استدراكات نظام الدين النيسابوري في تفسيره على السجاوندي في وقوفه

اعتنى النيسابوري في تفسيره (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) بذِكْرِ أحكام الوقوف، وقد اعتمد في ذلك على كتاب السجاوندي في الوقف والابتداء، وقد استدرك على السجاوندي بعض الوقوف، وهذه المقالة تجمع هذه المواطن المستدرَكة وكلام النيسابوري فيها ومناقشة الاستدراكات، بعد تعريف مختصر بكلٍّ من النيسابوري والسجاوندي.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتّبع هُداه، وبعد:

  فإنَّ تفسير (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) لنظام الدين النيسابوري أحد التفاسير التي لها عناية بذِكْر أحكام الوقوف، وقد اعتمد النيسابوري فيما ذكر من وقوف على كتاب السجاوندي في الوقف والابتداء، وهذا ما صَرَّح به في خاتمة تفسيره، حيث قال: «مع اختصار لبعض تعليلاتها وإثبات للآيات لتوقّفها على التوقيف»[1].

ومَنْ أمعن النظر في هذا التفسير وَقَفَ على استدراكات قليلة للنيسابوري على السجاوندي بلغَتْ فيما وقفتُ عليه عشرة استدراكات، ولا شَكّ أنَّ وقوف الدارِسين عليها مجتمعة في مقالة واحدة مفيدٌ لهم؛ لئلّا يتوهّموا أنَّ النيسابوري متابعٌ للسجاوندي في حُكْم الوقف على هذه المواضع كما هو شأنه في غيرها، لا سيّما وأنّني لم أقف على أحدٍ تتبّع هذه المواضع من قبل.

وقبل بيان هذه المواضع وتحرير القول فيها لعلّه من المناسب أن أُشير في تمهيد إلى تعريفٍ موجز بالسجاوندي والنيسابوري، وكتابَيْهِما.

تمهيد:

أمّا السجاوندي فهو: محمد بن طيفور الغزنوي السجاوندي المقرئ المفسِّر، النحوي اللغوي المؤرّخ، أحد علماء القرن السادس الهجري، له تفسير بعنوان: (عين المعاني في تفسير الكتاب العزيز والسَّبْع المثاني)[2].

والسجاوندي أحد علماء الوقف والابتداء المشهورِين. وكتابهُ: (الوقف والابتداء) أو (علل الوقوف) أحدُ المصنفات التي عُنِيَ بها العلماء عناية فائقة، والعجيب أنّ هذا الكتاب قد نال من العناية واهتمام العلماء ما لم ينله كتاب آخر في الوقف والابتداء، مع أنَّ حَظَّ السجاوندي نفسِه من حيث مصادر الترجمة له والتعريف به قليلٌ[3].

ومما تميّز به السجاوندي استعماله الرموز في بيان مرتبة الوقف، والرموز التي استعملها في كتابه هي: (لالما لا وقف عليه، و(م) للوقف اللازم، و(ط) للمطلَق، و(ج) للجائز، و(ز) للمجوَّز، و(ص) للمرخَّص لضرورة[4].

ومما أُخِذ عليه توسّعه في الوقف اللازم والوقف الممنوع.

قال ابن الجزري: «قول أئمة الوقف: لا يُوقف على كذا، معناه ألَّا يُبتدأ بما بعده؛ إِذْ كلّ ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده. وقد أكثر السجاوندي من هذا القسم وبالغ في كتابة (لا) والمعنى عنده لا تقف، وكثير منه يجوز الابتداء بما بعده، وأكثره يجوز الوقف عليه، وقد توهَّم مَن لا معرفة له من مقلِّدي السجاوندي أنَّ منعه من الوقف على ذلك يقتضي أنّ الوقف عليه قبيح، أي: لا يحسن الوقف عليه، ولا الابتداء بما بعده، وليس كذلك، بل هو من الحسَن يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، فصاروا إذا اضطرهم النّفَس يتركون الوقف الحَسَن الجائز ويتعمدون الوقف على القبيح الممنوع...»[5].

وأمّا النيسابوري فهو: نظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين الخراساني القُمِّي النيسابوري صاحب التفسير المسمى بـ(غرائب القرآن ورغائب الفرقان)، كان محقِّقًا في العلوم الشرعية والحكمية، وله مؤلّفات مشهورة معتبرة تدلّ على تبحُّره في المنقولات والمعقولات[6].

وقد تضاربتْ كتب التراجم حول تاريخ وفاته، ولعلّ الأرجح أنها ما بين (730- 740هـ) فيكون من علماء القرن الثامن خلافًا لمـَن زعم أنه من علماء القرن التاسع، وجعل وفاته سنة 850هـ أو ما قارب[7].

وأمَّا عن تفسيره (غرائب القرآن)، فقد قيل عنه: «مؤلَّف جليل القَدْر والشأن من أسامي الكتب»[8].

وقد سلك فيه مصنِّفه مسلك الاختصار لكتاب (التفسير الكبير) للفخر الرازي، وضمّ إلى ذلك بعض ما جاء في (الكشّاف) وغيره من التفاسير، وما فتح اللهُ به عليه من الفهم لحِكَم كتابه، وضمَّنه ما ثبت لديه من تفاسير سَلَف هذه الأُمَّة من الصحابة والتابعين[9].

وهو إِذْ يختصر كلام الفخر الرازي، أو يقتبس من تفسير (الكشاف) أو غيره، لا يقف عند النصّ وقوف مَن يجمد عند النصوص ويرى أنها ضربة لازب عليه فلا يعترض ولا يتصرّف، بل نجده حرًّا في تفكيره، متصرّفًا فيما يختصر أو يقتبس، فإن وجد فسادًا نَبَّه عليه وأصلحه، وإن رأى نقصًا تداركه فأتمّه وأكمله[10].

وفي نظري أنه يمكن الكتابة في استدراكات النيسابوري على الفخر الرازي وجار الله الزمخشري، لكن ينبغي لدارس ذلك أن يكون ذا حظّ من علوم اللغة، والاطلاع على المباحث الكلامية؛ لأنّ جُلّ استدراكاته عليهما في هذين البابين.

وأمّا عن استدراكات النيسابوري على السجاوندي في وقوف القرآن فهو موضوع هذه المقالة، ولعلّك على ذُكرٍ مما قلتُه آنفًا من أنّ النيسابوري اعتمد على وقوف السجاوندي، وجعلها أصلًا عنده، وأزيدك هنا فأقول: إنّه قد تابعه في الرموز التي ارتضاها في بيان درجة الوقف أيضًا، وزاد عليها علامة دائرة صغيرة هكذا (o) لرأس الآية[11].

بعد هذا البيان المختصر عن الإمامَيْن النيسابوري والسجاوندي وكتابيهما، نشرع في بيان هذه المواضع العشرة التي استدركها النيسابوري على السجاوندي في باب الوقف والابتداء.

وطريقتي في دراسة هذه المواضع؛ أن أذكرَ الآية موضع الدراسة، ثم أبين موضع الاستدراك فيها، ثم أذكر كلام المستدرِك -النيسابوري- وهو متضمّن لكلام السجاوندي، ثم أقوم بدراسة هذا الاستدراك وتوجيه ما يحتاج إلى توجيه؛ لأصِلَ منه إلى حاصل الأمر في هذا الاستدراك.

الموضع الأول: قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}[المائدة: 64].

موضع الاستدراك في الآية الكريمة: بيان حكم الوقف على قوله: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}.

قال النيسابوري: «{أَطْفَأَهَا اللَّهُ}(لا) قال السجاوندي: لأنّ الواو للحال؛ أي: وهُمْ يَسْعَونَ؛ وفيه نظر»[12].

دراسة الاستدراك: في هذا الموضع يمنع السجاوندي الوقف على قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}؛ ولذلك رمَز للوقف بـ(لا)، وسبب ذلك عنده أن قوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} جملة حالية، ومعروف أنه لا يفصل بين الحال وصاحبه.

واستدرك عليه النيسابوري بقوله: «وفيه نظر»، دون أن يبيّن لنا وجهَ النّظر في هذا القول.

ووجه النظر فيه أنَّ قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} لا يتعيّن أن يكون حالًا، بل يصحّ أن تكون الواو استئنافية والجملة استئنافية، كما أنَّ جملة: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} كلّها مستأنفة أيضًا[13].

وقد أشار الأشموني إلى هذين الوجهين، فذكر وجهًا بأن الوقف على: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} حسَن، ثم قال: «على استئناف ما بعده، وليس بوقفٍ إنْ جعلت الواو للحال؛ أي: وهُمْ يَسْعَونَ»[14].

وحاصل القول في هذا الموضع: أنه لا يمتنع الوقف على قوله: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}، على أنّ الجملة بعدها استئنافية، وهو قول الأكثرين، وهذا أوسع دلالة مِن جَعْلِ الجملة حالًا؛ إذ الحال قيد لصاحبه بخلاف الجملة المستأنفة فإنها تدلّ على وصف مطلق متحقّق فيهم، وهو هنا السعي في الأرض فسادًا، والتعبير بالفعل المضارع يدلّ على الحدوث والتجدّد، فالآية الكريمة تنعى على اليهود سوء أخلاقهم وفعالهم؛ فمن ذلك أنهم كلّما أوقدوا نارًا للحرب أطفاها الله، ومن أفعالهم القبيحة السعي في الأرض بالفساد في أزمانهم المختلفة.

وثَمَّ وجهٌ آخر لا يمتنع معه الوقف أيضًا على قوله: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}، وهو أنَّ جملة: {وَيَسْعَوْنَ}: معطوفة على جملة: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ}[15]؛ لأنه من قبِيل عطف الجمل لا عطف المفردات، وهذا يسوّغ الوقف على كلّ جملة، وليس بخافٍ عليك أيضًا أن قوله تعالى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} جواب الشرط: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ}، والجملة بالشرط وجوابه مفيدة في نفسها.

الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على قوله: {هَمَّتْ بِهِ}.

قال النيسابوري: «{هَمَّتْ بِهِ}(ز)، قد قيل بناء على أنّ قوله: {وَهَمَّ} جواب {لَوْلَا} وليس بصحيح؛ لأنّ جواب {لَوْلَا} لا يتقدّم عليه وإنما جوابه محذوف، وهو: لحقّق ما هَمّ به، كذا قال السجاوندي، وأقول: لو وقف للفرق بين الهمَّين لم يبعد»[16].

دراسة الاستدراك: رمَز السجاوندي للوقف على قوله: {هَمَّتْ بِهِ} بـ(ز) ومعناه عنده المجوَّز لوجه، ولم يعرف هذا النوع في كتابه (علل الوقوف)، لكنه مثَّل له بما يوضح أن معناه عنده ما جاز الوقف عليه، لكن وَصْله أولى[17].

ورتّب القول هنا بجواز الوقف على قوله: {هَمَّتْ بِهِ} على أنّ قوله: {وَهَمَّ بِهَا} جملة مستأنفة تتصل وحدها بقوله: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لتفيد أنّ الهَمّ لم يقع، بخلاف قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ففيه إثبات الهَمّ.

وعكَّر على هذا القول بأنه لا يصلح أن يكون قوله: {وَهَمَّ بِهَا} جوابًا لقوله: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}؛ لأنه لا يتقدّم جواب {لَوْلَا} عليه، وإنما يكون جواب {لَوْلَا} مقدّرًا وقدره بـ: «لحقق ما هَمّ به».

ولا يخفى أنه على هذا التقدير أيضًا فالهَمّ منفيّ في حقّ يوسف -عليه السلام-.

وحاصل القول: أنّ هذا وجه قيل في تفسير الآية، ومفاده أنّ الهَمّ وقع من امرأة العزيز وحدها، ولم يقع هَمٌّ من يوسف -عليه السلام-، وبِغَضّ الطّرف عن الأوجه الأخرى المشهورة في تفسير الآية الكريمة -فلها مقام آخر يناسبها- فإنّ النيسابوري جعل هذا القول المذكور هنا مسوّغًا للوقف على قوله: {هَمَّتْ بِهِ} من باب آخر وهو بيان الفرق بين الهَمَّين، هَمّ مثبَت ومؤكّد: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، وهَمّ منفي {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، وهي لفتة جيدة من النيسابوري، ويطلق بعض العلماء على هذا النوع من الوقف: «وقف البيان».

قال ابن عاشور: «يحسن الوقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}؛ ليظهر معنى الابتداء بجملة: {وَهَمَّ بِهَا} واضحًا. وبذلك يظهر أنّ يوسف -عليه السلام- لم يخالطه هَمٌّ بامرأة العزيز؛ لأنّ الله عصمه من الهَمّ بالمعصية بما أراه من البرهان»[18].

وقال أيضًا: «والمقصود من ذِكْر همّها به التمهيد إلى ذِكْر انتفاء همّه بها؛ لبيان الفرق بين حاليهما في الدِّين فإنه معصوم. وجملة: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوفة على جملة: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} كلّها، وليست معطوفة على جملة: {هَمَّتْ} التي هي جواب القسم»[19].

وجعل الأشموني الوقفَ على قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وقفًا كافيًا، ثم قال: «وبهذا الوقف يتخلّص القارئ من شيء لا يليق بنبيّ معصوم أن يهمّ بامرأة، وينفصل من حكم القسَم قبله في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، ويصير {وَهَمَّ بِهَا} مستأنفًا؛ إذ الهَمّ من السيد يوسف منفيّ لوجود البرهان، والوقف على {بُرْهَانَ رَبِّهِ}، ويبتدئ: {كَذَلِكَ}، أي: عصمته كذلك، فالهَمُّ الثاني غير الأول»[20].

الموضع الثالث: قوله تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات: 7].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على قوله: {مَارِدٍ}.

قال النيسابوري: «{مَارِدٍ}(o)(ج) لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف، قاله السجاوندي. وعليه بحث يجيء في التفسير»[21].

والذي ذكره النيسابوري بعدُ في التفسير قوله: «قال جار الله: هذه الجملة لا يصحّ أن تكون صفة؛ لأنّ الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له، ولا يصح أن يكون استئنافًا؛ لأنّ سائلًا لو سأل: لِمَ يُحفظ من الشياطين؟ فأُجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم، فبقي أن يكون كلامًا منقطعًا مبتدَأً به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلتُ: لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز، وكذا إن كان مستأنفًا، كأنه قيل: لِمَ يحفظ؟ فأُجيب: لأنهم يؤولون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن أصله: لئلّا يسمعوا لهم، فحذفت اللام ثم (أن) وأهدر عملها، كما في قول القائل: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى...

 وردّ عليه في (الكشاف) أنَّ حذف اللام في قولك: (جئتك أن تكرمني) وحذف (أن) في قول الشاعر جائز، فأمّا اجتماعهما فمنكَر من المنكرات. قلتُ: إنّ القرآن حُجّة على غيره، مع أنّ قول الشاعر أيضًا لا يصح إلا بتقدير اللام أو (من) مع (أن)»[22].

دراسة الاستدراك: جوَّز السجاوندي الوقف على {مَارِدٍ} بناء على أنَّ ما بعده استئناف، والوصل على أنّ ما بعده وصف إِذْ لا يفصل بين الموصوف ووصفه، وتابعه النيسابوري، مع أنّ أكثر العلماء على منع الاستئناف البياني والوصف في قوله تعالى: {لَا يَسمعُونَ}، ولكن النيسابوري وجّه ذلك بأنه يكون باعتبار ما يؤول إليه حالهم، وكأنّ جملة: {يَسمعُون} تعليلية، لكن حذف منها اللام.

والذي عليه الأكثرون ونصّ عليه الزمخشري كما حكاه عنه النيسابوري عدم صحة ذلك؛ استنادًا إلى أنّ اجتماع حذف اللام و(أنْ) منكَر في الاستعمال العربي، وصَوْنُ القرآن عن مثل هذا التعسف واجبٌ»[23].

والأكثرون يرجّحون الوقف على قوله: {مَارِدٍ}، ويرون أنّ الجملة بعده منقطعة عنه مستأنفة استئنافًا نحويًّا، وقد ضرب ابن هشام بهذه الآية: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} المثال للاستئناف الذي قد يخفى، ثم قال: «إنّ الذي يتبادر إلى الذّهن أنه صفة لكلّ شيطان أو حال منه؛ وكلاهما باطل إِذْ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسمع، وإنما هي للاستئناف النحوي، ولا يكون استئنافًا بيانيًّا لفساد المعنى أيضًا، وقيل يحتمل أن الأصل: لئلّا يسمعوا، ثم حذفت اللام كما في: جئتك أن تكرمني، ثم حذفت (أن) فارتفع الفعل كما في قوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى... فيمن رفع (أحضرُ) واستضعف الزمخشري الجمع بين الحذفين.

فإن قلتَ: اجعلها حالًا مقدّرة، أي: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} مقدرًا عدم سماعه، أي: بعد الحفظ.

قلتُ: الذي يقدّر وجود معنى الحال هو صاحبها، كالمرور به في قولك: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، أي: مقدرًا حال المرور به أن يصيد به غدًا؛ والشياطين لا يقدرون عدم السماع ولا يريدونه»[24].

وقد اختار الأشموني أنّ الوقف على {مَارِدٍ} وقفٌ كافٍ[25].

فإن قلتَ: هل يوجد في كلام المفسِّرين ما يؤيّد القول بالوصفية والاستئناف البياني، ويجعل لهما حظًّا من القبول؟

فأقول: نعم يوجد في كلام بعض المفسِّرين ذلك، ومن هؤلاء ابن المنير السكندري، قال معقّبًا على منع الزمخشري الوصفية في الآية الكريمة: «كِلَا الوجهين مستقيم، والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول: أنَّ عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه، فحالُ الشيطان حال كونه محفوظًا منه هي حاله حال كونه لا يسمع، وإحدى الحالين لازمة للأخرى، فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه، وكونه موصوفًا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أنّ عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسيمه، ونظير هذه الآية على هذا التقدير قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُوم مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ}[النحل: 12]، فقوله تعالى: {مُسَخَّرات} حال مما تقدّمه، العامل فيه الفعل الذي هو سَخَّر. ومعناه مستقيم؛ لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخّرة، فالحال التي سخّرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخّرة، لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخّرة قبل ذلك... ومن هذا النمط: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا}[المؤمنون: 44]، وهم ما كانوا رسلًا إلّا بالإرسال، وهؤلاء ما كانوا {لا يسمعون} إلّا بالحفظ. وأمّا الجواب عن إشكاله الثاني -يقصد منع اجتماع حذفين- فورود حذفين في مثل قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}[النساء: 176]، وأصله: لئلّا تضلوا، فحذف اللام و(لا) جميعًا من محليهما»[26].

وأيضًا فقد جوَّز بعض العلماء ذلك بناء على أنّ المعنى: لا يُمكَّنون من السماع مع الإصغاء، أو: لا يمكَّنون من التَّسَمُّع؛ مبالغة في نفي السماع، كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك.

وأيضًا قالوا: الاستئناف البياني جائز؛ لأنّ السؤال المقدَّر عمّا يكون عند الحفظ وعن كيفيته؛ وذلك لأنّ قوله تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مَارِدٍ} مما يحرّك الذِّهن له، فقيل: {لَا يَسَّمَّعُونَ} جوابًا عمّا يكون عنده، {وَيُقْذَفُونَ} لكيفية الحفظ، حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنُّوه من فساد المعنى؛ لأنه لمّا تعدَّى بـ(إلى) وتضمّن معنى الإصغاء صار المعنى: حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتًا تامًّا تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام، ومآله: حفظناها من شياطين مسترقة للسمع، وقوله سبحانه: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ}[الصافات: 10]، ينادي على صحّته[27].

وحاصل القول في هذا الاستدراك: بناء على ما سبق من وجود توجيه لوصلِ قوله: {مَارِدٍ} بما بعده توجيهًا يصحّ معه المعنى، فلا يكون الوقف على {مَارِدٍ} وقفًا لازمًا، وإنْ كان الوقف عليه أفضل، لا سيّما أنه رأسُ آية أيضًا، والله أعلم.

الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر: 3].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على {أَوْلِيَاءَ} في الآية الكريمة.

قال النيسابوري: «{أَوْلِيَاءَ}(م)؛ لأنّ التقدير: يقولون، ولو وصل لأوهم أنّ {مَا نَعْبُدُهُمْ} إخبارٌ من الله، قاله السجاوندي. وعندي أنّ هذا وهمٌ بعيد، والأَوْلى ألَّا يوقف؛ لئلّا يفصل بين المبتدأ وخبره»[28].

دراسة الاستدراك: ذهب السجاوندي إلى أنّ الوقف على: {أَوْلِيَاءَ} وقف لازم؛ لئلّا يتوهّم أنّ قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ} إخبارٌ من اللهِ -عز وجل- وهو المعبود لا العابد.

وردَّ النيسابوري هذا الحكم بأنه لا داعي للقول بلزوم الوقف فإنه وَهْمٌ بعيد، وما كان كذلك فلا يُلتفت إليه، لا سيّما وأنّ الجملة لم تستوفِ أركانها بعدُ فيكون الوقف ناقصًا لا لازمًا، وذلك أنّ {الَّذِينَ} مبتدأ، وهو مفتقِر إلى خبر، ولا يوقف على المبتدأ دون خبره، بله أن يكون الوقف لازمًا كما زعم السجاوندي.

وقد حكم النحَّاس على هذا الوقف بأنه غير تامّ، وقال: «ليس بتمام؛ لأن {الَّذِينَ} مرفوع بالابتداء ولم يأتِ الخبر، أو مرفوع على إضمار فعل بمعنى: وقال الذين، فيبقى ما قالوا»[29].

ورمز الجعبري للوقف على {أَوْلِيَاءَ} بـ(ن) أي: وقف ناقص، وقال: «بتقدير: يقولون، ولا لزوم لعدم اللازم»[30].

وحاصل القول في هذا الاستدراك: أنّ ما ذهب إليه النيسابوري هو الصواب، وسواء قلنا: إنّ الخبر مقدَّر، أي: يقولون؛ فيوصل قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ} لأنه مقول هذا القول، أم قلنا: إنّ قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ} قائم مقام الخبر، أم قلنا: إنّ الخبر قوله بعد ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ}، وجملة: {مَا نَعْبُدُهُمْ} مقول قول وقع حالًا، أي: قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ}، فلا يوقف أيضًا على: {أَوْلِيَاءَ}؛ لنقص الكلام وعدم تمامه.

الموضع الخامس: قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الزخرف: 89].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على قوله: {سَلَامٌ}.

قال النيسابوري: «{سَلَامٌ}(ط) للابتداء بالتهديد. قال السجاوندي: مَن قرأ {تَعْلَمُونَ} على الخطاب فوقفه لازم؛ لئلّا يصير التهديد داخلًا في الأمر بقوله: {قُلْ}. قلتُ: لا محذور فيه؛ لأنَّ السلام سلام توديع لا تعظيم»[31].

دراسة الاستدراك: ذهب السجاوندي إلى أنّ الوقف على: {سَلَامٌ} مطلق، وعبر عنه بـ(ط)، ومعناه عنده ما يحسن الابتداء بما بعده، ووجه ذلك أنَّ كلمة التهديد: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ليست من مقول {قُلْ} فيفصل بينهما، لكن لو وصل القارئ جاز أيضًا؛ حيث إنّ قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يدلّ على أنّ الكلام منفصل عمّا قبله للالتفات في الأسلوب، وأمّا على القراءة بالخطاب: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}؛ فيرى السجاوندي أنّ الوقف لازم لئلّا يُتَوَهّم اتصال الكلام، وأن قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من تتمّة المأمور بقوله -صلى الله عليه وسلم-، وعقّب النيسابوري بأنه لا لزوم للوقف لأنه لا محذور فيه؛ لأنَّ السلامَ سلامُ توديع لا تعظيم، ومن ثَمّ فالمقام جميعه فيه التهديد والتحذير لهم من البقاء على الكفر بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنّ موادعتهم مؤقّتة ثم يقع العذاب بهم؛ ولذا فقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تفريع عمّا قبله؛ تهديدًا لهم ووعيدًا.

وثَمَّ وجهٌ آخر في تفسير الآية الكريمة قائم على أنه ليس في الآية تهديد ولا وعيد، وإنما بيان لجهلهم وسفههم، وأنهم سيعلمون بعد جهل، ويؤمنون بعد كفر، ويصبحون جندًا من جنود الله، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق في آفاق الأرض[32].

وقول الجمهور أشهر وأظهر.

وحاصل القول في هذا الاستدراك: أنه يوجد اختلاف بين المفسِّرين في حُكْم الوقف على {سَلَامٌ}، وأنَّ لذلك صلة بالقراءتين المتواترتَيْن في قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}؛ فقد قرأ المدنيّان وابن عامر بالخطاب: {تَعْلَمُونَ}، وقرأ الباقون بالغيب: {يَعْلَمُونَ}[33].

فأبو جعفر النحّاس يقول: «{وَقُلْ سَلَامٌ} قطعٌ كافٍ إن قرأتَ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، وإن قرأتَ بالتاء لم تقف على: {وَقُلْ سَلَامٌ}»[34].

وهو بذلك يرى أنه على قراءة التاء فلا وقف؛ لأن الكلام على نسق واحد، وأمّا على قراءة الياء فيقف؛ للتغاير بين الجملتين.

وقال الأشموني: «{وَقُلْ سَلَامٌ} (كافٍ)؛ للابتداء بالتهديد، ومَن قرأ: {يَعْلَمُونَ} بالتحتية لا يكون التهديد داخلًا في القول... ومَن قرأه بالفوقية كان أرقى في الوقف على: {سَلَامٌ}؛ لئلّا تدخل جملة التهديد في الأمر بـ{قُلْ}»[35].

وكلام الأشموني قريب من اختيار السجاوندي، لكنه اكتفى بكون الوقف على {سَلَامٌ} مع قراءة: {تَعْلَمُونَ} بالخطاب أرقَى وأفضل دون أن يجعله لازمًا، وهذا أحسن؛ إذ القول باللزوم محلّ نظر، ولكن مَن وقفَ فله وجه، ومن وصَلَ فله وجه، وقد رُمز له في بعض المصاحف بـ(ج) للدلالة على جواز الوقف والوصل، والله أعلم.

الموضع السادس: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ}[الأحقاف: 21].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على: {عَادٍ}، والموقع الإعرابي لـ:{إِذْ}في هذا الموضع.

قال النيسابوري: «{عَادٍ}(ط)؛ لأنّ {إِذْ} يتعلّق بـ(اذكُرْ) محذوفًا وهو مفعول به. هذا قول السجاوندي، وعندي أن لا وقف. وقوله: {إِذْ} بدل الاشتمال من {أَخَا عَادٍ}»[36].

دراسة الاستدراك: في هذا الموضع يستدرك النيسابوري على السجاوندي ويخالفه فيما ذهب إليه، وذلك أنّ السجاوندي قضى بأنّ الوقفَ على {عَادٍ} وقفٌ مطلق؛ لجعله: {إِذْ أَنْذَرَ} متعلقًا بفعل مقدّر تقديره: اذكر، وذهب النيسابوري إلى أنّ: {إِذْ أَنْذَرَ} بدل اشتمال من {أَخَا عَادٍ}، وهو قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنّ {أَخَا عَادٍ} وهو هود، يلابس وقت إنذاره وما وقع له معهم[37].

ووجه جعل {إِذْ} -وهي ظرف- بدل اشتمال «أنّ الأحيان مشتملة على ما فيها»[38].

ولا يخفى أن المراد ذكر الوقت نفسه لا الذِّكر فيه[39].

ومعنى الآية: اذكر زمن إنذاره قومه، فهي بدل اشتمال.

وحاصل القول: أنّ استدراك النيسابوري وجيه وصحيح، ويشهد له أنه لا تقدير معه للفعل (اذكُرْ)، والقول بعدم التقدير أَوْلَى، وبناء على ذلك فلا وقف على: {عَادٍ}؛ لأنه لا يوقف على المبدَل منه دون بدله وهو هنا: {إِذْ}.

الموضع السابع: قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}[ق: 36].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على: {الْبِلَادِ}.

قال النيسابوري: «{الْبِلَادِ}(ط) للاستفهام. قال السجاوندي: وعندي أن عدم الوقف أَوْلَى لأنّ النقب -وهو البحث والتفتيش- واقع على جملة الاستفهام»[40].

دراسة الاستدراك: في هذا الموضع يستدرك النيسابوري على السجاوندي، ولا يوافقه فيما ذهب إليه من الحكم على الوقف في قوله: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} بأنه وقف مطلق يحسن البدء بما بعده.

وما ذهب إليه النيسابوري أرجح وهو أنّ الوصل أَوْلَى، وذلك أنّ جملة: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} مقول قول محذوف، وجملة القول حالية من واو {فَنَقَّبُوا}، أي: فنقَّبوا في البلاد قائلين: هل من محيص[41].

أوْ عَلى إجراءِ التنقيبِ لِما فيهِ من مَعْنى التتبّعِ والتفتيشِ مُجْرَى القول؛ ولذلك فقد ذهب الأشموني إلى أنّ الوقف على البلاد حَسَن[42].

وثَمَّ وجهٌ آخر يجعل الوصل أَوْلَى، وهو أنّ جملة: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} بدل اشتمال من جملة: {أَهْلَكْنَا}، أي: إهلاكًا لا منجى منه[43].

وحاصل القول في هذا الموضع: أنّ استدراك النيسابوري صحيح، وأنّ وصل {فِي الْبِلَادِ} بما بعدها أَوْلَى لِمَا تقدَّم، ومع ذلك فالوقف جائز، والبدء بما بعده جائز على اعتبار أنه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لنفي أنْ يكونَ لَهُم محيصٌ[44].

الموضع الثامن: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[المجادلة: 14].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على {مِنْهُمْ} في الآية الكريمة.

قال النيسابوري: «{مِنْهُمْ}(لا)؛ بناء على أنَّ ما بعده حال، والعامل معنى الفعل في الجار، أي: وهم يحلفون، قاله السجاوندي، ولا يبعد عندي أن يكون مستأنفًا فيحسن الوقف[45].

دراسة الاستدراك: في هذا الموضع ذهب السجاوندي إلى منع الوقف على: {وَلَا مِنْهُمْ} على اعتبار أنّ الجملة بعدها: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} حالية، واستدرك النيسابوري عليه؛ حيث رأى أنه لا يبعد أن يكون قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} جملة مستأنفة فيصح الوقف قبلها على: {وَلَا مِنْهُمْ}.

والذي حرّره كثيرٌ من أئمة التفسير واللغة أنّ جملة: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} معطوفة على قوله تعالى: {تَوَلَّوْا}، فهي داخلة في حيّز الصِّلَة والتعجيب، وجُوِّز أيضًا عطفها على جملة: {مَا هُمْ مِنْكُمْ}، وصيغة المضارع للدلالة على تكرّر الحلف، ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصُّل مما فعلوه[46].

وحاصل القول في هذا الاستدراك: أنّ الوقف على: {وَلَا مِنْهُمْ} جائز غير ممنوع خلافًا للسجاوندي، وذلك على اعتبار أنّ جملة: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} استئنافية أو معطوفة، وعطف الجمل يبيح الوقف، ولا يمنعه.

الموضع التاسع: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح: 23].

قال النيسابوري: «{وَنَسْرًا}(o)(ج)؛ لأنّ ما بعده ليس بمعطوف، ولكنه حال من فاعل {قَالُوا}، وذكر السجاوندي أنه حال من مفعول {لَا تَذَرُنَّ}، وفيه نظر»[47].

موضع الاستدراك: الموقع الإعرابي لـقوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا}.

دراسة الاستدراك: استدرك النيسابوري على السجاوندي دعواه أنّ {وَقَدْ أَضَلُّوا} حال من مفعول: {لَا تَذَرُنَّ}، ومفعوله هو {آلِهَتَكُمْ}، وهذا استدراك في الموقع الإعرابي؛ لكني ذكرته لأنه مذكور في توجيه حكم الوقف على قوله: {وَنَسْرًا}.

والواقع أن هذا الاختلاف في الموقع الإعرابي مبنيّ على الاختلاف في الضمير في قوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا}.

قال أبو حيان الأندلسي: «{وَقَدْ أَضَلُّوا}، أي: الرؤساءُ المتبوعون، {كَثِيرًا}: من أتباعهم وعامّتهم، وهذا إخبار من نوح -عليه السلام- عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال. وقال الحسن: {وَقَدْ أَضَلُّوا}، أي: الأصنام، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء، كقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم: 36]، ويحسنه عوده على أقرب مذكور، ولكن عوده على الرؤساء أظهر؛ إِذْ هم المحدَّث عنهم، والمعنى فيهم أمكن»[48].

وبهذا يترجّح أنّ الجملة حالية من فاعل {قَالُوا}، أو أنّ الواو عاطفة، وجملة: {وَقَدْ أَضَلُّوا} مقول قول محذوف معطوف على {قَالَ} السابقة، أي: قال إنهم عصوني، وقال قد أضلُّوا[49].

وحاصل القول: أنّ الوجه الإعرابي الذي رجحه النيسابوري واستدركه على السجاوندي أقوى؛ لدلالة السياق عليه حيث إنّ المحدَّث عنهم هم الرؤساء فاعل {وَقَالُوا}، ومع ذلك فعلى كِلَا الوجهَيْن المذكورَيْن فلا بأس بالوقف على {نَسْرًا} لا سيّما وهو رأس آية، وهذا ما رمز له النيسابوري والسجاوندي بـ(o)(ج).

الموضع العاشر: قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}[النازعات: 15].

موضع الاستدراك: حكم الوقف على قوله: {مُوسَى}، والموقع الإعرابي لـ{إِذْ}.

قال النيسابوري: «{مُوسى}(o)(م)؛ لأنّ {إِذْ نَادَاهُ} يجوز أن يكون ظرفًا لـ(اذكُرْ) قاله السجاوندي. ويحتمل عندي تعلُّقه بالحديث وإن لم يجز تعلقه بإتيان الحديث»[50].

دراسة الاستدراك: في هذا الموضع يستدرك النيسابوري على السجاوندي ويبيّن جواز وصل قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} بقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}، ويكون {إِذْ} منصوبًا بـ{حَدِيثُ} خلافًا للسجاوندي الذي يرى لزوم الوقف على {مُوسَى}، قال: «لأنه لو وصل صار {إِذْ} ظرفًا لإتيان الحديث وهو محال»[51].

ويمكن التخلّص من ذلك بما ذكره النيسابوري بأنّ {إِذْ} ظرف للحديث لا إتيان الحديث، وهو ما صرّح به بعض المفسِّرين واللغويّين لاختلاف وقتيهما[52].

وقال ابن عاشور: «{إِذْ} اسم زمان، واستعمل هنا في الماضي، وهو بدل من {حَدِيثُ مُوسَى} بدل اشتمال؛ لأنّ حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك»[53].

وحاصل القول في هذا الاستدراك: أنّ القول بلزوم الوقف على قوله: {مُوسَى} كما ادّعاه السجاوندي غير لازم؛ لِما ذكره النيسابوري من احتمال أن تكون {إِذْ} ظرفًا للحديث لا إتيان الحديث فيصحّ الوصل، ويكون الاستدراك وجيهًا، ومع ذلك فالوقف على قوله: {مُوسَى} أَوْلَى؛ لأنه «يُحْدِث في نفس السامع ترقبًا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} إلخ؛ حصل البيان، مع ما يحصل عند الوقف على كلمة {مُوسَى} من قرينة من قرائن الكلام؛ لأنه على سجعة الألف مثل قوله: طوى، طغى، تزكى...إلخ»[54].

وبهذا الموضع تنتهي المواضع التي وقفتُ عليها من استدراكات للنيسابوري على السجاوندي-رحمهما الله تعالى-.

ومن أبرز النتائج المستخلصة من هذه الدراسة:

1- هناك عشرة مواضع استدركها النيسابوري على السجاوندي، وإن كان الأصل في النيسابوري أنه متابِع للسجاوندي في وقوفه.

2- استدراكات النيسابوري على السجاوندي منها ما هو مشفوع ببيان وجه الاستدراك، ومنها ما اكتفى فيه النيسابوري بقول: «وفيه نظر» دون أن يبيّن وجه النظر؛ كما في الموضعين الأول والتاسع.

3- غالب هذه الاستدراكات تتعلّق بوقوفٍ رأَى السجاوندي لزومها أو منعها فخالفه النيسابوري، وكان الحقّ -فيما يبدو- معه، ولا لزوم ولا منع في الوقف إلّا بحجة وبرهان.

4- استدراكات النيسابوري قائمة على التوجيه الإعرابي؛ مما يدلّ على عظيم الصلة بين الإعراب والوقف، والموضع التاسع كان خاصًّا بالموقع الإعرابي مع الاتفاق بينهما في حكم الوقف.

5- استدراك النيسابوري على السجاوندي قد يأتي على معنى زيادة التقرير والتوجيه لحكم الوقف مع موافقة السجاوندي فيما ذهب إليه، كما في الموضع الثالث.

خاتمة:

بيّنتُ في هذه المقالة المواضعَ العشرة التي استدركها النيسابوري في تفسيره: (غرائب القرآن) على السجاوندي في وقوفه بعد تعريف موجَز بهما وبكتابيهما عرضت فيه لأبرز ما يميّز الكتابين، كما عرضتُ للرموز التي استعملاها في بيان حُكْم الوقف على كلمات القرآن الكريم.

واتخذْتُ مسلكًا في عرض هذه المواضع العشرة؛ بدأتُ فيه بذِكْر الآية محلّ البحث، ثم بيّنتُ موضع الاستدراك فيها، ثم ذكرتُ قول النيسابوري لبيان ما استدركه على السجاوندي، ثم قمتُ بدراسة الاستدراك، وبعدها خلصتُ إلى حاصل القول في هذا الاستدراك بناء على البحث والتحرير وقواعد الوقف والابتداء، وبعد الفراغ من دراسة هذه الموضع ذكرتُ أبرز النتائج المستخلصة منها، والله وليّ التوفيق.

 

[1] غرائب القرآن ورغائب الفرقان (6/ 606)، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى: 1416هـ.

[2] ينظر: إنباه الرواة على أنباه النحاة، لجمال الدين علي بن يوسف القطفي (3/ 153)، المكتبة العصرية- بيروت، الطبعة الأولى: 1424هـ.

[3] ينظر: معجم مصنفات الوقف والابتداء؛ دراسة تاريخية تحليلية مع عناية خاصّة بمصنفات القرون الأربعة الأولى، د. محمد توفيق أبو حديد، ص481- 483، 498، مركز تفسير للدراسات القرآنية- الطبعة الأولى: 1437هـ- 2016م.

[4] ينظر: علل الوقوف، للسجاوندي، ص169، مكتبة الرشد- الطبعة الثانية: 1427هـ- 2006م.

[5] النشر في القراءات العشر (1/ 234)، لشمس الدين بن الجزري، تحقيق: علي محمد الضباع- المطبعة التجارية الكبرى.

[6] سلم الوصول إلى طبقات الفحول، لحاجي خليفة (2/ 36)، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة إرسيكا، إستانبول- تركيا، عام النشر: 2010م.

[7] لمعرفة الأدلة والبراهين على ذلك ينظر: آراء النيسابوري الاعتقادية من خلال تفسيره غرائب القرآن ورغائب الفرقان؛ عرض ونقد، محمد بن مناج الدين ديوان، ص20- 23، رسالة ماجستير بالمملكة العربية السعودية- جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين- قسم العقيدة، العام الجامعي:1434هـ- 1435هـ.

[8] طبقات المفسرين، للأدنوي، ص420، تحقيق: سليمان بن صالح الخزي، الناشر: مكتبة العلوم والحكم- السعودية، الطبعة الأولى: 1417هـ- 1997م.

[9] ينظر: غرائب القرآن (1/ 6)، والتفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي (1/ 229)، مكتبة وهبة- القاهرة.

[10] التفسير والمفسرون (1/ 230).

[11] غرائب القرآن (1/ 44).

[12] غرائب القرآن ورغائب الفرقان (2/ 610)، وكلام السجاوندي في كتابه علل الوقوف، ص461.

[13] إعراب القرآن وبيانه، لمحيي الدين درويش (2/ 518)، دار الإرشاد للشؤون الجامعية، حمص- سورية، الطبعة الرابعة: 1415هـ.

[14] منار الهدى، لأحمد بن عبد الكريم الأشموني (1/ 222)، عبد الرحيم الطرهوني، دار الحديث- القاهرة،2008م.

[15] الجدول في إعراب القرآن (6/ 402)، محمود بن عبد الرحيم صافي، دار الرشيد- دمشق، مؤسسة الإيمان- بيروت، الطبعة الرابعة: 1418هـ.

[16] غرائب القرآن (4/ 75).

[17] علل الوقوف، ص130.

[18] التحرير والتنوير، لابن عاشور (12/ 253)، الدار التونسية للنشر- تونس، 1984هـ. وينظر: الكشاف (2/ 430)، لمحمود بن عمر الزمخشري، دار إحياء التراث العربي- بيروت. والبحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي (5/ 245)، دار الفكر.

[19] التحرير والتنوير (12/ 252).

[20] منار الهدى (1/ 362).

[21] غرائب القرآن (5/ 551).

[22] غرائب القرآن (5/ 555).

[23] ينظر: الكشاف (4/ 36)، وتفسير البيضاوي (5/ 6)، دار إحياء التراث العربي- بيروت، والبحر المحيط (9/ 92).

[24] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين بن هشام، ص502، دار الفكر- دمشق، الطبعة السادسة: 1985م.

[25] منار الهدى (2/ 194).

[26] الانتصاف فيما تضمنه الكشاف، مطبوع بحاشية الكشاف (4/ 35).

[27] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين الآلوسي (12/ 68)، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى: 1415هـ.

[28] غرائب القرآن (5/ 612)، وفيه الرمز بـ(o) وهو خطأ؛ إِذْ ليست رأس آية اتفاقًا، والصواب (م) كما يدلّ عليه سياق الكلام، وهو المثبت في علل الوقوف، ص877.

[29] القطع والائتناف، لأبي جعفر النحَّاس، تحقيق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، ص605، دار عالم الكتب- المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1413هـ- 1992م.

[30] وصف الاهتداء في الوقف والابتداء، للجعبري، ص496، دراسة وتحقيق: نواف بن معيض الحارثي، دار طيبة الخضراء، 1441هـ.

[31] غرائب القرآن (6/ 96)، وينظر: علل الوقوف، ص923.

[32] ينظر: التفسير القرآني للقرآن، لعبد الكريم الخطيب (13/ 176)، دار الفكر العربي- القاهرة.

[33] النشر في القراءات العشر (2/ 370).

[34] القطع والائتناف، ص648.

[35] منار الهدى (2/ 257).

[36] غرائب القرآن (6/ 123)، وينظر: علل الوقوف، ص943.

[37] ينظر: منار الهدى (2/ 270)، وروح المعاني (13/ 181)، والجدول في إعراب القرآن (26/ 188)، وإعراب القرآن وبيانه (9/ 184).

[38] الكشاف (3/ 10).

[39] مغني اللبيب، ص111.

[40] غرائب القرآن (6/ 173)، وينظر: علل الوقوف، ص966.

[41] إعراب القرآن (9/ 297).

[42] منار الهدى (2/ 291).

[43] التحرير والتنوير (26/ 323).

[44] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود العمادي (8/ 133)، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

[45] غرائب القرآن (6/ 266)، وينظر: علل الوقوف، ص1004.

[46] ينظر: روح المعاني (14/ 226)، والجدول في إعراب القرآن (28/ 184)، والتحرير والتنوير (28/ 48)، وإعراب القرآن وبيانه (10/ 26).

[47] غرائب القرآن (6/ 362) وفي المطبوع الرمز بـ(o)(ك)، وصوابه ما أثبته، وهو الموجود في علل الوقوف ص1052 ففيه الرمز لهذا الموضع بـ(ج) أي: جائز، وكذا هو المثبت في طبعة د. محسن هاشم درويش في تحقيقه لكتاب السجاوندي، ص458، دار المناهج- الطبعة الأولى: 1422هـ- 2001م.

[48] البحر المحيط (10/ 287).

[49] إعراب القرآن وبيانه (10/ 232).

[50] غرائب القرآن (6/ 438).

[51] علل الوقوف، ص1088.

[52] ينظر: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي (10/ 676)، تحقيق: د أحمد الخراط، دار القلم- دمشق، وإعراب القرآن (10/ 366).

[53] التحرير والتنوير (30/ 74).

[54] التحرير والتنوير (1/ 117).

الكاتب

الدكتور محمد حامد حسن عطية

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف، وله عدد من المؤلفات والبحوث العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))