هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟
يُعَدّ موضوع الإسرائيليات في التفسير من أكثر الموضوعات إشكالًا وإِثارة للجدل، والإشكالات التي تتعلّق به والتساؤلات التي تدور حوله والتي يمكن أن تُثَار عليه كثيرة ومتنوّعة، ولكنّنا نَظُنّ أنّ السؤال الذي نطرحه في هذه المقالة ونحاول الإجابة عنه فيها يُعَدُّ أهم الأسئلة التي يمكن أن تُثَار حول هذا الموضوع، وهو يلخِّص إشكاله ويَجْمَع أطرافه، وإليه ترتدّ كثير من التساؤلات المتعلّقة به، والتي لم تُثَرْ إلا لأجْله.
ولا شك أنّ الطبري -رحمه الله- يُعَدّ من أشهر المفسّرين الذين أَوْرَدُوا المرويات الإسرائيلية في تفاسيرهم، وفَسَّروا القرآن الكريم بموجبها -في ظاهر صنيعه-، ولأجل هذا هُوجم كثيرًا من قِبَل البعض، وعُدَّ إيراده لهذه المرويات أحد أهم مثالب عمله في التفسير.
وبعد تأمّلٍ لمنهج الطبري -رحمه الله- بخصوص هذا الموضوع تبيّن لنا أنّ ثمة خلطًا في فهم صنيعه والحديث عنه في كثير من الكتابات المعاصرة، فأحبَبْنَا أن نصوّب هذا الخَلل، وأن نضع الأمر مَوْضعه بحسب ما تبيّن لنا.
أولًا: توصيف حضور المرويات الإسرائيلية في تفسير الطبري:
مَنْ يتأمّل صنيع الطبري في إيراد هذه المرويات التي حُكِمَ عليها لاحقًا بأنها من الإسرائيليات؛ يجد أنه رَوَاها عن السّلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وليس أنه عاد إلى كُتب أهل الكتاب فاستقى منها هذه المرويات وفسَّر بها كتابَ الله تعالى، ومن يطالع تفسيره من أوّله إلى آخره لن يجد فيه رجوعًا مباشرًا من الطبري إلى كُتب أهل الكتاب، وإنما سيجد رجوعًا إلى مقولات السلف وحكايةً لها.
ولا شكّ في أنّ مجرّد إيراد المقولات التفسيرية الواردة عن أهل العلم بالقرآن وتأويله لا يُعَدّ طاعنًا بذاته في عمل المفسّر، بل إنّ إيراد هذه المقولات سواء بنصّها أو بمعناها هو الواجب العلمي المتحتّم على المفسِّر، إذا كان من منهجه حكاية الخلاف وتتبّع مقولات المفسِّرين المعتبرين والموازنة بينها أو مجرّد حكايتها، يقول ابن تيمية: «فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أنْ تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبّه على الصحيح منها ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم، فأما مَنْ حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إِذْ قد يكون الصواب في الذي تركه...»[1].
ورواية الإسرائيليات وطَرْح معاني تفسيرية في ضوئها هو فعل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن ثَمَّ لم يكن أمام الطبري وغيره من المفسِّرين الذين عُنُوا بتفسير السلف إلا نقل هذه المقولات عنهم، ثم نقاشها في ضوء ما تقرّر لديهم من أصولِ وقواعدِ التفسير، ولو لم يفعلوا هذا لكان ذلك خللًا منهجيًّا، لا سيما في مثل تفسير الطبري ونحوه من التفاسير المؤسِّسة لمادة التفسير ومقولاته، والتي يلزمها حُسْن التصوير لمسائل العلم وللأقوال فيه، ولكيفية نظر هؤلاء المفسِّرين لهذه المسائل وهذه الأقوال وتعاملهم معها، حتى إذا جاء مَنْ بعدهم سَهُل عليهم فهم صنيعهم وصنيع مَنْ أخذوا عنه، فكتاب الطبري -رحمه الله- في التفسير يُعَدّ كتابًا مؤسِّسًا، فالتفسير قبله ليس كالتفسير فيه وليس كالتفسير بعده، فقد نَظم مادة التفسير على نحوٍ لم يُسبق إليه، مزج فيها بين المأثور والرأي، وخَطَّ حدودًا لعلم التفسير، وصنّف أقوال السلف تحت مَعَانٍ جامعة، ووازَن بينها، وقام بالعديد من الأمور التي لم تكن قبله وانبنى عليها صَرْحُ التفسير بعده، ولهذا جَعل من منهجه في هذا التفسير أن يتتبع مقولات المفسّرين قبله وأن يُورِدَها بنصوصها في أكثر ما أَوْرد[2]، وأن يوجّهها ويبيّن الراجح منها، كما صرّح بهذا في مقدّمة تفسيره، قال -رحمه الله-: «ونحن -في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- منشئون إن شاء الله ذلك، كتابًا مستوعِبًا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعًا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيًا. ومخبرون في كلّ ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحُجّة فيما اتّفَقَتْ عليه منه واختلافها فيما اختلفتْ فيه منهُ. ومُبيِّنو عِلَل كلّ مذهب من مذاهبهم، ومُوَضِّحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه»[3].
ومن ثم كان لزامًا على الطبري -وفقًا لما اختطّه لنفسه منهجًا- أنْ يُورِد مقولات السلف، والتي حملتْ في طيّاتها هذه المرويات الإسرائيلية.
وهذا القدر من توصيف حضور المرويات الإسرائيلية في تفسير الطبري لا اختلاف عليه، نعني: كونها منقولة عن بعض السلف، وأن الطبري نَقَلَهَا باعتبار أنّ من منهجه نقل مقولات المفسّرين من السلف وغيرهم مما بلغه، بالإسناد إلى طبقة السّلف، وبدون التزام الإسناد في غيرهم[4]، وهذا القدر من التوصيف لحضور هذه المرويات في تفسيره -رحمه الله- هو ما نحتاج إليه فيما نحن بصدده، لكن هل كان لهذه المرويات أيّ اعتبار آخر عند الطبري غير كونها مقولات مروية عن المفسّرين من السلف؟ أو بعبارة أخرى: هل تُعَدّ مصدرًا من مصادر الطبري في التفسير؟ هذا ما نحن بصدد نقاشه في النقطة التالية.
ثانيًا: هل اعتمد الطبري على الإسرائيليات في بيان معاني القرآن الكريم أو الموازنة بين الأقوال فيه؟
الذي تبيّن لنا بعد كثيرٍ من الدّرْس والفحص والتأمّل لمنهج الطبري -رحمه الله- في إيراد هذه المرويّات وتعامله معها أنه لم يكن لها عنده أيّ اعتبارية مطلقًا، فلا هي من مصادر التفسير عنده، ولا دليل من أدلّته، ولا دلالة من الدلالات[5] التي يُتوصل بها إلى الفصل بين الأقوال أو التعرّف على وجه الصواب فيها. والدليل على هذا -بحسب رؤيتنا للأمر- أنّنا وجدْنا أنّ كلّ الأمور المعتبَرة عند الطبري في التفسير -بِغَضّ النظر عن توصيف هذه الاعتبارية الآن فليس لنا بمقصد- قد أسَّسَ الطبري بها المعنى ابتداء أو استدعاها للموازنة بين الأقوال وتبيُّنِ الصواب فيها من الخطأ، كما قد وضعَ عددًا من المقرّرات النظريّة التي تضبط توظيف هذه الأدوات في التفسير، ونَصَّ على هذا بوضوح سواء في تنظيراته أو تطبيقاته، فمثلًا اللغة العربية بفروعها التي يحتاج إليها في بيان القرآن الكريم نجد أنّ الطبري -رحمه الله- قد أسّس لكونها أحد طرق التفسير عنده في مقدّمة تفسيره، وبيَّنَ مجال عمل اللغة في التفسير، وبَيَّن بعض الضوابط المتعلّقة بهذا الطريق من طرق التفسير، فأسَّس لهذا المصدر نظريًّا.
وحين نرجع إلى تطبيقاته نجد بيانًا ظاهرًا لكون اللغة معتبرة عنده، فحين يأتي ليفسّر بعض آيات القرآن الكريم أو كلماته أو يوازن بين الأقوال يستدعي اللغة كمصدر تفسير أو كجهة فَصْلٍ بين الأقوال، فيستهلّ التفسير أحيانًا ببيان أنّ معنى كذا في لغة العرب كذا، أو أنّ اللغويين اختلفوا في معنى كذا، ونراه أيضًا يوازِن بين الأقوال باللغة فيبيّن أنّ هذا القول ضعيف من جهة اللغة وأن قولًا آخر أقوى من جهتها، ونجده أيضًا يقرّر بعض الضوابط التي تتعلّق بهذا المصدر، فنراه يكرّر أنّ تفسير كتاب الله على الأشْهَر من لغة العرب، فيرجّح ما كان كذلك من الأقوال ويضعّف ما خالف هذا عنده، ولهذا في تفسيره أمثلة عديدة يمكن مراجعتها.
وإذا نظرْنا لبيان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- باعتباره مصدرًا من مصادر التفسير عنده نجد أنّ الطبري قد فعل معه ما فعله مع اللغة، فبيَّن في مقدمة تفسيره أنّ البيان النبوي للقرآن يُعَدّ أحد طرق التفسير، وبيَّن مجال هذا الطريق في عملية البيان، ووضع بعض الضوابط لهذا الطريق من طرق التفسير[6]، وفي تطبيقاته أمثلة عديدة على استحضاره لهذا الطريق وترجيحه بموجبه واعتباره لبعض الضوابط والمقرّرات النظرية المتعلقة به، فمثلًا يورِد بعض الأحاديث النبويّة ويبيّن أنها ضعيفة، وأنها لو صحّت لوجب الأخذ بما أفادته من التفسير، ونراه يرجّح أحيانًا بعض الأقوال لموافقتها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ويَنُصّ على هذا كلّه في تنظيراته وتطبيقاته بما يفيد قارئ تفسيره أنّ بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد مصادر التفسير عنده.
وهذان الطريقان: (اللغة، وبيان النبي) هما ما اقتصر الطبري على ذِكْره من طرق التفسير المعتبرة عنده في مقدّمته، لكنّنا نجد أيضًا عِدّة أمور أخرى لها اعتبار ظاهر في التفسير عند الطبري، بِغَضّ النظر عن مُسمى هذه الاعتبارية: مصدر، دليل، دلالة، فلسنا بصدد تحرير هذا الآن، وذلك كظاهر الآي، والسياق، والإجماع، وأقوال السلف، والدلالات العقلية والتاريخية، وغير هذا من أدلة التفسير ودلالاته عنده، فكلّ هذه الأمور قد وجدْنا في تطبيقات الطبري ما يدلّ دلالة بيّنة على أن لها عنده اعتبارية ظاهرة، فهو يوازن بين الأقوال بمقتضاها ويرجّح ويضعّف بموجبها، وينصُّ على ذلك، نَعْنِي أنه ينصّ مثلًا عند الموازنة بين الأقوال على أنّ بعض الأقوال أقرب للسياق من بقيّتها فيرجّحه، فنعلم من هذا أنّ السياق معتبر عنده، وأنّ الطبري يحتكم إليه في عملية التفسير والفصل بين الأقوال، وكذلك يفعل مع إجماع السلف، فهو معتبَر عنده، ويستدعيه للفصل بين الأقوال وترجيح بعضها على بعض، ويَنُصّ على أنّ بعض الأقوال لأهل اللغة خطأ ولا قبول لها لمخالفتها إجماع السلف، وكذلك يَنُصّ على أن بعض الأقوال أقرب إلى ظاهر الآي من بعض فيرجّحها، فنعلم بهذا أن مراعاة ظاهر الآي أمر معتبر عنده، وكذلك يفعل مع الدلالات العقلية والتاريخية والنظائر القرآنية، فكلّ هذا له عند الطبري اعتبارية واضحة وقفْنا عليها من خلال تطبيقاته، ويمكن الاستدلال على كونها معتبرة عنده من واقع صنيعه، لكننا إذا جئنا إلى المرويات الإسرائيلية لم نظفر بشيء من هذا، فهو لا يقول في تفسيره: هذا القول أقرب؛ لأنه المشهور عن أهل الكتاب، ولا نراه يقول مثلًا: إنّ فلانًا من السلف أثبت في النقل عن أهل الكتاب فيؤخذ بقوله فيما فيه اختلاف، ولا وجدْناه يقول في بداية تفسيره لآية من آي القرآن: ذكر أهل الكتاب كذا أو كذا، أو: اختلف أهل الكتاب في كذا، أو أيّ من العبارات التي تُفيد اعتباره لها أو احتكامه إليها، بل لا نكاد نظفر بذِكْرٍ لقضية الإسرائيليات أو ما يتعلّق بها من أيّ من الجهات في تفسير الطبري، وغاية ما نجده في تفسيره هو المرويات نفسها، التي حُكِمَ عليها بأنها مأخوذة عن أهل الكتاب[7]، وقد حضرت في تفسيره باعتبارها أقوالًا مروية عن السلف -كما بينّا-، أما الطبري كمفسّر فإنّ الإسرائيليات لم يكن لها عنده أيّ قيمة، فلم يعتمد عليها ولا استأنس بها على ترجيح معنى أو قول، ولا دليل على اعتبار الطبري لها بأيّ وجه من الوجوه، ولو كان لها أي اعتبارية عنده لفعل معها فِعْلَه مع كلّ ما أوردْنا من مصادر التفسير وأدلّته ودلالته عنده، ولكن لمّا لم نجد عَلِمْنا أنها لا قيمة لها عنده.
ومما يزيد الأمر وضوحًا أنّنا وجدْنا بعض الدواعي التي كان يفترض أن تحفز الطبري ليبيّن احتكامه لهذه المرويات في التفسير أو اعتباريتها عنده، أو حتى يُعَرِّض بذكرها سواء بالإيجاب أو السلب، فمن ذلك أنّنا وقفْنا على عِدّة مرويات في تفسيره صَرّح أصحابُها بأن ما يقولونه مأخوذ عن أهل الكتاب، ومع هذا لم يعلّق الطبري سلبًا أو إيجابًا، ومن ذلك أيضًا أنّ قضية الإسرائيليات قضية مُثارة من قَبْل الطبري، ويتعلّق بها تأصيل نبويّ، ومع هذا فالطبري لا يُعرِّض بذكرها مطلقًا، ومن ذلك أيضًا وجود مواطن في القرآن الكريم تختصّ ببعض قصص أهل الكتاب، وكثير مما رُوي فيها يعتبره البعض من الإسرائيليات، ومع هذا لما أراد الطبري في كلّ هذه المواطن أن يوازِن بين الأقوال لم يحتكم مطلقًا للإسرائيليات، لا تأسيسًا ولا استئناسًا، ولنضرب لهذا مثلًا جليًّا:
ذكر الطبري -رحمه الله- اختلافًا في المائدة التي سأل أهلُ الكتاب عيسى أن ينزلها اللهُ عليهم من السماء، هل أُنزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟ فذكر أقوالًا للسلف في هذا، ثم علّق قائلًا: «والصواب من القول عندنا في ذلك أن يُقال: إنّ الله تعالى ذِكْره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه.
وإنما قلنا ذلك؛ للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير مَن انفرد بما ذكرنا عنه.
وبعدُ، فإنّ الله -تعالى ذِكْره- لا يُخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلْف، وقد قال -تعالى ذِكْره- مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى -صلى الله عليه وسلم- حين سأله ما سأله من ذلك: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، وغير جائز أن يقول -تعالى ذكره-: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، ثم لا ينزلها؛ لأن ذلك منه -تعالى ذِكْره- خَبَر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صِحّة. وغير جائز أن يُوصف ربّنا -تعالى ذِكْرُه- بذلك.
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأنْ يُقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون كان سمكًا وخبزًا، وجائزٌ أن يكون كانَ ثمرًا من ثمر الجنة، وغيرُ نافع العلم به، ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرَّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل»[8].
فهنا نلاحظ أن الطبري -رحمه الله- لم يَرجع لكتب أهل الكتاب ولا إلى مقولاتهم ليحسم بها الخلاف، بل حَسَمه بموجب النظر إلى بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقوال السلف، والدلالات الشرعية والعقلية، على الرغم من أنّ هذه القصة متعلّقة بأهل الكتاب، والآثار التي أوردها الطبري كثيرٌ منها يشبه أنه مأخوذ عن أهل الكتاب، وتحكي تفاصيل نزول المائدة وما كان عليها، وبدهي في مثل هذا لو كانت أقوال أهل الكتاب أو كتبهم مصدرًا من مصادر التفسير أن يَرجع المفسِّرُ إليها فينظر فيها ويقرّر ما يراه بعد النظر معلِّلًا بأنّ هذا هو المشهور عندهم أو في كتبهم أو نحو هذا، أو يقول مثلًا: وكلّ ما قيل من هذا محكي عن أهل الكتاب حاضر في كتبهم، تمامًا كما يفعل مع اللغة مثلًا إذا اختلفت أقوال اللغويين، فنراه يعلّق بأنّ كلّ الأقوال لها وجه صحيح في اللغة، أو أن بعضَها أفصح من بعض، ونحو هذا، ولكنه لم يفعل هذا هنا، ولا فَعَلَه في أيّ موطن آخر فيما وقفْنا عليه، بل لم يفعلْه في التفسير كلّه، لم يستدعِ أقوال أهل الكتاب ليفصلَ في خلافٍ أو يؤكّد معنى ذَهَبَ إليه.
ولكي يتّضح الأمر لننظر في صنيع ابن كثير مثلًا في ذات الموضع وتعليقه على القول بعدم نزول المائدة، حيث قال: «وقد يتقوّى ذلك بأنّ خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلتْ لكان ذلك مما يتوفّر الدواعي على نَقْله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقلّ من الآحاد، والله أعلم. ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلتْ، وهو الذي اختاره ابن جرير...»[9].
فابن كثير هاهنا بِغَضّ النظر عن أنه رجّح قول الجمهور من نزول المائدة، إلا أنّ الغرض هو كيف أنه وظّف دلالة يعرفها من كتب النصارى أنفسهم، وهو ما لا يفعله الطبري[10].
وكذلك فعل ابن تيمية في ترجيح أنّ الذبيح إسماعيل وليس إسحاق، قال: «لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنّة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدلّ عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وأيضًا فإن فيها أنه قال لإبراهيم: اذبح ابنك وحيدك. وفي ترجمة أخرى: بِكْرك. وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبِكْره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرّفوا فزادوا إسحاق، فتلقّى ذلك عنهم من تلقّاه وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق وأصله من تحريف أهل الكتاب»[11]. فصوَّب نظره تجاه ما في كتبهم فاستدعاه واستدلّ به، ومِثْل هذا لا نراه عند الطبري في هذا الموطن، ولا في غيره، وقد رجَّحَ أنّ الذبيح إسحاق بموجب دلالات شرعية وليس استنادًا لما عند أهل الكتاب[12].
ومن أراد أن يستزيد من هذا عند الطبري فليراجع مثلًا صنيعه في حسم الخلاف بين المفسّرين في الذّبيح أهو إسحاق أم إسماعيل، وكذلك كلّ ما يتعلّق بقصص بني إسرائيل في القرآن، ولو كان الرجوع لكلامهم من مصادر التفسير لتوجّب على الطبري وعلى كلّ المفسّرين غيره في مثل هذه المواطن أن ينظروا في كلام أهل الكتاب وأن يوازنوا بين الوارد عنهم في هذا ويرجّحوا بما يظهر لهم بعد تأمّل كلام أهل الكتاب، وإلا فهل يُعقل أن يكون عند المفسّر مصدر من مصادر التفسير أو دليل معتبَر عنده ثم لا يُعمله في أيّ موضع من التفسير ويصرِّح بأنه رجَّح أو ضعَّف بموجبه؟! لو صحّ هذا لكان اعتباره مصدرًا أو دليلًا من البداية خطأ؛ إِذِ المصدر أو الدليل ما عُلم الاحتكام إليه عقلًا أو شرعًا في بعض المواضع، ونحن لم نقف على موضع واحدٍ عند الطبري صَرَّح فيه باحتكامه إلى الإسرائيليات في ترجيح قولٍ على قولٍ.
وبناءً على كلّ ما سبق عرضه في هذه المقالة يتبيّن لنا أنّ المعتبر عند الطبري في الجملة هو أقوال السلف، وليس شيئًا اسمه الإسرائيليات، فإنْ أجمعَ السلفُ على معنى فإنّ الطبري يرجّحه لا لكونه إسرائيليًّا أو مدعومًا بكلام أهل الكتاب، ولكن لأنه إجماع من السلف، وإن اختلفوا وجدْنَا الطبري يُعمل معاوِلَه في ترجيح بعض أقوالهم، وليس من مَعَاوله إطلاقًا مرويّات أهل الكتاب.
وفي ضوء ذلك يجدر الإنباه لبعض الإشكالات الناجمة عن عدم فهم صنيع الطبري:
أولًا: غلط من يعتبرون الإسرائيليات مصدرًا من مصادر التفسير عند الطبري، وكذا من لام الطبري على إيرادها وتعاطِي التفسير من خلالها؛ فبِغَضّ النظر عن موقفنا من جواز استثمار الإسرائيليات في التفسير من عدمه إلا أنّ الغرض أنّ اعتبارها مصدرًا تفسيريًّا عند الطبري غير صحيح.
ويلاحَظ أنّ الأستاذ محمود شاكر ذكر في إحدى حواشيه على تفسير الطبري محاوِلًا بيان منهج الطبري في التعامل مع المرويات الإسرائيلية، فقال: «تَبَيَّنَ لي مما راجعته من كلام الطبري، أنّ استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يُراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة... وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال، ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يُشَكُّ في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يَسُقْها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحُجّة في الدّين، ولا في التفسير التامِّ لآي كتاب الله.
فاستدلال الطبري بما ينكره المنكِرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدلّ عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشِّعْر على معانيها، فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا؛ ولما لم يكن مستنكَرًا أن يُستدلّ بالشِّعْر الذي كذب قائله ما صحَّت لغته؛ فليس بمستنكَر أن تُساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحُجّة في الدّين؛ للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل، سواء كانوا من الصحابة أو مَنْ دونهم»[13]
وكلام شاكر في ضوء ما قرّرنا مُشكل، يقول أحدُ الباحثين المهتمّين بتوظيف الإسرائيليات في التفسير في الاستدراك على كلام شاكر: «يلاحَظ على كلام شاكر أنه يتنزّل على مفسري السّلف أكثر ما يتنزّل على الطبري، فهم مَن استدلوا بالمرويات وساقوها رأسًا ليقرِّروا المعاني التي أتوا بها وأنتجوها، وأما الطبري فموازِن بين مقولاتهم التفسيرية بالأساس وليس منتجًا للمعنى[14]، وبالتالي فإنه لا يسوق المرويات ليؤسِّس من خلالها المعنى في ذاته أو يَستظهر بها عليه باعتبارها مما يفيد في بيان بعض الألفاظ وتوضيح سياقاتها فهذا فعل المنتِج للمعنى أصالة، وإنما نظَرُه يكون لتوجيه المعاني -التي كانت هذه المرويات أحد دلائل إنتاجها- وبيان مسالكها وأدلّتها أو لترجيحها وتضعيفها. إنّ فهم صنيع الطبري وتعامله مع المرويات باعتباره مؤسِّسًا للمعنى يُحْمَل على اعتبار مآله فقط، لا سيما وأنّ السلف لا يعلِّلون مقولاتهم وإنما تكون هي المرويات الإسرائيلية مباشرة، ولرغبة الطبري في الموازنة بينها يكشف عن مكامن استدلالها بالمروية، وبالتالي يكون صنيعه استدلالًا لها»[15].
ثانيًا: غلط اعتبار أنّ المرويات الإسرائيلية من أدلة الطبري في تقرير المعاني[16]؛ إِذْ لا يثبت هذا في حقّ الطبري بناء على الطرح الذي ذكرْنا، وقد حاولتُ قَدْر طاقتي استقراء هذا عند الطبري، فقمتُ بمراجعة العديد من المظانّ التي فيها إسرائيليات، وتفقّدتُ طريقة الطبري في تفسيره في العديد من المواطن، وقُمْتُ بالبحث في تفسيره عن الكلمات المتعلّقة بالإسرائيليات؛ ولم أقف على موطن واحد يمكن القول معه بأنها كانت من أدلّته في بناء وتقرير المعاني، وهو ما سنعود لتفصيل القول فيه في مقالٍ لاحق بإذن الله تعالى.
خاتمة:
تُعَدّ المرويات الإسرائيليات وتوظيفها في التفسير من المسائل المثيرة للجدل، وقد قُمنا في هذه المقالة بالنظر في صنيع أحد أبرز المفسّرين ممن اعتُبِر أنه يفسّر القرآن بهذه المرويات وهو الإمام الطبري، وقد تبيّن لنا بعد النّظر في هذا التفسير غلط ما هو متقرّر بشأن هذا الإمام من أن المرويات الإسرائيلية كانت من مصادره في التفسير أو من أدلّته في تقرير المعاني.
وما أوردناه هنا يمكن طرده في جميع كتب التفسير، والنظر في صنيع كلّ مفسّر، هل كان على منوال الطبري أم كان له صنيع مغاير؟ ونحن لا نزعم أن ما قلناه فصلٌ في الأمر، لكن حسبنا أنّنا أضفْنا بُعْدًا جديدًا يمكن أن يُتَأمل ويفيدَ الباحثين في هذا الموضوع، وفَصْل مثل هذه الأمور مما يحتاج إلى جهدٍ أكبر في الاستقراء والتحليل، وسيكون لنا عَوْد بإذن الله في كتابة أخرى لمزيد تفصيل في بعض المواضع التي أجملْنا فيها القول.
[1] مجموع الفتاوى (13/ 368).
[2] التزم الطبري إيراد نصوص في أقوال السلف دون اللغويين والكلاميين وغيرهم ممن ليسوا عنده من مفسّري السلف.
[3] تفسير الطبري (1/ 6-7).
[4] كأقوال اللغويين، وأقوال بعض الفِرَق.
[5] قولنا: «مصدر» هو بحسب ما شاع في كلام المعاصرين والذي هو قريب إلى حدّ كبير من كلام الطبري في فصلٍ عَقَدَهُ في مقدمة تفسيره بعنوان: (القول في الوجوه التي من قِبَلِها يُوصَل إلى معرفة تأويل القرآن)، وقولنا: «دليل» و«دلالة» هو لشيوع ذلك في تفسير الطبري، بِغَضّ النظر عن ضبط المراد بهذه المصطلحات إِذْ لسنا بصدده في هذه المقالة، ولأن نتيجة بحثنا وما خلصنا إليه في هذه المقالة لا يعوزنا إلى هذا، كما سيتبيّن لقارئ المقالة.
[6] عَقَدَ الطبري -رحمه الله- فصلًا في مقدمته بعنوان: (القول في الوجوه التي مِنْ قِبَلها يُوصَل إلى معرفة تأويل القرآن) فذكر أنّ من القرآن ما لا يُوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنّ منه ما يَعلم تأويلَه كلُّ ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وفصَّل في كلّ طريق منهما. ينظر: تفسير الطبري (1/ 73-76).
[7] في تفسير الطبري بعض المرويات التي صَرَّح بعضُ السلف بأخذها عن أهل الكتاب، وكذلك حَكم العلماء بعد الطبري على كثير من المرويات بأنها من أقوال أهل الكتاب، ولكن الطبري لم يكن يتعرّض لمثل هذا، فلم يعلّق -فيما وقفنا عليه- على أيّة مروية بأنها مأخوذة عن أهل الكتاب.
[8] ينظر: تفسير الطبري (11/ 226-232).
[9] تفسير ابن كثير، ت: سلامة (3/ 231)، وقد استظهر ابن كثير رأي الجمهور من نزول المائدة.
[10] ويا للعجب فإن ابن كثير في عيون كثير ممن يهاجمون الإسرائيليات أسلم منهجًا من ابن جرير لكثرة ما يتعقّب هذه المرويات، ولكننا بموجب النظر الذي نورِده في هذه المقالة -لو ثبت وصحَّ- نظن أنّ ابن جرير كان أسلم منهجًا وصنيعًا من كثير ممن هاجموا هذه المرويات، بل قد تورّط كثيرٌ منهم في أخطاء لاضطرابٍ في التعامل مع هذه المرويات، فإنّ نقاش بعض المسائل بموجب بعض ما في كتب أهل الكتاب وتحرير الصواب من خلالها قد يشير إلى اعتباريةِ ما لها، وابن جرير لم يفعل هذا.
[11] مجموع الفتاوى (4/ 331-332).
[12] وهذا يدلّ على أنّ بعض ما قيل فيه: إنه مأخوذ من الإسرائيليات، وأنه شاع بين بعض المسلمين نقلًا عنهم؛ قد لا يكون كذلك، وأنه إنما قيل به بموجب نظر اجتهادي في القرآن أو السّنة أو غيرهما من الأدلة المعتبرة، وجاء نقل الإسرائيليات فيه من باب الاستئناس وليس التأسيس، ولعلّنا نناقش هذا في مقالة خاصّة -إن يسّر اللهُ وأعان-.
[13] تفسير الطبري، ت: شاكر، (1/ 453).
[14] هذا فيما كان للسلف فيه قول وهو الأكثر في تفسيره بحسب ما يظهر، وإلا فالطبري يقوم بتركيب المعنى في بعض الآيات التي لا يكون للسلف فيها مقالة، وقد بحثنا هذا الأمر في مقالة بعنوان: (هل يُعَدّ تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور؟) وهي منشورة على موقع تفسير تحت هذا الرابط: tafsir.net/article/5300.
[15] قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (2-3)، خليل محمود اليماني، مقالة منشورة على موقع تفسير تحت الرابط التالي: tafsir.net/article/5166.
[16] ممن كتب في هذا د. نايف الزهراني في كتابه الشهير: (الاستدلال في التفسير: دراسة في منهج ابن جرير الطبري في الاستدلال على المعاني في التفسير)، نشر مركز تفسير للدراسات القرآنية.
مواد تهمك
- هل يُعَدُّ تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور؟
- "الإسرائيليات في تفسير الطبري" للدكتورة آمال ربيع؛ عرض وتقويم
- منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (1-3)
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (1-3)
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (2-3)
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (3-3)