مصطلح التفسير بالمأثور؛ نقد وتأصيل

يُعَدّ مصطلح (التفسير بالمأثور) من المصطلحات الشهيرة وكثيرة الاستعمال، وتأتي هذه المقالة لتسلِّط الضوء على واقع هذا المصطلح في الدراسات المعاصرة، وتثير حوله بعض الملحوظات والانتقادات، وكذلك تقدّم بعض التنبيهات حول هذا المصطلح وكيفية التعامل معه.

مصطلح التفسير بالمأثور؛ نقد وتأصيل[1]

إنّ المصطلحات العلمية يلزم أن تكون دقيقة في ذاتها ونتائجها، وإلا وقع فيها وفي نتائجها الخللُ والقصور، ومن هذه المصطلحات التي حدث فيها الخللُ مصطلح (التفسير بالمأثور)، وفي هذا المصطلح أمران: أنواعه، وحكمه.

أمّا أنواعهفقد حدّها مَن ذكر هذا المصطلح من المعاصرين بأربعة، هي: (تفسير القرآن بالقرآن، وبالسُّنة، وبأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين)[2]. وغالبًا ما يحكي هؤلاء الخلافَ في جعلِ تفسير التابعي من قَبِيل المأثور[3].

وأمّا حكمهفبعض مَنْ درَج على هذا المصطلح ينتهي إلى وجوب الأخذ به[4].

وأقدَمُ مَن رأيتُه نصَّ على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخُ محمد بن عبد العظيم الزرقاني، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يأتي: «هو ما جاء في القرآن أو السُّنة أو كلام الصحابة تبيانًا لمراد الله من كتابه»، ثم قال: «وأمّا ما يُنقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور؛ لأنهم تلقوه من الصحابة غالبًا، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي»[5].

ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1977م) فذكر هذه الأنواع الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور)، وقد علّل لدخول تفسير التابعي في المأثور بقوله: «وإنما أدرَجْنا في التفسير المأثور ما رُوِي عن التابعين -وإن كان فيه خلاف: هل هو من قَبِيل المأثور أو من قبيل الرأي؟- لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور؛ كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذِكر ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما رُوي عن الصحابة، بل ضمّت  إلى ذلك ما نُقل عن التابعين في التفسير»[6].

منشأ الخطأ في هذا المصطلح:

إنه فيما يظهر قد وقع نقل بالمعنى عمّن سبق أن كَتَب في هذا الموضوع، وبدلًا من أن يؤخذ عنه مصطلحه استبدل به هذا المصطلح الذي لم يتواءم مع هذه الأنواع، ولا مع حكمها كما سيأتي.

والمصدر الذي يظهر أن هذه الأنواع نُقِلَت منه هو رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية المسمّاة (مقدمة في أصول التفسير). وقد وردت هذه الأنواع الأربعة تحت موضوع (أحسن طرق التفسير)[7]، فهي عند شيخ الإسلام (طرق) وليست (مأثورًا).

ولو تأمّلت النقلين السابقين فإنك ستجد أنهما يحكيان الخلاف في كون تفسير التابعي مأثورًا أم لا؟!

وستجد هذا موجودًا في رسالة شيخ الإسلام، ولكن البحث فيه ليس عن كونه مأثورًا أم لا، بل عن كونه حجة أم لا؟ وبين الأمرين فرقٌ واضح؛ إِذْ لم يرِد عن العلماء هل هو مأثور أم لا؟ لأنّ هذا المصطلح نشأ متأخرًا، بل الوارد هل هو حجة أم لا؟ وإن كان هذا التأصيل صحيحًا، فإن اصطلاح شيخ الإسلام أدقّ من اصطلاح المعاصرين، وأصح حكمًا.

فهذه التقسيمات الأربعة لا إشكال في كونها طرقًا، كما لا إشكال في أنها أحسن طرق التفسير، فمن أراد أن يفسّر فعليه الرجوع إلى هذه الطرق.

نقد مصطلح (التفسير المأثور):

مصطلح المعاصرين عليه نقد؛ حيث يتوجّه النقد إلى أمرين، وإليك بيانه:

1- ما يتعلق بصحة دخول هذه الأنواع في مسمّى (المأثور).

2- ما يتعلق بالنتيجة المترتبة عليه، وهي (الحُكم).

أمّا الأول: فإنه يظهر أن هذا المصطلح غير دقيق في إدخال هذه الأنواع الأربعة فيه؛ فهو لا ينطبق عليها جميعًا، بل ويُخْرِج ما هو منها، فهذا المصطلح غير جامع ولا مانع لسببين:

أ- أن المأثور هو ما أُثِر عمّن سلف، ويُطْلَق في الاصطلاح على ما أُثِر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ومَن بعدهم مِن التابعين وتابعيهم.

فهل ينطبق هذا على تفسير القرآن بالقرآن؟ إنّ تفسير القرآن بالقرآن لا نَقْل فيه حتى يكون طريقه الأثر، بل هو داخل ضمن تفسير مَنْ فسَّر به؛ فإن كان المفسِّر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو من التفسير النبوي، وإن كان المفسِّر به الصحابي، فله حكم تفسير الصحابي، وإن كان المفسِّر به التابعي، فله حكم تفسير التابعي، وهكذا كلّ مَنْ فسّر آية بآية فإن هذا التفسير ينسب إليه.

ب- أن المأثور في التفسير يشمل ما أُثر عن تابعِي التابعين كذلك، ومَن دَوّن التفسير المأثور فإنه ينقل أقوالهم؛ كالطبري (ت: 310هـ)، وابن أبي حاتم (ت: 327هـ)، وغيرهما.

بل قد ينقلون أقوال مَن دونهم في الطبقة؛ كمالك بن أنس، وغيره. ولو اطّلعتَ على أوسع كتاب جمَع التفسير المأثور، وهو (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) لرأيتَ من ذلك شيئًا كثيرًا.

ولو قُبلت العلة التي ذكرها الشيخ محمد حسين الذهبي في إدخاله تفسير التابعين في المأثور، لصحّ تنزيلها على المأثور عن تابعي التابعين ومَن دونهم.

ومنشأ الخطأ في هذا أنّ نقلهم لهذه المسألة عن شيخ الإسلام لم يكن دقيقًا؛ إِذْ وردت هذه المسألة عن حجية قبول قول التابعي في التفسير، وليس عن كونه مأثورًا، فنزّل كلام العلماء خطأ في حكم تفسير التابعي على قضية كونه تفسيرًا مأثورًا أم غير مأثور، إِذْ لم يكن ذلك المصطلح الرباعي معروفًا ولا شائعًا في وقتهم.

وأمّا الثاني: وهو ما يتعلّق بالحكم، فإنّ بعض مَن درَج على هذا المصطلح نصّ على وجوب اتّباعه والأخذ به[8]، وهو مستوحى من كلام آخرين[9].

ومما يلحظ على هذا الحكم أنهم يحكون الخلافَ في تفسير التابعي من حيث الاحتجاج، بل قد حكى بعضُهم الخلاف في تفسير الصحابي[10].

ثم يحكمون في نهاية الأمر بوجوب اتّباعه والأخذ به، فكيف يتفق هذا مع حكاية الخلاف الوارد عن الأئمة دون استنادٍ يرجِّح وجوب الأخذ بقول التابعي، فهم يمرون على هذا الخلاف مرورًا عامًّا بلا تحقيق.

ثم إنْ كان ما ورد عن الصحابة والتابعين مأثورًا يجب الأخذ به على اصطلاحهم؛ فما العمل فيما ورد عنهم من خلافٍ محقّقٍ في التفسير؟ وكيف يقال: يجب الأخذ به؟!

ومن نتائج عدم دقّة هذا المصطلح نَشَأَ خطأٌ آخر، وهو جَعْلُ التفسير بالرأي مقابلًا للتفسير بالمأثور -وهو الأنواع الأربعة السابقة- حتى صار في هذه المسألة خلط وتخبط، وبنيت على هذا التقسيم معلومات غير صحيحة، ومنها:

1- أنّ بعضهم يقرّرون في تفسير الصحابة والتابعين أنهم اجتهدوا وقالوا فيه برأيهم، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور ناسِين ما قرّروه من قولٍ بأنهم قالوا بالرأي، فيجعل قولهم مأثورًا وقول مَن بعدهم رأيًا، فكيف هذا؟! وإذا كان الصحابة قالوا في التفسير برأيهم فلا معنى لتفضيلهم على غيرهم ممن بعدهم في هذه المسألة، وهذا لا يعني مساواة مَن بعدهم بهم.

2- كما تجد أنّ كتُب التفسير تُقَسَّم إلى كتب التفسير بالمأثور وكتب التفسير بالرأي، وعلى سبيل المثال يجعلون تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور، ولو أردتَ تطبيق مصطلح التفسير بالمأثور فإنك ستجد اختيارات ابن جرير وترجماته، فهل هذه من قبيل الرأي أم من قبيل المأثور؟ فإن كان الأول فكيف يحكم عليه بأنه مأثور؟! وإن كان الثاني فإنه غير منطبق لوجود اجتهادات ابن جرير، وفرقٌ بين أن نقول: فيه تفسير بالمأثور، أو نقول: هو تفسير بالمأثور.

3- وقد فهم بعض العلماء أنّ مَن فسَّر بالأثر فإنه لا اجتهاد ولا رأي له، بل هو مجرّد ناقلٍ لا عمل له غير النقل، ويظهر أن هذا مبنيّ على ما سبق من أن التفسير بالمأثور الذي يشمل الأربعة السابقة يقابله التفسير بالرأي.

ومن ذلك ما قاله الشيخ الطاهر بن عاشور[11]: «أمّا الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألّا يَعْدُو ما هو مأثور، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمّن يؤثر...». ثم قال: «وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين لكنه لا يلبث في كلّ آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزًا لِما حدّده من الاقتصار على التفسير بالمأثور، وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقيّ بن مخلد، ولم نقف على تفسيره، وشاكَلَ الطبريَّ فيه معاصروه؛ مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم. فلله درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور؛ مثل الفراء وأبي عبيدة من الأوّلين، والزجاج والرماني ممّن بعدَهم، ثم مَن سلكوا طريقهم؛ مثل الزمخشري وابن عطية»[12].

وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:

الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين «جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألّا يَعْدُو ما هو مأثور»، وفي ظني أن هذا لم يُقَل به، ولكنه تأوّلٌ لكلام من يَرى وجوب الأخذ بما أُثر عن السلف.

الثانية: لم يورد الشيخ دليلًا من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما رُوي عن الصحابة والتابعين فقط، ولم يرِد عن الطبري أنه يقتصر عليهم ولا يتعدّى ذلك إلى الترجيح.

الثالثة: أنه جعل منهج الطبري كمنهج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، وشتان بين منهج الطبري الناقد المعتمِد على روايات السلف ومنهج هؤلاء الذين اعتمدوا النقل فقط دون التعقيب والتعليق، وهذا المنهج الذي سلكوه لا يُعاب عليهم؛ لأنهم لم يشترطوا التعليق على الآيات والتعقيب على المرويات، بل كانوا يوردون ما وصلهم من تفاسير السلف، وهم بهذا لا يُعدُّون مفسرين، بل هم ناقلو تفسير.

ومن هنا ترى أن الشيخ ابن عاشور يرى أنّ مَن التزم بالمأثور فإنه لا يكون له رأي كالطبري، وأنّ من لم يلتزم بالمأثور فلله درّه! كما قال.

وقد سبق أنْ ذكرتُ لك أنّ الصحابة والتابعين ومَن بعدهم اعتمدوا التفسير بالرأي وقالوا به، وأنّ من الأخطاء التي وقعت مقابلةَ أقوالهم التي هي من قبيل الرأي بأقوال أبي عبيدة والفراء وغيرهم، بل الأعجب من ذلك أنّ تفاسيرهم اللغوية تُجْعَل من المأثور وتُقابَل بتفاسير أبي عبيدة والفرّاء والزجّاج اللغوية، وتُجعل هذه لغوية.

كلّ هذه النتائج حصلت لعدم دقة مصطلح التفسير بالمأثور.

ما هو التفسير بالمأثور؟

بعد هذا العرض، وتجلية مصطلح (التفسير بالمأثور) المعتمَد في كتب بعض المعاصرين يتجه سؤال، وهو: هل يوجد تفسير يسمَّى مأثورًا؟

والجواب عن هذا: (نعم)، ولكن لا يرتبط بحكمٍ من حيث وجوب الاتّباع وعدمه، بل له حكمٌ غير هذا.

فالمأثور: هو ما أُثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته وعن التابعين وعن تابعيهم ممن عُرفوا بالتفسير، وكانت لهم آراء مستقلة مبنية على اجتهادهم.

وعلى هذا درَج مَن ألَّف في التفسير المأثور؛ كبقيّ بن مخلد، وابن أبي حاتم، والحاكم، وغيرهم.

وقد حاول السيوطي جمع المأثور في كتابه: (الدر المنثور في التفسير بالمأثور)، وذكر الروايات الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيهم وتابعي تابعيهم ومَن بعدهم.

وهذا لا يُبنى عليه حكم من حيث القبول والردّ، ولكن يقال: إنّ هذه الطرق هي أحسن طرق التفسير، وإن من شروط المفسِّر معرفة هذه الطرق.

أمّا ما يجب اتّباعه والأخذ به في التفسير فيمكن تقسيمه إلى أربعة أنواع:

الأول: ما صحّ من تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الثاني: ما صحّ مما رُوي عن الصحابة مما له حكم المرفوع؛ كأسباب النزول والغيبيات.

الثالث: ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون؛ لأنّ إجماعهم حجة يجب الأخذ به.

الرابع: ما ورد عن الصحابة خصوصًا أو عن التابعين ممّن هم في عصر الاحتجاج اللغوي من تفسير لغوي، فإن كان مجمَعًا عليه فلا إشكال في قبوله وحجيته، وإن ورَد عن واحد منهم ولم يُعرف له مخالفٌ فهو مقبول، كما قال الزركشي: «ينظر في تفسير الصحابي فإنْ فسّره من حيث اللغة فهم أهل اللسان، فلا شك في اعتمادهم»[13].

وإن اختلفوا في معنى لفظة لاحتمالها أكثر من معنى، فهذا يُعْمَد فيه إلى المرجّحات.
أمّا ما رووه عن التابعي فهو أقلّ في الرتبة مما رووه عن الصحابي، ومع ذلك فإنه يُعتمَد ويُقدَّم على غيره.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 

[1] نُشر هذا المقال بملتقى أهل التفسير بتاريخ 1/ 12/ 1414هـ، وينظر مقدمة كتاب «مفهوم التفسير والتأويل» لصاحب المقالة، فقد ناقش هذا المصطلح. (موقع تفسير).

[2] انظر على سبيل المثال: مناهل العرفان، للزرقاني (2/ 1312)، التفسير والمفسرون، للذهبي (1/ 154)، مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان.

[3] انظر مثلًا: مناهل العرفان (2/ 13)، التفسير والمفسرون (1/ 154)، مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان (ص: 347).

[4] انظر مثلًا: مباحث في علوم القرآن (ص: 350)، وهذا ما يستوحى من عبارة الزرقاني.

[5] مناهل العرفان (2/ 12، 13).

[6] التفسير والمفسرون (1/ 15).

[7] مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور، (ص: 93).

[8] انظر: مباحث في علوم القرآن، للقطان، (ص: 350).

[9] كالزرقاني، والذهبي، والصباغ (لمحات في علوم القرآن، ص177 وما بعدها).

[10] لمحات في علوم القرآن، (ص: 180).

[11] تفسير الطاهر بن عاشور المعروف بــ(التحرير والتنوير) بالرغم من شموله واستقصائه لما يفسره من آيات، إلا أنّ منهجه العقدي أشعري يؤوِّل آيات الصفات. وللمزيد انظر الكتاب القيم: (المفسرون والتأويل) للشيخ محمد المغراوي المغربي، من مطبوعات دار طيبة بالرياض.

[12] التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، (1/ 32، 33).

[13] البرهان في علوم القرآن، (2/ 172).

الكاتب

الدكتور مساعد بن سليمان الطيار

أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الملك سعود، له العديد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))