قراءة في كتاب
(أثر السياق في اصطفاء الأساليب؛ دراسة بلاغية)
للدكتور/ إبراهيم صلاح الهدهد

يُعَدُّ كتاب (أثر السياق في اصطفاء الأساليب؛ دراسة بلاغية)، للدكتور/ إبراهيم صلاح الهدهد، من الدراسات التي اعتنت بدراسة السياق وأثره في فهم النصّ القرآني، وهذه القراءة تُسَلِّط الضوء على هذا الكتاب، وتستعرض أهدافه ومحتوياته، وأبرز مميزاته، وأهم الملحوظات حوله.

تمهيد:

  إنّ مناط الفهم للكتاب العزيز لا يؤخَذ إلا من اعتبار السياق، وهو من الركائز الأساسية لفهم المعنى وتدبّره، وعلى ذلك ترتكز البلاغة العربية فهمًا وتذوقًا، والسياق القرآني نوعان:

1- سياق المقال، ويُقصد به: البنية اللفظية للنصّ من حيث ترتيب الكلام في الجملة الواحدة، وترتيب الجُمَل في سياق كلّي، وهو ما يُعرف بالسياق اللغوي، والسياق الداخلي، والسياق النصِّي، والسياق اللفظي، وسياق النَّظْم، ونسق الكلام.

2- سياق المقام، ويُقصد به: البيئة الخارجية للنصّ التي تحيط بالكلام من حال المخاطَب، والموضوع، والغرض، وأسباب النزول، ويُطلق عليه سياق الحال، وسياق الموقف، والسياق الخارجي، والسياق الظرفي، وبساط الكلام[1].

وقد اعتنى علماءُ المسلمين من اللغويين والمفسِّرين والأصوليين والبلاغيين بالسياق القرآني وأَوْلَوْه عناية بالِغة سواءٌ في فهم المعاني القرآنية أو استنباط الأحكام واللّطائف القرآنية، وقد حذّروا من إغفال هذا الأساس المهم، يقول الدكتور/ عبد الرحمن بن معاضة الشِّهري: «إنّ إغفال السياق في فهم القرآن وتفسيره من أكبر أسباب الخطأ في فهم القرآن، فهو يفضي إلى أخطاء جسيمة في التفسير، ويؤدِّي إلى انحراف واضح في معاني القرآن، وقد وقع كثيرون في هذه الأخطاء قديمًا وحديثًا»[2].

وقد قُدّمت دراسات حديثة عن السياق وأثره في فهم النصّ القرآني، منها: (نظرية السياق بين القدماء والمحدثين) للدكتور/ عبد النعيم خليل، و(دلالة السياق) للدكتور/ ردة الله الطلحي، و(السياق القرآني وأثره في الكشف عن المعاني) لزيد عمر عبد الله العيص، ولعلّ من أبرز تلك الدراسات: (الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية في القرنين الثامن والتاسع الهجريين؛ دراسة بلاغية في التراث العربي) للدكتور/ سامي العجلان، و(السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ دراسة نظرية تطبيقية) للدكتور/ سعد الشهراني، وكتاب (أثر السياق في اصطفاء الأساليب)[3] للدكتور/ إبراهيم الهدهد[4]، الذي يبيّن ويوضح في كتابه دور السياق في اصطفاء الأسلوب المناسب للمقام الذي جاء فيه، فهو لا يكتفي ببيان دور السياق وما له من أهمية، بل يتجاوز إلى أن مجيء أساليب الكلام من حقيقة أو مجاز يكون السياق من محدّداتها وعِللها في حضورها للنصّ، وعلى ذلك ارتأيتُ أن أسلِّط الضوء على هذا الكتاب وأبيّن مقاربته للموضوع ومسلكه في المعالجة.

محتويات الكتاب:

قسّم المؤلِّف كتابه إلى خمسة فصول وخاتمة، جاءت على النحو الآتي:

عرَض في الفصل الأول مفهوم السياق عند القدماء والمحدَثِين، وبيَّن تطبيقاته في التراث، وأبرزَ جهودَهم في أثر السياق في اصطفاء الأساليب.

أمّا الفصل الثاني فعرَض فيه مفهوم الأسلوب قديمًا وحديثًا، وحديث العلماء عن البليغ والأبلغ، وإشكالية القول بذلك في القرآن الكريم.

وبدأ بالجانب التطبيقي من الفصل الثالث الذي درس فيه أثر الماء في القرآن الكريم بين الحقيقة والمجاز، قدّم له بمقدّمة عن إشكالية القول بالمجاز في اللغة والقرآن الكريم، ثم عرض بعد ذلك الآيات التي هي موضع الدراسة وتناولها بالتحليل القائم على فقه السياق وأثره في اصطفاء أسلوب الحقيقة أو المجاز تعبيرًا عن أثر الماء.

أمّا الفصل الرابع فدرس فيه أثر الماء في السنّة المطهرة بين الحقيقة والمجاز.

وسار على الخطى نفسِها في الفصل الخامس حيث بَيّن أثر الماء في الشِّعر العربي بين الحقيقة والمجاز.

وختم بعد ذلك بذِكْر أبرز وأهم نتائج البحث.

هدف الكتاب، ومنهجه:

أولًا: هدف الكتاب:

أراد المؤلِّف من كتابه أن يبيّن ويدلّل على أنّ القرآن الكريم على حدّ واحد في البلاغة لا يفضل بعضه بعضًا من حيث البلاغة الكائنة فيه، وأنّ كلّ سورة في القرآن هي موضوع التحدّي، وأنّ البلاغة في كلّ سورة على حدّ واحد، وأنّ البلاغة في سورة البقرة مثلها في سورة الكوثر، وأنّ أسلوب الحقيقة بلاغة كما هو أسلوب المجاز[5]، وأنه المثل الأعلى بين سائر النصوص في تحقيق موافقة الكلام لمقتضى الحال.

ثانيًا: منهج الكتاب:

صرّح المؤلِّف في مقدّمته أنّ المنهج الذي اتّخذه هو المنهج التاريخي، والنقدي، والتحليلي[6]، وأوضّح هنا أكثر في المنهج الذي سار عليه المؤلِّف.

المنهج التاريخي: وقصد منه المؤلِّف أن يعرّف المصطلحات الواردة في كتابه من السياق والأسلوب، ويتتبّع ورودها عند القدماء والمحدثين بحسَب تقدّم أعصارهم؛ موضحًا توسّع المفهوم من خلال تناولهم له، وهو بهذا الصنيع يكون اتخذ المنهج الوصفي الذي يشرح المصطلح ويكشفه كما أورده من كتب اللغويين والأدباء والبلاغيين والأصوليين والمفسِّرين.

المنهج النقدي: وقصد منه المؤلِّف فحص وتقويم بعض الإشكاليات الواردة من الظنّ بأنّ بلاغة القرآن متفاوتة وأنّ هناك أسلوبًا أفضل من أسلوب كما بين الحقيقة والمجاز.

المنهج التحليلي: وهو تحليل الآيات موضع الدراسة والأحاديث الشريفة، وما أورده من الشِّعر تحليلًا بيانيًّا نظميًّا، يجلّي الظواهر الأسلوبية فيها، ويستنبط اللطائف والنكات البلاغية، ومدى موافقة تلك الأساليب للمقامات التي اقتضتها.

الإشكاليات الرئيسة للكتاب وتخلّقها:

تتمحور إشكالية كتاب (أثر السياق في اصطفاء الأساليب) حول مقالة أطلقها البلاغيون تقول: أنّ المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الكناية أبلغ من التصريح[7]، ومن حيث الفهم الظاهر لهذا القول والوقوف على سطوحه فإنه يقود إلى أنّ الكلام الذي يأتي على أسلوب المجاز -مجاز عقلي أو مرسل أو استعارة أو كناية- فهو أبلغ مما يأتي على صورة الحقيقة، مما يترتب عليه أنّ بلاغة النَّظْم الكريم تتفاوت؛ فبعضه أبلغ من بعض، ومجازه أبلغ من حقيقته، وهذا الفهم يخالف واقعَ النصّ القرآني في أنه كلُّه في غاية البلاغة والفصاحة، ويخالف ما سجّله العلماء في إعجاز القرآن، وفهومَهم التي تناولَت النَّظْم الكريم تدبرًا ومدارسةً من عدم عزل الأسلوب عن السياق الذي جاء فيه، موضحين أن الأساليب البلاغية لا توصف بذاتها، وإنما البلاغة قائمة على مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وأنّ المقام هو الذي يستدعي الأساليب اللائقة به؛ ولذلك كثرت تأويلاتهم لمقولة أنّ المجاز أبلغ من الحقيقة، ومن ذلك ما ساقه الإمام الباقلاني في هذا الشأن حيث ذكر كلامًا جيدًا، فيذكر أنّ القرآن في عجيب نَظْمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكرِ قصص ومواعظ واحتجاج... ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع تختلف على حسَب اختلاف هذه الأمور؛ ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا رَكِب، والنابغة إذا رَهِب، وبزهير إذا رَغِب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام، والشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصر، والأديب إذا تكلّم في بيان الأحكام وذكر الحلال والحرام لم يكن كلامه على حسَب كلامه في غيره، ونظم القرآن لا يتفاوت في شيء، ولا يتباين في أمر، ولا يختلف في حال بل له المثل الأعلى والفضل الأسنى[8].

 هذا، وإن كان التفاضل في القرآن موجودًا، فوجوده من حيث السور، فسورة الإخلاص أفضل من سورة المسد، فالتفاضل في كلام الله وارد، إلا أنه كلُّه كما ذكرنا من ناحية البلاغة فإنه في غاية البلاغة والفصاحة[9].

وعلى وزان اصطفاء الأساليب في النَّظْم الكريم كذلك الألفاظ؛ فقد راعى النظمُ الكريم في سياق الأحكام الشرعية والتكاليف العباراتِ الواضحةَ الجليةَ، وما ورد من الألفاظ الغريبة لم يتعلّق في ذلك بحكم اعتقادي، يقول الدكتور/ عبد الرحمن الشهري: «عند تتبّع الألفاظ الغريبة التي وردت في القرآن الكريم يجد أن ما ينبني عليه حكم شرعي عملي يدخل في الظاهر الذي لا يكاد يختلف فيه العرب، ولم يأتِ من الألفاظ الغريبة مما يترتب عليه حكم عملي شيءٌ يُذكر، فكلّ ما يحتاجه المسلم المكلَّف في القرآن الكريم وفي السنّة النبوية، قد ورد بأوضح عبارة، وأجلى بيان؛ كي لا يكون على المسلم حرج في فهم ما كلّفه الله به، وأمّا ما ورد من الألفاظ الغريبة فإنه قد ورد في ثنايا القصص، والآيات الكونية ونحو ذلك مما لا يتعلق به حكم اعتقادي أو عملي»[10].

وإذا كانت هذه الإشكالية فكيف قاربها المؤلِّف؟

سعى المؤلِّف إلى مقاربة حلِّ الإشكالية من خلال اختيار موضوع واحد في النصّ القرآني والحديث النبوي والنصّ الشعري، ثم يحلّل ويقارن في سياقات الموضوع الواحد، كلّ نصّ درسه في فصل مستقلّ عن الذي قبله؛ ليتوصّل إلى أثر السياق في اصطفاء الأسلوب الملائم لكلّ مقام، وكان الموضوع هو الماء، فقد استقرأ ما جاء في النّظْم الكريم لآيات الماء، فوجد أنّ عدد الآيات التي ورد فيها الماء بلغت ثلاثين آيةً معظمها مكية، حيث وردت منها ستٌّ وعشرون آيةً مكية، وأربعٌ منها مدنية؛ عشرون موضعًا منها عبّر عن أثر الماء فيها بالأسلوب الحقيقي، وعشرة مواضع عبّر فيها عن أثر الماء بالأسلوب المجازي، فالآيات المكية البالغ عددها ستًّا وعشرين آية؛ تسعةُ مواضع منها جاءت بالمجاز، وسبعةَ عشرَ جاءت على الحقيقة. والأربع المدنية، واحدة منها على المجاز وثلاث بالتعبير الحقيقي، أوضحها أكثر في البيان الآتي:

وبناء على ما تقدّم من هذا الحصر استنتج المؤلِّف سؤالين:

1- لماذا كانت معظم آيات الماء مكية (26 من 30)؟ وأيّ حال يعكسه هذا الحصر؟

2- لماذا كانت معظم مواطن المجاز من النازل بمكة (9 من 10)؟

من النظرة السياقية التي تناولها المؤلِّف استطاع أن يجد الجواب الشافي لهذه الأسئلة، فقد أبصر أولًا من خلال خصائص المكي والمدني أنّ معظم نزول آيات الماء بمكة لمقتضى حال إنكار البعث والتوحيد والألوهية، وثانيًا من سياقات الآيات الوارد فيها الماء، بأنّ ما جاء فيه الماء بالتعبير الحقيقي (عشرون موطنًا) كان في سياق التوحيد، وطرُق ذلك إمّا بإثبات القدرة المتفردة، وإمّا بالامتنان في بيان الربوبية، وأنّ ورود الأسلوب المجازي غالبًا ما يتبعه حديث عن البعث، وغالبًا ما يكون الحديث عن البعث مؤسّسًا على ما مضى من ذكر أثر الماء، والعلّة من ذلك أن طريق إثبات البعث بقياسه بالإنبات هو الملائم لبيئةٍ جُلُّ رزقِها الرعيُ والزراعة، فوق أنه دليل مشاهد حسّي لا مدخل لمرتابٍ في إفساد هذا الدليل، ومعلوم أنّ كفار قريش كانوا منكرين للبعث؛ لذا يقول قائلهم:          

حياة ثم موت ثم بعث  **  حديث خرافة يا أم عمرو[11].

ولم يَغِب عن بال المؤلِّف بعضُ الصور المجازية التي نزلت في المدينة، والظروفُ التي كانت في مكة لم تَعُد متواجدة، فقد وردت الآية رقم 164 في البقرة المدنية بالتعبير المجازي، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ‌وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164]، وعلّل ذلك المؤلفُ بأنّ السياق الذي في سورة البقرة مداره على البعث، وكأنّ خطابَ البعث فيها خطابٌ لليهود، واليهود قد شكّلوا عنصرًا مهمًّا في المدينة المنورة في الفترة الأولى، كما ظهر النفاق، والنفاق يناقض الإيمان، والإيمان مداره الغيب الذي مداره الإيمان بالبعث، وكذلك ورد قوله تعالى في سورة الحج: ﴿وَتَرَى ‌الْأَرْضَ ‌هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]، وقوله تعالى﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ‌فَتُصْبِحُ ‌الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحج: 63]، وهي سورة مدنية، وعلّة ذلك أنها جاءت في سياق الحج، والحج يذكِّر الحشرَ، وأساسُ الإيمان بالحشر الإيمانُ بالبعث؛ لذلك افتتحت السورة بالحديث عن الساعة والنشر بعد الحساب، فجاء الحديث عن أثر الماء ملائمًا لسياقه وملائمًا لحال سياق الحال الذي يتكرّر كلّ عام[12].

وعلى ما تقدّم فإنه متى كان التعبير عن أثر الماء بأسلوب الحقيقة فالمقام مقام حديث عن الربوبية وإظهار الامتنان والقدرة، ومتى كان التعبير عن أثر الماء بأسلوب المجاز كان الجدل في الألوهية، وأسُوق هنا مثالًا لكلّ واحد من الأساليب ليتضح الأمر أكثر[13].

1- الأسلوب الحقيقي:

قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ‌فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22]، جاءت الآية الكريمة في سياق الحديث عن المنافقين الذي لا تستعبدهم غير المنافع، ولا يستهويهم غير المكاسب، كما في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا ‌الضَّلَالَةَ ‌بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾[البقرة: 16]، ونلحظ في هذا السياق أن الأمر جاء بالعبادة بـ(ربّكم) دون (الله)؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌اعْبُدُوا ‌رَبَّكُمُ﴾[البقرة: 21]، ولعلّ السِّرّ الكامن وراء اصطفاء الربوبية هو السياق المادي للمنافقين الذي لا منطقَ لهم سواه، ولا مقنعَ لهم غيره، فوق أنّ الأمر بالعبادة استحقاق للربوبية، ومن أجلِ سياق المنطق المادي جاء التعبير عن أثر الماء بالأسلوب الحقيقي، لا بأسلوب المجاز؛ لأنّ الأول ألصق بسياق تعداد النعم المبني على تفرّده -سبحانه- بالربوبية، والتفرّد بالربوبية ظاهر بالنظر في الآيات الحكيمات: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21]، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾[البقرة: 22]، ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾[البقرة: 22]، فالسياق في تعداد النعم، وليس المراد إثبات البعث حتى يبينه بالمجاز، وإنما إثبات الربوبية، بإثبات التفرد بالقدرة على الإنعام؛ فجاء بالأسلوب الحقيقي استجابةً للسياق[14].

2- الأسلوب المجازي:

قال تعالى: ﴿‌وَاللَّهُ ‌أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [النحل: 65]، جاءت هذه الآية امتدادًا لأختها: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ ‌فِيهِ ‌تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 10- 11]، التي جاء التعبير عن أثر الماء فيها بالأسلوب الحقيقي، وكانت عناية الأُولى بإثبات الربوبية، وطريق الإثبات كان بإثبات كمال القدرة على الإنعام، ثم جاء ذكر للبعث بعد ذلك، والسياق مفعم بالجدل، كما دلّ عليه قوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‌مِنْ ‌نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾[النحل: 4]، وجاء ذكر البعث في الآيات (17- 21) وكأنّ الآيةَ محلَّ الشاهد ردٌّ على قَسَمهم -فيما حكاه ربنا-: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ ‌جَهْدَ ‌أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[النحل: 38]، وبيانٌ لِما اختلفوا فيه، ورأسُ الاختلاف كان في الإلهيّات، فجاءت الآية في هذا السياق الممتد؛ إثباتًا للألوهية بالدليل المادي المشاهد، ونقَل المؤلِّف قولًا للبقاعي يقول فيه: «ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبَهم منكِرةٌ؛ استكبارًا، وما يتعلّق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعِلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقريرَ أربعة أصول: الإلهيات، والنبوّات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر... وكان أجلّ هذه المقاصدِ الإلهيات، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث على وجهٍ غير المتقدم، ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلَى من ضياء النهار»[15]. ثم يؤكِّد المؤلِّف بعد ذلك بعد عرض هذا السياق أنّ التعبير بالمجاز هو مطلب سياقَي المقال والحال[16].

هذا من ناحية معالجة أثر السياق في اصطفاء الأساليب بحسَب ما جاء في النَّظْم الكريم، أمّا الفصلان الآخران فقد بيّن المؤلِّف فيهما أثر الماء في السنّة المطهرة، ثم الشِّعر العربي، وقد بيّن المؤلِّف في مقدّمة الفصل الرابع عند دراسته لأثر الماء في السنّة أنه لم يجرِ حديثٌ متّسِعٌ في أثر الماء في السنّة كما في النَّظْم الكريم[17]، وقد أورد عشرة أحاديثَ من الكتب التسعة[18]، كلّها على أسلوب الحقيقة إلا واحدًا جاء على أسلوب المجاز، وقد قايس وقارب المؤلِّف أسلوبَي الحقيقة والمجاز على ما جاء في النَّظْم الكريم من لوازم مقام الربوبية أو البعث، وبه انطلق من اصطفاء السياق للحقيقة أو المجاز، وقريبٌ من دراسته للحديث كان كذلك للشِّعر مع تنويهٍ ثانٍ للمؤلِّف بأنّ حَسْبَه من هذا الفصل أن يفتح الباب للدارِسِين مِن بعده.

أبرز مزايا الكتاب:

1. تميّز الكتاب بالتحليل البلاغي القائم على المدرسة الأدبية الذّوْقية في البلاغة التي تجعل السياق أهم ركائزها، مما يبرز النكات واللطائف البلاغية على أتم صورة والتي تجلّت في لبّ البلاغة وقطب رحاها، وهي موافقة المقام لمقتضى الحال.

2. راعَى المؤلِّف ترتيب السور في القرآن بنوعيه حسَب ما في المصحف الشريف والنزول، فتوسّعت لديه الرؤية السياقية، فانعكس ذلك في ثنايا التحليل البلاغي مما أوصله إلى أسرار دقيقة ومعانٍ نفيسة.

3. النقد الموضوعي الذي أبرز فيه جهد القدماء التطبيقي في مراعاتهم للسياق وتصوّرهم الدقيق للأسلوب، وَفق تنظير المحدثين للسياق والأسلوب.

4. براعة النتائج وتميّزها التي توصّل إليها المؤلِّف من خلال معالجته للسياق في آيات النَّظْم الكريم، مما يعطي تصوّرًا جيدًا عن المعالجة الجادة التطبيقية لموضوع السياق.

5. كثيرًا ما يأخذ المؤلِّف من كلام البقاعي في تفسيره نَظْم الدرر، وهذا وعي دقيق منه بأنّ الإمام البقاعي ارتكز في تفسيره على المناسبات وعدم إغفال السياق بنوعيه المقالي والمقامي، فجاء استشهاده بكلام البقاعي منسجمًا مع النكات البلاغية التي أظهرها المؤلِّف.

الملحوظات:

1. لم يخصّص المؤلِّف مبحثًا مستقلًّا يمهّد فيه المتلقِّيَ لخصائص المكي والمدني، رغم أنهما حضَرَا معه في التحليل والمعالجة، حيث إنّ الحديث عن المكي والمدني ملاصق لموضوع السياق المقامي.

2. ألزم المؤلفُ نفسَه بما لا يلزم، حيث كان بالإمكان الاكتفاءُ بما أورده من معالجة أثر السياق في اصطفاء الأساليب بأثر الماء في النَّظْم الكريم دون التطرّق لدراسة الحديث والشِّعْر، حيث إنّ النتائج التي خرج بها لم تكن على وازن ما جاء في النَّظْم الكريم، ولم يكن هناك سياق كلّي جامع كما في القرآن الكريم، فمع علوّ البلاغة في السنّة النبوية ثم الشِّعْر، إلا أنّ الأَوْلَى في الدراسات البلاغية إفرادُ الحديث عن بلاغة النَّظْم الكريم؛ لِما يحويه من ميزات وخصائص نصّية تفارق ما سواه من الكلام.

خاتمة:

هذه قراءة موجزة لكتاب: (أثر السياق في اصطفاء الأساليب) توضّح لنا محورية السياق وأهميته في الوصول الصحيح إلى المعاني القرآنية، من غير تجزئة النصّ أو أخذِ المعاني على طرف منه، فالسياق في النَّظْم الكريم سياق متّسع، فالآية سياق للألفاظ، والسورة سياق للآية، والقرآن الكريم كلّه سياق للسورة، وقد أجاد المؤلِّف في دراسته التطبيقية التي تناول فيها موضوعًا واحدًا وهو الماء، متأمّلًا سياقاته المقالية والمقامية، فاهتدى -بتوفيق الله- إلى نتائج تتسم بالدقّة والموضوعية، فمتى ما كان التعبير عن أثر الماء بأسلوب الحقيقة فالمقام مقام حديث عن الربوبية، وإظهار الامتنان والقدرة، ومتى كان التعبير عن أثر الماء بأسلوب المجاز كان الجدل في الألوهية، وبالإمكان الإفادةُ من هذه الفكرة الفذّة، وتقاس عليها دراسات مشابهة تفتح لنا آفاقًا جديدة في تدبّر القرآن الكريم.

هذا والله أجلّ وأعلم، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] ينظر: الأسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية، للدكتور/ يوسف العليوي، ص50.

[2] من مقدّمة كتبها المشرف على كرسي القرآن الكريم وعلومه الدكتور/ عبد الرحمن الشهري على كتاب: (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ دراسة نظرية تطبيقية)، للدكتور سعد بن محمد الشهراني، ص3.

[3] كتاب (أثر السياق في اصطفاء الأساليب؛ دراسة بلاغية)، تأليف الدكتور/ إبراهيم صلاح الهدهد، يقع في مجلد، في 200 صفحة، وصدر عن مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، سنة 1440هـ/ 2019م.

[4] هو الدكتور/ إبراهيم صلاح الهدهد، أستاذ البلاغة والنقد بجامعة الأزهر الشريف، رئيس جامعة الأزهر سابقًا، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، وهو من طلاب الشيخ محمد محمد أبو موسى، له عديد من المقاطع المرئية في دروس البلاغة أبرزها شرح دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وله كذلك حلقات عن البلاغة القرآنية، كما له عديد من الكتب والمؤلّفات والأبحاث العلمية، من أبرزها:
• أسرار تنوّع تشبيهات القرآن الكريم؛ دراسة بلاغية.
• علاقة المطالع بالمقاصد في القرآن الكريم؛ دراسة بلاغية، نظرية - تطبيقية.
• حركة المعنى في سورة الفجر؛ دراسة بلاغية.
• خلاف الظاهر في الدعاء على المخاطب؛ دراسة بلاغية في السنّة النبوية.
• أسلوب المدح والذم في الذِّكْر الحكيم؛ دراسة بلاغية.
• الاحتباك في الذِّكْر الحكيم؛ موقعه - أسراره.
• اللفّ والنشر في الذِّكْر الحكيم؛ موقعه - أسراره.
• المقام والمقتضى في السور الخالية من الأسماء الحسنى.
• مدخل إلى البحث البلاغي.
• تنوع الأفعال بين الفكّ والإدغام في الذِّكْر الحكيم؛ دراسة بلاغية.
• في محراب اللغة العربية.
• بلاغة التراكيب.
• علامات في البلاغة والنقد.
• في أنوار البلاغة القرآنية.
• إيقاظ همم أهل العافية بقراءة سِيَر ذوي الهمة العالية.

[5] ينظر: أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص3.

[6] ينظر: أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص13.

[7] ينظر: أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص13.

[8] إعجاز القرآن للباقلاني، ص53.

[9] يرجع إلى فتوى سُئل عنها العلّامة عبد الرحمن بن ناصر البراك -رحمه الله-. sh-albarrak.com/article/12776.

[10] الشاهد الشِّعري في تفسير القرآن الكريم؛ أهميته وأثره، ومناهج المفسرين في الاستشهاد به، ص53.

[11] ينظر: أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص100.

[12] ينظر: أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص101.

[13] ينظر: أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص103.

[14] أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص115.

[15] نظم الدرر (4/ 283).

[16] أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص142.

[17] أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص153.

[18] أثر السياق في اصطفاء الأساليب، ص153. والكتب هي: البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والدارمي، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك.

الكاتب

الدكتور محسن بن علي الشهري

حاصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية، وله عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))