القدرة على إدراك «حقيقة المُركَّب»[2].
و(الجمع بين القراءتين) كحلّ لهذه الإخفاقات لا يعني من منظور هؤلاء إضافة القراءتين إلى بعضهما، بل تعني تغييرًا في طبيعة كلّ قراءة من حيث علاقتها بالقراءة الأخرى؛ لذا فإن هذه القراءات لا تنطلق في محاولتها تجاوز عيوب وأزمات المنظومات المعرفية السابقة من محاولة إضافة المنهجية التراثية إلى منهجية العلوم الغربية، بل من محاولة إعادة بناء العلوم الإسلامية التراثية والغربية المعاصرة انطلاقًا من قاعدة جديدة هي تفعيل الارتباط (المُغيَّب) بين القراءتين، فـ(الجمع بين القراءتين) يعني في عمقه الجمع الأصيل التركيبي لا الإضافة التلفيقية بين: الشهادة والغيب، الواقع وما وراءه، الدنيا والآخرة، النظر والعمل، وتجاوز «القراءة التجزيئية أو المعضاة»[3] للكون وللوحي، والتخلّص من تلك الانفصامات المُصطَنَعَة بين حدود الوجود الإنساني، كأساسات للحلّ الشامل الذي ينقذ الإنسان في وجوده الكلي.
لهذا وبسبب هذه الأهمية لـ(الجمع بين القراءتين) كمُحدِّد منهجي يُحقِّق رهانات أساسية في (قراءات المناهج القرآنية) فإننا نجد أنّ مساحة أساسية من مساحات اشتغال طه جابر العلواني -والذي اعتبرنا أنّ له موقعًا مهمًّا في هذه القراءات بتأسيسه كثيرًا من أفكارها- تتحرّك في إطار محاولة تأسيس هذه الفكرة - المُحدِّد المنهجي وفي محاولة مدّ آفاقها واكتشاف فعَّاليتها ومدى قدرتها على تحقيق تلك الرهانات التي تُحمَّل بها في استيعاب المنظومتين المعرفيتين الإسلامية التراثية والغربية المعاصرة وتجاوزهما، بل وفي تحقيق رهانات أخرى لها كذلك أهميتها في سياق (قراءات المناهج القرآنية) وفي سياق المشروع الأشمل المُؤسِّس والمُؤطِّر لها، أي (أسلمة العلوم)؛ مثل (طرح طريقة جديدة للتعامل مع النص القرآني)، ومثل (إعادة بناء علوم الأمة على أساس قرآني).
وبالإضافة لأهمية هذه الفكرة - المُحدِّد المنهجي في سياق قراءات المناهج القرآنية في العموم، فإن ثمة أهمية كبيرة وخاصّة لها في خطاب العلواني تجعله يهتم بها اهتمامًا أكبر، فكما أشرنا في المقال السابق فلهذه الفكرة أثر حاسم على تشكيل فكرة (الوحدة القرآنية) في خطاب العلواني، فهذه (الوحدة القرآنية) التي طالما تم تداولها في عدد واسع من الكتابات والدراسات القرآنية المعاصرة على خلاف منطلقاتها تأخذ خصوصيتها في خطاب العلواني؛ لا فقط من كونها إحدى سمات (حاكمية القرآن) -الطبيعة/ الموقع الجديد للنص-، بل كذلك من كونها وفي إطار انطلاقها من (الجمع بين القراءتين) تتخطى مجرد كونها (وحدة بنائية داخلية)، لتفتح القرآن على الكون - الواقع وعلى بنائيته، فتتحول لـ(وحدة مقاصدية)، بمعنى خاص جدًّا للمقاصد يجعلها (توجيهًا ابتدائيًّا كُلِّيًّا، وهيمنة قرآنية قيمية على مجمل مناشط الفعل الإنساني في عالم التشيّؤ). وهذا يجعل لفكرةِ (الجمع بين القراءتين) وعبر تحويلها هذا لمفهوم الوحدة وعبر فتحها النصّ القرآني على الكون وعلى الواقع (التقصيد) وعلى القارئ (التدبُّر) =القدرةَ على تحقيق الكثير من رهانات خطاب العلواني وبلورة الكثير من أبعاده.
سنحاول في هذا المقال تتبع كيفية تأسيس العلواني لهذه الفكرة (الجمع بين القراءتين)، وموقعها المهم في خطابه، وكيف حوَّلت هذه الفكرة- المُحدِّد تصوّره للوحدة القرآنية -كإحدى سمات النصّ المُودَعَة فيه والتي تعطيه حاكميته- لـ(وحدة مقاصدية)، هذه (الوحدة المقاصدية) التي نعتبرها -وكما سنوضح- البلورة الأهم والأكثر تكثيفًا لمشروعه، والطريق لتحقيق رهانات هذا المشروع الرئيسة؛ (بلورة المنهجية المعرفية القرآنية ولبِناتها المفاهيمية)، و(بيان حاكمية القرآن)، و(إعادة تأسيس علوم الأمة)، و(تأسيس منهجية تدبُّر القرآن).
كما سنحاول في هذا المقال تبيّن مدى حدود هذا التأسيس الذي قام به العلواني للإطار المنهجي لـ(قراءات المناهج القرآنية)، لحاكمية القرآن ولسماتها (الوحدة) و(تَميُّز اللسان القرآني)، ولـ(الجمع بين القراءتين)، فظنّنا أن هذا يفتح لنا أفق التفكير في موقع هذه القراءات على خريطة الدراسات القرآنية المعاصرة ومآلاتها ومصائرها.
الجمع بين القراءتين والوحدة القرآنية المقاصدية، «التقصيد» و«التدبُّر»:
كثير من كتابات العلواني تدور حول هذه الفكرة - المُحدِّد المنهجي، حتى لقد خصَّص لها كتابًا مفردًا لبيانها وبيان آفاقها، هو كتاب (الجمع بين القراءتين؛ الوحي والكون)، ويُبرِز العلواني مدى أهمية هذا المُحدِّد عبر تأكيده ومن مفتتح كتابه كون الأمر بالقراءتين هو أول أمر تنزَّل به القرآن على النبي، حيث إنّ آيات سورة العلق الخمس الأولى والتي هي أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5]،«تأمر بالقراءة الكونية إلى جانب قراءة الكتاب المنزَّل، فهي تأمر بقراءة كتاب الله المسطور باسم الله، وتأمر بقراءة الخلق وقراءة حياة الإنسان من بدايتها وإلى نهايتها، وقراءة تراث الأمم، وكلّ ما يتعلق بعالم التشيّؤ/ عالم الشهادة/ عالم الفعل الإنساني.
وكما قلنا فإن الاقتصار على إحدى القراءتين وإهمال الأخرى يفضي لعدد من الأزمات ولضياع التكامل المطلوب، فمَن «تجاوزَ القراءة الأولى في الوحي النازل إلى النبيين، واستغرقَ استغراقًا كليًّا في القراءة الثانية التي تمثّل علم الكون أو معارف الطبيعة منقطعة عن الله فقَدَ العلاقةَ بالله وتجاهلَ الغيب وانطلق بفلسفة إنسانية مستقلة وَضْعية منبتّة عن الله، عوراء قاصرة في مصادرها، وتحاول أن توحّد بين الإنسان والطبيعة بإطلاق، وتَعُدّ الخالقَ والغيب كلَّه مجرّد ماورائيات أو ميتافيزيقيا يمكن تجاهلها أو تجاوزها»[4]،كما أنّ إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المُسخَّرة فإنه يؤدي «إلى نفور من الدنيا واستقذار لها ولما فيها، يشلّ طاقات الإنسان العمرانية والحضارية ويعطّله عن أداء مهام الخلافة والأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير، ويعطّل فكره وينقص من قيمة فعله، بل قد يلغي إدراكه لفعله فلا يرى الإنسان نفسه فاعلًا في شيء، ولا يرى لوجوده في الكون معنى عمرانيًّا، وكلّ هذه الأفكار منافية تمامًا لمنهج القرآن العظيم»[5].
لكن هذه الفكرة وكما قلنا لا تقتصر على كتاب أو اثنين من كتب العلواني كما لا يقتصر تعامل العلواني معها على إثبات أحقيتها المبدئية، بل هي فكرة ثاوية في معظم جنبات هذا الخطاب، بحيث يكون خطاب العلواني في كثير من أبعاده كشفًا لفعاليتها في كلّ المساحات.
فهذه الفكرة - المُحدِّد المنهجي وحين يستحضرها العلواني في التعامل مع النصّ القرآني كدعامة لمنهجيته، فإنها باتساعها وشمولها لعالم التشيّؤ والصيرورة، تجعل فكرة (الوحدة القرآنية) تنتقل من كونها وحدة مقصورة على داخلية النص -بنائية أو نسقية أو موضوعية أو عضوية- لتكون أساسًا لانفتاح القرآن على الكون واستيعابه له، وهذا عبر وساطة المفاهيم المركزية في هذا الكتاب الحاكِم والمُحكَم، أيْ تلك المفاهيم التي تُمثِّل مقاصده وغاياته، {أُمّ الكِتَابِ}، التي ينبغي اتباعها لتجنب الزيغ. وهي مفاهيم خمسة أَطلق عليها العلواني: المقاصد العليا الحاكمة للقرآن، وهي: (التوحيد) و(العمران) و(التزكية) و(الأمة) و(الدعوة).
فهذه المفاهيم أو القيم المركزية القرآنية الخمس هي التي تُبرِز هيمنة وحاكمية الكتاب المُطلق وانفتاحه على العالم عالم التشيّؤ والصيرورة النسبي واستيعابه له، عبر كونها قيمًا تستوعب وتُوجِّه الفعل الإنساني في هذا العالم في كافة مناحيه، في علاقاته العمودية والأفقية، فالعلاقة بالله يُؤسِّسها ويُوجِّهها التوحيد، والعلاقة مع الطبيعة يُؤسِّسها ويُوجِّهها العمران، والعلاقة مع الذات يُؤسِّسها ويُوجِّهها التزكية، والعلاقة مع المؤمنين تُؤسِّسها تُوجِّهها الأمّة[6] (بالمعنى الذي ذكرنا في المقال السابق، كمفهوم عقدي وانتماء إرادي وقيام بمسؤولية الشهادة)، والعلاقة مع غير المؤمنين تُؤسِّسها وتُوجِّهها الدعوة، وبهذا يستوعب القرآن مجمل مناشط الفعل الإنساني في العالم عبر قيمه الحاكِمة.
وهذه القيم الخمس الناتجة من قراءة الوحدة في إطار (الجمع بين القراءتين) والتي تعمل على تعدية النصّ القرآني لعالم الصيرورة مع حفاظه على إطلاقيته ككلمة الله المتجاوزة للزمان وللمكان والمُؤسِّسة والمُوجِّهة للفعل الإنساني، هي كذلك التي تضمن تَكثُّر المعنى مع واحديته وإطلاقيته، وهذا عبر كونها آلية استدخال واستلهام يقوم بها المسلم في تدبُّره -حسَب سياقاته الخاصّة- للنصّ القرآني المُنفتِح بذاته على الكون وعلى مدارك الإنسان حين يتم تطهيرها واستجماعها لتلقي النصّ القرآني[7].
بهذا تكون (الوحدة القرآنية) بسماتها الخاصّة التي تعطيها لها (الجمع بين القراءتين) كـ(وحدة مُنفَتِحة عبر المقاصد/ القيم)، وكما أنها أساس (التقصيد) كاستيعاب القرآن لعالم الصيرورة وتوجيه الفعل الإنساني فيه، فإنها كذلك هي أساس (التدبُّر) كانفتاح من القرآن على القارئ وواقعه واستيعاب لسياقاته.
ورغم أنّ مصطلح التدبُّر وحين يُطلَق فإنه كثيرًا ما يثير في الأذهان صورة لتعامل غير منضبط علميًّا مع النصّ، في مقابل التعامل التفسيري القواعدي المنضبط، إلا أنّ هذا المعنى ليس هو المقصود حين يطلق هذا المصطلح عند العلواني، حيث لا يريد العلواني للتدبُّر أن يكون نتيجة للتفسير ولا أن يكون نشاطًا غير منضبط مجاورًا للتفسير -كما عند الخميني مثلًا[8]-، بل ربما يريد له العلواني أن يكون (بديلًا للتفسير)، وهذا يعني أن التدبُّر عند العلواني لا ينفلت من المنهج، بل يقرب من أن يكون نظامًا خاصًّا له منهجيته الخاصّة، والمُتغرسة في مفهوم جديد تطرحه قراءات المناهج القرآنية للفهم يربط النظر بالعمل، ومن تعاملٍ جديد مع النص ينتقل من التعامل الأحادي معه الذي ساد في التراث التفسيري التجزيئي تحديدًا[9] إلى التعامل الحواري، ودلالة جديدة للمعنى القرآني تجعله معنى منفتحًا على الكون وعلى الإنسان مُستوعِبًا لهما مُؤطِّرًا لحركتهما.
في هذا السياق حاول العلواني بالفعل بلورة بعض المداخل المنهجية لضبط فعل (التدبُّر)، ومصدره في هذا تلك الطرائق التي حدَّدها القرآن كي يُقرأ بها، وتلك الأوصاف التي وُصِف بها دومًا (في مواجهة قارئه)، أيْ وصفه في علاقته بقارئه، مثل المُخرِج من الفتن، والمُنقِذ من الضلال، والهادي من الظلمات، والمُتجاوِز للأزمات[10]، كذلك عن طريق استقراء المداخل المنهجية التي اتبعها المسلمون طوال هذه العصور ومحاولة الإفادة منها والإضافة عليها.
يرى العلواني أنّ من المداخل الرئيسة لتدبُّر القرآن =المدخل الذي مارسه جيل التلقي والمدخل الذي مارسه جيل الرواية والنقل، ويُعنوِن ممارسة الجيل الأول بأنها «مدخل الأزمات والأسئلة»[11]، حيث إنّ المسلمين الأوائل الذين عاصروا تنزّل القرآن، عاصروا تنزّل القرآن لحلّ الكثير من الإشكالات والأزمات الطارئة، ويرى العلواني أنّ على المسلمين المعاصرين أن يبلوروا إشكالاتهم وأزماتهم ويذهبون بها إلى القرآن (النبي المقيم) والكلمة الباقية تأسّيًا بهذا المدخل الأساس في تدبُّر القرآن، ويُعنوِن مدخل الجيل الثاني بـ«مدخل المنهج»[12]، حيث يَعتبر أن علماء هذه الفترة وحين كانوا يجمعون سُنّة النبي، كانوا يجمعونها بحثًا عن المنهجية التي يتعاملون بها مع القرآن والتي يُجسِّدها النبيّ بأفعاله وأقواله التي هي تطبيق القرآن، فسُنّة النبيّ هي بيان منهج تنزيل القرآن على الواقع، ومن هذه الجهة فحَسْب هي واجبة الاتّباع، أمّا الجيل الثالث وهو ما يسميه العلواني بـ«جيل الفقه»، فقد سيطرت عليه وعلى الفكر الإسلامي من لحظته ما يسميه العلواني «مدخل استخراج الأحكام»[13].
ونرى أنّ العلواني يشير لأنواع التفسير الشهيرة، مثل: (التفسير الإشاري) و(التفسير الخبري) وغيرهما، كمداخل مفيدة في فعل التدبر، ويضيف إلى كلّ هذه المداخل مدخل القيم العليا الخمس الحاكمة، وبعض المداخل المتفرّقة، مثل: (مدخل العبودية والألوهية)، و(مدخل التدافع بين الحق والباطل)، و(مدخل قيام الحضارات وتراجعها)، و(مدخل تصنيف البشر بحسَب موقفهم من الرسل والأنبياء)، و(مدخل الأزمة: تفكّك الأسرة، تلوّث البيئة، الحروب والصراعات).
لكن الأهم في هذه المداخل هو كونها -وكما يبدو تمامًا- مداخل غير نهائية، بل هي مداخل مُقترَحَة، بمعنى أنها مفتوحة على الزيادة وعلى التخصّص بالواقع الخاصّ لكلّ فرد ولكلّ زمان ومكان، لكن الضابط الأساس لها يظلّ هو تحويل العلاقة مع القرآن لعلاقة حوار، حيث ينطلق المسلم إلى النصّ من خلال إشكالاته الخاصّة وأسئلته المُلِحَّة بحثًا عن حلّ من خلال هذا الكتاب.
هذا التحويل للعلاقة مع القرآن والذي يقوم به العلواني عبر تشغيل (وحدته القرآنية) المُتحركة في إطار الجمع بين القراءتين «كوحدة مُنفَتِحَة على القارئ مستوعبة لسياقاته»، له أهمية كبيرة في سياق تأسيس بناء (قراءات المناهج القرآنية)، حيث له علاقة بموقع القرآن في هذه القراءة كحلّ مُقتَرَح للأزمة العالمية، فكما يفرض هذا الحل ضرورة بلورة طبيعة/ موقع جديد للنصّ (حاكمية الكتاب)، يُبرِّر طرح القرآن بالذات كحلّ حصري للأزمة، فهو كذلك يفرض تغييرًا للعلاقة بين القارئ والقرآن، ويُحتِّم اقتراح علاقة جديدة هي (الحوار) الواثق في مقاصدية/ انفتاح/ استيعاب النصّ القرآني لعالم الفعل الإنساني، هذه العلاقة التي تبدو أهميتها ومركزيتها من كونها أحد عناوين كتابات العلواني «حوار مع القرآن».
مقاصد القرآن عند العلواني وإعادة تأسيس العلوم:
رغم أنّ المقاصد ربما تكون من أكثر الموضوعات المطروحة على الفكر العربي المعاصر، بمجمل تياراته، سواءٌ أكانت إسلامية تقليدية أو إسلامية غير تقليدية أو حداثية؛ فهذا العلم التراثي المُعاد اكتشافه بالأساس في عصر النهضة العربي، قد خضع في العقود الأخيرة لما يمكن اعتباره انعطافة مقاصدية معاصرة، وهي انعطافة تتم بالأساس على مستوى الأهداف والرهانات والمنطلقات المُؤطَّر فيها هذا العلم، وإن لم يقابلها بالضرورة انعطافة في مستوى الأدوات والتقنيات المنهجية المفضية لضبط فعل التقصيد[14].
نقول أنه بالرغم من هذا الحضور الواسع مُتعدِّد المنطلقات للمقاصد في الفكر العربي المعاصر إلا أننا نستطيع القول أنّ (مقاصدية القرآن) عند العلواني لها أبعادها الخاصّة في هذا السياق، وهذا انطلاقًا من خصوصية الوظائف التي يمنحها لهذه المقاصدية موقعه في قراءات المناهج القرآنية، فمقاصدية القرآن عند العلواني هي في ظنّنا نتاج لهذا الموقع بكلّ أبعاده وبلورة وتكثيف لمجمل أبعاد مشروعه، فـ(المقاصد القرآنية الخمسة) وبالإضافة لما وضّحنا منذ قليل من أنها؛ (بيان لتركيبية الوحدة القرآنية)، و(تحقيق لتعدية النصّ القرآني)، و(أساس لفعل التدبّر ولتغيير العلاقة مع النصّ)، فهي أيضًا أساس أحد الرهانات المركزية في خطاب طه العلواني كما في خطاب السياق المعرفي الأشمل لظهور القراءات القرآنية، أي: مشروع الأسلمة، ألا وهو رهان (إعادة بناء علوم الأمة).
فهذا العنوان الواسع والذي لم يُرْضِ الكثيرين من علماء الأصول والفقهاء «إعادة بناء علوم الأمة»، يجد بلورته هنا في محاولة العلواني تأسيس مقاصدية جديدة يتجاوز بها علم المقاصد التقليدي، فلأنّ علم المقاصد من جهة هو علم تراثي يهدف بالأساس لضبط المنهج الأصولي وتجاوز ظنّيته وإعادة تأسيسه على قاعدة أكثر يقينية وكلية[15]، مما يجعله علمًا منهجيًّا بالأساس بين علوم المدونة التراثية، وكذا لأنّ مقاصد العلواني المراد تأسيسها هي مقاصد قرآنية يُقصد أن تكون كلية وابتدائية ومُهيمِنَة وشامِلة ومُنبَثِقة من خصائص الشريعة الخاتِمة، فهذا يعني أنّ إعادة العلواني بناء هذا العلم تحديدًا، هي إعادة بناء لمنهجية العلوم التراثية على أساس قرآني، وهو ما يطمح إليه العلواني ومن قبله روّاد الأسلمة.
وكما قلنا مسبقًا فإن الانتقاد الأساس الذي يُقدِّمه العلواني للمدونة التراثية وعُدّتها المنهجية في التعامل مع القرآن، هو كونها تستخدم آليات تجزيئية ومُعضية للنصّ القرآني، فقد سيطر على العقل الإسلامي وفقًا للعلواني بعض المساوئ المنهجية التي أوقعته في الجزئية وأبعدته عن إدراك المقاصد والغايات الثاوية في النصّ وفي خصائص الشريعة المحمدية، منها: «هيمنة النظر الفقهي الجزئي، سيطرة اتجاه القراءة المنفردة للوحي، التركيز على الأدوات اللفظية أو السياق اللغوي، عدم اعتبار خصائص الشريعة الإسلامية محددات منهاجية، وسيطرة القياس الذي لا يمكنه أن يفيد إلا في الانتقال من جزئي إلى جزئي»[16]. لذا فإن الاهتمام بالمقاصد انحصر وَفقًا للعلواني في «بعض الأعلام المجتهدين بشكل نظري ومعزول، ولم تترتب عليه النقلة المنهجية والإبستمولوجية المنتظرة».
ورغم أن علم المقاصد ببحثه عن المقاصد العليا للشريعة ليضبط بها الممارسة الفقهية وممارسة استخراج الأحكام، وبحثه عن النصوص الكلية ليضبط بها فهم النصوص الجزئية، يكون بقدرٍ كبيرٍ قد تجاوز هذه التجزيئية التي يرفضها العلواني، إلا أنّ العلواني لا يعتبر أن هذا العلم استطاع تجاوز الإشكال الأساس لمنهجية هذه المدونات، وهو إشكال عدم الانطلاق من (المنهجية المعرفية القرآنية)، حيث يرى العلواني أنّ المقاصد الخمسة التي قال بها الفقهاء والمقاصديون سيطرت عليها نظرية وخطاب التكليف، و«أنّ تلك المقاصد التي بلورها الغزالي والقرافي والعزّ والشاطبي ظلّت متناثرة تحيط بها جزئيات كثيرة جعلت من السهل احتواؤها في ثنايا القياس أو المصلحة أو إلحاقها بفضائل الشريعة ومناقبها، فضلًا عن دورانها في إطار بيان فضائل الشريعة وعقلانية أحكامها»[17]، وهذا لأنّ بلورة هذه المقاصد تمّت بنفس الآلية التجزيئية ولـمَّا تقُم على آلية قراءة جديدة تنطلق من حاكمية الكتاب الإنشائية والابتدائية والكشفية[18] و(من الجمع بين القراءتين) كمُحدِّد منهجي ودعامة أساس لهذا المنهج[19].
لذا ينطلق العلواني في تأسيس رؤيته من ضرورة البدء من القرآن ومنهجيته ومفاهيمه المركزية باعتبارها هي أساس بلورة المقاصد، فهذا هو ما يضمن إعادة بناء هذا العلم على أساس قرآني كلِّي وشامل.
وحين تتأسّس منظومة المقاصد على (منهجية القرآن المعرفية) التي تعيد للقرآن ابتدائيته وحاكميته، لا تنضبط فحَسْب الممارسة الفقهية، بل يكون قد تم البدء ببناء العلوم على أساس قرآني، منهجيًّا عبر انطلاق هذا العلم المركزي ذاته من حاكمية الكتاب وابتدائيته واستيعابه للواقع وللصيرورة وانغراسه فيها، ومضمونيًّا عبر استخدام هذه المفاهيم/ المقاصد/ القيم ذاتها لتأسيس (علوم العمران) و(علوم الأمة) و(علوم التزكية) و(علوم الدعوة)، ومجمل العلوم الخادمة للوجود الإنساني انطلاقًا من تلك القاعدة القرآنية الأساس التي تُوفِّر الإجابة على ما يسمى بالأسئلة النهائية للوجود البشري[20].
لكن كي يكتمل تأسيس هذه العلوم على أساس (المنهجية القرآنية المعرفية) ينبغي عدم الوقوف عند (الجمع بين القراءتين) كمُحدِّد في هذه المنهجية، بل لا بد من تجاوز هذه الخطوة نحو إيجاد منهج لتحديد المفاهيم التي تُشكِّل لَبِنَات هذه المنهجية والأساس المفاهيمي لهذه العلوم، وهذا أيضًا من الأدوار المهمّة لمقاصدية القرآن عند العلواني، حيث تقوم مقاصدية القرآن عند العلواني بما هي مركز لـ«الوحدة القرآنية المُنفَتِحة على العالم عبر المقاصد/ القيم»، بتقديم أساس لـ«تنظيم فضاء النصّ القرآني في صلته بالواقع»، أي لإمكان استخراج اللبِنات الرئيسة للمنهجية القرآنية المعرفية (المفاهيم المركزية) المُنتَظِمَة بمُحدِّد (الجمع بين القراءتين) والمُستوعِبَة لعالم الصيرورة والتغير.
ونحن نستطيع تبين هذه القدرة للمقاصد/ القيم الخمس على تنظيم «فضاء النصّ في صلته بالواقع» وإمكان استخراج المفاهيم المركزية المُستوعِبَة للعالم والمُؤسِّسة لعلومه، لو قارنّا منهجية تحديد المفاهيم المركزية للقرآن عند العلواني بتحديدها عند إيزوتسو -الذي ذكرنا علاقته بخطاب طه في المقال السابق- وعند فضل الرحمن مالك -الذي تناولناه تفصيلًا في (القراءات الحداثية للقرآن)-.
العلواني وإيزوتسو وفضل الرحمن:
فكما كنّا قد ذكرنا سابقًا فإن إيزوتسو في كتابه الشهير (الله والإنسان في القرآن) يُقدِّم لنا ما يمكن أن نعتبره أداة منهجية ناجعة للتوصّل لخطاطة رئيسة عن (المسائل الكبرى) في القرآن، هذه الأداة تتمثّل في دراسة كلّ (مفهوم) من المفاهيم المحورية في القرآن مثل (الله) (الإنسان) (الوحي) عن طريق قراءة تطوّر هذا المفهوم عبر ثلاثة أنظمة أو سطوح دلالية متعاقبة، النظام الدلالي الجاهلي ثم النظام الدلالي القرآني ثم اللاحق للقرآن -مرحلة تشكّل العلوم الإسلامية بأنظمتها المعرفية والدلالية خصوصًا في العصر العباسي-، فضلًا عن تمييز (الحقل الدلالي) الذي يستوعب كلّ مفهوم منهم في كلّ حقبة، فهذه الأداة بتحركها بين هذه الأنظمة الثلاثة (جاهلية- قرآن- لاحق للقرآن) وعن طريق تنبهها لتطوّر المفاهيم ذاتها وداخل حقولها الدلالية تستطيع أن ترسم طريقًا أوّليًّا لتحديد خطاطة رئيسة من المسائل الكبرى في القرآن.
لكن تظلّ مشكلة هذه الأداة -المُهمة قطعًا والمُستخدَمَة من قِبَل العلواني- هي اقتصارها على الجانب اللغوي وحده، وهذا قصور أدركه إيزوتسو نفسه، حيث يشير إلى أن اختيار الكلمات (المفتاحية) قد يتضمّن قدرًا من الاعتباطية، فمثلًا لفظة عرش وردت في أكثر من عشرة مواضع في القرآن ولها أهمية كبيرة في الكلام والتصوّف الإسلامي، إلا إنها لا تمثّل مفهومًا محوريًّا في القرآن إلا بعد مناقشة، على عكس تصوّرات الله والكفر والهداية مثلًا، هذه الملحوظة تُوضِّح مدى محدودية المدخل الدلالي وحده على أهميته كمرحلة ضمن آليات أكثر فعالية لتنظيم فضاء النصّ القرآني، خصوصًا مع إهماله كذلك قضية الصلة بالواقع.
لو انتقلنا إلى فضل الرحمن مالك، ونظرنا إلى محاولته تحديد المسائل الكبرى في القرآن فإنه -وكما وضّحنا ذلك سابقًا في مقالنا حوله- فسنجد أنه يلجأ للمقارنة بين (البنية العقدية للدين الجاهلي) و(البنية العقدية للإسلام)، ثم التطورات في الفترة اللاحقة على القرآن، ويحدّد عبر هذه المقارنة أهم ثلاث مسائل في الإسلام بأنها (التوحيد) و(البعث) و(الحساب)، وهي تلك المسائل التي رفضها بقوةٍ المجتمعُ الجاهلي، مما يجعل هذه الثلاثية لو استخدمنا مصطلح عادل ضاهر نواة إبستيمية للإسلام عند فضل الرحمن، كما أن فضل الرحمن ولأنه يُصر على كون المفاهيم العقدية الإسلامية هي مفاهيم عقدية- تشريعية تنغرس فيها القيم الـمُؤطِّرة للتشريع الإسلامي؛ فإن هذا يجعل منهجيته أفضل حالًا في كونها تتجاوز ضيق المدخل الدلالي وتكشف تعدية النصّ القرآني للواقع، لكن يظلّ عيبها الأساس هو عدم الالتفات الكامل لأهمية التحليل الدلالي، وهو مدخل شديد الأهمية لفهم القول الإسلامي في موضوعٍ ما، حيث هو قول لا يتم دون تغييرات وتحويرات دلالية في مفاهيم كانت مستخدمة سابقًا وفي مجالها الدلالي وشبكاتها المفاهيمية.
وقصور هاتين المنهجيتين هو ما يُعطِي لمنهجية العلواني القائمة والمنطلقة من مركزية (المفاهيم/ القيم/ المقاصد) الخمسة تميُّزَها بينهما، حيث تجمع بين التحليل المفهومي بحثًا عن المفردة القرآنية ذات الملامح الخاصة كما ذكرنا سابقا -كجزء من حاكمية النصّ- وبين «التقصيد بما هو استيعاب النصّ لعالم الصيرورة وهيمنته وحاكميته عليه»، كوسيلة لتحديد الموضوعات الأكثر مركزية -وهي المقاصد الصلة بين القرآن والواقع الناتجة من قراءة الوحدة عبر مُحدِّد الجمع بين القراءتين-، تلك التي تصبح نواة لمعجم مفاهيمي مترابط.
فالموضوع القرآني/ المسألة الكبرى عند العلواني وبسبب (وحدة القرآن المقاصدية) عنده لها طبيعة مزدوجة، فهي ليست مسألة قرآنية كبرى تُفرَض على الواقع، ولا موضوعًا واقعيًّا يُفرض على القرآن، بل هي (مفهوم قرآني) متخارج على الواقع ومستوعِب له عبر (التقصيد)/ (الوحدة البنائية المنفتحة على عالم الصيرورة المستوعبة له) وكاشف ومُؤسِّس لـ(لبِنات المنهجية المعرفية القرآنية).
* * *
من هنا نستطيع فهم مدى مركزية وأهمية (الجمع بين القراءتين) وأثرها الحاسم في مجمل أبعاد خطاب العلواني، فهذه الفكرة تعمل على تعديل معنى الوحدة القرآنية، فتحوّلها لوحدة مقاصدية، تكون أساسًا لـ(التقصيد) كاستيعاب النصّ الحاكِم لعالم الصيرورة، وأساسًا لـ(التدبُّر) كاستدخال للنصّ في الحياة الشخصية والأمّتية انطلاقًا من الثقة في انفتاحه على القارئ وإدراكاته، كما أنها بالطابع الخاصّ الذي تعطيه لفعل (التقصيد) تساعد في تحويل هذا الأخير لأساس لاستنباط المفاهيم - اللبِنات الأساس للمنهجية المعرفية القرآنية ولإعادة تأسيس علوم الأمة انطلاقًا من تلك القاعدة القرآنية، ففي هذه الفكرة - المُحدِّد نجد التكثيف والتعميق الأكبر والأشمل لأبعاد خطاب العلواني، من حيث تصوّراته ومنطلقاته ورهاناته، وربما أيضًا مثالبه.
قراءات المنهجية القرآنية ما بين القراءة الجديدة والخروج من التقليد:
نستطيع النظر إلى خطاب العلواني باعتباره تكثيفًا لاشتغال (قراءات المنهجية القرآنية)، لانشغالاتهم ورؤاهم وطموحهم الواسع في إعادة بناء العلوم وتجاوز المنظومات الحضارية وتقديم الحلول الشاملة للأزمة المعاصرة، وكذلك يُمثِّل مشروعه تكثيفًا لما قد يَعتبره بعضُهم إخفاقَ هذه القراءات بل وإخفاقَ مظلّتها المعرفية الأعمّ والأشمل والأكثر إحاطة بأبعاد المأزق والحلّ أي مشروع الأسلمة، الذي يمكن اعتبار (قراءات المنهجية القرآنية) هي محاولة لبلورة دعامته الأساس أي (المنهجية القرآنية).
وفي الحقيقة فإنّ تقييم مدى نجاح أو إخفاق (مشروع الأسلمة) الإطار الأشمل والأوسع لـ(قراءات المنهجية القرآنية)، وهو أمر يحتاج لاستيعاب الكثير من الأهداف وخطط العمل التي افترضها المشروع ومكاتبه التنفيذية، كذلك يتطلّب تحديد الكثير من الأسباب غير المعرفية التي لا شك تسهم في نجاح أو إخفاق أيّ مشروع فكري، وهذا خارج سياق اهتمامنا داخل هذه السلسلة.
لكن ما يهمنا هنا هو جانب مُحدَّد مما يُقصَد به الإخفاق حين يُطلَق في إطار توصيف هذه القراءات أو المشروع الإطاريّ الأشمل، أي: البون الكبير بين الأهداف والرهانات التي تفترضها هذه القراءات من جهة وبين المناهج -أو تحديدًا الأدوات المنهجية- التي تستخدمها لتحقيق هذه الرهانات من جهة أخرى.
ففي هذه النقطة نجد أن مشروع العلواني ومثله المشروع الأشمل، هي مشاريع دومًا ما تفتقد للأدوات المنهجية الفعَّالة التي تقوم بوظيفة تشغيل المنطلقات وكشف فعالية التصورات والأفكار المركزية وتحقيق الرهانات التي تتغيّاها هذه المشروعات؛ فرغم بذل مجهود في تأسيس الإطار المنهجي العامّ، إلا أنّ هذا لا يعقبه اشتغال على الأدوات التي تُحقّق هذا الإطار المنهجي، مما يحوِّله في كثير من الأحيان لإطارٍ نظري فارغ مُفتَقِر للفعَّالية.
وهذا له أثره حتى على تأسيس الإطار المنهجي الأوسع ذاته، فهذا الإطار وبسبب غياب هذه الأدوات -والراجع كما وضّحنا مسبقًا لرفض الأُطر المعرفية والمنهجية للنظامين التراثي والغربي وبالتالي التشكّك تجاه إمكانية استخدام أيّ أدوات منهجية تشغل على القرآن- يُفوِّت في تأسيسه ذاته الكثير من المساحات التي تحتاج لبلورة تفصيلية أدقّ؛ فمثلًا نجد أنّ قضيةً مركزية في خطاب العلواني مثل قضية اللسان القرآني وتميّزه ونفي الترادف، كسمة من سمات حاكمية القرآن، ومن حيث المفردة القرآنية هي لبِنة المنهج القرآني، هي قضية لا يتم تأسيسها بصورة كافية، فرغم وجود كتاب كامل مفرد لهذا الأمر (لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب)، إلا أنه يسيطر عليه كذلك البُعد الإطاري، الذي يربط مفهوم تميّز اللسان بمفهوم الأُمّة حيث ينطلق من التحديدات الخاصة لمفهوم الأمة (الوسط- القطب- الشهادة) كي ينفي حصر اللسان في (العروبة)، والذي يَعتبره صنيعًا قامت به التفاسير التراثية، هذا دون أن نجد اشتغالًا دقيقًا كان يُطالَب به ربما العلواني تحديدًا على تعامل المدونات التفسيرية الكبرى مع قضية الاستعمال القرآني، بحيث يكون واضحًا بالفعل مدى انتباه هذه المدونات لتميز اللسان القرآني من عدمه، وتحديد دقيق لمواضع الاتفاق والاختلاف مع منهجياتهم في التعامل مع المفردة القرآنية، ولعل هذا التفويت للاشتغال التفصيلي الدقيق يصدق على كثير من التعميمات التي يتم إطلاقها على الممارسة الفقهية أو الكلامية التراثية من قِبل العلواني ومن قِبل روّاد هذه القراءات في العموم، وهذه التعميمات لا تستغرب حين يقول بها مَن لا يحمل معرفة دقيقة بالتراث الإسلامي، أمّا من له مثل هذه المعرفة فيكون بالطبع مطالبًا بتفصيل أكثر لتأسيس رؤيته تلك.
وعدم التوسّع في تأسيس هذه المساحات الأساسية في الإطار المنهجي لهذه القراءات، له أثره على موقع هذه القراءة وملامحها ومحدّداتها الرئيسة، حيث يؤدي هذا لجعل القراءات وكأنها تتردّد في موقعها تجاه واقعة الاهتزاز المضاعفة (اهتزاز التقليد) و(اهتزاز النظام المعرفي والحضاري الغربي) بين أن تكون قراءات منهجية جديدة بالفعل، أو أن تكون مجرّد قراءات (خارج التقليد)، وكذلك (خارج الحداثة) فحَسْب، تتحدد برفضها المنظومات المعرفية التراثية والغربية أكثر من تحددها بامتلاكها منهجًا خاصًّا، فهذه الانتقالة والتحوُّل لقراءة جديدة لها موقع واضح ومحددات بارزة تفرقها بجلاء عن القراءات الأخرى تحتاج لبلورة أكثر رسوخًا للمنطلقات الأساس، كما تفترض وجود عُدّة منهجية أكثر تماسكًا وترابطًا يتم تشغيلها على القرآن لاستخراج منهجيته، كما يتطلّب بلورة أكثر تحديدًا لهذه المنهجية المعرفية -هذا لو وقفنا بتقييمنا عند حدود الأطر المنهجية والأدوات فحَسْب دون الانتقال للنتاجات-.
وربما نستطيع افتراض أننا أمام قراءات غير مكتملة، وإن كانت بالطبع قائمة وموجودة بفعل وضوح منطلقاتها ورهاناتها ووجود ملامح تميزها عن غيرها من القراءات مما يجعل لها موقعًا (مبدئيًّا) خاصًّا بين القراءات الأخرى، لكن ما نودّ التأكيد عليه هنا هو أن هذا الموقع والذي هو أحد مُحدِّدات هذه القراءة ربما يكون عرضة للاهتزاز، وأن هذا التميز الذي هو أحد ملامحها الأساسية ربما يكون عرضة للذوبان؛ إِذْ لم تقُم هذه القراءات -وداخل خطابات مؤسسيها أنفسهم كالعلواني- بتأسيس أكثر تماسكًا لبنائها المفاهيمي والمنهجي والأدواتي يُجذِّر لها موقعًا راسخًا على خريطة القراءات المعاصرة للقرآن.
إلا أنّ ثمة سؤالًا قد يُثار هنا: هل هذا الفقر الواضح في المنهجيات والأدوات التفصيلية راجع لطبيعة هذه القراءات في مجملها وموقفها من النظامَين المعرفيّين الغربي والتراثي، أم أنه يختصّ بخطاب العلواني ذاته، والذي يقف عند حدّ تحديد الأطر المنهجية للخطاب، وما يعنيه هذا من وقوف عند حدّ المفاهيم المؤطرة لمنهج القرآن؟ فهل الاشتغال على مساحات أوسع من القرآن ذاته، منهجه، قصصه، صورة الإنسان والتاريخ فيه، قد يكون كاشفًا بصورة أكبر عن طبيعة البناء المنهجي التفصيلي لهذه القراءات؟ للإجابة عن هذا السؤال سنتناول في المقال القادم من هذه السلسلة، خطاب المفكر السوداني (أبو القاسم حاج حمد) والذي يحمل اشتغالًا أكثر اتساعًا على النصّ القرآني ذاته.
[1] الجمع بين القراءتين؛ الوحي والكون، طه جابر العلواني، دار السلام، ط1، 2013، ص26.
[2] معالم في المنهج القرآني، طه جابر العلواني، دار السلام، القاهرة، ط1، 2010، ص80.
[3] معالم في المنهج القرآني، طه جابر العلواني، دار السلام، القاهرة، ط1، 2010، ص84.
[4] الجمع بين القراءتين؛ الوحي والكون، طه جابر العلواني، ص22.
[5] الجمع بين القراءتين؛ الوحي والكون، طه جابر العلواني، ص25.
[6] كان العلواني قد بدأ تصوّره لمنظومة المقاصد باعتبارها مقاصد ثلاثة؛ التوحيد والتزكية والعمران، كما هو عنوان أحد كتبه(التوحيد والتزكية والعمران؛ محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة)، لكن في الفترة الأخيرة من حياته -رحمه الله- أضاف لهذه المقاصد مقصدي (الأمّة) و(الدعوة).
[7] أفلا يتدبرون القرآن؛ معالم منهجية في التدبر والتدبير، طه جابر العلواني، دار السلام، ط1، 2010، ص37.
[8] يقسم الخميني مساحات التعامل مع القرآن لثلاث مساحات؛ المساحة الأولى هي مساحة التفسير، وهي التي تختصّ بمحاولة بيان مقاصد القرآن، وهي المساحة التي يضطلع بها المفسِّرون، ولا يمكن لغير ذوي الاختصاص الولوج إليها، والمساحة الثانية هي مساحة التدبر والتفكر واستفادة العظات الأخلاقية والتربوية والإيمانية، كذلك المفاهيم والدروس السياسية ووعي السنن وما شابه، وهذه منطقة واسعة تشمل لوازم الكلام ومصاديق المفاهيم ومراتب الحقائق والمعاني وما قام عليه البرهان العقلي أو العرفاني، وهذه المساحة الثانية مفتوحة لكلّ مسلم، والمساحة الثالثة هي مساحة التفسير بالرأي المذموم، وهي مساحة ضيقة تتعلق فقط بآيات الأحكام وبتحميل الأهواء والآراء، بهذه الترسيمة نحن أمام تدبر يتحركُ إلى جوار التفسير أو تأسيسًا على التفسير، وهو خلاف الأمر عند العلواني، الذي لا يبحث عن تحديد مساحة للتفسير، بقدر ما يريد أن يقدم التدبر كمنهجية بديلة له. انظر: أصول التفسير والتأويل، السيد كمال الحيدري، فراقد، إيران، ط2، 2006، (1/ 348، 249، 250).
[9] ربما أول من طرح هذه الفكرة بوضوح، أي: فكرة الحوار مع القرآن هو السيد محمد باقر الصدر في المدرسة القرآنية، وهو الذي يقابل بين (التفسير التجزيئي) في مقابل (الموضوعي)، وإن كنّا لا نرى أن التفسير الموضوعي بالضرورة يكون حواريًّا كما يفترض الصدر، فهذا يختلف على أساس مصدر الموضوعات وكيفية استخراجها من النص أو مساءلته عنها. انظر: المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ط2، 2013، ص16، 17.
[10] أفلا يتدبرون القرآن؛ معالم منهجية في التدبر والتدبير، طه جابر العلواني، ص153.
[11] أفلا يتدبرون القرآن؛ معالم منهجية في التدبر والتدبير، طه جابر العلواني، ص111.
[12] أفلا يتدبرون القرآن؛ معالم منهجية في التدبر والتدبير، طه جابر العلواني، ص114.
[13] أفلا يتدبرون القرآن؛ معالم منهجية في التدبر والتدبير، طه جابر العلواني، ص116.
[14] لعلّ أبرز مثال على هذا ما ذكرناه سابقًا في حديثنا عن بعض المحاولات المقاصدية الحداثية، مثل محاولة الشرفي حيث نجد استنجادًا بالمقاصدية دون تحديد واضح لآليات تحديد النصوص الكلية والنصوص الجزئية ولأدوات قراءتهم، وينضاف لهذا كون كثير من محاولات استعادة علم المقاصد عند غير الحداثيين -وإذا استثنينا تلك التي تحاول فتح إطار للمثاقفة مع المقاصديات التراثية؛ مثل مقاصدية الشاطبي أو الحديثة مثل ابن عاشور- لم تتطوّر كذلك لحد بلورة منهجية واضحة للتقصيد، بل اقتصرت ربما على استعادة المقاصدية السابقة لدرسها أو لتبسيطها (الريسوني) أو على توسعة مداها ومجالات تأثيرها (جمال الدين عطية)، لكن دون تطوير للآلية المقاصدية ذاتها. انظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، أحمد الريسوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1995، وهو من تقديم طه العلواني. كذا انظر: مدخل إلى مقاصد الشريعة، أحمد الريسوني، دار الكلمة، القاهرة، ط1، 2013. وانظر كذلك: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، جمال الدين عطية، المعهد العلمي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، دار الفكر، دمشق، سوريا، 2003.
[15] ثمة خلاف بين الباحثين حول الأسباب الداعية والأهداف المرادة من نشأة علم المقاصد، ربما أبرزها رأيان: رأي يعتبر أن نشأة علم المقاصد، كان تطورًا طبيعيًّا في المنظومة الفقهية، مرتبطًا بالتطورات الحاصلة فيه كعلم، بحيث تكون المقاصد هي تطور الفقه في اتجاه إرسائه على أسس يقينية، وتجاوز ظنية بعض الأدلة خصوصًا القياس، والرأي الثاني هو الذي يفسِّر هذا التطور انطلاقًا من علاقات المعرفة والسلطة، بحيث يكون علم المقاصد محاولة تمّت في عصر الانحطاط من أجل التهيؤ لخلو الزمان من السلطة العلمية والخوف من سقوط الشريعة في يد التلاعب التأويلي غير المنضبط بها، وهي قراءة عبد المجيد الصغير في كتابه (المعرفة والسلطة في الإسلام).
[16] مقاصد الشريعة، طه جابر العلواني، دار الهادي، ط1، 2001، ص126، 127.
[17] مقاصد الشريعة، طه جابر العلواني، ص138، 139.
[18] التوحيد، التزكية، العمران؛ محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، طه جابر العلواني، دار الهادي، 2003، ص9.
[19]مقاصد الشريعة، طه جابر العلواني، دار الهادي، ط1، 2001، ص135.
[20] الجمع بين القراءتين؛ الوحي والكون، طه جابر العلواني، ص64.