فهم القرآن الحكيم؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول للجابري
قراءة نقدية للمنطلقات المنهجية (1- 2)

الكاتب : مصطفى فاتيحي
تُعَدُّ قراءة الجابري الموسومة بـ(فهم القرآن الحكيم) من أهم القراءات الحداثية التي ظهرتْ على الساحة، وتأتي هذه المقالة الأولى لتناقش هذه القراءة من خلال تسليط الضوء على مفهوم القرآن عند الجابري ومآلاته، واللغة في فهم القرآن الحكيم عنده.

مقدمة:

  تناسلت في الآونة الأخيرة الكثير من القراءات للقرآن الكريم وُسِمَتْ بـ(القراءات المعاصرة أو الحداثية)، وهي ذلك الاتجاه الفكري الذي يروم قراءة الخطاب القرآني على ضوء المناهج الحديثة، واستنساخ التجربة الغربية في التعامل مع قضايا الدِّين، واستبعاد الأصول والقواعد التي تواضَع عليها علماءُ المسلمين، واعتبار ذلك إرثًا متجاوزًا وعائقًا أمام تحقيق شرط المعاصرة.

ويُعَدّ من واجب الوقت مناقشة تلك القراءات وما انطوتْ عليه من مواقف وآراء، والوقوف عند المنطلقات التي تصدر منها. وفي هاتين المقالتين أتناولُ واحدة من أهم تلك القراءات، وهي قراءة الجابري الموسومة بـ(فهم القرآن الحكيم). وذلك من خلال جملة محاور، وهي؛ أولًا: مفهوم القرآن عند الجابري ومآلاته. ثانيًا: اللغة في فهم القرآن الحكيم عند الجابري. ثالثًا: ‏قضايا الأثر في فهم القرآن الحكيم. رابعًا: قضايا النَّظَر في فهم القرآن الحكيم. ونقتصر في هذه المقالة الأولى ‏على العنصرين الأوّلَيْن فقط، وذلك بعد تمهيد نعرِّج فيه على قراءة الجابري ورباعيته حول فهم القرآن الحكيم.

تمهيد:

تُعَدّ قراءة الجابري الأخيرة للقرآن الكريم من خلال رباعيته حول فهم القرآن الحكيم؛ من أهمّ وأوسع القراءات المعاصرة، حيث خصّ الجزء الأول بمدخل للتعريف بالقرآن، عارضًا رؤيته ومنهجيته للتعاطي مع الموضوع والدواعي التي جعلته يكتب في هذا الميدان، حيث اعتبر ذلك استمرارية لمشروعه في النقد الإبستمولوجي للتراث، ثم أتبع المدخل بأجزاء ثلاثة؛ كتطبيق عملي لما نظر له وقعّد من قواعد، وحاول تفسير القرآن على حسب ترتيب النزول.

ليس الجابري من دعاة القطيعة النهائية والحاسمة مع التراث، وإنما يرى أنّ منطلق الحداثة ينبغي أن يبدأ من التراث؛ فالحداثة ليست مقولات جاهزة تُستورَد وتُستنبَت بشكلٍ آلي، ومن ثم فقد خبرَ الموروث الثقافي وَصالَ وَجالَ في أروقته ومسالكه وأطواره ومراحله.

ويرى الجابري أنّ التحرّر من سلطة التراث لا يمكن من خلال قطيعة فجّة معه؛ فقد قاده سَيْره الطويل والعميق إلى أنّ الخطاب العربي المعاصر مسكون بالتراث سواء ما يتعلق بالمصطلح السلفي أو الليبرالي. لكن هل استطاع الجابري أن يظلّ وفيًّا للقول بعدم القطيعة أو هي مجرّد إستراتيجية لمخاتلة القارئ؟

لقد وقف (الجابري) على انحسار المشاريع التي دخلَتْ في صراع مباشر مع التراث ودَعَت إلى نبذه واطّراحه، فأفاد من ذلك ضرورة توظيف التراث والانطلاق من داخله وتشريحه للقيام بمهمّة تحديثٍ داخلية وليست خارجية، ولذلك يرى أن «لا سبيل إلى التجديد والتحديث، ونحن نتحدّث هنا عن العقل العربي، إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصّة وإمكانياته الذاتية أولًا، أمّا وسائل عصرنا المنهجية والمعرفية فيجب أن نستعين بها فعلًا، ولكن لا بفرضها على الموضوع وتطويع هذا الأخير في قوالبها، بالعمل على العكس من ذلك، على تطويع قوالبها بالصورة التي تجعلها قادرة على أن تمارس قدرتها الإجرائية؛ أعني وظيفتها كأدوات علمية»[1].

وسيتمّ التركيز على تجلية منهجية الجابري في فهم القرآن الحكيم، بعد أن اعتبر المناهج التي أصّلها علماء الإسلام طافحة بالنزعات الإيديولوجية، وذلك من خلال بيان المفهوم الذي أعطاه للقرآن ومآلات ذلك، حيث سيتضح أنّ التعريف المختار عنده سيكون منطلَقًا لكثير من مواقفه وتقريراته واستنتاجاته وترجيحاته، وهو يوظِّف اللغة للفهم والتأويل، وهو يستثمر مباحث علوم القرآن والمرويات والتاريخ، وهو يجتهد وينظر.

ولذلك يرى جورج طرابيشي أنّ نقد الجابري ينبغي أن يتوجّه إلى نقد المنهج لا إلى النتائج، ذلك أنّ مكمن القوّة والخطورة معًا في خطاب الجابري أن يعرض نفسه -أو يفرضها بالأحرى- على متلقّيه من خلال شبكة من الإشكاليات نفسها؛ فأسئلة الجابري لا أجوبته، هي الملغومة[2].

وهذا الذي سأعتمد عليه في هاتين المقالتَيْن، متجنّبًا قدر الإمكان تتبّع التفاصيل والجزئيات.

سنعمل في مقالتنا هذه على تناول جانبين في طرح الجابري؛ وهما: مفهوم القرآن عند الجابري ومآلاته، واللغة في فهم القرآن الحكيم للجابري. بحيث أقف عند تعريف الجابري للقرآن الكريم وأبيِّن مآلات التعريف الذي استنتجه وتوصّل إليه ونقده للتعريفات السابقة؛ زاعمًا أنها تنطلق من مواقف إيديولوجية. على أساس أنّ المفاهيم تشكّل أدوات إجرائية للتحليل والبيان، والجابري معروف بريادته في هذا المجال. ثم أنتقل بعد ذلك إلى الحديث عن اللغة في فهم القرآن الحكيم عبر بيان توظيف الجابري لمعهود العرب، وتناوله للضابط اللغوي في التفسير.

أولًا: مفهوم القرآن عند الجابري ومآلاته:

رغم أنّ الجابري وجد نفسه -بعد المدخل- في غمار التفسير ولُجّته، إلا أنّنا لا نعثر على تعريف للتفسير، ولم تسعف الباحث محاولة استنتاج تعريف من عمل الجابري، ذلك أن تحديد دلالة هذا المفهوم ستكون عونًا وسندًا في استيعاب وفهم كثير من القضايا والإشكالات المطروحة؛ وإِذْ لم أجد ذلك فقد تعيّن البحث عنه في تعريف القرآن.

1- مفهوم القرآن عند الجابري:

لا بدّ من التذكير أن الجابري يعتبر دراسته الأخيرة حول (القرآن الحكيم) استمرارية لمشروعه النقدي السابق، وأنها تتقاطع معه بشكلٍ كبيرٍ؛ منطلقاتٍ وأهدافًا ورؤيةً وتصورًا، وفي ذلك يقول: «وهل يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ؟ وهل يمكن الفصل في القرآن بين الدِّين والدنيا؟ ثم هل يمكن إصلاح حاضرنا من دون إصلاح فهمنا لماضينا؟ أسئلة تستعيد المنهج/ الرؤية الذي تبنيته منذ (نحن والتراث)، والذي يتلخّص في جملة واحدة: جعل المقروء معاصرًا لنفسه ومعاصرًا لنا في الوقت ذاته»[3].

ويذكر الجابري الأسباب التي جعلته يؤلّف في القرآن، وهي رغبته في التعريف به للقرّاء العرب والمسلمين وأيضًا للقرّاء الأجانب، تعريفًا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين ممن يصدُق فيهم القول المأثور «الإنسان عدوّ ما يجهل»[4].

وعليه يمكن أن نسائل تعريف الجابري هل هو بريء من الجرعات الإيديولوجية؟ ولنستحضر في هذا السياق أن الجابري لطالما في أعماله يحاول أن يدفع عن نفسه الخلفية الإيديولوجية، وهو ما رمى به المفسِّرين.

ولم يستطع الجابري أن يطيل النفس لكي لا يَشِي بخلفيته الإيديولوجية من خلال ما يأتي:

الادّعاء بأنّ القرآن يحتاج إلى تعريف، ويحقّ لنا أن نتساءل: هل يُعقل أنّ القرآن الذي مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرنًا، وأنشأ أمة وحضارة ألّا يُعَرَّف؟ ويظلّ مفهومه مجهولًا عند جماهير المسلمين وخاصتهم، وهم الذين كان القرآن جزءًا لا يتجزأ من حياتهم؟!

والأمر الآخر يتعلّق بتعليقات الجابري على التعاريف التي استشهد بها، من ذلك قوله: «القرآن هو النصّ الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم. وهذا تعريف حيادي لا يضيف من عنده أيّ عنصر على المشار إليه كما هو معطى للمشاهد»[5].

ومنه مشروعية مساءلة الجابري عن هذا الحياد الجامد، فهذا التعريف لا يشير من قريب ولا من بعيد لمفهوم القرآن الذي عند المسلمين، وأبسط خصائص التعريف لا تتوفّر فيه.

ثم يزيد الجابري الأمر التباسًا -ولكنها الإيديولوجية المغلّفة بغلاف الموضوعية- حين يقول: «أمّا إذا أردنا تعريفًا للقرآن يرسم صورته في ذهن المسلم، وفي الغالب كما ورثها من محيطه الثقافي، قلنا مع القائل: القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، نزل به جبريل -عليه السلام- على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المكتوب في المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة المختتم بسورة الناس»[6]. ثم يعلق على هذا التعريف قائلًا: «الفارق بين هذا التعريف والذي سبقه، هو وصف القرآن بأنه كلام الله نزل به جبريل، وهذا لا يسلم به ابتداء إلا المسلم المؤمن بأنّ القرآن كلام الله، نزل به جبريل، فإذا نظرنا إلى هذا التعريف داخل دائرة الإسلام والمسلمين أمكن القول عنه أنه تعريف إسلامي حيادي يقتصر على وصف المشار إليه كما هو في المجال التداولي الإسلامي، أي من دون صدور عن موقف مذهبي أو إيديولوجي، سواء من داخل هذا المجال أو من خارجه»[7].

ولستُ أدري كيف جمع الجابري بين تصديره لهذا التعريف بالقول: «تعريف للقرآن يرسم صورته في ذهن المسلم، وفي الغالب كما ورثها من محيطه الثقافي»، وبين اعتباره تعريفًا إسلاميًّا حياديًّا؟

ثم ينتقل إلى تعريف آخر يعتبره أقرب إلى الذي قبله: «وهو القرآن كلام الله تعالى ووحيه المنزل على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصحف، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبَّد بتلاوته، المتحدَّى بإعجازه»[8].

ويشير إلى الفرق ويحدّده في أمور ثلاثة:

1- وصف النبي بأنه خاتم أنبيائه.

2- وصف القرآن بأنه المنقول إلينا بالتواتر.

3- وصفه بأنه المتحدَّى بإعجازه.

ثم يذكر أنّ الأوصاف الثلاثة متنازع حولها وغير مسلّم بها، متناسيًا أنها أوصاف للقرآن من داخل القرآن، الذي سيحاول بعد ذلك أن يستنبط تعريفًا له من داخله.

ولكن الجابري الذي يزعم أنه سيعرِّف القرآن تعريفًا حياديًّا، يحاول أن يطعن في تعريف القرآن كما هو وارد في المراجع والمصادر الأصلية. ولم يكلّف نفسه حتى توثيق التعاريف التي استشهد بها.

ولكي يستقيم للجابري أمر دعوى أنّ التعاريف السابقة تعاريف إيديولوجية؛ يتعمدُ إقحام تعريفٍ آخر يتضمّن عبارة: «غير مخلوق»؛ ليحيي بذلك جدلًا كلاميًّا قديمًا، وصراعًا ذا نفحة اعتزالية.

ومع ذلك يزعم الجابري أنه سيحاول تعريف القرآن بعيدًا عن الطَّرْح الإيديولوجي.

ثم ينتقل دون استنتاج، على عادته في هذا العمل أن يفتح إشكالات دون غلقها، لينتقل إلى الحديث عن تعريف القرآن بالقرآن.

ويستهلّ ذلك بالمصادرة على المطلوب، حيث يخلص بكلّ سهولة إلى أنه وبناءً على ما ذكر من تعريفات فإنّ الكتابة في موضوع «التعريف بالقرآن» أمر مبرّر[9].

وهكذا يمضي الجابري في الحديث -دون سدّ الثلمات والثغرات في تحليله- إلى ادّعاء تعريف القرآن بالقرآن، ويذكر آيات بشكل انتقائي، ثم يصل إلى استنتاج غريب مفاده: «أنه من خلال هذه الآيات الثلاث؛ قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}[الشعراء: 192- 196]، وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}[الإسراء: 106]، وقوله سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}[آل عمران: 3]. التي تقدم لنا تعريفًا للقرآن في القرآن، سنحاول طرح أسئلة الكون والتكوين الخاصّة بما نسميه هنا الظاهرة القرآنية»[10].

ويحقّ لنا هنا أن نتعجّب كيف تم إقحام «الظاهرة القرآنية»؟ أين الموضوعية المزعومة إذا استحضرنا إيحاءات ودلالات الظاهرة القرآنية التي تدلّ على الفهم الوضعي للدين، والحمولة الإيديولوجية لكلمة (ظاهرة)؟

ومنه يقترح الجابري لتعريف القرآن الحديث عن مسار الكون والتكوين[11].

ويعلّق في الهامش: (أن أسئلة الكون والتكوين وهي غير أسئلة الأصل؛ لأن الأصل هنا وحي، والوحي ينتمي إلى منطقة التسليم والإيمان، وليس إلى ميدان البحث والبرهان)، ولنلاحظ هذا الموقف الذي ينضح بجرعات عالية من الأحكام المسبقة والإيديولوجية الطافحة.

وعلى دأبه في المسلك الانتقائي يختار الجابري بعض الآيات التي تخدم قصده مستبعدًا آيات أخرى تتناول تعريف القرآن.

ليخلص إلى تعريف غريب عجيب هو: «القرآن إذًا وحي من الله حمَله جبريل إلى محمد بلغة العرب، وهو من جنس الوحي الذي في كتب الرّسل الأولين. إنّ هذا يعني أنه من جهة ليس جديدًا كلّ الجدة بل هو استمرار للخطاب الإلهي إلى البشر، يقول تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}[فاطر: 31]، أي التوراة والإنجيل، كما يعني من جهة أخرى أنه تجربة روحية تتلخّص في تلقي الوحي؛ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}[الشعراء: 193][12].

وأنه من جهة ثالثة رسالة تجعل حاملها (من المنذِرين) المبين للناس ما هو حقّ وما هو باطل، وتجعله بالتالي في مواجهة معهم، وهكذا تنضاف إلى التجربةِ الروحية تجربةِ تلقي الوحي، تجربةٌ أخرى اجتماعية إرشادية دعوية»[13].

ولنتأمّل الغموض الذي يلفّ هذا التعريف؛ فليستْ هناك إشارة لخصائص القرآن، ولا طريقة نقله، بل لم يكتفِ بذلك؛ وإنما أقحم توضيحات أفسدَت التعريف من الناحية الشكلية والمنهجية، وكشفَت عن مراده، وإلّا ما معنى إدراج (ليس جديدًا كلّ الجدة)؟

ثم يضيف: «يجب أن لا ننسى أنّ موضوع بحثنا هنا ليس مادة جامدة ولا كائنات رياضية ولا إبداعات أدبية ولا مجرّد مساجلات كلامية ونظريات عقلية، بل هو نوع خاصّ ينتمي إلى ما يعبر عنه بـ(الظاهرة الدينية)، وهي تتميّز عن الظواهر الحسية والشعورية والعقلية والخيالية بكونها (تجربة روحية)، ومع أنّ الظواهر غير الدينية يحضر فيها الجانب الروحي بهذه الدرجة أو تلك، فإنها تبقى مع ذلك مشدودة إلى موضوعها الحسِّي أو العقلي أو الخيالي، ومطبوعة بطابعه»[14].

من خلال ما تم تفصيله آنفًا نستنتج أنّ مفهوم القرآن عند الجابري يلفّه كثير من الغموض والالتباس، ومأتَى هذا الغموض أنّ الجابري يروم التشكيك في التعريف المتفق عليه، الذي يشير إلى إعجاز القرآن وتواتر نقله والتعبّد بتلاوته وهيمنته على الكتب السماوية السابقة، وهذه الخصائص لا تسعف الجابري فيما يريد البناء عليه والتأسيس له، وهو ما سأبينه في العنصر الموالي من خلال مآلات تعريفه للقرآن الكريم.

2- مآلات التعريف وخلفياته:

عند التأمّل في التعريف الذي اختاره، نجد أنه يصدر عن منطلقات وأُسس تروم نقض مجمل ما توصّل إليه العقل المسلم من قواعد وأصول لتفسير القرآن. وعليه، بعد أن كسر الجابري ذلك الطوق وأعاد النظر في الثوابت والمسلّمات، يكون بذلك قد مهّد الطريق للتقرير والمرافعة لإثبات النتائج الآتية:

- عدم استبعاد فكرة الزيادة والنقصان في القرآن انطلاقًا من اعتبار مسألة التواتر مسألة خلافية.

- التشكيك في أمّية النبي صلى الله عليه وسلم.

- لم يتحدّث عن القراءة التعبّدية.

- استبعاد فكرة الإعجاز وتقزيمها إلى أبعد الحدود، بل طفح به الخيال إلى المقارنة بين تفرّد القرآن الكريم والإنجازات الأدبية والمقامية والشِّعرية.

- التغاضي عن المعطيات العلمية في القرآن الكريم.

- افتراض بشرية لغة القرآن (الأحرف السبعة).

- القول بخيالية قصص القرآن وعدم واقعيته.

- القول بتاريخية أحكام القرآن وظرفيتها.

- التوظيف الإيديولوجي لمباحث علوم القرآن.

- المماثلة بين القرآن والكتب السماوية.

- سوء توظيف معهود العرب.

- استبعاد السُّنّة.

- اطّراح كلّ التراث التفسيري وما قعّده العلماء من قواعد.

- التسوية بين المصادر الإسلامية وغيرها.

- اقتراح تفسير القرآن حسب ترتيب النزول.

- التأثر بالعقل الوضعي في التعامل مع قضايا الوحي.

ثانيًا: اللغة في فهم القرآن الحكيم عند الجابري:

1- معهود العرب عند الجابري:

معهود العرب هو: «مجموع الأنماط والأساليب الخطابية التي عهدتها العرب وعرفتها في الاتصال بلسانها العربي»[15].

وسُمّي معهودًا لانضباطه للسنن والمواضعة عليه وإِلْف استعماله، فصار بذلك وزانًا يُقاس عليه ويُحتكم إليه.

يقول الجابري: «لقد اشترط كثير من علماء الإسلام -عن حقّ- في من يريد دراسة القرآن أن يكون عارفًا بلغة العرب، معرفة أهلها بها، وأن يحصر فهمه له ضمن معهود العرب، أي ما يشكّل قوام حياتهم الروحية والفكرية والاجتماعية... إلخ، حجتهم في ذلك أن القرآن جاء يخاطب العرب ليفهموه، وأنه لا بد -تبعًا لذلك- أن يكون خطابه بلغتهم وفي إطار معهودهم الاجتماعي والثقافي حتى يمكنهم أن يفهموه»[16].

وذكر أيضًا: «أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار هنا أنّ لسان القوم ليس مجرّد رموز لغوية، بل هو أيضًا خازن ثقافتهم بما فيها من عادات وأعراف ومخايل وتطلعات، وإذًا فالتنصيص في القرآن مرارًا وتكرارًا على كونه (نزل بلسان عربي مبين) ليس معناه فقط أنّ كلماته عربية، بل معناه أنّ العربية جزءُ ماهيته كما يقول الأصوليون، بمعنى أنّ اللغة العربية -كأساليب في التعبير وكمخزون ثقافي- مكوِّنٌ من مكوّنات ماهيته، فهو قد نزل ليس فقط بكلمات عربية بل حسب معهود العرب، ولو لم يكن حسب معهودهم لما أمكن أن يفهموه»[17].

وقال أيضًا: «فالظاهرة القرآنية وإن كانت في جوهرها تجربة روحية؛ نبوّة ورسالة، فهي في انتمائها اللغوي والاجتماعي والثقافي ظاهرة عربية، وبالتالي يجب أن لا ننتظر أن تخرج تمامًا عن فضاء اللغة العربية؛ لا على مستوى الإرسال ولا على مستوى التلقي»[18].

وقال: «قد نضطر إلى أن نذكر في الهامش ما هو ضروري لشرح كلمة أو بيان مسألة مما ذكره المفسِّرون القدماء في شأنها، مأخوذًا من مخايلهم الاجتماعية والفكرية وموروثهم الثقافي، وهذا ليس لأنّ ما ذكروه صحيح في نفسه، بل لكونه يعبّر عن فهم العرب لتلك الكلمة أو المسألة، والقرآن خاطَب العرب حسب معهودهم، وبالتالي أراد منهم أن يفهموا في إطاره ما يخاطبهم به»[19].

هذا ما قرّره الجابري حول معهود العرب، فلننظر كيف طبّق ذلك وأعمله، وهل التزم المقصود بهذه القاعدة أم أنه طوّح بها تطويحًا؟

لقد انطلق من المفهوم الذي ضمّنه لمعهود العرب لتحديد مفهوم الوحي، يقول: «في هذا الإطار يجب الانتباه إلى أنّ مفهوم (الوحي) بمعناه الديني لم يكن من معهود العرب اللغوي والثقافي، الشيء الذي لا بدّ أن يكون قد سهل على خصوم الدعوة المحمدية الدعاية ضدها وصرف الناس عنها.

ومثل (النبوّة) في ذلك، فالنبوّة والنباوة في اللغة تفيد معنى الارتفاع عن الأرض، والنبي المرتفع منها، وهذا يعني أنّ العرب قبل الإسلام لم يكن لديهم أيّ تصورٍ للنبوّة إلا بمعنى الرفعة والشرف؛ أمّا أن يتلقَّى الواحدُ من البشر الوحيَ من الله فذلك ما كان غائبًا عن معهودهم»[20].

إذًا كيف نجمع بين هذا القول وبين ما ورد سابقًا من أنّ القرآن نزل حسب معهود العرب ومخزونهم الثقافي؟!

ويزداد الأمر التباسًا عندما يستعمل الجابري سلاح معهود العرب لاستبعاد كلّ محاولة لفهم القرآن من خلال استثمار المعطيات العلمية الواردة فيه، وإن كان يجيز لنفسه إعمال المناهج المعاصرة في التأويل والترجيح والبيان، وخير دليل على ذلك حديثه المسهب عن أسئلة الكون والتكوين.

ولعلّ سبب هذا الاضطراب راجع بالأساس إلى محاولة الجابري الاستعاضة عن القول بتاريخية القرآن بمعهود العرب.

وإذ يعتبر الجابري (الوحي والنبوّة) مفاهيم لا عهد للعرب بها، لماذا لا يعتبر مصطلح (الأمّية) من ذلك القبيل عوض التمحّل في البحث عن دلالة خفية لمفهوم الأمّية؟ لينتهي إلى أنّ الأمّية ليست علامة على المعجزة. وليبرهن على أنّ المعنى المتداول للأمّية من الأفكار المتلقاة.

يرى عبد الرحمن الحاج أن الجابري الذي قرّر قاعدة مراعاة معهود العرب هو نفسه يستعين في بعض الأحيان باللغة العربية واللغات الساميّة، ويجري مقارنة غير مبررة مع هذه اللغات، بحيث يرجع الأصل اللغوي العربي لها[21]. أليس هذا الاستطراد والاستعانة بالدلالات اللغوية الساميّة والعبرية بشكلٍ خاصّ يتناقض مع قاعدة الاعتماد على معهود العرب؟

من ذلك ما ورد في (الأنام)، قال: «ربما تكون هذه الكلمة معرّبة من (أنيما anima) التي تعني باللاتينية واليونانية النّفْس (أو مبدأ الحياة أي ما يجعل موجودًا ما ينتمي إلى الكائنات الحية)، وما زال هذا المعنى حاضرًا في اللغات الأوربية»[22].

ولنستحضر هنا ملحوظة (بلقزيز) النقدية على الجابري، حيث أخذ عليه منحه لنفسه حرية مطلقة في التصرّف في المفاهيم والمناهج بشكلٍ يخرج بها عن المقصود منها[23]. ولقد دأب الجابري على هذا المسلك حيث يسهب في التقعيد والبناء النظري، لكن عند الممارسة العملية يجنح بعيدًا عن القواعد والضوابط التي وضعها بنفسه، ولنتذكر هنا أيضًا نقده الشديد للمستشرقين ثم لا يلبث أن يكرّر نفس مقولاتهم. وهذا المسلك كان يوقعه في تناقضات صارخة.

2- الضابط اللغوي عند الجابري:

لقد طرح الجابري سؤالًا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون بريئًا، ويتعلّق الأمر بـ«العلاقة بين القرآن كنصّ مقروء ومكتوب بلغة البشر، سواء اللغة العربية أو اللغة التي قد تترجم إليها معانيه، وبين القرآن بوصفه كلام الله، والسؤال العام الذي طرح في هذا الصدد يمكن صياغته كما يلي: هل القرآن بلغته ونظمه ومصحفه وحروفه هو كلّه كلام الله، أم أن معانيه فقط هي وحدها كلام الله؟»[24].

من هذا التساؤل سيوسّع الجابري مجال التأويل اللغوي وسيتحرك بحرية واسعة في التفسير والبيان وإجالة النظر، حتى ليخال القارئ أحيانًا أنه يحلل نصًّا أدبيًّا ولسنا أمام وحي إلهي.

وبيان ذلك من خلال تفسيره للمصطلحات الآتية:

- الأُمّية:

لقد أطال الجابري النّفَس في إثبات أنّ النبي كان يقرأ ويكتب إلى حدّ الإسهاب في الحديث، وإذ أقرّ أنّ مسألة أمّية النبي -صلى الله عليه وسلم- مسألة خلافية[25] منذ زمن بعيد، فإني أسجّل ملحوظات على منهجية الجابري في إثبات الأمّية، وأخصّ بالذِّكْر ما يتعلّق باللغة، ونظرًا لأنّ الأمر سيطول أكتفي بآية واحدة تتضمّن الإشارة إلى أمّية النبي، وهي آية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: 48]. وقد اخترتُ هذه الآية؛ لأنّ إثبات الأمّية فيها يرجح معنى الأمّية في الآيات الأخرى.

يذكر الطاهر بن عاشور أنّ من الأخطاء «أن يفسِّر القرآن برأيٍ مستندٍ إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يَزعُم أنّ ذلك هو المراد دون غيره؛ لما في ذلك من التضييق على المتأوِّلين»[26]. وهو صنيع الجابري في مواطن عدّة من دراسته، منها ما تناوله في تحديد مفهوم الأمّية.

يقول: «إنها الآية التي يتخذ منها المفسِّرون جميعهم دليلًا على أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف القراءة والكتابة، وإن كان بعضهم ينظر إلى القول إنه تعلَّم ذلك في مرحلة متقدِّمة من الدعوة المحمدية... فالمقصود في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} هو أحد كتب أهل الكتاب، فهي وحدها التي يمكن أن ينصرف اهتمام قريش بكونه كان ينسخ منها»[27].

فلنلاحظ هنا توجيه الجابري كلمة {كتاب} إلى أحد الكتب السماوية رغم وجود كلمة كتاب منكرة ودون قيد، وهذا ما تأباه اللغة، فضلًا عن اللغة التي كتبت بها تلك الكتب المزعومة لم تكن العربية، فهل كان النبي على علمٍ بها أم تُرجِمَت له؟

ولكن الجابري لأنه حريص على نفي صفة الأمّية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لغرضٍ ما، دفعه ذلك إلى التحكّم في معنى اللفظ لتطويعه لما يريد، مثل ادّعائه أن القراءة والكتابة كانت منتشرة زمن نزول الوحي، وكذلك وقع في تناقض صارخ لمّا ذكر أن لفظ الأمية بمعنى عدم معرفة القراءة الكتابة غير موجود في لغة العرب، والمقصود بالأميين مَن ليس لهم كتاب، دون أن يقيم الدليل على وجود هذا المعنى الأخير في لغة العرب وهو تحكّم صارخ وجلي. وهذا من أدلة ذاتية التأويلات في القراءات المعاصرة.

- معنى الآية:

يرى الجابري أنّ الآية في القرآن الكريم ترِد بمعنى العلامة والإشارة والدلائل والحجج لبيان أنّ للكون صانعًا، حيث عرض كلّ الآيات التي تضمّنت لفظ آية مؤولًا إياها تعسّفًا ليقصرها على الآية الكونية، مهدرًا بذلك سعة معاني القرآن وغنى مفرداته، من ذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]. قال: تعددت أقوال المفسِّرين حول هذه الآية بناءً على أنّ لفظ (آية) معناه جزء من القرآن، أمّا نحن فنرى أنّ هذا اللفظ في القرآن كلّه يحيل إلى العلامات والمعجزات والدلائل والحجج التي يذكرها الله لحمل العقل البشري على التسليم بأنّ لهذا العالَم صانعًا هو الله تعالى، وأنه على كلّ شيء قدير، وأنّ البعث واقع... إلخ، وإذن فالمعنى أن هذا الكتاب يشتمل على دلائل وجود الله ودلائل البعث... إلخ، ثم عرضها ببراهين محكمة، ثم فصلت بالقصص والأمثال وما أشبه مما يدخل في معهود العرب، وأيضًا بلسان عربي مبين.

ومن الطريف أنّ الجابري الذي يرفض أن يكون للآية معنى غير الآية الكونية سيعمل في دراسة الآية بمعنى الجملة القرآنية بقول: «آية كذا»، و«تفسير الآية»!

 ولنتأمّل عبارة الجابري الملغومة عندما تحدّث عن حمل العقل البشري على التسليم، وليس الإقناع، وهو أسلوب انسيابي يلتف به الجابري ويخاتل؛ لأنه وإن كان يريد أن يحمل لفظ الآية على الإشارة الكونية، لا يريد أن يقر باستعمال القرآن الكريم الظواهر الكونية لإقناع العقل وبناء منهج التفكير السليم، وإنما ليستسلم العقل ويذعن.

ولا نختلف مع الجابري أنّ الآية تعني في اللغة العلامة والإشارة، ولكن الذي نستغرب منه استبعاد أن تدلّ الآية على الجملة القرآنية، أن يضرب صفحًا عن كلّ الأدلة الواردة في ذلك، مع أنّ لفظ الآية الوارد في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]، أنّ الآية أُضيفت إلى الكتاب ولم تُضَف إلى الكون، فأين مراعاة قرينة السياق؟ ولكن الجابري لأنه مسكون بإثبات فكرة الأفكار المتلقاة، كان شديد الحرص على التشكيك حتى في البديهيات وما تم الاصطلاح عليه.

- العموم والخصوص:

يرى الجابري أنّ القول بالعموم والخصوص مسألة طارئة استحدثت في عصر التدوين، أمّا الصحابة فلم يكونوا يقولون بذلك ولا يُعَدّ من قواعدهم المنهجية في فهم القرآن، بل كانت المصلحة هي الموجّه لاستنباطاتهم واجتهاداتهم. وعليه، فإنّ عصرنا اليوم له حاجات ومشاغل خاصّة به تختلف عن تلك التي أمْلَت على الفقهاء والأصوليين القدامى قواعدهم ومناهجهم. إنّ معالجة مشاغل عصرنا تتطلّب تجاوز القيود المنهجية التي قيّدت بها المعرفة الدينية في الماضي[28].

ولقد استصحب الجابري هذه الرؤية وسار على هذه الوجهة، وهو يرتّب سور القرآن حيث قال: «ومع أنّ تواريخ حوادث السيرة في المدينة تختلف في بعض الأحيان عند هذا المرجع أو ذاك، فإنها في جملتها تساعد كثيرًا على ضبط تاريخ النزول ومناسبته. وهذا يفسح المجال لفهم أفضل لما اصطلح عليه بـ(العموم والخصوص). فالعامّ ليس هو ما ورد لفظه في الصيغة اللغوية التي تفيد العموم، مثل: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا}، إِذْ كثيرًا ما ترِد هنا الصيغة، والخطاب موجّه إلى البعض دون الكُلّ»[29].

ثم يرتّب على ذلك القضية الآتية، وهي: «ضرورة جعل المقروء معاصرًا لنفسه، ومعاصرًا لنا في الوقت نفسه: معاصرًا لنفسه بمحاولة فهمه في إطار زمانه ومعهود المخاطَبِين به، الشيء الذي يعني بالنسبة إلى فهم القرآن ضرورة استحضار المرويات التي تساعد عليه وتحمل الحدّ الأدنى من المصداقية، مع تحرّي المساوقة بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة.

ومعاصرًا لنا بمحاولة تطبيق ذاك الفهم، في مجال العقيدة والشريعة، بالتمييز فيه بين (العامّ المطلق) و(العامّ المقيد)، والتزام الأول كخطاب معاصر لنا لتطبيقه، والتزام الثاني كخطاب أخلاقي لأخذ العبرة واستلهام الحلول»[30].

يرى عبد الرحمن الحاج أن: «من حقّ الجابري تأويل القرآن في سياق النزول؛ لأنه لا بدّ أن يكون للسياق معنى، لكن ليس من حقّه حصر الدلالة بسياق السيرة، وإلا فعليه تفسير ورود القرآن بصيغ العموم مع قدرته على الإتيان بصيغ خصوص لا تقبل التعميم!»[31].

وهذا من الاختلالات المنهجية التي تُسائِل جدوى الدراسة وتكشف بعض المرامي غير المعلنة.

فإذا جارينا الجابري في ما يريد من التخصيص بسبب النزول، فإنّ ذلك سيقضي -لا محالة- على معاصرة القرآن لنا بالكامل، ذلك أن كلّ القرآن كان له معناه الخاصّ زمن النزول، فلو أعملنا النظرية الجابرية هذه لحوّلنا القرآن إلى وثيقة تاريخية منتهية الصلاحية، منتجة لسياق وفي سياق محدّد، إِذْ ما الذي يمنع من ذلك؟ أليس تحكّمًا بأن نقبل بأن يكون بعض العموم خاصًّا بسياق النزول ونترك بعضه الآخر على عمومه؟ فمن الواجب أن يسوغ الجابري ذِكر صيغة العموم من أصلها، لِمَ وردت بصيغة العموم وليس بصيغة الخصوص؟ أليس في هذا التباس يتركه القرآن (المحكَم) في متلقِّي آياته؟ أليس هذا نقيضًا للوضوح الذي توخّاه (الكتاب المبين)؟ لا يكفي أن يقال إنّ هذا أسلوب عربي غير ذي عوج، فالغاية التي نزل بها القرآن كرسالة للعالمين لا تتفق مع هذه الفرضية، ولا أن يُقال إنّ الأصوليين -وعلى رأسهم الإمام الشافعي- يقولون بالعموم، المراد به الخصوص بالقرآن، ذلك أن تخصيص العموم لديهم مرتبط بالسياق القرآني (القرائن السياقية) أو بصريح السنّة (الصحيح)، وليس بالسياق التاريخي[32].

خاتمة:

نستنتج أنّ التعريف الذي اختاره الجابري للقرآن يؤُول في نهاية المطاف، حتى وإن لم يقصد الجابري إلى ذلك، يؤُول إلى نزع القداسة عن القرآن الكريم ونزع صفة الإعجاز والتواتر عنه؛ وتلك من أهم خصائص القرآن المميزة له عن غيره.

ونستنتج أيضًا أنّ الجابري يهدر الدلالة اللغوية لصالح ميوعة الفهم وتمطيط دلالات القرآن، فيصبح النصّ القرآني قالبًا ووعاءً مَرِنًا يتشكّل حسب ما نريد، لا بحسب ما يقتضيه معنى الخطاب القرآني ومقاصده. وهذا دأب كلّ أصحاب القراءات المعاصرة مع الضوابط اللغوية، ولقد أعطى الجابري لنفسه الحقّ في انتقاد جامعي اللغة، وكان يصحِّح ويضعِّف، وإِذْ نُقِرّ بمكانة الجابري العلمية وموسوعيته وسعة اطلاعه، لكنه ليس من المختصّين في اللغة ليستدرك على المعاجم واللغويين كما فعل مع (الزجّاج في مسألة الأمّية).

وعليه، فالجابري لا يقيم للضابط اللغوي وزنًا وإن تظاهَر بذلك، ولا سيما أن الجابري له موقف خاصّ من العقل البياني، فهذا من امتدادات الموقف من البيان في فهم القرآن، ومن ترسباته. وإذا كان الجابري وقع في التناقض بين القول بمعهود العرب لمحاصرة الخطاب القرآني في البيئة الثقافية لزمن نزوله، ثم بدأ يطوِّع الآيات ليضمّنها من المعاني ما يتماشَى مع طرحه ورؤيته، فإنّ المفسِّرين أخذوا بهذه القاعدة ولكنهم لم يجنحوا كما وقع للجابري، فنجد ابن عاشور -على سبيل المثال- انضبطت له القاعدة، فهو وإن قال بمعهود العرب من حيث مراعاة الدلالة زمن النزول، لكنه تحدّث من جهة أخرى عن مبتكرات القرآن وعاداته، وأطال النّفَس في بيان أن أساليب اللغة العربية وتنوع أغراضها يتيح استمرار دور المعاني، مشيرًا إلى أنّ القرآن وإنْ صِيغ باللغة العربية، فلا ينبغي الذهول عن كونه كلامًا إلهيًّا، وهذا ما فنيت فيه أعمار العلماء في كشفه في نظرية الإعجاز التي قزّم الجابري من اعتبارها؛ «لأنّ القرآن الكريم قد عبّر عن الحقيقة بألفاظ تستوعب ما عهدوا في الوقت الذي لم يجرح فيه الحقيقة الكونية وما في الواقع، وذلك من جملة إعجازه حين يخاطب العصور، فيدرك كلٌّ فيها بغيته من غير مخالفة الواقع الكوني»[33].

ولا يستطيع أحد أن يزعم استنفاد القرآن لكلّ معانيه ودلالاته، وإذا كان الأمر كذلك لا بد من التوصّل إلى معاني جديدة كلّ الجدة، وشرط ذلك وحدّه «أن يكون على معهود العرب في النوع لا في الجنس، ومعنى هذا أنّ ذلك الفهم الجديد لا يكون غريبًا على النظام العربي في الفهم للنصوص بشكلٍ عام، ولا يشترط أن تكون الموافقة لمعهودهم على وجه الخصوص، أو بعبارة أخرى أن يكون الفهم الجديد لو عرض على أهل العربية لم يرفضوه، هذه الحقيقة هي المنطلق الأساس للتعامل مع النصّ القرآني»[34].

ولذلك نجد محمد عبد الله دراز يقول: «أمّا أنّ القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا؛ فذلك في جملته حقّ لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار»[35].

ولكن وجه تميّز القرآن أن يستعمل نفس العبارات ونفس المباني، ولكن شتان بين التوظيف القرآني لها واستعمالها البشري، فالأمر حسب (دراز) أشبه بمهندس يستعمل نفس مواد البناء وأدواته، ولكن إتقان الصنعة يجعل المنتوج بديعًا والإنجاز فريدًا.

 

[1] بنية العقل العربي؛ دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- ط9، 2009م، ص568.

[2] نقد العقل العربي نظرية العقل، جورج طرابيشي، دار الساقي، 2013م، ص7.

[3] مدخل إلى القرآن الكريم في التعريف بالقرآن، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006م، ص16.

[4] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص14.

[5] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص17.

[6] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص17.

[7] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص18.

[8] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص18.

[9] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص19.

[10] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص19.

[11] ولا يخفى أنّ الحديث عن الكون والتكوين يمتد بجذوره إلى البنيوية كمنهج، وإذا طبّقنا هذا المنهج على قضايا الإيمان فإن المآل هو التشكيك في المسلّمات وتقويض الثوابت.

[12] ولننظر إلى إقحامه وتعسفه في حمل الآية على مسمى (التجربة الروحية) مع ما تحمل من معاني الغموض والالتباس.

[13] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص24.

[14] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص26.

[15] معهود العرب في تلقي الخطاب الديني، أحمد شيخ عبد السلام، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، عدد 48/ 1422هـ، ص65.

[16] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص28.

[17] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص195.

[18] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص196.

[19] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص258.

[20] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص112.

[21] الجابري وإعادة فهم القرآن الحكيم، عبد الرحمن الحاج، جريدة المحجة، عدد 20/ 2010، ص208.

[22] فهم القرآن، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (1/ 84).

[23] نقد التراث، عبد الإله بلقزيز، مركز دراسات الوحدة العربية، 2014م، ص230.

[24] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص171.

[25] من ذلك ما ورد في رسالة أبي الوليد الباجي: (تحقيق المذهب في أنَّ رسول الله قد كتب).

[26] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393) الدار التونسية للنشر، 1984م، (1/ 31).

[27] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص91.

[28] الدين والدولة وتطبيق الشريعة، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 2011م، ص11- 12.

[29] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، ط4، 2015م، (3/ 36).

[30] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 37).

[31] الفهم والتفسير، عبد الرحمن الحاج، ص206.

[32] الفهم والتفسير، ص207.

[33] معايير القبول والردّ لتفسير النصّ القرآني، عبد القادر محمد الحسين، دار الغوثاني، ط2، 2012م، ص659.

[34] معايير القبول والردّ لتفسير النصّ القرآني، عبد القادر محمد الحسين، ص665.

[35] النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن، محمد عبد الله دراز، دار الثقافة- الدوحة، 1975م، ص90.

الكاتب

الدكتور مصطفى فاتيحي

حاصل على الدكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب، وأستاذ التعليم التأهيلي الثانوي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))