كتب الوقف والابتداء وعلاقتها بالنحو (1-2)

لعلمِ النحو حضورٌ كبيرٌ في كتب الوقف والابتداء، وهاتان المقالتان تعرضان لهذا الموضوع من خلال تطبيقات المصنِّفين في الوقف والابتداء، وتأتي المقالة الأولى لتتناول ثلاثةً من أشهر المصنَّفات في الوقف والابتداء، بعد مقدمة في التعريف بهذا العلم وأهم مصطلحاته.

كتب الوقف والابتداء وعلاقتها بالنحو (1-2)[1]

  لا بُدَّ أن نُعرِّف القارئ أولًا ماذا يُقْصَد بمصطلح (الوقف والابتداء) قبل أن ندرس كتبه، قال فيه القسطلاني ما ملخصه: «يتوقف هذا العلم على معرفة الوقف والابتداء حينما يضطر القارئ إلى قطع نَفَسِه؛ لأنّ للكلام بحسب المعنى اتصالًا يقبح معه الوقف، وانفصالًا يحسن معه القطع، فاحتيج إلى قانون يعرف ما ينبغي من ذلك»[2]، فهو المعرفة بمواضع الوقف عند القراءة والابتداء بعده بما يلائم المعاني، فهو علم عرفه القدماء ولم يهتم به الْمُحْدَثُون اهتمامًا كبيرًا لأنهم عدُّوه جزءًا من علم القراءات، وإن كنَّا قد ذهبنا إلى غير ذلك[3].

وعدَّ أبو يوسف ألفاظه من البدع، إلّا أنه توقيف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد ذكر النحّاس في حديثٍ مُسنَد أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقطع قراءته، ورُوي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قوله: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإنَّ أحدنا ليُؤتَى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن، ولقد رأيتُ اليوم رجالًا يؤتَى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه»[4].

والباحث فيه -كما حدّد القدماء- يحتاج إلى النحو والتفسير والقراءات والقصص، فقد نقل النحّاس عن ابن مجاهد قوله: «لا يقوم بالتمام إلّا نحويّ عالم بالقراءة، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن»، ثم أضاف «يحتاج صاحب علم التمام إلى المعرفة بأشياء من اختلاف الفقهاء في أحكام القرآن»[5].

وهذا العلم وإن كان ميدانه هو القرآن الكريم لا يعني أنهم قصروه عليه، وإنما كانوا يراعونه في أحاديثهم وأقوالهم. فقد ذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على من قال: (ما شاء الله وشئت) ولم يسأله عن نيّته، ونُقِلَ عن إبراهیم النَّخعي أنه كره أن يُقال: لا والحمد لله، ولم يكره: نعم والحمد لله، وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال لرجل معه ناقة: «أتبيعها بكذا؟ فقال: لا عافاك الله، فقال: لا تقله كذا، ولكن قل: لا وعافاك الله، فأنكر عليه لفظه ولم يسأله عن نيته»[6].

أمّا الوقف فقد ذكروا له أنواعًا وألفاظًا اختلفت عند كلّ باحث فيه؛ فأبو بكر الأنباري يذكرها ثلاثة: تامًّا وكافيًا وقبيحًا، وفي موضع يذكرها: تامًّا وحسنًا وقبيحًا. وأبو جعفر النحّاس يذكرها أكثر من ذلك: التام والكافي والحَسن والصالح والجيّد والبيان والتبيين والمفهوم والقبيح. والأشموني: تام وأتمّ، وكافٍ وأكفى، وحسن وأحسن، وصالح وأصلح، وقبيح وأقبح. أمّا السّجاوندي فمراتبه عنده: لازم ومطلق وجائز، ومجوز لوجه، ومرخص ضرورة، وما لا يجوز الوقف عليه.

أمّا تعريفات أشهرِها، فهي[7]:

1- الوقف التام: وهو ما يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده، ولا يتعلق ما بعده بشيء مما قبله لا لفظًا ولا معنی؛ وسُمِّي تامًّا لتمام لفظه بعد تعلّقه، وأكثر ما يوجد عند رؤوس الآي، كما في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة: 5]؛ لأنه آخر صفة المؤمنين، ويبتدئ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...}[البقرة: 6].

2- الوقف الكافي: وهو ما يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده، إلا أنّ له به تعلّقًا ما من جهة المعنى، فهو منقطع لفظًا متصل معنى، وسُمِّي كافيًا لاكتفائه واستغنائه عما بعده، واستغناء ما بعده عنه بأن لا يكون مقيدًا له، وهذا واضح في الحروف التي يُبتدأ بها في أوائل بعض السور.

3- الوقف الحسن: وهو ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده للتعليق اللفظي، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: 29]. قال أبو حاتم: الوقف على {جَمِيعًا} حسن في السمع وليس بتمام؛ لأنّ {اسْتَوَى}[البقرة 29] معطوف على {خَلَقَ} فهو داخل في الصِّلَة، ولا يوقف على الصلة دون الموصول، ولا الموصول دون الصِّلة.

4- وقف البيان: وهو أن يبيّن معنى لا يُفهم بدونه، كالوقف على قوله تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ}[الفتح: 9]، فَرْقٌ بَيْنَ الضميرين، فالضمير في {تُوَقِّرُوهُ} للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي {تُسَبِّحُوهُ}[الفتح: 9] لله تعالى، والوقف أظهَرَ هذا المعنى المراد.

5- الوقف الصالح: وهو ما كان بعد الآية معطوفًا عليه، نحو قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}[البقرة: 60]. فالوقف عليها وقف صالح؛ لأن ما بعدها وهو قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} معطوف عليها.

ويعرف السّجاوندي الأنواع التي تفرد بها، فيقول فيها[8]:

اللازم: ما لو توصّل طرفاه، غُيِّر المرام، وشُنِّع معنى الكلام.

والمطلق: ما يحسن الابتداء بما بعده، كالاسم المبتدأ به.

والجائز: ما يجوز فيه الوصل والفصل؛ لتجاذب الموجبين من الطرفين.

والمرخص ضرورة: ما لا يستغني ما بعده عما قبله، لكنه يرخص الوقف ضرورة انقطاع النّفَس؛ لطول الكلام.

هذا هو موضوع الوقف والابتداء، إلا أن التطبيق على الآيات الكريمة يظهر هذه المعاني التي حدّد أصحاب التمام أنواع الوقف على أساس منها، فجاءت كتبهم تطبيقًا لتلك التحديدات فلتراجع هناك؛ لأن بحثنا هذا ليس مجالًا لذلك.

كتب الوقف والابتداء:

الذين كتبوا في علم الوقف والابتداء كثيرون، فلم تقتصر الكتابة فيه على قارئ أو مُفسِّر أو نحويّ أو لغويّ، وإنما نجد القارئ يُؤلِّف فيه كتابًا أو أكثر، وكذلك النحويّ واللغويّ؛ لأن وضعه كما أشرنا ظهر مع حاجة المسلمين إلى فهم القرآن، وإرادة الفهم ظهرت مع نزول آياته.

فهذا العلم إذن قديم وبسبب هذا كثرت الكتب التي بحثت فيه، وذكرته الكتب التي لها علاقة بالدراسات القرآنية وخاصّة كتب التفسير، وحينما استقرينا الكتب التي ترجمت للقرّاء والنحاة استطعنا أن نصل إلى العدد الذي سندرجه في آخر البحث، إلّا أن ما يهمّنا هنا مادة هذه الكتب ومنهجها؛ لنستطيع أن نوجِد الصلة بين هذا العلم وعلم النحو، وعلى هذا سندرس عددًا من الكتب التي تمكنّا من رؤيتها لنكشف عن تلك المادة وذلك المنهج. وسنستعرض كلّ كتاب مستقلّ عن غيره أولًا لنربط بعدها فيما تشابه من مناهجها، فيبين للقارئ أثر القاعدة النحوية في تعيين مواضع تلك الوقوف وأنواعها. وقد تكون هذه الكتب ممثلة لمناهج كتب الوقف والابتداء عامة كما سيتبين للقارئ فيما نعرضه هنا.

1- كتاب إيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر الأنباري[9]:

ذكر أبو بكر الأنباري في القسم الأول من كتابه كثيرًا من المسائل العامة التي تبدو وكأنها لا تتعلّق بموضوع الكتاب علاقة مباشرة، فقد ذكر كثيرًا من الأحاديث المسندة إلى رواتها تحثّ على الشغل بالقرآن؛ إعرابه، وضبط شكله، وتكلّم على ظهور اللحن وتفسير القرآن بالشعر ومسائل نافع، ثم عرض لعدد من الأحكام النحوية التي لا يوقف عليها[10]، ولخَّص منهجه فقال:

- «ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه؛ معرفة الوقف والابتداء، فينبغي أن يعرف الوقف التامّ، والوقف الكافي الذي ليس بتام، والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كافٍ»[11].

- وقال: «وأنا مفسرٌ ذلك كلَّه بابًا بابًا، وأصلًا أصلًا، وذاكرٌ اختلاف القرّاء والنحويّين فيه، ومبين ذلك بعد استقصاء هذا الوقف التام والكافي في كلّ سورة من أول القرآن»[12].

- وقال: «وأنا مبتدئٌ في أول الأبواب بما لا خلاف فيه بين القرّاء والنحويّين، وعاقدٌ أصول الباب في أوله، ثم تفرّعها بعد ذلك، وذاكرٌ الاختلاف بعد الاتفاق»[13].

ثم ذكر أسانيد ما في الكتاب من القراءات، وما لا يتم الوقف عليه، وتناول (إلّا) المفصولة ومواضعها، ثم فصَّل أنواع الوقف وصفاتها، ففرّق بين نوعين من الوقف: النوع الذي يوقف به على آخر الكلمة وما يحدث لها من تغيير، فمهّد له بحذف الألفات والياءات والواوات، وما يحدث لها في أوائل الفعل والاسم وبعض أحكام ذلك، وما يحدث لها من قراءات، ثم ذكر ما يحدث لهاء التأنيث عند الوقف، وذكر التنوين وما يبدل منه في الوقف وأحكامًا أخرى فيما يحدث لبعض الكلمات ومذاهب القرّاء في القراءة؛ كوقف حمزة والكسائي وأبي عمرو، ثم ذكر الوقف في السُّور وهو النوع الثاني الذي يوقف فيه على آخر العبارة، بسبب ما يحدث لها من تغييرات إعرابية. ثم ابتدأ بسورة الفاتحة، ثم السُّور إلى آخر القرآن. وكان يستعين بأقوال القرّاء والنحاة في الآيات التي تناولها وما يحدث لها عند الوقف فيردّ أو يؤيد مستخدمًا شواهدهم التي استشهدوا بها؛ كنافع وابن عامر وأبي جعفر وشيبة وعاصم والأعمش وأبي عمرو وحمزة والكسائي وابن سعدان والفرَّاء وأبي عبيدة وعيسى بن عمر وسيبويه والخليل وأبي حاتم وثعلب. وهذه نماذج من المسائل التي عالجها في كتابه تدلّ على أسلوبه، ومدى التزامه بمنهجه الذي وضعه:

- قال في أول سورة الفاتحة: «قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الوقف على {بِسْمِ} قبيح؛ لأنه مضاف إلى الله -تعالى-، والمضاف والمضاف إليه بمنزلة حرفٍ واحد، والوقف على {بِسْمِ اللهِ} حسن وليس بتام؛ لأن {الرَّحْمَنِ} نعت لـ{اللهِ}، والنعت متعلق بالمنعوت فلا يحسن الابتداء به؛ لأنه جارٍ على ما قبله، وكذلك الوقف على {الرَّحْمَنِ}، والوقف على {الرَّحِيمِ} تامّ، والوقف على {الحَمْدُ} قبيح؛ لأنه مرفوع باللام، والمرفوع متعلق بالرافع لا يستغني عنه، والوقف على {الحَمْدُ للهِ} أحسن وليس بتامّ؛ لأن {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} نعتان لـ{اللهِ} والنعت متعلق بالمنعوت»[14].

- وذكر في سورة الأنفال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ}[الأنفال: 64]، وقف حسن إذا نَصَبْت {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بفعل مضمر، كأنك قلت: (يكفيك الله، ويكفي مَن اتّبعك من المؤمنين)، قال الشاعر:

إذا كانت الهيجاء وانشقَّت العصا .. فحسبك والضحاك سيفٌ مُهنَّدُ

أراد: يكفيك ويكفي الضحاك. وإن جعلت {مَن} في موضع رفع على النسق على {اللهُ} لم يحسن الوقف على {اللهُ}. وقال السجستاني: «معناه: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله»، وقال أبو بكر: «وهذا غلطٌ لأنّ المفسرين والنحويين على خلافه، وإنما رغب النحويون عنه؛ لأنه ينقطع من الأول إذا فعل به ذلك، وهو متصل على مذهبهم، فليس بهم حاجة إلى قطعه منه»[15].

- وذكر في سورة التوبة قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التوبة: 3]، فقال: «اجتمعت القرّاء على رفع (الرسول) إلّا عيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، فإنهما كانا ينصبانه. فمَن رفعه كان له مذهبان؛ أحدهما: أن يقول: نسقته على ما في بريء من ذكر الله، فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على (الرسول) ولا يحسن على (المشركين). والوجه الآخر: أن تقول: رفعته على الاستئناف، وأضمرت له رافعًا، كأني قلت: (أن اللهَ بريء من المشركين، ورسولُه بريء منهم). فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على (المشركين) ولا يحسن على (الرسول).

وعلى مذهب ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، يحسن الوقف على (الرسول) ولا يحسن على (المشركين)؛ لأن الرسول نسق على {اللهَ}»[16].

2- كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحَّاس[17]:

كتاب أبي جعفر هذا أشمل وأدقّ مِن سابقه، فهو حينما يبحث في مواضع الوقف والابتداء يمهّد للموضوع أولًا بأبواب تتعلق بموضوع الكتاب علاقة مباشرة، والأبواب هي:

1 - باب ذكر أشياء من فضائل القرآن وفضائل أهله.

2 - باب ذكر قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

3 - باب ذكر من تكلم من الصحابة والتابعين في القطع والائتناف.

4 - باب ما يحتاج إليه من حقَّق النظر في التمام.

5 - باب ذكر الأسانيد لِما في الكتاب.

وهو في عرض الآيات التي يُوقَفُ عليها يستقري آراء كثير من العلماء الذين أبدوا آراءهم فيها، وكذلك أقوال النُّحاة، فيناقشهم: يرد عليهم أو يؤيدهم، بأدلة من قياسات النحو. ويختلف عن أبي بكر الأنباري في أنه يُكثر من آراء البصريين، ويعُدّها قياسًا يقيس عليها، ويُخطِّئ الكوفيّين أحيانًا، فجاء كتابه أوسع وأغزر مادّة، إضافة إلى أنه استقرى أنواع الوقف وذكر أسماءها جميعًا.

وإنْ بحثنا في منهج الكتاب، فإننا نلحظه يؤكد الربط بين مواضع الوقف والمعاني: «فقد صار في معرفة الوقف والائتناف التفريق بين المعاني، فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يتفهم ما يقرأ ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفْهِم المستمعين في الصلاة وغيرها» ثم قال: «ومن لم يعرف ما وصله الله -عز وجل- في كتابه وبين ما فصله، لم يحِلّ له أن يتكلم في القطع والائتناف»[18]. ويؤكد علاقة النحو بذلك كما سنرى. ثم يوضح منهجه فيه ومادته، فيقول:

1- «وهذا الكتاب نذكر فيه التمام في القرآن العظيم وما كان الوقف عليه كافيًا أو صالحًا، وما يحسن الابتداء به وما يجتنب من ذلك»، ويقول: «ونؤلّفه سورة سورة كما تقدم في كتبنا، غير أنَّا نذكر قبل ذلك أشياء من فضائل القرآن وأهله».

2- ونقل عن ابن مجاهد ما يحتاج إليه صاحب علم التمام، فقال: «لا يقوم بالتمام إلا نحويّ عالم بالقراءة، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن»[19]. وكان يشير إلى أن ذلك مستخرَج على أصول النحويين[20]، وكرّرَ هذا كثيرًا في مواضع أخرى.

أمّا الأعلام الذين ذكر أنه سيعتمد عليهم، ذكرهم في أول الكتاب من قرَّاءٍ أو نحويين، فهم: نافع، ويعقوب الحضرمي، وأبو حاتم السجستاني، والكسائي، والفرَّاء، ومحمد بن سعدان، وأبو عبيدة، والخليل، والأخفش سعيد، وعلي بن سليمان، والطبري، وسيبويه، وغيرهم كثيرون.

ونستطيع أن نتلمّس أثر هذا المنهج في كتابه حينما نطالع الكتاب، وهذه نصوص مختارة من ذاك:

- قال في سورة الفاتحة[21]: الوقف على (الله) جائز، إلا أنه لا ينبغي أن يفعل ذلك؛ لأن قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} نعت وهذا التمام، ولا يقف على {إِيَّاكَ} لأنه في موضع نصب بـ{نَعْبُدُ}، ولا على {نَعْبُدُ} لأن ما بعده معطوف عليه، والتمام {نَسْتَعِينُ}، ولا يوقف على {اهْدِنَا} لأن {الصِّرَاطَ} منصوب به، ولا على {الصِّرَاطَ} لأن {الْمُسْتَقِيمَ} نعت له، ولا على {الْمُسْتَقِيمَ} لأن ما بعده بدل، ولا على {الَّذِينَ} لأن ما بعده من صِلَتِه، ولا {عَلَيْهِمْ} لأن {غَیْرِ} بدل من {الَّذِينَ} أو نعت، فإن نصبت على الحال أو الاستثناء فكذا أيضًا، ولا على {الْمَغْضُوبِ} لأن {الَّذِينَ} يقوم له مقام الفاعل بعده، والتمام {وَلَا الضَّالِّينَ}.

- وقال في قوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}[النحل: 30]: هو قطع كافٍ إن قطعت ما بعده منه، فقلت: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}[النحل: 31]، مرفوعة بالابتداء، وخبره {يَدْخُلُونَهَا}، وإنْ قلت: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مرفوعة بالابتداء تنوي بها التقديم، لم تقف على {الْمُتَّقِينَ}، وكذا إن قلت: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مرفوعة بـ{نِعْمَ دَارُ} لم تقف أيضًا على {الْمُتَّقِينَ}، هذا قول محمد بن سعدان إذا قلت: (نعمَ الرجلُ زيدٌ)، رفع زيدًا بـ(نعمَ الرجلُ)، وإنْ رفعت: {جَنَّاتُ} بإضمار مبتدأ؛ صلح الوقف على {الْمُتَّقِينَ}[22].

وقال محمد بن عيسى في: {وَإِلَیْهِ أُنِیبُ}[الشورى: 10] تمام الكلام. وقال أبو جعفر: إنْ قدَّرت أن يكون: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الشورى: 11] مرفوعًا بالابتداء جاز ما قال، وإن جعلته مرفوعًا على إضمار مبتدأ كفى الوقف على ما قبله، وإن جعلته نعتًا لم يكن الوقف على ما قبله، وكذا إن خفضته على البدل من الهاء التي في {إِلَيْهِ}، وإن نصبته على المدح كفى الوقف على ما قبله، وكذا إن نصبته على النداء المضاف[23].

3- كتاب الاكتفاء في علم الوقف والابتداء، لأبي عمرو الدّاني[24]:

عرَّف الدّاني بكتابه وذكر منهجه في مقدمته، فقال: «هذا كتاب الاكتفاء في معرفة الوقف التام والوقف الكافي والوقف الحسن في كتاب الله -عز وجل-، اقتضبتُه من أقاويل المفسرين، ومن كتب القرّاء والنحويين، واجتهدتُ في جمع مفترّقه، وتمييز صحيحه من سقيمه، وإيضاح مشكله، وحذف حشوه، واختصار ألفاظه، وتقريب معانيه، وبيّنتُ ذلك كلَّه فأوضحتُه ودَلَلْتُ عليه، ورتّبتُ جميعه على السور نسقًا واحدًا إلى آخر القرآن على قدر طاقتي وانتهاء معرفتي، ولم أُخْلِهِ مع ذلك في المواضع التي يُحتاج إليها من حديث مسنَدٍ، وتفسير، وقراءة، ومعنى، وإعراب، من غير أن أستغرق في ذلك وأستقصي جميعه؛ إذ كان سلفنا -رحمهم الله تعالى- قد كفونا ذلك، وشفوا منه في كتبهم وتصانيفهم». ثم تحدّث عن طريقته فيه فقال: «ولأنّ غرضنا في هذا الكتاب القصد إلى الإيجاز والاختصار دون الاحتفال والإكثار؛ لكي يخفَّ تناولُه، وتسهل فائدته، ويقرب معناه، ويعمّ نفعه المبتدئ الطالب والمنتهي الثاقب»[25].

ثم ذكر أبواب الكتاب، فذكر: باب الحثّ على تعليم التام، ورَوى فيه بعض الأحاديث مسندة، من ذلك: «ومما يبين ذلك ويوضحه ما روَى تميم الطائي عن عديّ بن حاتم قال: جاء رجلان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتشهد أحدهما، فقال: من يطع الله ورسوله فقد رَشَدَ ومن يعصِهما. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قُمْ واذهَبْ؛ بئس الخطيبُ أنت».

قال الشيخ أبو عمرو: «ففي هذا الخبر إيذانٌ بكراهية القطع على المستبشَع من اللفظ المتعلق بما يبيِّن حقيقته، ويدل على المراد منه؛ لأنه -عليه السلام- إنما أقام الخطيب لمّا قطع على ما يقبح، إِذْ جمع بقطعه بين حال من أطاع ومن عصى ولم يفصل بين ذلك، وإنما كان ينبغي له أن يقطع على قوله: «فقد رَشَد» ثم يستأنف ما بعد ذلك، ويصل كلامه إلى آخره، فيقول: «ومن يعصِهما فقد غوى». وإذا كان مثل هذا مكروهًا مستبشعًا في الكلام الجاري بين المخلوقين، فهو في كتاب الله -عز وجل- الذي هو كلام رب العالمين؛ أشد كراهةً واستبشاعًا وأحق وأولى أن يُجتنب»[26].

ثم باب ذكر البيان على أقسام الوقف، فباب ذكر تفسير الوقف التام؛ فعرَّفه وذكر المواضع التي يوقف عليها وقفًا تامًّا، وأتى بأمثلة على ذلك، ثم باب ذكر تفسير الوقف الكافي، ثم باب ذكر الوقف الحسن، وتكرَّرت أسماء الأعلام الذين نقل عنهم ابن الأنباري والنحّاس؛ لأنه اعتمد عليهما وأشار إلى نقله عن كتابيهما، فجاء وكأنه صورة ملخَّصة عنهما، من ذلك قوله في سورة العنكبوت في قوله تعالى: «{مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}[العنكبوت: 25] كافٍ لمن قرأ: {مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ} بالرفع، سواء نوّن أو لم يُنوّن إنْ رفَعَ الـ{مَوَدَّةُ} بالابتداء، وجعل الخبر في المجرور أو بإضمار المبتدأ، أي: هي أو تلك. فإنْ رفَعَها على أنها خبر {إِنَّ} وجعل {مَا} بمعنى (الذي)، والتقدير: (إنّ الذي اتخذتموه مودةُ بينكم)؛ لم يكف الوقف قبلها. ومن قرأ بالنصب سواء أضاف أو لم يضف؛ لم يقف على ما قبلها لتعلقها به لأنها مفعول من أجلها، وقف على: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}»[27].

وجاء في سورة عبس قوله: «واختلف القرَّاء في كسر همزة {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ...}[عبس: 25] وفي فتحها؛ فمن كسرها فله تقديران: أحدهما: أن يجعلها تفسيرًا للنظر إلى (الطعام)؛ فعلى هذا لا يتم الوقف قبلها ولا يبتدأ بها. والآخر: أن يجعلها مستأنفة؛ فعلى هذا يتم الوقف قبلها ويبتدأ بها. ومن فتح فله أيضًا تقديران: أحدهما: أن يجعلها مع ما اتصل بها في موضع جرٍّ بدلًا من قوله: {...طَعَامِهِ}[عبس: 24]؛ فعلى هذا لا يتم الوقف قبلها ولا يبتدأ بها. والآخر: أن يجعلها في موضع رفع، خبرًا لمبتدأ محذوف، بتقدير: (هو أنَّا)؛ فعلى هذا يوقف قبلها ويُبتدأ بها»[28].

وفي سورة قريش: «قال الفرَّاء: اللام في قوله -عز وجل-: {لإِيْلَافِ} متعلقة بفعل محذوف، والتقدير: أعَجِبُوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتَرْكهم عبادة رب العالمين، والمعنى عند الخليل وسيبويه: (فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش)، أي: ليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعمة، واعترافًا بها، واللام متعلقة بقوله: {فَلْيِعْبُدُوا}. وقال الأخفش: اللام متعلقة بآخر الفيل، والمعنى عنده: (فُعِل بهم ذلك ليؤلّف قريشًا). وهذا خطأ بيِّن؛ وذلك أنَّه لو كان كما قال لكان {لإِيْلَافِ قُرَيْشٍ} بعض آيات {أَلَمْ تَرَ}. وفي إجماع المسلمين على الفصل بينهما وأنهما سورتان دليلٌ على خطئه. والوقف على {وَالصَّيْفِ} كافٍ على قول الفرَّاء»[29].

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «المجمع العلمي العراقي»، مج/ 31، ج/ 4. ذو القعدة 1400هـ/ أكتوبر 1980م، ص154. (موقع تفسير).

[2] لطائف الإشارات (1/ 247).

[3] ينظر بحثنا: (مقدمة في الوقف والابتداء)، مجلة آداب الرافدين، سنة 1977، (8/ 165).

[4] القطع والائتناف، ص87.

[5] المصدر نفسه، ص94.

[6] القطع، ص93.

[7] تنظر هذه التعريفات في الاكتفاء، ص72. وفي منار الهدى، ص10، 11.

[8] الوقف والابتداء، ص2-5.

[9] وهو محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار، أبو بكر الأنباري، توفي سنة 328هـ. غاية النهاية (2/ 230).

[10] إيضاح الوقف والابتداء، ص116-150.

[11] نفسه، ص108.

[12] نفسه، ص110.

[13] نفسه، ص115.

[14] نفسه، ص474، 475.

[15] نفسه، ص687، 688.

[16] نفسه، ص689، 690.

[17] هو أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي النَّحوي، توفي سنة 338هـ. إنباه الرواة، (1/ 104).

[18] القطع والائتناف، ص78-100.

[19] نفسه، ص78.

[20] انظر مثلًا، ص125.

[21] القطع، ص108.

[22] نفسه، ص428.

[23] نفسه، ص639.

[24] هو عثمان بن سعيد، وُلد سنة 371هـ، وتوفي سنة 444هـ. الأعلام (4/ 366).

[25] الاكتفاء، ص74.

[26] المصدر السابق.

[27] الاكتفاء، ص118.

[28] نفسه، ص137.

[29] نفسه، ص240.

الكاتب

الدكتور أحمد خطاب العُمَر

العميد الأسبق لكلية الآداب بجامعة الموصل، وله عدد من المؤلفات والتحقيقات المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))