قراءة في كتاب
(تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم)
تأليف أ.د/ محمد إبراهيم شادي

يُعَدُّ كتاب (تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم)، للأستاذ الدكتور/ محمد إبراهيم شادي من الدراسات التي تتبّعت ما خفي من المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة وذلك في جميع سور القرآن، وهذه القراءة تُسَلِّط الضوء على هذا الكتاب، وتستعرض أهدافه ومحتوياته، وأبرز مميزاته، وأهم الملحوظات حوله.

تمهيد:

  علم المناسبات هو أحد أجلّ علوم القرآن، وهو رافد من روافد عطاءات المعاني الاستنباطية والتدبّرية في القرآن الكريم، وانطلاقًا من أنّ لكلّ سورة من سور القرآن مقصدًا رئيسًا تتمحور حوله آيات السورة، فإنّ دراسة المناسبات بين الآيات تهدينا إلى الوحدة الموضوعية والمعاني المتفرّعة من هذه الوحدة، وتسلّمنا إلى الروابط والوشائج ما بين الآيات بعضها مع بعض، والتي تقوم على أُسس ومحدّدات سياقية ومقامية.

إنّ القرآن الكريم مؤلَّف من سور وآيات، نزل مفرَّقًا على مدار ثلاث وعشرين سنة، وكان لذلك حِكَم، منها: مواكبة الحوادث والمسائل التي تقع في عصر النبوّة، والتشريع والتدرّج في بيان الأحكام، فامتزجت تلك المواضيع في السورة الواحدة، وهو في غاية الإحكام والسّبْك[1] والحبك[2]، يقول تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ‌ثُمَّ ‌فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]، ومن المعلوم أنّ ترتيب الآيات في السور ترتيب توقيفي، يقول ابن الزبير الثقفي: «اعلَمْ أولًا أنّ ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه -صلى الله عليه وسلم- وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين؛ وإنما اختُلف في ترتيب السور على ما هي عليه»[3].

ومن شأن هذا الفنّ أن يكشف عن المناسبات بين الآيات وصلاتها، وكيفية ارتباطها ببعضها، وكيف انحدرت تلك الآيات من المقصد الأعظم في السورة إلى أن تفرّعت وأخذتْ تلك الصور التي جاءت عليها، وإبراز وجه ارتباطها بالسياق القريب والبعيد، يقول الدكتور/ محمد أبو موسى: «والعناية بهذه الروابط الجزئية في الحقيقة دراسةٌ لنسيج السورة، وكشفٌ عن جوهر وحدتها الذي يكسبها هيئةً وسمتًا، وما أعظم أن تصل إلى الهيئة والسمت، وما أصعبه»[4]. ومما نتذوّقه من وصف الشيخ اصطفاء كلمة (نسيج) ففيها تصوير دقيق، فأصل معناها هو وصل الشيء بالشيء، والكلمة آتية من نسج الثوب[5] وهو ما يحوكه الحائك من خيوط فتتشابك في انتظام ولُحمة وحُسن عرض بعد أن كانت خيوطًا مبعثرة، وهذا تصوير عجيب من الشيخ لتصوير مدى التناسب بين الآيات وارتباط وشائجها وتآلفها ولو خفيت على الناظر، وهذا معنى لطيف أحببتُ أن لا أتجاوزه.

وتتعدّد صور المناسبات في النَّظْم الكريم، وهي كما يأتي:

1. التناسب بين مفتتح السورة وخاتمتها[6].

2. التناسب بين خاتمة السورة ومفتتح السورة التي تليها[7].

3. تناسب آيات السورة مع بعضها.

4. مناسبة الفاصلة للآية[8].

هذا، وقد جاءت قواعد دراسة التناسب بين الآيات في السورة الواحدة مبثوثة ومتفرّقة في كتب أهل العلم، قام الدكتور/ سامي العجلان في رسالته للدكتوراه بجمع هذه القواعد، وحصرها في خمس قواعد، هي على النحو الآتي:

القاعدة الأولى: تقدير التناسب يجب أن يكون قائمًا على تأويل صحيح للآيات.

القاعدة الثانية: يتفاوت ظهور وخفاء المناسبة بين الآيات، ومدار العثور على المناسبة الخفية يقوم على التأمّل والتدبّر.

القاعدة الثالثة: يعتمد علم التناسب اعتمادًا جذريًّا على علم المقاصد؛ فلا يمكن الوصول إلى الوجه الصحيح في تناسب آيات السورة دون إدراك مقصدها الكلّي أولًا.

القاعدة الرابعة: ينقسم التناسب بين الآيات إلى تناسب إجمالي وتفصيلي؛ التناسب الإجمالي يقوم على ربط المفاصل الأساسية للسورة بعضها ببعض، وأهم هذه المفاصل هي: فاتحتها، وخاتمتها، وفصولها، أمّا التناسب التفصيلي فيختصّ بتناسب الآية مع الآية أو الآيات السابقة أو اللاحقة في السياق، والتناسب الإجمالي أهمّ موقعًا من التناسب التفصيلي؛ لأنّ البُعْد الكلّي فيه يجعله أوثق ارتباطًا وأوضح اتصالًا بمقصد السورة من التناسب التفصيلي.

القاعدة الخامسة: لا يمكن الوصول إلى التقدير الصحيح لتناسب الآيات دون فهم فنّ الاستطراد القرآني الذي يعني الانصراف البليغ من معنى إلى معنى آخر أو من غرض إلى غرض آخر[9].

هذا، والجهود المبذولة في هذا العلم ما زالتْ تتفيّأ من ظلال هذا العلم، لا سيما أنه أحد أبرز وجوه تدبّر القرآن الكريم، يقول الإمام الرازي: «أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط»[10]. وسأعرض هنا أبرز المراجع التنظيرية لهذا العلم بحسَب ما وقفتُ عليه: الكتاب الأول للدكتور/ نور الدّين عتر، جاء بعنوان: (علم المناسبات وأهميته في تفسير القرآن الكريم وكشف إعجازه) يقع الكتاب في 93 صفحة، بيّن فيه المؤلِّف تعريف علم المناسبات، والأدلة عليه، والاستشكالات الواردة عليه، وأهميته وفوائده، وأثر المناسبة في كشف إعجاز القرآن، وطريقة الكشف عن المناسبة، وأقسامها. والكتاب الثاني هو للدكتور/ يحيى بن محمد عطيف، أطلق على هذا العلم مسمّى الوحدة، وبذلك عنون لكتابه بـ: (وحدة السورة القرآنية عند علماء الإعجاز) يقع الكتاب في 140 صفحة، بيّن أولًا مفهوم الوحدة وقيمتها البلاغية، ثم عرض هذه الوحدة عند علماء الإعجاز والبلاغيين والمفسِّرين، كما تعرّض لجهود المعاصرين في هذا الشأن. والكتاب الثالث وهو أوسعها تناولًا وأجودها عرضًا واستقراءً يقع في 793 صفحة، وهو رسالة دكتوراه للدكتور/ سامي العجلان، وضّح كيف كان تناول العلماء للسورة القرآنية في إطارها الكلِّي الشامل؟ وكيف درسوا وحدتها السياقية؟ وما مكوّنات هذه الوحدة؟ وكيف فسَّروا بعض الظواهر الأسلوبية الشائعة في القرآن من خلال النظر الكلّي للسورة القرآنية؟ ولكاتب هذه المراجعة مراجعةٌ سابقة منشورة في مركز تفسير للدراسات القرآنية، وكانت المراجعة على كتاب: (المعنى القرآني؛ معالم الطريق إلى فقهه في سياق السورة؛ رؤية منهجية ومقاربة تأويلية) للدكتور/ محمود توفيق سعد، تعرضتُ فيها كذلك لبعض جهود العلماء التطبيقية في علم المناسبات عند علماء التراث والمعاصرين[11].

ويحتلّ كتاب (تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم)[12] للدكتور/ محمد إبراهيم شادي[13] مكانة سامقة في كتب هذا الفنّ؛ لشرف موضوعه، وللمكانة العلمية التي وهبها اللهُ لمؤلِّفِه[14]، فقد مكثَ دهرًا في مُدارسة البلاغة العربية والقرآنية على وجه الخصوص، وقد جاء كتابه هذا متتبِّعًا ما خفي من المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة وذلك في جميع سور القرآن متأمّلًا ومتدبرًا من بعد استقراءٍ لجهود العلماء وتتبعِ مناهجهم في توجيههم للتناسب بين الآيات، وخرج بلطائفَ ونكاتٍ ومعانٍ إيمانية تزيد المتلقِّي إبهارًا بهذا الكتاب المعجِز.

وهذه القراءة تُسَلِّط الضوء على هذا الكتاب، وتستعرض أهدافه ومحتوياته، وأبرز مميزاته، وأهم الملحوظات حوله.

محتويات الكتاب:

يميل الكتابُ إلى الجانب التطبيقي أكثر؛ فلذا لن نجد إلا ثمانين صفحة من الجانب التنظيري الذي يكشف عن جانب المعالجة التطبيقية للمناسبة بين الآيات من حيث ترتيبها وما بينها من صلات، فابتدأ كتابه بتمهيد جعل له أربعة مداخل جاءت على النحو الآتي:

عرض المؤلِّف في المدخل الأول ضروب الصِّلات بين الآيات، فذَكَر أنّ منها الظاهر والخفي، وعن مدى نسبة الخفاء.

ومتابِعًا للخفاء سرَدَ في المدخل الثاني أسباب خفاء المناسبة، وساق خمسة أسباب، هي: عودة الضمير على أبعد مذكور، وانتشار المعنى الواحد في سياقات متعدّدة، والاعتراض، والاستطراد، واختلاف أجساد المعاني وتلاقي أرواحها.

وعرض في المدخل الثالث ظواهر الصِّلات الخفية، بين التداني والتنائي، وضروب الصِّلات المتنائية، وتجاوز التناسب حدود السورة إلى مجموعة من السور.

وختم بالمدخل الرابع الذي عنون له بـ: المقصد الأعظم للسورة ودوره في كشف المناسبات، وساق فيه: الغرض الواحد للسورة عند القدماء، وبيّن وحدة السورة والمقصد الأعظم، وأهمية المقصد الأعظم للسورة في الكشف عن مناسباتها، وطبيعة المقصد الأعظم وموقعه في السورة.

ثم تناول المؤلِّفُ الجانبَ التطبيقي من الكتاب بدايةً من تأويل مشكلات التناسب في سورة البقرة، ثم آل عمران، وهكذا إلى أن وصل إلى سورة ق، وفي هذا الجزء يقوم بعرض أضواء على كلّ سورة ثم يدلف بعد ذلك إلى مشكلات التناسب بين الآيات، أمّا من سورة الذاريات إلى آخر سور القرآن فقد أدمج مشكلات التناسب مع أضواء السورة؛ وذلك لقلّة مشكلات الصِّلات في هذه السور أو ندرتها أو انعدامها كلّ سورة منفصلة عن الأخرى، وفي أضواء السورة يمهّد بمقدمة عن مقاصد السورة وأبرز خصائصها وملابساتها، ثم يبدأ بتأويل مشكلات التناسب في السورة.

هدف الكتاب، ومنهجه:

أولًا: هدف الكتاب:

نلمح من مقدّمة المؤلِّف أنّ هدفه من كتابته لهذا المؤلَّف هو هدف إيماني تدبري بالدرجة الأولى -أحسبه كذلك؛ إِذْ حرص -بما فتح اللهُ عليه في علم البلاغة- على إيجاد المناسبة بين الآيات زيادةً لفهم كتاب الله، والتدبّر الأمثل له؛ لكون الظفرِ بالمناسبة بين الآيات يُضيف معانِيَ زائدةً عن المعاني الكامنة فيها، ويُسهم في ربط المعاني بالمقصد الأعظم للسورة مما قد يسهّل الحفظ والمراجعة[15].

ثانيًا: منهج الكتاب:

اعتمد المؤلِّف على المنهج الاستقصائي في تتبّع آيات سور القرآن متحريًا -على غلبة ظنّه- خفاء المناسبة التي تُشكِل في إيجادها، ومستنيرًا بما سطره العلماء والمفسِّرون من الشاطبي والزركشي والبقاعي، وغيرهم ممن له اهتمام بهذا الجانب[16]، والمتأمّل في الجانب التطبيقي يلمح أن المؤلِّف اتبع عددًا من المناهج، وهي كالآتي:

المنهج الانتقائي: وذلك بانتقاء الآيات التي يرى أنّ المناسبة فيها غير ظاهرة.

المنهج الاستنباطي: باستنباط اللّطائف والنكت التي تخلّلت المناسبة بين الآيات.

المنهج التحليلي: باستظهار المعنى العام للآيات، وكشف السياق الذي جاءت فيه، وربط الآيات بما جاورها من السياق القريب أو البعيد، واستنطاق الظواهر البلاغية التي تسهم في الوصول إلى المناسبة.

المنهج النقدي: كانت للمؤلِّف وقفات استدراكية على بعض أقوال المفسِّرين؛ ناقدًا ومقوِّمًا، وتقديم بعض ما قيل في المناسبات على بعضها مبرهنًا على ذلك، وفي بعض المعاني والظواهر البلاغية، وقد ظهر ذلك جليًّا في متن الكتاب وهامشه.

الإشكاليات الرئيسة للكتاب وتخلّقها:

إنّ الناظر للصِّلَات بين بعض الآيات لا تظهر له المناسبة إلا بعد النّظر والتفرّس والتأمّل مما يقتضي استنفار أقصى درجات اليقظة الفكرية والنفسية على إدراك تلك الصِّلات[17]، ومن هنا قد يُظَنّ أنّ المناسبة بين بعض الآيات قد لا توجد، وقد قيل بهذا الرأي، وأشار المؤلِّف[18] إلى الشيخ العز بن عبد السلام[19]، وفي الوقت ذاته يظهر لذوي النّظر والرويّة أنّ هذا القول يُعَارِض ما هو مقرّر، أنّ إعجاز القرآن بنَظْمِه يشمل إعجاز الترتيب بين المفردات وبين الجُمَل وبين الآيات، وهكذا يتّسع نَظْم إعجازه حتى يشمل نظام القرآن وأسلوبه وكيفية ترتيب معانيه مفردة ومركبة، كما يشمل كيفية توزيع المعاني في أنحاء السورة، وكيفية التعبير عن المعاني مجرّدة أو مصوّرة، وتبنِّي غير ذلك يفوّت علينا كثيرًا من اللّطائف والنكت المودَعَة في ترتيب الآيات[20]، كما أنّ ذلك لم يَغِب عن كتب العلماء والمفسِّرين تنظيرًا وتطبيقًا، وعليه فإذا صَعُب الْتِماس المناسبة بين الآيات، خصوصًا في السّور الطّوال، فإنّ ذلك لا يثبت عدم وجود الصِّلَة، وهذا ما ذكره الدكتور في كتابه مؤكّدًا عليه بقوله: «إنّ إشكال المناسبة بين آية وآية أو بين موضوع وموضوع من موضوعات السورة لا يعني انعدام الصِّلة، فإنها حتمًا موجودة، ولكنها مغلّفة بأغشية من المعاني اللّطيفة حتى تحتاج إلى تسلّل رقيق وتأمّل عميق حتى تلوح أنوارها، وهذا هو عين التأويل الذي صُدِّر به العنوان»[21].

وإذا كانت هذه الإشكالية، فكيف قاربها المؤلِّف؟

انطلاقًا من أهمية المقصد الأعظم في السورة ودوره المحوري في الكشف عن المناسبات بين الآيات كما بَيّن المؤلِّف في الجانب التنظيري، وقبل الوقوف على الآيات موضع الدراسة فإنه يبتدئ في معالجته لخفاء المناسبة بين بعض الآيات بدراسة مقاصد السور عند كلّ سورة من سور القرآن، مبينًا عن مضمونها الذي يوضح المعاني الظاهرة التي تتناولها السورة، ويكشف سياقاتها ومُلابساتها التي جاءت فيها، وأهم ما جاء في هذا الشأن من معرفة أسباب النزول، ووقت نزولها ما إذا كانت من المكي أو المدني، ومحاولة الربط والمقارنة بين السّور إذا وجد لذلك سبيلًا، سواءٌ على مستوى الترتيب في المصحف أو النزول، أو التشابه في الافتتاحات كما في السور المبدوءة بالحروف المقطّعة، و(الحمد لله)، هذا وإذا كان العثور على المقصد هو الأساس في البحث عن المناسبات بين الآيات في السورة، فإنّ المؤلِّف يطلعنا على أنّ مطلع السور يُنْبِئُنا عن مقاصدها، ويؤكّد على ذلك ما يجيء في خاتمة السور، ثم يبيّن ما تمتاز به بعض السّور من خصوصيات؛ وصولًا إلى محورها الرئيس الذي تدور حوله كافة المعاني، مع العلم أنّه في بعض الأحيان لا يظهر المقصد إلا من كثرة تكرار الآيات حول موضوع معيّن وإن لم يَرِد في صدر السورة، كما تمثّل في سورة الأنبياء، كما لم يغفل المؤلِّف عن ظاهرة تعدّد أسماء بعض السور القرآنية كما في سورة التوبة، مع الإشارة إلى موقع الاسم من السورة، فكانت معينًا للكشف عن المقصد الذي يُرشد مع غيره من الوسائل إلى المناسبة بين بعض الآيات. هذا، وإذا أردنا إجمال وتأطير معالجة المؤلِّف فمن الممكن أن نتصوّرها في ثلاث مراحل كبرى، نُطلق على كلّ مرحلة البنية، لكون داخلها لبناتٍ داخلية كوّنت هذا التصور الكلي:

أولًا: البنية الكبرى: وهي التي تمثّلت في البحث عن المقصد الأعظم من السورة ومحورها الرئيس، ومضمونها المتمثّل في المعاني الظاهرة، واسم السورة، وخصائصها، أو سماتها العامة، وملابسات النزول.

ثانيًا: البنية الوسطى: وهي لُبّ المعالجة وثمرة البنية الكبرى، حيث تنصهر في هذه المرحلة مكونات البنية الكبرى؛ لاستنطاق وتأويل المناسبة بين الآيات التي خفيت فيها، وبذلك تكون البنية الوسطى هي موضع الظفر بالمناسبة بين الآيات، وعطاءات المعاني الإضافية التي حُصّلت بطريق التأويل المبرهن بعناصر البنية الكبرى.

ثالثًا: البنية الصغرى: وهي المتمثّلة في اللطائف والنكات البلاغية الكامنة داخل الآيات، والمحصّلة من مجموع البنيتين السابقتين، في دلالتي الألفاظ والتراكيب.

أبرز مزايا الكتاب:

1. أظهر لنا المؤلِّف في معالجة البحث عن المناسبة نظرية النَّظْم في أوسع نطاق لها بما تتضمّنه من سعة وشمولية ودقّة وخصوصية في التناول، كما وُضّح في البنيات الكبرى والوسطى والصغرى.

2. ظهرتْ لنا المعاني المستنطقة من التأويل في الصلات والمناسبات متماسكة متآلفة حسنة التأويل؛ لكونها متآخيةً مع سياق السورة وملابساتها ومضمونها، ومدى ملاءمتها للمقامات التي جاءت فيها.

3. البراعة في التحليل، واستثمار كلّ ما مِن شأنه أن يثري المعنى في المناسبات أو الوصول إليها، كما تمثّل ذلك في المقارنة بين بعض الظواهر المتشابهة في افتتاحات بعض السور بالحروف نفسها، أو المبدوءة بالحمد لله، وكذلك المتشابه اللفظي والمعنوي المبثوث في القرآن الكريم.

4. الكتابة العلمية الرصينة حتمًا تقود إلى أسئلة بحثية وإشكالات معرفية تفتح آفاقًا أرحب، فيها من الجدة والأصالة ما يثوِّر العلم ويزكِّيه، وفي خُطى ذلك أشار المؤلِّف إلى سؤال دقيق يقودنا إلى مشروع بحثي وهو: «لماذا كان الافتتاح بـ(الر) أو (المر) خاصة في تلك السور، وما وجه الإعجاز في هذا المفتاح؟» ثم ذكر بعد ذلك أنّ له مجالًا آخر في مشروع بحث الرائيات والطواسين بإذن الله وعونه، ونسألُ اللهَ للمؤلِّف المعونة والسداد فيما يروم كتابته[22].

5. تُشَكِّلُ إيحائيةُ الصوت من التجويد القرآني دلالاتٍ لغويةً، وقد سعى المؤلِّف أثناء معالجته بعض المناسبات إلى الكشف عن أسرار البناء الداخلي لأصوات بعض الظواهر التجويدية متلمسًا العلاقة بينها وبين المعاني فيها[23].

6. تفرَّدَ المؤلِّف بالوقوف على بعض الآيات التي خفي فيها التناسب، فكان له السبق في تأويلها والوقوف على صِلاتها، فجاء كتابه مكملًا للجهود المبذولة في فنّ المناسبات.

7. توجد في الكتاب إشارات لطيفة كتبها المؤلِّف في هامش الكتاب، من ذلك تفرُّد القرآن في بعض أساليبه[24]، وعادات القرآن في بعض سياقاته[25]، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، والوقف والابتداء، وسَوق اللطائف البلاغية، والظواهر الصوتية، والوقوف عند دلالة بعض الألفاظ توضيحًا وشرحًا، والتعريج على بعض الظواهر النحوية، وبعض الظواهر العلمية، وهذا يزيد من القيمة العلمية للكتاب.

أبرز الملحوظات:

1. سلك المؤلِّف في آيتي الأنبياء رقم 24 و48 مسلك الإعجاز العددي على حدّ تعبيره، حيث ذكر أنّ قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ‌قُلْ ‌هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ [الأنبياء: 24]، وجاء بعد 24 آية قولُه تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾  [الأنبياء: 48]، وأنّ رقم 24 يُشير إلى عدد القرون الفاصِلة بين رسالة موسى وهارون -عليهما السلام- ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو 24 قرنًا بما يساوي 2400 سنة، وفرعون مصر الذي أُرسِل إليه موسى -عليه السلام- كان قبل ميلاد المسيح بقرنين من الزمان تقريبًا وقبل ميلاد محمد بقرنين ونصف تقريبًا[26]، ولو حمل هذا الوجه وغيره في النظم الكريم مما صح أو قرب صوابه لكان لزامًا أن يكون هذا وجهًا مستقلًّا من وجوه إعجاز القرآن، ويُعَدُّ متحديًا بأعداده المعجزة للناس[27]، وهذا لم يَرِد من قريب أو بعيد، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، لا نجد على ذلك من الأثر الواقعي في تهذيب النفس، إنما هو من الترف العقلي المجرد[28]، مع ما في ذلك من شطط في التأويل الذي لا تقوم عليه البراهين والحجج الواضحة، ولو لاقى هذا التأويل أو غيره صحة، فإنه يكون من باب الاستئناس لا الإعجاز[29]. والله أجلّ وأعلم.

وختامًا، فقد رأينا في هذا المؤلَّف القيّم كيف تشابكت عدد من الحقول المعرفية كونها تقدِّم عصارة المزج بين علوم القرآن وعلوم اللغة، وهذا يعود بنا إلى أصل الدرس البلاغي كيف أنه وُلِد في محيط الدراسات القرآنية؛ إِذْ إن الاشتغال في فنّ المناسبات يقتضي البحث عن الروابط المعنوية وهو ما نراه متمثلًا في علم التفسير المنضوي تحت علوم القرآن؛ من أسباب النزول، وملابسات السورة، وخصائصها، والقرآن المكي والمدني، وعن الروابط اللغوية المتمثّلة في الروابط النحوية والمعاني الدلالية، ودلالات التراكيب. كلّ ذلك وغيره من حُسن الذّوق وطول التأمّل والنظرة الكلية للنَّظْم القرآني وتفهم مقاصده =أسهم في إثراء المعاني المستنبطة من الصّلات والمناسبة بين الآيات، وقد تجلَّى للناظر في هذا الكتاب قوةُ السبك والحبك والنسج بين آيات النّظْم الكريم والذي تفرّد به هذا الكتاب المعجِز، وعطاءات التدبر تزيد طالبها متى ما أحسن الإقبال على كتاب الله.

 

[1] يقصد بالسبك الترابط اللفظي النحوي. ينظر: الأُسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية، للدكتور/ يوسف العليوي، ص279.

[2] يقصد بالحبك الترابط الدلالي، وهو مرادف للالتحام والتماسك. ينظر: الأسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية، للدكتور/ يوسف العليوي، ص279.

[3] البرهان في تناسب سور القرآن، لابن الزبير الغرناطي، ص73.

[4] آل حم غافر - فصلت؛ دراسة في أسرار البيان، الدكتور/ محمد أبو موسى، ص51.

[5] ينظر: مقاييس اللغة لابن فارس: كتاب النون، باب النون والسين وما يثلثهما، مادة نسج، (5/ 424).

[6] من المراجع في هذا النوع من التناسب كتاب: التناسب بين السور في المفتتح والخواتيم، للدكتور/ فاضل السامرائي.

[7] من المراجع في هذا النوع من التناسب كتاب: الرابط المشترك المتين في ترتيب سور الكتاب المبين، لمحمد بن أحمد القاسم.

[8] من المراجع في هذا النوع من التناسب كتاب (رسالة علمية دكتوراه): مطابقة أسماء الله الحسنى؛ مقتضى المقام في القرآن الكريم، الأسماء المقترنة، للدكتورة/ نجلاء بنت عبد اللطيف الكردي.

[9] الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية في القرنين الثامن والتاسع الهجريين؛ دراسة بلاغية في التراث العربي، ص188- 194.

[10] مفاتيح الغيب، الرازي، (1/ 113).

[11] على الرابط التالي: tafsir.net/article/5346

[12] هذا الكتاب من جزأين، وقد بلغ عدد صفحات المجلد الأول 660 صفحة، والمجلد الثاني 708 صفحة، وهو من منشورات عالم الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، 1442هـ/ 2021م.

[13] هو الدكتور/ محمد إبراهيم عبد العزيز شادي، أستاذ البلاغة والنقد في جامعتي الأزهر، وأمّ القرى، له مؤلَّفات عِدّة لا يستغني طالب البلاغة والنقد أن يتجاوز عن بعضها على الأقل، وهي:

شرح دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، شرح أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، مدخل القراءات القرآنية في الإعجاز البلاغي، علوم البلاغة وتجلي القيمة الوظيفية في قصص العرب، ثنائيات النقد العربي، التشبيه عند امرئ القيس، منهج عبد القاهر الجرجاني وبلاغته في التقديم والتمثيل، الحوار في القرآن الكريم؛ خصائصه التركيبية وصوره البيانية، من وجوه تحسين الأساليب، البلاغة الصوتية في الإعجاز البلاغي، خطوات البحث البلاغي والنقدي بين النشأة والمنهج، الصورة بين القدماء والمحدثين، نقد الحداثة في البلاغة والنقد الأدبي، أساليب البيان والصورة القرآنية، إعجاز القرآن ومنهج البحث عن التميز، غرائب الإعجاز والنكات في مقامات النزول.

[14] الدكتور/ محمد شادي من طلاب الدكتور/ محمد أبو موسى، وكان الشيخ الدكتور/ محمد أبو موسى يثني عليه، فقد قصّ علينا الدكتور/ محمد بن علي العمري -أستاذ النحو والصرف في جامعة الملك خالد- نقلًا عن دكتور صاحَبَ الدكتور/ محمد شادي، فينقل عن لسان هذا الصاحِب قوله: «بذلتُ جهدًا عظيمًا، ولاحظ د. أبو موسى تحسّن مستواي، ولكن مستوى زميلي محمد شادي كان يزداد حسنًا وقوّة أضعاف تحسّن مستواي، وفي نهاية الفصل سألت د. أبو موسى: كيف تراني يا دكتور؟ فقال: هنيئًا لك، تكاد تدرك غبار شادي». ينظر: حساب الدكتور محمد العمري، تويتر: M_A_ALamry@، والتغريدة بتاريخ: 23/ 7/ 2022م.

[15] ينظر: تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 7).

[16] تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 13).

[17] تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 13).

[18] تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 10).

[19] ذكر الدكتور/ نور الدين عتر أن عند التدقيق لقول الإمام العز بن عبد السلام أنه يقصد أمرًا آخر غير المناسبة، ذلك أنه يذكر اختلاف الزمان والأسباب وتصرّفات الحكّام والمفتين، مما يُشْعِر أنه يتكلّم عن اعتبار النزول، وهذا لا يخالف أحد أنه تكلّف لا يليق، وهو غير ربط آيات القرآن وسوره بحسَب ترتيبها التوقيفي في المصحف، وأسُوق هنا النصوص التي نُقلت عن العز بن عبد السلام التي أُوّلت عن عدم الصِّلة بين بعض الآيات: «إنّ محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض ويتشبّث بعضه ببعض... وهذا بشرط أن يقع الكلام في أمر متّحد، فيرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر»، وهذا القول نقله د. شادي دون القول الآخر الذي ساقه د. نور الدين، والقول الثاني للعِزّ هو: «ومَن ربَط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يُصان عن حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإنّ القرآن نزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت، ولأسباب مختلفة غير مؤتلفة، وما كان كذلك لا يَتَأتّى ربط بعضه ببعض؛ إِذْ لا يحسن أن يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض، مع اختلاف العلل والأسباب؛ كتصرّف الملوك والحكّام والمفتين، وتصرّف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة، وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرّفات مع بعض، مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها». ينظر: علم المناسبات وأهميته في تفسير القرآن الكريم وكشف إعجازه، للدكتور/ نور الدين عتر، ص9- 10.

[20] ينظر: تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 12).

[21] تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 8).

[22] ينظر: تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم، (1/ 373).

[23] من المراجع التي تناولت هذه الفكرة تنظيرًا وتطبيقًا كتاب: ذوق الحلاوة؛ بيان علاقة المعنى بإعجاز التلاوة، للأستاذ محمد حسين الزنتاوي، والكتاب من طباعة: بيت الأفكار الدولية، عام 1432هـ.

[24] من المراجع في هذه الفكرة بحث بعنوان: مبتكرات القرآن الكريم عند ابن عاشور؛ دراسة نقدية مقارنة، للدكتور/ عماد طه الراعوش، وهو منشور ضمن مجلة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، السنة السادسة، العدد 12، 1438هـ.

[25] من المراجع في هذه الفكرة رسالة دكتوراه بعنوان: عادات القرآن الأسلوبية؛ دراسة تطبيقية، للدكتور/ راشد بن حمود الثنيان.

[26] ينظر: تأويل مشكلات التناسب، (1/ 556).

[27] ينظر: البيان في إعجاز القرآن، للدكتور/ صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص383.

[28] ينظر: إعجاز القرآن الكريم، للدكتور/ فضل حسن عباس، ص341.

[29] من أراد شيئًا من التوسّع في هذا الباب فليطالع كتاب: مباحث في إعجاز القرآن، للدكتور/ مصطفى مسلم، الفصل الخامس، الإعجاز العددي، ص263.

الكاتب

الدكتور محسن بن علي الشهري

حاصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية، وله عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))