دراسة لمخطوط مصحف مكتبة (هدائي) رقم (13) بإستانبول
كلام الله تعالى أحسنُ ما سلَّمَ اللسانُ بيانَه؛ ولذلك تمّت العناية به فهمًا ودرسًا وضبطًا ورسمًا، فاستقامت عناية الراسمين مع دراية الدارسين، فأنتجَتْ عنايتهم نُسَخًا توزَّعت على الأقطار والأمصار من مكتبات عامّة وخاصّة تحوي النفيس والنادر؛ ومن هذه النّسخ النسخة التي نتعرَّض لها في هذه المقالة من جانبين: مادي وعلمي.
أولًا: الجانب المادي:
1- بيانات الحفظ والورق والخط:
هذه النسخة موجودة في مكتبة «هدائي» ضمن مكتبة «سليم آغا» بأسكدار - إستانبول، برقم (13)، منتشرة على ثلاثمائة وثلاث وثمانين ورقةً، في أحد عشر سطرًا في الصفحة الواحدة، كُتِبَت بخط الثُّلث، متوسط الحجم، واضح، لُوِّنَت فواتح السور بالذّهَب والتي تليها بالحُمرة والنصّ القرآني بالسواد، ولُوِّنت علامات الوقف والابتداء باللون الأحمر وعلامات الحركات بالبُنّي، مضبوطة الشّكل بالضبط التامّ، منقّطة الحروف بعلامات الإعجام المعروفة.
2- التجليد والزخرفة والتذهيب:
جُلِّدت النسخة بالجلد الذي يظهر عليه أثر القِدَم، مُلوَّن باللون الأحمر الخَمري، يتوسَّطه صُرَّة بديعة الشكلِ مزخرفة بالأشكال النباتية بالطريقة المضغوطة.
ثم على الورقة الأولى والثانية كتيبتان مُزخرفتان بالشكل الهندسي النباتي المتداخل، زُركِشَت داخلها أشكال نباتية ملونة باللون الأخضر والقُرمُزي على أرضية مذهَّبة، على طرفها شكل مزخرف على شكلِ زهرة ملونة بالذهب، مؤطَّرة بالحُمرة.
ثم كُتبت أسماء السور بخطّ كوفي مذهّب، على يمينها رأس قلادة محمرّة، ورُسمت رؤوس الآيات على شكلِ دوائر ذهبية مطموسة، ورُسمت العُشور على شكلِ قلائد محمرّة ومذهّبة، وكُتبت الأجزاء والأحزاب وأنصافها وأرباعها والسجدات والعشور أحيانًا.
3- بيانات النَّسْخ:
كُتبت النسخة في الرُّبع الأول من القرن السابع حيث رفع الناسخ قَلَمه عنها في سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان الذي نال شرفَ نَسْخِها هو «صدّيق بن أحمد بن عبد الستار بن سليمان الزاهدي»، وكُتب بيان النَّسخ في آخر النسخة بالمذهب النافر داخل شمسية مزخرفة بالشكل النباتي الملوّن بالذهب والخُضرة.
4- حالة النسخة:
هذه النسخة أصيبَت بآفات كثيرة كالرطوبة الشديدة والأَرَضة بشكلٍ كبيرٍ، مما استدعى ترميمًا كثيرًا أصاب قِطَعًا كبيرةً من الورق بالتعمية، وأصابها التفكُّك والتمزُّق في بعض أوراقها حتى إنَّ مادتها قد استُهلكت من أسفلها، وقد نقص من الآية «157» من سورة الأعراف فاستدركها في الهامش، ثم كُتبت منفردةً في آخر النسخة بخط مختلِف.
ثانيًا: الجانب العلمي:
1- أعداد الآيات وأسماء السور في النسخة:
أعداد آي القرآن مضبوطة حسبَ الأسانيد المتصلة في ستة أقوال بين: مدني أوّل وثانٍ ومكي وشامي وبصري وكوفي، وقد التزم الناسخ في هذه النسخة -بعد التتبُّع- بقول الكوفيين. مثال ذلك سورة الرعد جعلها أربعين وثلاث آيات، وإبراهيم: اثنتين وخمسين، ومائةً وعشرًا للكهف. وذلك قول أهل الكوفة فيها. إلا سورة القصص جعلها تسعًا وثمانين وهي ثمان وثمانون بالاتفاق.
ثم سمَّى السور بأسمائها المشتهرة، وقلّما استَخْدَم الأسماء المغايرة التي لها أصل؛ كسورة (غافر) سمّاها بسورة (الطَّوْل) وسورة (فاطر) سماها بسورة (الملائكة) و(المسد) بسورة (تبَّت).
2- الرسم العثماني في هذه النسخة:
الرسم العثماني هو ما خطّه الصحابة -رضوان الله عليهم- حين نسخوا المصاحف، والذي تؤكّده النقوش الأثرية أن الصحابة كتبوا المصاحف كما يَكتب الناس في زمانهم بالقواعد الإملائية التي يعرفونها[1]. ولهذا الرّسم -الذي اعتنى به العلماء كثيرًا حتى أفردوه بالتصنيف- ظواهرُ خمس، وهي: الحذف، والإبدال، والزيادة، والوصل والفصل، وظاهرة كتابة الهمزة.
وفي هذه النسخة اختلف الرسم الموجود عن الرسم العثماني في بعض الكلمات، ولنضرب لذلك أمثلةً:
• ظاهرة الحذف:
أ- كلمة: {الأنهر} وردَت هذه الكلمة معرَّفةً ومنكَّرةً في واحد وخمسين موضعًا حُذف منها الألِف[2]، ووردَت بشكلها الإملائي في هذه النسخة: {الأنهار} من غير حذف.
ب- كلمة: {إسمعيل} وردت في اثني عشر موضعًا حُذفت منها الألِف[3]، ووردت بشكلها الإملائي في هذه النسخة: {إسماعيل}.
• ظاهرة الزيادة:
أ-كلمة: {لأاْذبحنّه} وردَت في موضع واحد: [النمل: 21] زيدت فيها ألِف، وكان ينبغي أن تُحذَف لأنها لام زيدت على ألف[4]، ووردت في هذه النسخة من غير ألِف برسمها الإملائي: {لأذبحنه}.
ب-كلمة: {تلقاءِي} وردَت في موضع واحد، وهو: [يونس: 15] بزيادة الياء[5]، ووردَت بهذه النسخة من غير زيادة.
• ظاهرة الإبدال:
أ-كلمة: {بقية} وردت في ثلاثة مواضع، كُتبت في موضع واحد: {بَقِيَّت} بإبدال التاء المربوطة تاءً مفتوحة[6]، وكُتبت في النسخة على القياس: {بقيَّة}.
ب-كلمة: {المسيطرون} وردت في موضع واحد، كُتبت {المصيطرون} في الرسم العثماني[7]، وفي النسخة وردت بشكلها الإملائي من غير إبدال السين صادًا.
• ظاهرة الوصل والفصل:
كلمة: {وي كأنّ} وُصِلَت {وي} بكلمة: {كأنّ} في موضعين في [القصص: 82]، ووقف الكسائي على {وي} على أنها كلمة مستقلّة[8]. وفي هذه النسخة التزم الناسخ الرسم العثماني في كتابتها موصولةً.
• ظاهرة كتابة الهمزة:
أ-{علماء} وردَت معرِفة ونكِرة، في موضعين: [الشعراء: 197، فاطر: 28] رُسِمَت فيهما: {علمؤا}[9]. وفي هذه النسخة وردَت على القياس بشكلها الإملائي المخالف للرسم العثماني: {علماء}.
ب-كلمة: {يُنَشَّأُ} وردَت في موضع واحد: [الزخرف: 18] ورُسِمَت الهمزة في الرسم العثماني على واوٍ: {يُنَشَّؤُا}[10]، وفي نسختنا على أصلها الإملائي.
3- رحلة المخطوط:
هذه النسخة بين نَسْخِها واستقرارها النهائي، لم يثبت عليها أيّ ختم يفيد أيّ نوع من أنواع الحيازة أو صورة من صور التملُّك لشخص بعينه أو لجهة معيّنة أو لخزانة محددة.
فقد انتهى النَّسْخ في الرُّبع الأول من القرن السابع ثم استقرّت بعد أكثر من أربعة قرون في مكتبة «هدائي».
4- قيمة النسخة:
تُعَدُّ هذه النُّسخة من النُّسَخ القيِّمة التي ارتقَتْ بها أسبابُها إلى هذه المرتبة نظرًا لِقِدَمها واكتمالها.
خاتمة:
كتابُ الله لا يخلو النِّقاشُ في علومه من الاختلاف؛ ولذلك كان جديرًا بهذه النسخة أن تُناقَش في صورة مرتَّبة الفكرة، ويُستخرَج منها ما تدور حوله الآراء في فقراتها من جانبَيها المادّي والعلمي، وخصوصًا ما تمّ التركيز عليه من الرسم العثماني والإملائي في هذه النسخة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
[1] ينظر: رسم المصحف؛ إحصاء ودراسة، صالح محمد عطية، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، الطبعة الثانية، 1430هـ-2001م، ص46.
[2] قال المارغني في شرح مورد الظمآن: وحذفوا (ذلك) ثم (الأنهر) ... وابن نجاح راعنا والأبصار: أخبر مع إطلاق الحكم الذي يشير به إلى اتفاق شيوخ النقل بأن كُتّاب المصاحف حذفوا ألِف الأنهار. ينظر: دليل الحيران على مورد الظمآن، إبراهيم المارغني، دار الحديث، القاهرة، ج1، ص86.
[3] ذكَر أبو داود في مختصر التبيين أن الألِف بعد الميم في الأسماء الأعجمية تُحذَف. ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، 1423هـ-2002م، ج2، ص112.
[4] ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج1، ص36.
[5] ينظر: دليل الحيران على مورد الظمآن، إبراهيم المارغني، ج1، ص277.
[6] ينظر: مختصر التبيين، أبو داود، ج2، ص278.
[7] ينظر: المرجع السابق نفسه، ج5، ص1498.
[8] ينظر: إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي، دار الكتب العلمية -لبنان، 1419هـ-1998م، الطبعة: الأولى، ج1، ص142.
[9] ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، الداني، ج1، ص63، 64.
[10] قال أبو عمرو: «ورُسِمَت الألِف بعد الواو في هذه المواضع لأحد معنيَين: إمّا تقوية للهمزة لخفائها وهو قول الكسائي، وإمّا على تشبيه الواو التي هي صورة الهمزة في ذلك بواو الجمع من حيث وقعتا طرفًا فأُلحقَت الألِف بعدها كما أُلحقَت بعد تلك. وهو قول أبي عمرو بن العلاء، والقولان جَيِّدان». ينظر: المرجع السابق نفسه: ج1، ص65.