تعريف بمخطوط مصحف جامعة توبنجن الألمانية رقم MaVI165

الكاتب : هند الورداني
للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بمخطوطة مصحف جامعة توبنجن الألمانية برقم MaVI165، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعِلْمية المتعلّقة بها.

  لم تَحْظَ مخطوطات المصاحف بالاهتمام اللائق والمكانة اللازمة لها من قِبَل الباحثين العرب على مدار قرون، ومن العجيب أنّ الحضارة الغربية والمستشرقين كانت لهم اليد العليا في الحِفَاظ على مخطوطاتنا الإسلامية، فسبحان مَن سخّر هؤلاء لخدمة دينه وهم ليسوا من أهله، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذْ يقول: (إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ)[1]. وتعتبر مخطوطة جامعة توبنجن الألمانية من أحدث مخطوطات القرآن الكريم التي أُعْلِنَ عنها في عصرنا الحالي، حيث أَعَلَنَتْ جامعة توبنجن رسميًّا في نوفمبر 2015م أنّ علماءها قد عثروا على نسخة من المصحف هي أقدم مما كان يُعْتَقَد في بداية اكتشافها، وتأتي دراستها ضمن المشروع العالمي Corpus Coranicum أو مشروع (الموسوعة القرآنية)، وهو أحد أكبر المشروعات الاستشراقية لدراسة القرآن الكريم بالتعاون بين الأكاديمية الفرنسية بباريس والأكاديمية الألمانية ببرلين[2].

وكانت قد وصلت هذه المخطوطة إلى مكتبة جامعة توبنجن عام 1864م، عندما اشترتها الجامعة من دمشق كجزء من الكتب الخاصّة بالقنصل البروسي يوهان جوتفريد فيتسشتاين، ولم يتبيّن للجامعة حينها الزمن الذي كُتِبَتْ فيه. وفي هذه المقالة سنحاول التعريف بهذه المخطوطة؛ فنبيّن جانبيْها المادِّي والعِلْمِي، ونُشير كذلك لطرف من أهميتها.

أولًا: الوصف المادي الظاهري للمخطوطة:

● عدد الأوراق: 77 ورقة (بإجمالي 154 صفحة مترابطة على شكلِ كراسة).

● نوع الورق: جلد أصفر اللون.

● الحجم: 18 × 13 سنتيمترًا.

● عدد الأسطر في الصفحة الواحدة: 18 - 21 سطرًا.

● حالة المخطوطة: المخطوطة بحالة جيدة، وعلى الرغم من وجود خروق في الصفحات 106 و108 إلا أنّ النصّ القرآني لم يلحقه أيّ ضرر[3].

● الحبر المستخدَم في الكتابة: حبر العفص (وهو حبر أسود اللون يبهت مع مرور الوقت والتعرّض للشمس ليعود إلى لونِ مكوّنه الأساسي وهو البُنِّي).

● نوع الخط المستخدم:

ادّعَى موقع جامعة توبنجن الذي يوفّر نسخة إلكترونية للباحثين من المخطوطة أنها مكتوبة بالخط الكوفي[4]، وهو ما لا يمكننا التسليم به، فلا يمكن لمخطوطة حجازية إلا أن تكون مكتوبة بالخط الحجازي، وهو أمرٌ واضحٌ للناظر إلى المخطوطة من أول وهلة من خلال سمات الخطّ الجاف والألف المائلة لليمين، وقد تنبه لهذا الخطأ المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش في كتابه (مصاحف الأمويين) فقال: «مخطوطة توبنجن، مكتبة الجامعة برقم MaVI 165 ربما تُعَدُّ مثالًا على النُّسَخ الشائعة لهذه الفترة (fig.6) -أي: المصاحف الحجازية-، وخطّها يمكن أن يُوصَف بأنه أحد خطوط (BIa) -أي: الخط الحجازي الوسيط-، وهو قريب من مخطوطة سانت بيترسبورج رقم IOS E 20»ـ[5].

ثانيًا: الوصف العِلْمي للمخطوطة:

1- المحتوى:

لم تتطرّق مكتبة الجامعة الألمانية إلى وصف محتوى المخطوطة، وإنما اكتفت بجانبها المادي. وبتأمّل المخطوطة نجد أنها تبدأ أمن منتصف الآية (35) من سورة الإسراء حتى الآية (56) من سورة يس [أي: الربع الثالث من القرآن الكريم تقريبًا].

2- الخُلُوّ من الشَّكْل:

المخطوطة كانت خالية من الشَّكْل وقت كتابتها، وإنما أُضِيفَتْ إليها بعض العلامات باللون الأحمر لاحقًا، وهو نفس ما توصّل إليه المستشرق الألماني ماكس فيسفيلر؛ ولذلك فإنها على الأرجح قد كُتِبَتْ في عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قبل استخدام نقط الإعراب الذي لم يظهر إلا في عهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- على يدِ أبي الأسود الدؤلي.

3- بدايات السّوَر:

الفاصل بين بدايات السّور هو مجرّد سطر فارغ بلا أيّ تزيينات أو كتابة لأسماء السور في الـمُفْتَتَح، وإنما ظهرت في المخطوطة بعض المحاولات اللاحقة التي يبدو أنها كُتِبَت بواسطة عدد من الأشخاص في أزمنة مختلفة؛ فنرى كتابة لأسماء السور بخط نسخ أسود باستخدام الحبر الكربوني مع شيء من الزخارف البسيطة في بعض الأحيان.

الصورة توضح خط النَّسْخ المستخدم في محاولات كتابة أسماء السور في أزمنة مختلفة بمخطوطة جامعة توبنجن، وقد ظهر هنا كتابة اسم سورة الكهف.

ومن الطبيعي ألّا نجد تزيينات في مخطوطة توبنجن؛ لأن زخرفة المصاحف لم تكن قد أخذتْ مأخذها في عصر صدر الإسلام، حتى إنّ تلك الإضافات اللاحقة المكتوبة بالنَّسْخ ليست بنفس الجودة الموجودة في بعض مخطوطات مصاحف الجامع الكبير بصنعاء، والمكتوبة في القرن الثالث الهجري، حيث يوجد فاصل جميل من الزخارف بين السور، مع كتابة اسم السورة المختتمة وعدد آياتها في نهايتها بالخط الكوفي.

إحدى مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء يتضح فيها الزخارف بين سورتي المؤمنون والنور، وقد كُتِبَ في وسط الزخارف: «ختمة سورة المؤمنين وهي تسعة عشر ومائة آية».

4- عدّ الآي:

نلاحظ في المخطوطة وجود علامات تعشير آخذة شكلَ الشّمس، وهي علامة تشير إلى مرور عشر آيات، بالإضافة إلى بعض المحاولات لوضع علامات لدى نهاية بعض الآيات، تأخذ شكل هرم من ثلاث نقاط حال وجود مسافة مناسبة، وتوضَع فوق بعضها بعضًا مع ضيق المسافة، وكلّ هذه العلامات من الواضح أنها لم تكن موجودة زمن كتابة المخطوطة وإنما أُضِيفَت لاحقًا؛ لأنه ببساطة لا يوجد مكان لها، ونرى أنها قد أُقْحِمَت في تلك المسافات الصغيرة بين الكلمات حتى إنها لَتتداخل فوق الحروف.

الصورة الأولى نرى فيها علامة التعشير ظاهرة على شكل شمس، وقد التصقَتْ بالحروف التصاقًا شديدًا لعدم وجود مكان لها؛ مما يعني أنها قد أُضِيفَت بعد زمن كتابة المخطوطة. وأمّا الصورة الثانية فتظهر فيها بعض المحاولات لوضع علامة نهاية الآية رقم (4) من سورة الكهف على شكل أربع نقاط فوق بعضها بعضًا؛ لعدم توفّر مكان لوضع شكل الهرم الثلاثي.

ويجدر بنا الآن الإشارة إلى أمرَيْن بشأن هذه المخطوطة:

أولًا: نلاحظ في الصفحة السادسة من المخطوطة على هامشها من جهة اليسار أنه قد كُتِبَ بجوار قوله تعالى من سورة الإسراء، آية 84: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} كلمةُ (شكلاته) بخط النسخ بواسطة حبرٍ أسود، ومن الواضح أنها قد كُتِبَت في زمن مغاير لكتابة المخطوطة.

ويبدو لنا أن المقصود بها (شاكلات) جمع شاكلة، مع حذف الألف طبقًا لقواعد الرسم العثماني، وبالتالي قد تكون هناك قراءة شاذة بالجمع ولكنها لم تصل إلينا.

الصفحة رقم 6 من المخطوطة ويظهر في هامشها كلمة (شاكلاته) بحذف الألف مرسومة بخط النسخ.

● كذلك في الصفحة 74 من المخطوطة نجد أن الفعل (آمنوا) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} من الآية 62 من سورة النور، قد تعدّى باللام بدلًا من الباء، وهو أمر صحيح لغويًّا، ولكنه لم تصِلنا أيّة قراءة بهذا الشَّكْل لتلك الآية، وقد حاول شخص في زمنٍ لاحق إضافة باء التعدي للفعل بخطٍّ وحبرٍ مغاير لخط الصحيفة الأصلي، فظهرتْ لنا كما في الصورة بالأسفل، ومما سبق نستخلص أنّ هذه المخطوطة تخبِّئ الكثير من الحقائق حول فترة جمع القرآن واستقرار القراءات، وهذا يبيّن لنا أهميتها وأهمية أن تحظى بدراسة من أرباب القراءات لاستجلاء ما قد تفيده من نظرات في هذا المجال.

ثانيًا: مخطوطة توبنجن هي مخطوطة منسوبة إلى عصر صدر الإسلام، حيث أثبتَت الأبحاث المعملية بالكربون المشعّ على عيّنات من جلد المخطوطة أنها تعود إلى الفترة ما بين عامي 649- 675م، أيْ بعد أقلّ من عشرين سنة من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبقراءة هذه الفترة الزمنية فإنه يُحْتَمَل أنها قد كُتِبَتْ على عهد أحد الصحابيَّيْن الجليلَيْن؛ عثمان بن عفان، أو عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وإنه لمن المثير أن تكون بين أيدينا مخطوطة قرآنية تعود إلى عصر الخلفاء الراشدين، وهذا يدلّ على أهمية هذه المخطوطة بشكلٍ خاصّ، وأنها بذلك تَرُدُّ بشكلٍ قاطع على ادعاءات المستشرق الأمريكي جون وانسبرو وأتباعه؛ إِذْ يزعم أنّ القرآن الكريم لم يظهر إلا أواخر القرن الثاني الهجري؛ كي يسمح بتأثُّره ببيئة النصرانية المتأخّرة، فكيف لرجلٍ أُمِّيّ مثل محمد يعيش في قلب صحراء الحجاز أن يأتي بكتابٍ مشتمل على أخبار الأوّلين والآخرين إلا أن يكون قد نَحَلَه أتباعه المسلمون من الكتاب المقدّس لدى غزوهم للبلاد المختلفة؟!

وقد وجدت دعوة وانسبرو صداها لدى الإلحاد الغربي ودعاة التنصير، وأمثاله لا يأبهون لأسانيد القرآن المتواترة، ولا لكونه كتابًا يُتْلَى في الصلوات الخمس من بلاد المسلمين المختلفة منذ بدء البعثة وحتى يومنا هذا، وإنما تردّ عليه هذه المخطوطة وأخواتها من مخطوطات المصاحف الحجازية الراجعة إلى عهد صدر الإسلام.

وقد ردّ على هذه الادعاءات المستشرق فرانسوا ديروش في كتابه (القرآن... ماذا أعلم عنه؟) قائلًا: «صحيح أن جون وانسبرو قد دافع عن فكرة أنّ النصّ -كما نعرفه- قد دُوّن بصورة متأخّرة، واقترح أن نهاية القرن الثامن أعلى تاريخ ممكن لهذه العملية، لكن الآثار المادية لتداوُلٍ كتابيٍّ للقرآن مطابقٍ للنسخة العثمانية تعود في أسوأ الأحوال إلى زمن لا يتجاوز نهاية القرن السابع =قد استبعدت هذا الاحتمال بشكلٍ قاطع»[6].

الخاتمة:

لا شكّ أنّ مخطوطة جامعة توبنجن تفتح الباب على مصراعيه للبدء في بحثٍ جادٍّ حول أركيولوجيا القرآن الكريم؛ فإنّ عزوف الباحثين الإسلاميين عن دراسة المخطوطات القرآنية وغيرها من وقائع القصص القرآني قد غَرَّ المتطرّفين الغربيين ببثّ شبهاتهم حول القرآن الكريم من خلال ربط مصيره بمصير الكتاب المقدّس المحرَّف.

والواجب على المسلمين ردّ الأمر إلى نصابِه؛ بتحرير هذا العلم من تحريف النصارى وعدمية الملاحدة واللادينيين، وفكّ أركيولوجيا القرآن عن أركيولوجيا الكتاب المقدّس في المسائل المختَلَف فيها بينهما؛ فأركيولوجيا القرآن عِلْمٌ يجب أن يجد مكانه الذي يليق به ضمن علوم القرآن؛ بأن تُرْصَد له الطاقات العلمية والأموال، وأن يُوَجَّه طلبةُ الدراسات العليا لكتابة رسائلهم وأطروحاتهم فيه[7].

وختامًا، فإنّ مخطوطة جامعة توبنجن بعودتها إلى فترة متقدّمة من عصر صدر الإسلام لهي مادة خِصبة للباحثين المسلمين في كافة مجالات الدراسات القرآنية، وهي لا تكتفي ببيان خصائص وطرح تساؤلات وإنما تفتح الباب لعلمٍ جديد يأخذ بيدِ المسلمين إلى العناية بتراثهم عبر (أركيولوجيا القرآن)، فإلى متى ستظلّ مخطوطاتنا حبيسة لدى المستشرقين، ينصفها أحدُهم... ويرميها بالطعون والشبهات وسوء الفهم المئاتُ من الحاقدين منهم على الإسلام؟!

 

 

[1] متفق عليه: البخاري (1365)، مسلم (109).

[2] انظر: مخطوطة جامعة توبنجن رقم MaVI 165: دراسة مقارنة مع مصحف القاهرة، محمود عبد الله النزلاوي، أبحاث المؤتمر الدولي الأول: قراءة التراث العربي والإسلامي بين الماضي والحاضر، مركز تحقيق المخطوطات وجامعة قناة السويس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الإسماعيلية - مصر، 2017م.

[3] انظر: المصدر السابق؛ مخطوطة جامعة توبنجن رقم MaVI 165: دراسة مقارنة مع مصحف القاهرة.

[5] Qurans’ of the Umayyads: a first overview, François Déroche, P.P: 132, Leiden Brill, 2014.

[6] Le Coran: «Que sais-je?», François Déroche, P.P: 74 – 75, Presses Universitaires de France, 2014.

[7] الوجود التاريخي للأنبياء وجدل البحث الأركيولوجي: شبهات وردود، سامي عامري، ص537، مركز رواسخ، الكويت، الطبعة الثالثة، 1442هـ - 2021م.

الكاتب

هند الورداني

حاصلة على ماجستير العلوم البيطرية - جامعة الإسكندرية، ولها بعض الأعمال المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))