دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بمكتبة (حكيم أوغلو) برقم (1) بإستانبول

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة (حكيم أوغلو) بإستانبول، مكتوبة في القرن الرابع الهجري، وتستعرض عددًا من الجوانب الماديّة والعلميّة المتعلقة بالنسخة.

  كان للعرب قبل الإسلام بعضُ الاهتمامات الكتابية القليلة كما أثبتَتْ بعض النقوش الأثرية وأخبار عرب الجاهلية[1]، مع أنّ الطابع العامّ الذي كان يغزو فكر العرب آنذاك الأُمّية وعدم الميل للتعلّم والقراءة والكتابة، فلما أتى الإسلام تغيّر حالهم إلى قُرّاء وكُتّاب ونُسّاخ، فكان اهتمامهم بالكتابة -وهي آلة العلم- يزداد مع ازدياد الحاجة إليها من توسّع الدولة وتطوّر العمران واتساع الأفق ونضج الفهم، فاستدركوا واقعهم واستشرفوا مستقبلهم، وكان في كلّ هذه الدوائر كتاب الله تعالى هو الحاضر الأول بين الذّهن والقلب، وبين المِداد والورق، فآثروه على كلّ الكتب عنايةً ودرايةً، فكما اهتمّوا بدرسه اهتموا برسمه وضبطه وإعجامه، بل حتى بخطه وتلوينه وزخرفته، فصار من ذلك فنون ومدارس يشتغل النُّسَّاخ والراسمون كلٌّ حسب مذهبه فيها، فخلَّفوا لنا نتاجًا كبيرًا منوعًا مختلفًا من النسخ على امتداد الفترات السابقة من عهد النبوة إلى زمن الطباعة، موزعًا على أطراف العالم المترامية، بين مكتبات شهيرة معروفة وأخرى مخبوءة مدروسة، وفي هذه المقالة سنعرض للتعريف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة (حكيم أوغلو) بإستانبول، وهي مخطوطة ترجع كتابتها -بحسب التقدير كما سيأتي- إلى القرن الرابع الهجري، وسينتظم تعريفنا بها في توصيف لجانبها المادي وتحليل لجانبها العلمي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والخطّ والورق والحجم:

هذه النسخة الشريفة من محفوظات مكتبة «حكيم أوغلو» في الديار التركية، تحت رقم قيد «1»، موزعة على ثلاثمائة وستّ عشرة ورقةً فعليًّا، وثلاثمائة وثلاثٍ وعشرين بحسب عدد الراقم، في سبعة عشر سطرًا في الصفحة الواحدة، بخط كوفي كبير واضح، النصّ ملوّن بالسواد، وأوائل السور بالذّهب، وبالحُمرة لعلامات الوقف.

2- الزخرفة والتذهيب:

كُتب على الورقة الأولى القسم الثاني من سورة الفاتحة، وأضيفَت إليها ورقة زائدة قبلها كُتب عليها أول الفاتحة بخط ولون مختلف، وابتُدِئَت الزخرفة من الوجه الذي عليه القسم الثاني من الفاتحة؛ حيث زُخرِفَت الورقة بالأشكال الهندسية التي تغمر الصفحة كاملةً، حيث يحيط بالورقة إطارٌ بالذّهب عريض به خطوط متداخلة مزخرفة بطريقة هندسية، ثم بخط كوفي عريض كُتب عليها: {اهدنا الصراط المستقيم... ولا الضالين}، وبين السطور رسوم هندسية، كلّ ذلك بمداد أسود.

ثم في الورقة التي تليها أوائل البقرة مُوزَّعة على الوجهين، بأعلاها وأدناها كتيبتان مذهَّبتان مؤطَّرتان بإطار ذهبي، داخلها أشكال نباتية على أرضية مزخرفة بالزركشات النباتية الملونة بالذّهب.

ورُسمت أوائل السور بالكوفي المذهَّب مذيَّلًا بقلادة ملوّنة بالذّهب والحُمرة، وكذا العُشور والخُموس رُسمت على شكلِ دائرتين ملونتين بالذّهب والحمرة وعلى شكل قلائد صغيرة، والأسباع وأنصافها والأحزاب وأجزاؤها بأشكال مكتوبة، ورؤوس الآيات على شكل دوائر صغيرة مطموسة بالذهب.

3- حالة النسخة:

أثَّر عاملُ القِدَم في هذه النسخة؛ فأوّل أوراقها قد أُصيب بالتفكُّك وأُضيفَت لها بأوّلها ورقة لإكمال نصّ الفاتحة، ثم كسَت الرطوبةُ أغلب ورقهِ والبللُ أعلاها، مما استدعى ترميمًا لبعض الورق غطَّى على بعض البيانات؛ مثل الوقف الأخير الموجود في آخر النسخة المكتوب بالتركية، ثم وُضعت رقعة في آخر النسخة عليها سورة الفاتحة بخطّ مغاير.

4- زمن النَّسْخ:

لم تُشِر هذه النسخة إلى أيّ ناسخ أو تاريخ نسخ، لا بالتلميح ولا بالتصريح، ولكن بحسب تقدير الخطّ ونوعه والمِداد ودرجة حدَّته وتبايُنهِ والورق ومدى تحمُّله يدلُّ على أنها من مكتوبات القرن الرابع الهجري.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآيات المسماة في سور النسخة[2]:

انتهت أعداد الآيات بعد ضبطها بين العلماء إلى قول الكوفي والبصري والشامي والمدني الأول والثاني والمكي.

وهذه النسخة التزم فيها الناسخ قول البصريّ بحسب ما دوّن في أوائل السور إلا بعضها مما لفَّق فيه بين الأقوال أو خرَج بها عن الأقوال على الجملة، وعلى ذلك عدّة أمثلة:

فجعل (النساء) مائةً وسبعين، وهي بين الأقوال مائةٌ وسبعون وخمسٌ أو ستٌّ أو سبعٌ، وكذا (هود) جعلها مائةً وعشرين، وهي بين إحدى إلى ثلاثٍ وعشرين ومائة بعد اختلاف الأقوال.

ثم خالف ما مشَى عليه من التزام قول البصري في العدّ؛ فجعل (الكهف) مائةً وستَّ آيات؛ وهو قول الشامي، و(طه) مائةً وخمسًا وثلاثين؛ وهو قول الكوفي، وفي (النور) ستون وآيتان؛ وهو قول المدنيين والمكي.

2- الرسم العثماني:

الشكل الذي كَتب به الصحابة أحرف المصحف ثم نسخوه ووُزِّعَت نسخه في الأمصار في عهد عثمان بن عفان هو الذي يُنسب إليه مصطلح الرسم العثماني، وهو مختلف عن الرسم الإملائي المعروف بمظاهر صنفها العلماء وفرزوها في خمس ظواهر، وقد التزم الناسخ هنا هذا الشكل إلَّا في اليسير من الكلمات فخرج عنه، وسنضرب لذلك أمثلةً[3]:

الظاهرة
الرسم العثماني
رسم النسخة
الصورة
الحذف
العلمين
العالمين
الزيادة
وراءي
وراء
الإبدال
بالغدوة
بالغداة
الوصل والفصل
يبنؤم
يا بن أم
كتابة الهمزة
نشؤا
نشاء

3- علامات الوقف والابتداء:

هو فنٌّ جليل وبه يعرف كيف يكون أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه تتبيّن معاني الآيات ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات[4]. وقد صنّف العلماء فيه تصنيفات كثيرةً ليس المقام بفسيح لعرضها.

وللعلماء في أقسام الوقف مذاهب، نختار منها ما ذهب إليه الداني من أنها أربعة أقسام: تام مختار، وكاف جائز، وصالح مفهوم، وقبيح متروك[5].

وفي هذه النسخة أشار الناسخ إلى بعض مواطن الوقف وأنواعها ولنضرب لذلك مثالًا مما ذكرَتْه النسخة وشرَحه الداني بنصه:

«{وعلى سمعهم} كافٍ، وقيل: تامّ... {ولهم عذاب عظيم} تامّ»[6].

4- رحلة المخطوط:

المخطوط الذي بين أيدينا ليس بين مبعثه ومستقرّه ما يشير إلى انتقالات بين مُلّاك أو مستعيرِين أو واهبِين أو غير ذلك من علامات الحيازة.

فأوّل مَن دخل في ملكه بالحساب التقديري هو في زمن النسخ من القرن الرابع، ثم انتقل بعد قرون شتَّى إلى مكتبة «حكيم أوغلو» في إستانبول إلى الآن في القرن الخامس عشر من الهجرة، اللهم إلا ما غطَّى الترميم من الوقف المكتوب في آخر النسخة بالتركية إلى جانب ختم المكتبة.

الخاتمة:

تعرّفْنا في هذه المقالة على جوانب هذه النسخة المادية والعلمية، وتبيّن لنا أنها نسخة أصيلة من مكتوبات القرن الرابع بحسب عوامل التقدير، وأنه تم فيها الخلاف في بعض أعداد الآيات المعتمدة وبعض الألفاظ المكتوبة بالرسم العثماني، ودلَّلنا على ذلك من المصادر، ثم بيّنا رحلتها بدايةً ونهايةً. ولعلّ في ذلك ما يُنْبِئُك عنها خبرًا كأنها أمامك عيانًا، ومَن تعلَّق بأهداب النظر تشوَّف لكشف أحوال الخبر.

 

[1] ينظر: أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام، د. خليل يحيى نامي، مطبعة بول باربيه، القاهرة، 1935هـ. ص102.

[2] ينظر: البيان في عدّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة الأولى، 1414هـ-1994م. ص(146، 165، 177، 179، 183، 193).

[3] الحذف: العلمين: ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج1، ص30.

- الزيادة: وراءي: ينظر: دليل الحيران على مورد الظمآن، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن سليمان المارغني، دار الحديث، القاهرة. ج1، ص53.

- الإبدال: بالغدوة: قال سليمان بن نجاح: «وكتبوا: {بالغدوة} بالواو مكان الألِف» ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد - المدينة المنورة، 1423هـ-2002م، ج3، ص485.

- الوصل والفصل: يبنؤم: قال في المقنع: «وكتبوا: {قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي} موصولة ليس بين النون والواو ألِف». ينظر: المقنع، الداني، ج1، ص90.

- كتابة الهمزة: نشؤا: قال الداني: «ذكر {نشؤا}: قال محمد: وليس في القرآن {نشؤا} بالواو والألف إلا الذي في هود: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا}». ينظر: المرجع السابق نفسه: ج1، ص64.

[4] ينظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، دار الحديث، مصر، القاهرة، 1427هـ-2006م. ص237.

[5] ينظر: المكتفى في الوقف والابتداء، أبو عمرو الداني، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1407هـ-1987م. ص138.

[6] المرجع السابق نفسه، ص159، 160.

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))