كتاب (الإبريز والإكسير في علم التفسير) لأبي راس الناصر المعسكري (1238هـ)
عرض وتحليل
الحمدُ لله والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمّا بعد:
فإنّ الجزائر على امتداد تاريخها واتساع محيطها قد أسّس رجالُها مدارسَ عِلْمِيّة ساطعة، وزوايا دينيّة لامعة، منها: قلعة بني حماد، وحاضرة كلٍّ مِن بجاية وتلمسان وتوات والواد، وعلى غرار هؤلاء؛ تجلّتْ مدرسة مازونة العريقة ذات الإشعاع الثقافي والمركز الحضاري، والتي لاح نجمُها واشتهر امتيازها، فكانت قِبْلَةً للعلماء والشّيوخ، وموردًا للطّلبة ومن ابتغى الرُّسُوخ، وقطبًا للعلوم، وحضنًا للفنون، وقد أنجبتْ مدينة معسكر وسهل غريس والوطن الراشدي علماءَ أجلّاء، ومن عوائلها العِلْمِيّة؛ عائلة الخروبي، والمشارف، وأبي راس، وابن بروكش، وابن التهامي، وغيرهم الكثير.
وقد رأيتُ أنْ أُسْهِم في التعريف بكتاب (الإبريز والإكسير في علم التفسير) للعلّامة أبي راس الناصر المعسكري، وأَجْتَهِدُ في تقريب مادّته بُغية التعريف بجزء من تفسيره القرآني الذي بقي محفوظًا من مجموع تراثه المخطوط، وذلك على سبيل الاختصار والاعتصار.
وقد سِرْتُ في تقسيم مراحل الاستعراض وفق الخطة الآتية:
القسم الأول: ترجمة المؤلِّف والتعريف بكتابه ومعالم منهجه.
القسم الثاني: قيمة الكتاب وتقويمه.
خاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
القسم الأول: ترجمة المؤلِّف والتعريف بكتابه ومعالم منهجه:
1- ترجمة المؤلِّف:
هو محمد بن أحمد بن عبد القادر بن ناصر الراشدي؛ أبو راس المعسكري المازوني، وُلِدَ عام 1150هـ بقلعة بني راشد قُرْب مدينة معسكر بالغرب الجزائري، في بيئة فقيرة، وظلّ الفقرُ يطارده حتى قضى نحبه بعد عُمْرٍ طويل، تنقّل في صِغَرِه بين مسقط رأسه، ومتيجة، وتنس، وحَفِظَ القرآن الكريم واستوعب العلوم العربية والإسلامية على علماء وفقهاء عصره، وعلى رأسهم الشيخ عبد القادر المشرفي، ومحمد بن قاسم المحجوب، والشيخ العربي بن النافلة، ومحمد الصادق بن آفغول، ومحمد بن الحفاف، وغيرهم كثير.
تجوّل في الحجاز والشام ومصر وتونس والمغرب وأخذ على أساتذتهم؛ كالشيخ عبد الله الشرقاوي، ومحمد الأمير، ومحمد مرتضى الزبيدي، استقر بمدينة معسكر وتفرّغ فيها للتدريس والتصنيف حتى ذاع صيته وارتفع شأنه بين الناس في المشرق والمغرب.
تولَّى مناصب القضاء والفُتيا، وبلغ من شهرته أن اجتمع عليه أحيانًا أكثر من 780 طالبًا، وكان يختم مختصر خليل ثماني مرات في العام حتى قال تلميذه محمد بن عليّ السنوسي: «كان حافظًا متقنًا لجميع العلوم، عارفًا بالمذاهب الأربعة، لا يُسأل عن نازلة إلّا يجيب عنها بداهةً كأنها حاضرة بين شفتيه، محققًا لمذهب مالك غاية التحقيق، لا سيما مختصر خليل فله فيه الملكة التامّة»، وأَطلق عليه مجيزوه اسم حافظ المغرب الأوسط، وقال عنه العربي المشرفي: «كان إمامًا عالمًا نفّاعًا مُطاعًا، شيخ الجماعة والإسلام بحاضرة معسكر».
له مصنفات كثيرة بين طويلة وقصيرة، وذلك في فنون متنوّعة تبلغ ثمانية عشر علمًا؛ كالتوحيد والقرآن والحديث والفقه والتاريخ والمنطق والجغرافية، ذكَر مؤلّفاته في كتابه: (فتح الإله ومِنّته في التحدّث بفضل ربي ونِعمته)، والذي ألّفَه قبل وفاته بسنين قليلة وخَصّ تعداد كتبه في الفصل الأخير الذي سمّاه: «العسجد والإبريز في عِدّة ما ألّفْتُ بين بسيط ووسيط ووجيز»، ثم عاد لتأليفٍ ثان يعدّد فيه تآليفه فقطـ، وأسماه: «شمس معارف التكاليف في أسماء ما أنعم اللهُ به علينا من التآليف»، وهي النسخة الأخيرة والكاملة؛ لكونه ألّفَها قبل وفاته بثلاثة أسابيع فقط، ويبلغ عدد المصنفات فيها 136 كتابًا.
ونذكر منها: (مجمع البحرَيْن ومطلع البدرَيْن بالتفريد في تفسير القرآن المجيد)، (الآيات البيّنات في شرح دلائل الخيرات)، (درّة عقد الحواشي على جيد شرحي الزرقاني والخراشي)، (نفي الخصاصة في إحصاء تراجم الخلاصة)، (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)، (الزّهر الأكم في شرح الحكم)، (ضياء القابوس على كتاب القاموس)، (نَيل الأماني على مختصر سعد الدين التفتازاني)، (الجوهر اليماني في توضيح ما صَعُب من علم المعاني)، (عقد الدّرر السطيع في تبيين أنواع العلم البديع)، (القول المسلم في شرح السلم)، (السيف المحلي على شرح المحلي)، (زهرة الشماريخ في علم التاريخ)، (القول السعيد في شرح مقنع ابن سعيد)، (الجوهر والعرض في وصف السماء والأرض)، (النزهة الأميرية في شرح المقامات الحريرية)، (الدرة الأنيقة في شرح العقيقة).
تُوفي الشيخ يوم 15 شعبان 1238هـ وصلَّى عليه ألفٌ وخمسمائة نفسٍ بتحرير مَن حضر، جُلّهم حمَلة قرآن وعلماء وأشراف، وكان إمام الجميع تلميذه العلّامة أحمد الدايجي، ودُفِن بمعسكر على شاطئ النهر الفاصل بين داخل البلد وعقبة بابا عليّ، وعليه بناء مشهور[1].
2- التعريف بالكتاب:
يعتبر كتاب (الإبريز والإكسير في علم التفسير) من الدُّرر الثمينة، وقد شاءت الأقدار أن يضيع معظمه وتضيع باقي رسائله التي بلغت 136 مؤلّفًا إلّا أفرادًا منها، مع أنّ وفاة المؤلف ليستْ ببعيدة، وما ذاك إلّا لشؤم فرنسا العنيدة وما كان من احتلالها وتخريبها للجزائر وحرقها لخزائن الكتب وهو ما ترتب عليه فقدان مؤلفات ومصنفات عديدة، وكذلك عدم حظيان مؤلفات المعسكري بالقبول في زمنه ما أدى لضعف رواجها وانتشارها.
يقع الجزء المحفوظ في 74 لوحة، يحمل عنوانه اسم: (الإبريز والإكسير في علم التفسير) كما على اللوحة الأولى، وكما صرّح في بدايته باسمه هذا فقال: «سمّيته الإبريز والإكسير في علم التفسير، متجنبًا فيه الإطناب المملّ، والاختصار المخلّ»[2].
تحوي مادته تفسيرَ البسملة والفاتحة والبقرة إلى ثلاثة أرباع الحزب الثاني عند قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}[البقرة: 137]، كما تشمل على مقدّمة نفيسة فيها ذكر المصادر وغرض التأليف والمنهج العام، ثم تعريف التفسير والفرق بينه وبين التأويل، وتفاضل آيِه، وأوّل مَنْ جمعَ ونقط وشكّل وجمع القراءات وحزّب الأحزاب وصنّف في التفسير، وحُكم التفسير بالرأي.
حُقّق المخطوط كرسالة ماجستير سنة 2016م من طرف الأستاذ بومدين عبد العزيز، وهو غير مطبوع، وعليه الاعتماد في الإحالات، وأعاد تحقيقه الأستاذ بوكعبر تقي الدين سنة 2021م ونشره بدار ألفا دوك، وللأسف ما زال الكتابُ مغمورَ الذِّكْر، مطموس الاستشهاد، ضعيف التداول.
أشار المصنّف في كتابه (فتح الإله ومِنّته) والذي خصَّص جزأه الأخير للحديث عن مصنّفاته إلى عنوان آخر في التفسير، وهو التفسير الوحيد الذي ذكره، وذلك في قوله: «(مجمع البحرَيْن، ومطلع البدرَيْن بفتح الجليل للعبد الذّليل في التيسير إلى علم التفسير) في ثلاثة أسفار، ما أبركها قربى؛ في كلّ سفر عشرون حزبًا، طالما تكلّمتُ فيه نقلًا من كتاب شيخ أو فيه مع الزمخشري والبيضاوي وابن عطية وغيرهم، فيا لها من عطية»[3].
وهو ما دفع بعض الباحثين إلى استشكال التغاير وسبب الاختلاف بين عنوان المخطوط الذي يحمل اسم: الإبريز والإكسير في علم التفسير، وبين العنوان المشار إليه في نصّه السابق، فاجتهد كلّ واحد في تعليل الفرق؛ فأمّا الأستاذ بومدين عبد العزيز محقّق الكتاب فيرى أنّ الكتاب واحد ويحمل كِلَا العنوانين، وفي ذلك يقول: «(الإبريز والإكسير في علوم التفسير)، هكذا وقع اسمه على ظهر المخطوط، وقد ظهر للباحث أن اسمه كذلك: (مجمع البحرين ومطلع البدرين بفتح الجليل للعبد الذليل في التيسير إلى علم التفسير)، كما حكاه هو في كتابه»[4].
ويرى المؤرّخ سعد الله أنْ لا تبايُن بينهما كذلك فيقول: «فأمّا أبو راس فقد ذكر أنه قد وضع تفسيرًا للقرآن الكريم في ثلاثة أسفار، وأنه جعل كلّ سفر يحتوي على عشرين حزبًا، وسماه: (التيسير إلى علم التفسير)»[5].
وأمّا الأستاذ عبد الغني عيساوي فبعد إيراده كلام سعد الله عقّب عليه منتقدًا مذهبه بقوله: «غير أنّ الباحث يرى أن تفسيره للقرآن الكريم يُعتبر قطعة أو جزءًا منه فقط، وأنّ هذا العنوان عبارة عن مجموع تضمّن العديد من العناوين والتآليف، وما ظهور الكثير من المخطوطات المنسوبة لأبي راس في التفسير وعلوم القرآن إلّا دليل على ذلك، فلا يمكن الجزم بأنه ألّف تأليفًا واحدًا في تفسير القرآن وهو هذا المعنون بـمجمع البحرَيْن ومطلع البدرَيْن...»[6].
والذي تحقّقتُ منه بفضل الله تعالى أنّ أبا راس ألّف تفسيرَيْن مستقلَّيْن بعنوانَيْن مختلفَيْن، ودليل ذلك آخر مدوّناته المسماة بـــ(شمس معارف التكاليف في أسماء ما أنعم الله به علينا من التآليف)، والتي وقف عليها الأستاذ يحيى بوعزيز ونشرها في كتابه (أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة) أثناء ترجمته للمؤلِّف[7]، وذكر أنه ألَّفها قبل وفاته بثلاثة أسابيع فقط كما نصّ على ذلك المؤلِّف، وفيها قائمة إنتاجه التي بلغ عددُ المصنفات فيها 136 كتابًا، ومما جاء فيها متعلّقًا بالقرآن: «1- أوّلهم مجمع البحريْن ومطلع البدرَيْن بالتفريد في تفسير القرآن المجيد في أربعة أسفار، في كلّ سفر خمسة عشر حزبًا باشتهار[8]. 2- ثم الإبريز والإكسير في التفسير في ثلاثة أسفار. 3- ثم الجمع بين الإطناب والإيجاز في شرح الخراز. 4- ثم إغاثة اللهفان في شرح مورد الظمآن والتكلّم مع صاحب عمدة البيان. 5- ثم السيوف القوامع في شرح الدّرر اللوامع. 6- ثم إزالة الألغاز على كلام الطراز على الخراز. 7- ثم توضيح المعاني في شرح حرز الأماني في ثلاثة أسفار. 8- ثم إعانة القدير في شرح النشر والتيسير في ثلاثة أسفار. 9- ثم تكميل التبيان في ضبط الجواهر الحسان في سفرين. 10- ثم تذييل الإتقان في أحكام القرآن. 11- ثم فتح المنان في ترتيب نزول القرآن. 12- ثم سرّ الرحمن في جمعِ القرآن وسبب جمعه على هذا المنوال»[9].
إنّ رسالة (شمس معارف التكاليف)[10] وثيقة تاريخية مهمّة، فهي توثّق آخر مبيّضاته، وتؤكّد نسبة كثير من الكتب التي ألّفها بعد رسالته الأولى (فتح الإله ومِنّته)، أو التي أهملها فيها ولم يذكرها، وهو الظاهر، فالظنّ به أنه لم يستطرد ابتداء، واللهُ أعلم، خاصّة وهو يقول بعد كلّ فن: «ومنه» ثم يسرد متعلّقات ذلك العلم، والذي يفيدنا من كلّ ما سبق أنّ تفسير (مجمع البحرين) غير تفسير (الإبريز والإكسير).
3- معالم منهجه:
تميّز تفسير أبي راس بمنهج عامّ وخاصّ، أمّا العامّ فقد أبانَ عنه في مقدّمته؛ وذلك بأنه سار فيه طريق التوسّط من غير إطناب مملّ أو اختصار مخلّ، مع الرجوع إلى تفاسير الأمة المعتبرة؛ كالبحر لأبي حيان، والأنوار للبيضاوي، والكشّاف للزمخشري، وتفسير ابن عطية، والجلالين، وكشف الكشاف للقزويني[11]، وحاشية الخفاجي وابن برجان، وهي مصادر تدلّ على طريقته المتّبعة في التأويل، فالنظر في مثل تلك الكتب والنقل عنها دليلٌ على اختياره التفسير بالرأي، وجنوحه للمسائل اللغوية والجدلية أكثر من الحديثية والفقهية، وفي تمهيده بحكم التفسير بالرأي تأكيد لهذا الجنوح.
وأمّا الخاصّ فإنّه يحتاج لبحث مستوعب؛ لأنّ معرفة منهج أيّ مفسِّر لا بدّ أن تنبني على استقراء مطوَّل لأقواله وترجيحاته واستدلالاته، ثم الربط بين استعمالاته المتكرّرة للأصول والقواعد والمقارنة بينها للخلوص إلى نتائج صحيحة، وحيث إنّ مخطوط أبي راس يشتمل على تفسير قُرابة حزبين فقط، فإنّ دراسة منهجه ستبقى ظنّية، ولا تخرج عن نطاق الوصف لاعتناءاته، وإبراز ميولاته.
ولقد حكَم المؤرّخ سعد الله على عمله وعمل غيره من المفسِّرين في حديثه عن تاريخ التفسير بالجزائر[12] دون الوقوف على مدوّناتهم والنظر فيها، ومما قال عنه: «ومما عرفناه عن أبي راس نستطيع أن نحكم بأنّ تفسيره سيكون محشوًّا بالاستطراد كالأخبار والإعراب والحكايات ونحوها، ونحكم أيضًا بأنّ عبارته ستكون سهلة وألفاظه قريبة من العامية، أمّا التفسير في حدّ ذاته فقد يكون مقتصرًا فيه على المعاني الظاهرة التي لا تحتاج إلى كثرة الاستدلال والاستنباط والتفرّع، ومهما كان الأمر فإنّ تفسير أبي راس يُذكِّر المرء بتفسير الثعالبي؛ لأنّ كليهما كان يجمع الزّهد إلى العلم، وكليهما جاء في وقت اضطربتْ فيه الأحوال السياسية في البلاد، كما أنّ حجم التفسيرَيْن متقارب»[13]، وهو شطط في إعمال قواعد التحكيم واستباق في التقرير، مع مخالفته لواقع التفسير!
وبعد قراءة تدبّرية لتأويله تبيّن لي أنّ معالم منهجه تتلخّص في النقاط الآتية:
1- اعتماد الرأي كمنهج غالب، مع أنّ التفسير بالمأثور له حضور في بعض الآيات، سواء كان ذلك بالقرآن، أو بأقوال الصحابة والتابعين، مع الاستئناس بشواهد الشِّعْر.
2- إيراد وجوه القراءات وخلاف القُرّاء في الأداء، والتقديم بقراءة نافع؛ لأنّ مدار الاستناد عليها، مع الكشف عن بعض القراءات الشاذة كقراءة ابن مسعود.
3- التعرّض لمسائل الإعراب والنحو والغريب بما يزيل الغموض من غير إغراق فيها وتطويل.
4- عدم الاستطراد بذِكْر الأخبار والحكايات كما هي عادته في كتب التاريخ عمومًا.
5- استعمال العناوين الفرعية مثل التنبيه والفائدة؛ شحذًا للفكر ودفعًا للملل.
6- تكرار أسلوب الفنقلة، فتراه يَسأل ويجيب، وهي طريقة علمية تُوَقِّد الذهن وتُعَوِّده على مسايرة الافتراضات ومجاراة الحوادث النازلة.
7- الإشارة لبعض الأحكام الفقهية سواء ما تعلّق بفقه مالك أو غيره من المذاهب، خاصّة وهو من الفقهاء المتمرّسين، وله في ذلك كتاب (تذييل الإتقان في أحكام القرآن).
8- الاعتناء بالإسرائيليات والإكثار منها استئناسًا مع عدم التعقيب عليها.
9- التنبيه على أسباب النزول وكذا بعض المناسبات القرآنية الواردة بين الجُمَل والفواصل.
10- توظيف الأسلوب البسيط واللغة الفصيحة بعيدًا عن العامية.
11- إِلْفَات النظر لمسائل الاعتقاد والردّ على الحشوية والمعتزلة.
12- توجيه الأقوال والاستدراك عليها؛ مثل استدراكه على البيضاوي وابن جزيّ والسيوطي.
وإنّ الكلام عن منهجه يجرُّنا للكلام باقتضاب عن صناعته التفسيرية وحديثه عن حواراته وسجالاته التي أجراها في رحلاته مع الشيوخ والطلبة، وأثبت فقرات منها في ترجمته الشخصية المسمّاة بفتح الإله ومِنّته، والشماريخ، والدر المهدي لغوثية أبي مهدي، والخبر المعرب، وشرح قصيدة روضة السلوان، وغيرها من الكتب، والتي تدلّ على مقدرته وكفاءته، وكثرة استشهاداته واستنباطاته، ولقد تميّز عمومًا بسرعة الاستحضار وقوّة البديهة لِمَا طُرِح عليه من ألغاز، وذلك راجعٌ لتقلُّده مناصب الإفتاء والتدريس ودُربته على التعامل مع أسئلة الناس، كما تفوّق في مناقشة الإشكالات العويصة والغوامض الخفية؛ إِذْ كانت الأسئلة من دقائق علم التفسير ومعمّياته، ولا يُحْسِن استيعابَها وفكّ مقفلها إلّا صاحبُ الحذاقة واللباقة.
وأَكتفِي بهذا الأنموذج الموضّح لما كان عليه من اقتدار، حيث يقول في لقائه مع عالم الجزائر وعاملها محمد بن الشاهد: «وقد جرينا في فنون، والحديث شجون، حتى وقعنا في قوله تعالى: {...أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7]، فقلتُ بحضرة مجلسه بجامع الجزائر الأعظم...: لمَ لا الْتِفات في هذا الأسلوب من الخطاب إلى الغَيبة؟ فوقف، فقلتُ: المراد -والله أعلم- أن هذا وقع من جانب الأدب؛ لأنّ النعمة وقع بها الخطاب، ولا يناسب الخطاب بالغضب، ألَا ترى إلى قول الخليل: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء: 78]، ثم قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ}[الشعراء: 80]، ولم يقل: أمرضني؛ تأدبًا، مع أنّ المرض والشفاء من الله وحده، ومنه: {وَمَنْ عَصَانِي}[إبراهيم: 36]، ولم يقل: عصاك؛ تأدبًا، وهذه أساليب القرآن التي ليست في طوق البشر»[14].
القسم الثاني: قيمة الكتاب وتقويمه:
1- قيمة الكتاب:
على غير عادة المفسّرين الجزائريّين، نال أبو راس شرفَ اختتام تفسير القرآن الكريم، وانضم لثلّة الخاتمين أمثال الثعالبي والشوشاوي وهود بن محكم والباغائي والمجاجي وغيرهم من الذي فرّغوا أوقاتهم للتسطير، وألزموا نفوسهم مشقّة التدوين والتحبير.
وإنّ الذي تميّز الكتاب به ابتداءً هو الظّهور في وقت ضعفتْ فيه الهمم، وراجت البطالة وبِيعت الذِّمم، ونفق سوق العلم وابتغاء القِمَم، ولئن حافَظ الفقه مكانه، وصان الإقراء استمراره، فإنّ علم التفسير، قد أضحى من الفنون التي لا يستطيعها إلّا أُولو الفهم الوفير.
أضف لذلك تميّز التفسير بالتحرير والإبداع، فلم يكن تحشيةً لأصل ذائع، أو اختصارًا لعمل شائع، كما هي تقييدات أبناء زمانه من الحواشي والمختصرات والتعليقات، بل خرج تأليفه مخرج التحقيق والتدقيق، والإنشاء على غير نموذج عتيق، إذ استنبط المؤلِّف ودلّل، وخالف وناقش، وساجَل وعارض، وفي كبر شرحه الذي تكوّن من ثلاثة أسفار شهادةٌ على القِيمة العلمية من جهة نَفَسِ المؤلِّف في بحث أقوال المفسّرين، والتزامه بالصبر والجَلَد مع اختلافات المؤوّلين، هذا مع اختياره طريق الاختصار كما نصّ على ذلك في المطلع، وإلّا لجاوز بتدوينه عشرًا طوالًا، خاصّة وهو من المكْثِرين في التأليف.
كما ترجع قيمة الكتاب لتنوّع المصادر التي نقل منها، واتسامها بالأصالة والسلامة، وقد أحسن المؤلِّفُ في التعامل معها، والاقتباس من مواطن احتياجها، مع تمام الإحالة التي تضفي على العمل اتصافه بالوثاقة.
واحتواؤه على لفتات عقدية وفقهية وتاريخية، ولطائف لغوية، وأسرار بيانية، تعطي صبغة التنوّع والاشتمال، فالقارئ لن يعدم الفوائد والقواعد على اختلاف تخصّصاتها.
أضف لذلك عناية العلماء بروايته والحرص على نقله، وقد نَصّ على خبر ذلك الكتاني حيث قال: «كما -بكلّ أسف- لم نتصل به بإسناد عمومي ولكن في نحو الفقه والتفسير بإسناد محقّق، نعم نروي عن أبي اليسر المهنوي عن الأستاذ ابن السنوسي تفسير الشيخ أبي رأس عنه، والغالب على الظنّ أنّ الأستاذ السنوسي لا يغفل استجازته عامة»[15]، ولو صحّت الرواية الخاصّة لكان أبو راس من الذين درّسوا التفسير وختموه شفهيًّا.
2- تقويم الكتاب:
إنّ الخطأ أو السهو سُنّة كونية جارية في أعمال البَشَر، ومهما حصّن الكُتّاب أنفسهم من الوقوع في شراك الهفوة والوَهْم فإنّ كتاباتهم لا تكاد تخلو من ذلك، وحيث أدرك العلّامة أبو راس هذا القانون المطّرد فإنه لم يألُ أنْ يقدّم الاعتذار في مستهلّ تفسيره حيث قال: «يقول المقلّ القاصر... وقد طال ما خطر في الخاطر المخاطر، المستنّ في اللهو استينان واكفات المواطر، وينقدح في وهمي أن أكون من جملة المفسِّرين وإن طاش سهمي، وأبرز بين جيّد بزّهم ما لي من ضريع، إِذْ لا يدرك الضالع شأو الضليع، فيُثبطني عن هذه المنية المرجاة، كونُ بضاعتي في التفسير مُزْجَاة؛ لأنّ كلًّا يُنفق مما عنده على حسب الإقتار والجدّة، مع كثرة العوائق ورُقباء الطوارق، وجهلي بمسالك الصناعة أَحْرى، فتراني أقدِّم رِجلًا وأُؤَخِّر أُخرى، لكوني بمعزل عن حلول هذا المنزل وعن استصباح سراجه... وغاية الغرض من هذا التأليف نفع نفسي لا غير، وأقدِّم لها ما هو من الأعمال خير، وإلّا فمعاذ الله أن أُحدِّث نفسي بالوصول إلى درجة التأليف، وأتكلّف ما لم يكن في طوقي من تلك التكاليف... حرَسَنا اللهُ من التردّد في مهاوي الغواية... اللهم صُنْ عن الخبط أوراقًا عليه اشتملَتْ، وعن السقوط ثمرَ أشجار به احتملَتْ...»[16].
ولئن كان الاعتذار تأكيدًا للناظر في تأويله أنّ الخطأ حليف العمل والحركة، فإنّه يحمل من جهة أخرى دلالة على اجتهاده في العمل، وعدم اعتماده على النقل من غير إعمال للفكر فيه، وإلّا لما كان محتاجًا لتقديم الاعتذار، كما يحمل القيمة الأخلاقية التي يتحلّى بها المؤلِّف، وهي التواضع وجميل الاعتماد على الله، جلّ جلاله.
أوّل ما أراه تقصيرًا في ممارسته التفسيرية هو نقل بعض الأحاديث الضعيفة، كاستدلاله في الحروف المقطعة بحديث «أنّ بني إسرائيل فهموا أنها تدلّ بعددِ حروف محمد على السنين التي تبقى هذه الأمة»، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك فلم ينكره[17]، وإيراده في قصة البقرة حديث: «لو لم يستثنوا لَمَا بُيِّنَت لهم آخر الأبد»[18].
وكذا إيراده للإسرائيليات والإكثار منها، وعدم التعقيب عليها، كما قال في لغات آدم -عليه السلام-: «قال المتبولي في شرح الجامع: (إنّ اللسان الأول عربي وهو لغة آدم، وإن كان الله علَّمه اثنتين وسبعين لغة أخرى، ولمّا أكل من الشجرة تكلّم بالسريانية، ولمّا تاب رُدَّت إليه العربية وجرَت في بَنِيه إلى أن تبلبلت الألسنة بعد الطوفان)»[19].
علمًا أنه لم يبيّن منهجه في مطلع تفسيره وكيف كانت ستجري ممارسته التأويلية ليحاكَم في ضوئها، وعلى العموم فالإكثار من إيراد الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة من غير تعقيب عليها مسلك مذموم ولو كان مشاعًا بين المفسِّرين؛ لأنّ مثل تلك الروايات المجروحة نماذج حيّة يتذرّع بها أصحاب القراءات التجديدية للتشكيك في الموروث، والثلب في جهود الأمة.
ومهما يكن؛ فالملاحظات يسيرة لا تنقص من تفسيره أو تحطّ من مقدرته التفسيرية ومَلكته التأويلية، وكتابه مصدر نفيس منزّه عن التعقيد والحشو، قد تجلّت فيه روح الاجتهاد مع المتانة، والتحرير السهل مع الأمانة.
خاتمة:
بعد رحلة تعريفية قصيرة بالإمام أبي راس الناصر وكتابه المسمى بـ(الإبريز والإكسير في علم التفسير)، تجلّى لنا بوضوح جانبٌ آخر من جوانبه العِلْمية المشهور بها في التاريخ والفقه والأدب، وهي الشخصية التفسيرية المتّسمة بسعة اطلاعه وفسيح باعه، كما تكشّف لنا قيمة قطعته المسبوكة بحسن التفريع للفوائد، والمجوّدة بأبْيَنِ المسائل والقواعد.
ومما أهمس به في أُذن الباحثين عن المخطوط، هو التنقيب عن بقية تفسيره في خزائن غرب الجزائر، والمغرب الأقصى خصوصًا، وعلى فرض وجود نسخة واحدة وهي النسخة المبتورة، فإنها ستكون مصنّفة في خانة المجاهيل نظرًا لانفصال ورقة العنوان والمقدمة التمهيدية مع أول المخطوط، ويكون ابتداؤها عند تفسير قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ}[البقرة: 137]، بكلمة «مشاقّهم» على اعتبار التعقيبة.
كما أُوصي بجمع تفسيره من مختلف مدوّناته ومنجزاته؛ فقد كان -رحمه الله- يمزج بين القرآن والحديث والفقه والأدب، ولن يعدم القارئ لكتبه ثقافة مختلطة الفنون، كتب اللهُ أجرَه بمنّه، وأجزل فضله بكرمه، إنه سميع الدعاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
[1] أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، يحيى بوعزيز، دار البصائر، الجزائر، طبعة خاصة، 2009م، (2/ 234)، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، أبو القاسم سعد الله، دار البصائر، الجزائر، طبعة خاصة، 2007م، (1/ 84)، تاريخ الجزائر الثقافي، أبو القاسم سعد الله، دار البصائر، الجزائر، طبعة خاصة، 2007م، (2/ 376)، الإبريز والإكسير في علم التفسير؛ دراسة وتحقيق: عبد العزيز بومدين، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر 2016م، ص40، أعلام الفكر الجزائري، محمد بسكر، دار كردادة، الجزائر، طبعة خاصة، 2013م، (2/ 106)، تعريف الخلف، محمد الحفناوي، دار كردادة، الجزائر، ط1، 2012م، (2/ 330)، فهرس الفهارس، عبد الحي الكتاني، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب، بيروت، ط2، 1982م، (1/ 150)، معجم أعلام الجزائر، عادل نويهض، مؤسسة نويهض، بيروت، ط2، 1980م، ص307، معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى، بيروت، د.ت، (8/ 277)، الطرق الصوفية والزوايا بالجزائر، صلاح مؤيد العقبي، دار البصائر، الجزائر، طبعة خاصة، 2009م، ص440، معجم العلماء والأدباء الجزائريين، مجموعة من الأساتذة، منشورات الحضارة، الجزائر، ط1، 2014م، (1/ 193)، لقطة العجلان، حمدادو بن عمر، دار قرطبة، الجزائر، ط2، 2012م، ص71 وما بعده، العربي بن عبد القادر بن علي المشرفي حياته وآثاره، عبد الحق شرف، وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، طبعة خاصّة، 2011م. ص142، وغيرهم.
[2] ص201.
[3] ص347.
[4] ص71، 84، 85.
[5] تاريخ الجزائر الثقافي، (2/ 19).
[6] جهود علماء الجزائر في علم التفسير زمن العهد العثماني، عبد الغني العيساوي، رسالة دكتوراه، جامعة باتنة، 2015م، ص250.
[7] شكّك الأستاذ بن عتو بلبروات في صحة نسبتها إليه في مقاله: التراث المخطوط لأبي راس الناصري، الحوار المتوسطي، العدد 5، 2013م، ص80.
[8] ملاحظة: جاءت تسمية المجمع في فتح الإله بمجمع البحرين ومطلع البدرين بفتح الجليل للعبد الذليل في التيسير إلى علم التفسير، وهو في ثلاثة أسفار؛ أمّا في شمس معارف التكاليف فجاءت تسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين بالتفريد في تفسير القرآن المجيد، وهو في أربعة أسفار؛ فلعله قيّده مرّتين ثم تصرّف في العنوان، وأمّا تسمية الإبريز في مخطوطة شمس معارف التكاليف فقد حذف من العنوان كلمة (علم).
[9] ص236.
[10] نشر الوثيقة الأستاذ محمد بوركبة نقلًا عن الأستاذ يحيى بوعزيز في المجلة الجزائرية للمخطوطات، ع10، ص253.
[11] ص199، وغيرها.
[12] كحكمه على تفسير محمد بن عليّ أبهلول، مع أنه لم يطلع عليه، (2/ 13).
[13] تاريخ الجزائر الثقافي، سعد الله، (2/ 19).
[14] فتح الإله ومنّته، تحقيق: محمد بن عبد الكريم الجزائري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986م، ص97.
[15] (1/ 151).
[16] ص197.
[17] ص222.
[18] ص288.
[19] ص256.