القرآن وغزوة أحد "وقفات تربوية"

كان يوم "أُحُد" –والذي دارت رحاه في شوال- يومًا عصيبًا على النبي وصحابته الكرام، حتى صار مثلا يُضرب في شدة الابتلاء، فما كان موقف القرآن من هذا اليوم، وكيف علّق عليه، وما هي أهم الدروس المستفادة منه؟ هذا ما يجيب عنه هذا المقال.

  خلق اللهُ الناس للابتلاء وألزمهم التكاليف في الدنيا وأعلمهم بثواب فعلها وعقاب تركها في الآخرة، وللابتلاء حِكَمٌ عظيمةٌ وفوائدٌ جليلةٌ؛ منها إظهارُ المخفي في الصدور، وتمايز الناس، وتطهير المؤمنين من الذنوب والآثام، وإقامة الحجّة على الكافرين والفاسقين. وكان يوم أحدٍ -الذي دارت رحاه في شهر شوال- من أشدِّ أيام الابتلاء الذي تعرّض له النبي-صـلى الله عليه وسلم- وأصحابه، حتى قالت له أم المؤمنين عائشة يومًا: يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشدّ من يوم أحد؟[1]

كان يومًا له آثاره على النبي -صـلى الله عليه وسلم- نفسه؛ حيث ظلَّ يَذكر أهلَ أُحد ويزورهم ويستغفر لهم حتى قُبيل وفاته، وكان كثيرًا ما يقول عن جبل أحد: هذا جبل يُحبنا ونحبه[2]. كما كان له آثاره السياسية والعسكرية على دولته -صـلى الله عليه وسلم-، ذلك الذى استدعى أن يفرد القرآن عشرات الآيات من سورة آل عمران للتعليق المطوّل على أحداث هذا اليوم العصيب.

وفى هذه المقالة سنقفُ مع بعض القضايا التربوية التي اهتمَّ بها القرآن في تناوله وتعليقه على يوم أُحد، مستعرضين أهم دلالاتها ومستنبطين أهم دروسها المستفادة، وذلك بعد عرض أحداث يوم أُحد باختصار.

غزوة أحد:

  • كان سببها أنَّ قريشًا لمّا أُصيبت يوم بدر مشى رجالٌ منها فكلموا من كانت له في العير التي تسببت في غزوة بدر تجارة، فقالوا: إنّ محمدًا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا نُدرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ففعلوا.
  • فاجتمعت قريش لحرب النبي -صـلى الله عليه وسلم- ومن أطاعها من قبائل كنانة، وأهل تهامة، ثم خرجت بحدها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها حتى نزلوا مقابل المدينة.
  • فلمّا سمع بهم النبي -صـلى الله عليه وسلم- استشار القوم في الخروج لمحاربة المشركين خارج المدينة أو البقاء فيها، وكان رأي عبد الله بن أبيّ ابن سلول موافقًا لرأي النبي -صـلى الله عليه وسلم- ألا يخرج إليهم، وكان النبي -صـلى الله عليه وسلم- يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين ممن كان فاتهم يوم بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبُنّا عنهم وضعُفنا! فلم يزل الناس بالنبي -صـلى الله عليه وسلم- حتى دخل بيته، فلبس لأْمَته.
  • ثم خرج -صـلى الله عليه وسلم- في ألْفٍ من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخزل عنه ابن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني. وقالت الأنصار: يا رسول الله، ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: لا حاجة لنا فيهم.
  • ثم مضى رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- حتى نزل الشِّعب من أحد، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتعبّى -صـلى الله عليه وسلم- للقتال، وهو في سبع مائة رجل، وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير، وقال له: انضح الخيل عنّا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قِبلك، وظاهر -صـلى الله عليه وسلم- بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وأجاز يومئذ سمرة بن جندب الفزاري، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وردّ جماعة من صغار الصحابة ممن قلّت سنهم عن خمس عشرة سنة.
  • وتعبأت قريش، وهم ثلاثة آلاف رجل، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وحرّض أبو سفيان قريشًا خاصةً أصحاب اللواء من بني عبد الدار على القتال، وحرضت هند زوجته أيضًا والنسوة معها الناسَ على القتال بشعرٍ مشهور.
  • وقعت المعركة يوم السبت للنصف من شوال، وكان شعار أصحاب رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أمت، أمت، وقُتل فيها من أكابر الصحابة كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير.
  • ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، فحسوا أعدائهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة على المشركين لا شك فيها إلى أن مالت الرماة إلى العسكر وخلوا ظهور المسلمين للخيل، فأتاهم المشركون من خلفهم وانكشف المسلمون، فأصاب فيهم العدو حتى خلص إلى رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- فأصيبت رباعيته، وشُجّ في وجهه، وكُلِمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.
  • ثم انتهى رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- إلى فم الشعب وعلت عاليةٌ من قريش الجبل وعليهم خالد بن الوليد فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، وبعد انتهاء المعركة وقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها، يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن الآذان والأنف، وبقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تستطع أن تستسيغها، فلفظتها.
  • ثم فرغ الناس لقتلاهم وحزن الرسول -صـلى الله عليه وسلم- على حمزة وتوعد المشركين بالمثلة فأنزل الله -عز وجل- في ذلك: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ...} فعفا رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- وصبر ونهى عن المثلة. ثم صلى الرسول -صـلى الله عليه وسلم- على حمزة والقتلى ودفنهم حيث صرعوا، ثم انتهى رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- إلى أهله فغسل سيفه. وأنزل الله في أحدٍ من القرآن عشرات من الآيات من سورة آل عمران[3].

القرآن وغزوة أحد:

تعرَّض النبي -صـلى الله عليه وسلم- في تبليغه لرسالة ربه -جل وعلا- إلى الناس لكثيرٍ من الشدائد والمصاعب والابتلاءات، بل يصحُّ القول بلا مبالغةٍ إنه -صـلى الله عليه وسلم- أكثر الناس بلاءً، وكان من أشدِّ وأعظمِ ما تعرض له من ابتلاءٍ ما حدث له يوم أحد حينما هُزم وأصحابه بعد النصر، وقُتل عمّه حمزة ومُثّل بأجساد أصحابه -رضى الله عنهم-. فنزل القرآن ليعلّق تعليقًا مطولًا على هذا اليوم الشديد، ممّا يستوجب الوقوف على تعليق القرآن على يوم أحد، واستنباط أهم ما عالجه من قضايا بما فيها من دروس وفوائد وعبر.

وقد تناول القرآن في حديثه عن أحدٍ ما حدث فيها من أحداث، بدايةً من خروج النبي -صـلى الله عليه وسلم- من المدينة واتخاذ وترتيب موقعه الذي أراد أن يقاتل فيه جيشه إلى الهزيمة وأسبابها. وبيِّنٌ أن الوقوف مع كلّ القضايا التي سلط القرآن الضوءَ عليها في تعليقه على يوم أحدٍ يحتاج إلى حديثٍ طويل ووقتٍ كثير؛ ولهذا سوف نقفُ مع قضيتين فقط من القضايا التي اهتمَّ القرآن بإبرازها وتسليط الضوء عليها في تعليقه المطول على أحداث هذه الغزوة؛ لما لهما من أثرٍ عظيمٍ ودورٍ مهمٍّ وكبيرٍ في تربية المؤمنين خاصة على حسن التصرف في وقت المحنة وزمن الابتلاء، وهو ما يحتاج الإنسان أن يستصحب عبرته على الدوام؛ إذ لا تخلو الحياة من الإشكالات والبلاءات.

أولًا: أهمية التخفيف عن المنكسر:

قد تأتى رياح الإنسان أحيانًا بما لا تشتهيه سُفنه فيصيبه همٌّ أو غمٌّ أو كربٌ أو انكسارٌ جرّاء حادثة معينة أراد لها نتيجةً وأراد الله لها أُخرى، وما من شك أنَّ النفس البشرية في هذا الحال تحتاجُ إلى من يقف بجانبها ويترفق بها ويخفف عنها، لا سيما إن كانت قد بذلت جهدها واستفرغت طاقتها وفعلت ما ينبغي لها أن تفعل، فيبعث فيها الحياة من جديد بعد ما أصابها من انكسارٍ أشبه الموت، فتنهض عندئذٍ وتعمل بجدٍّ وتسير في طريق التعويض لما قد فات منها، وتترك اليأس الذي كان من الممكن أن يحطمها فتجزع وتفشل وتعيش في أوهام الضعف فيطمع فيها الشيطانُ والأعداءُ على حد سواء. وقد جاء في القرآن ذمٌّ واضح لليأس والقنوط من رحمة الله ونهيٌ شديدٌ عنهما كما في قوله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87]، وفى قوله تعالى{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53].وقال سفيان بن عيينة: من ذهب يقنّط الناس من رحمة الله، أو يقنّط نفسه؛ فقد أخطأ، قال ذلك في تفسيره لقوله تعالى:{وَمَن يَقْنَطَ مِن رحمةِ رَبِّهِ إلّا الضَّالُونَ}[الحجر: 56][4].

والمتأمل لغزوة أحد يجدُ أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- قد كُسروا كسرةً فظيعةً؛ فقُتل منهم سبعون رجلًا، منهم جماعة من أكابرهم كحمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش -رضي الله عنهم-، وجُرح منهم الكثير حتى كان على رأس الجرحى النبي -صـلى الله عليه وسلم- نفسه. وقد مَثّلت غزوة أحدٍ موقفًا مهيبًا ووقتًا عصيبًا تباينت فيه الأنفس واختلفت فيه القلوب، فبينما أصاب الفرح قلوب الكافرين الذين انتصروا في هذه المعركة وعوّضوا خسارتهم يوم بدرٍ، والمنافقين الذين كرهوا المسلمين حتى تخلوا عنهم قُبيل المعركة، أصاب الحزن والانكسار قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- لما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح رغم ما قام به كثيرٌ منهم من بطولاتٍ كبيرة قلَّ أن نجد لها مثيلًا في سِيَر الناس.

والمتأمل في تعليق القرآن على غزوة أحد يجد بيّنًا أن القرآن قد ترفّق بالصحابة -رضي الله عنهم- رغم هزيمتهم الكبيرة في أحد، بل أخذ يخفف عنهم -بكثير من الطرق- ما أصابهم من همٍّ وغمٍّ وكربٍ وانكسارٍ، وكان ذلك لغاية كبيرة وهدف سامٍ وهو رفع اليأس والحزن والوهن عنهم، فينهضون من جديد ويعملون لتعويض ما فات من النصر الذي كان قريبًا منهم في أول المعركة[5]. وذلك كان على عكس ما فعله بالصحابة المنتصرين في غزوة بدرٍ من العتاب والتأكيد على كسر الغرور الذي أصاب بعضهم بعد النصر كما أوضحنا هذا في مقالتنا السابقة عن غزوة بدرٍ، وكان تخفيف القرآن على المنكسرين في أُحُدٍ عن طريق:

  • النهي عن الوهن والحُزن فإنَّه لا يعالج شيئًا ولا يحقق مرادًا ولا ينكأ عدوًّا، بل على العكس يُفرح بهم المشركين ويقدح في إيمانهم بربهم -جلّ وعلا-، وهو الذي وعدهم النصر والعلوّ على عدوهم، وأعلمهم أن العاقبة -لا ريب- لهم، وما من شكٍّ أنَّ الحزن إذا تمكَّن من القلوب أمرضها وأقعدها عن العمل والاجتهاد، وقد كان سيد البشر -صـلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الحزن[6]، فنهاهم الله عنه ووعدهم العلوّ تسليةً لهم وتخفيفًا عنهم {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فهو -جل وعلا- في هذه الآية ينهاهم عن الوهن المؤدي إلى أن يضعفوا عن عدوهم وَعن الحزن عَلَى ما أصابهم من القتل والهزيمة، مبشرًا بعلوهم في النهاية على أعدائهم. وهذا النهي عن الحزن تكرر في القرآن كثيرًا، ومنه قوله تعالى في نفس السورة: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا على مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}[آل عمران: 153]، وقوله: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176].
  • التذكير بمصائب الأعداء التي حلّت بهم هم أيضًا في هذه المعركة، فكما قُتل من المسلمين سبعون صحابيًّا فقد قُتل من المشركين اثْنَان وَعِشْرُونَ رجلًا[7]، وأُصيب منهم كما أُصيب من المسلمين، وكما أصاب المسلمون منهم في بدرٍ أصابوا هم من المسلمين في أحدٍ {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، ومن البيّن أنّ مما يسلي عن النفس ويدفع عنها ويخفف ما بها من الهمّ والحزن أن ترى غيرها قد أصابه ما أصابها، ولا سيما إن كان من الأعداء، وقد قالت الخنساء -رضي الله عنها-:

وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي        عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي 

وَلَكِـن لا أَزالُ أَرى عَجُولًا          وَبـاكِيَةً تَنــوحُ لِيَومِ نَحـسِ

أَراها والِهًا تَبكي أَخاها       عَشِيَّةَ رُزئِهِ أَو غِبَّ أَمسِ

وَما يَبكونَ مِثلَ أَخي وَلَكِن          أُعَزّي النَفسَ عَنهُ بِالتَأَسّي

فذّكرهم الله تعالى بما أصاب المشركين في هذه المعركة ليسلي عنهم، ولسان الحال: لَإِنْ كان قد أصابكم قتل وجراح فقد أصابهم قتل وجراح. وقد قال مجاهد -رحمه الله- في تفسير القرح:«جِرَاحٌ وَقَتْلٌ»[8]، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104]، أي إِنْ كُنتم تُوجَعُونَ مِنَ القتل والْجِرَاحَات، فَإِنَّهُمْ يُوجَعُونَ منها أيضًا، ولكن الفرق أن عاقبتكم الجنة وعاقبتهم النار.

  • الإشارة إلى بعض سنن الله في الدين والحياة مثل سنة التداول بين الناس، فالدنيا هكذا يومٌ لك ويومٌ عليك ويومٌ نساءُ ويومٌ نسرُّ، والحربُ سجالٌ، فكما انتصر المسلمون في بدرٍ هُزموا في أحدٍ، فخفّف القرآن عنهم ما أصابهم من الهمّ والحزن بفتح آفاق المستقبل لهم، مبينًا أن تغير الأحوال هو من سنته التي لا تتبدل ولا تتحول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، فمن يُهزم اليوم سينتصر غدًا والعكس صحيح، ولهذا لا ينبغي الوهن والخور، بل الجدّ والاجتهاد والاستعداد للمعركة القادمة التي من الممكن أن يكون فيها نصرهم وشفاء نفوسهم وذهاب غيظ قلوبهم من الأعداء {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. وما تجلت هذه السنة في هذا الوقت إلا ليتبيّن المؤمنون ويتبين المنافقون، كما تتكشف الأخطاء وينجلي الغبش[9].
  • الإشارة إلى أنَّ الجنةَ سلعةٌ غاليةٌ لا يسومها المفلسون ولا ينالها البطّالون ولا يستطيع أن يحصلها إلا المجاهدون الصابرون: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، فمهما أصابهم من كربٍ وانكسارٍ وقتلٍ وجرحٍ في سبيل الله فهو قليلٌ أمام الثمن الغالي الذي سيربحونه في الآخرة من رضوان الله تعالى عليهم ودخلوهم جنته. وما من شكٍّ في أن النفس تفرح مهما أصابها من ضُرٍّ إذا هي علمت حسن المآل فكانت تلك الإشارة سببًا كبيرًا في إزاحةِ الهمِّ ورفعِ انكسارِ النفس عن الصحابة -رضى الله عنهم- حتى كان من عادتهم بعد تلك المعركة ونزول الآيات التي تحدثت عن فضل الشهداء؛ تمني الموت في سبيل الله.  
  • التذكير بأنَّ سبيل الموت هو غايةُ كلّ حي، فلا مهرب منه ولا منجى أبدًا ولن تموت نفسٌ أبدًا حتى تستكمل عمرها وتستوفي رزقها، فالذين استشهدوا في أحد قد انقضت أعمارهم التي كتبها الله لهم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران: 145]، ولو ظلَّ الرجل في بيته ثم حان وقته فلن يتقدم عنه أو يتأخر بل سيموت لا محالة: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، فَلِمَ الحزن وتلك هي حقيقة الدنيا وعادة الناس؟! وقد قال الشافعي -رحمه الله-:

تَمَنّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمتْ           فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ[10]

وإن تذكّر تلك الحقيقة من أهم ما يزيل الحزن من صدور الناس وخوفهم من الموت أو القتل، وما أشرف الموت إذا كان لله تعالى ولدينه العظيم ولنبيه -صـلى الله عليه وسلم-، وما أحلى الشهادة التي عاقبتها مغفرةٌ للذنوب وتخليدٌ في الجنان:{وَلَئِنْ قَتَلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157].

فمن الملاحظ إذن لكلّ متدبرٍ أنّ القرآن اهتمَّ اهتمامًا بليغًا بالتخفيف عن الصحابة -رضي الله عنهم- مستخدمًا لأجل ذلك كثيرًا من الطرق تسليةً لهم ودفعًا للهمّ الذي من الممكن أن ينالهم جرّاء الهزيمة التي أوقعت فيهم قتلى وجرحى؛ وذلك ليفتح لهم آفاق المستقبل، وليتمكنوا من تجاوز تلك الأزمة الشديدة التي كان من آثارها المباشرة أن تجرّأ الأعداء عليهم وطمع فيهم من لا يدفع عن نفسه. وكأن القرآن بهذا التخفيف للهمّ والكرب عنهم قد أراد أن يقوي في نفوسهم ما يمكن أن تضعفه الهزيمة من الاعتقاد الراسخ الذي كان قد تمكن منهم وعاهدوا عليه الرسول -صـلى الله عليه وسلم- من قبل في أن ينصروه ويدافعوا عنه وعن دينه حتى الممات.

إنَّ اهتمام القرآن الشديد بالتسلية عن الصحابة والتفريج عنهم وجبر قلوبهم المنكسرة من أثر الهزيمة لهو المنهج الحقّ، الذي ينبغي أن يُتبع وأن يُطبق على كلّ من يشبه حاله حالهم، على كلّ من عُرف صدقه وإخلاصه ثم نكب أو ابتُلي بمحنةٍ أو بلاءٍ فيثبُت على الحقّ وينهض عندئذٍ ويعود من جديد ويستشرف المستقبل، بدلًا من الوقوف متحسرًا وحزينًا أمام محنته. ذلك هو ما فعله النبي -صـلى الله عليه وسلم- مع المنسحبين من جيش مؤته لمّا عادوا إلى المدينةوجعل الناس يحثون عليهم التراب، ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله! فقال الرسول -صـلى الله عليه وسلم-: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرّار إن شاء الله تعالى[11].

ثانيًا: ضرورة الاعتصام بالله تعالى خاصّة في وقت المحن:

في وقت المحن تتعاظم الشائعات وتكثر الترهات وينتشر بين الناس القيل والقال، وفيه تظهر شماتة الشامتين وادعاءات الكاذبين فتبحث النفوس عن عاصم لها وتودُّ القلوب أن تركن إلى مأوى يحتضنها. بعضًا من ذلك هو ما حصل بعد هزيمة المسلمين في أحد، حين خرج عليهم من الكفار والمنافقين من يقول لهم لما رجعوا من المعركة: لو كان  محمد نبيًّا ما أصابه الذي أصابه، وأمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم[12]. والنفس البشرية في وقت ضعفها تكون أقرب إلى فعل كثيرٍ من الأفعال التي تأبى فعلها في أوقات قوتها، كان من الممكن أن تميل بعض نفوس الصحابة -رضي الله عنهم- مثل هؤلاء الذين فروا من أرض المعركة وقت الانهزام إلى يهود المدينة أو إلى بعضٍ من مشركي العرب طلبًا للأمن وبحثًا عن الحماية، فسعى القرآن إلى ترسيخ اعتقادهم في وجوب الاعتصام بالله وحده وعدم طاعة وموالاة الكفار مهما كان حالهم.

وكان ترسيخ القرآن لعقيدة الاعتصام بالله وحده في نفوس الصحابة من خلال:

  • التحذير من طاعة الكفار والركون إليهم والدعوة إلى طاعة الله وحده وموالاته دون غيره؛ فإنَّ طاعة الكفار والركون إليهم وجعلهم سندًا ومرجعًا لن يكون له ثمرة، بل عاقبة ذلك هي الخسران المبين في الدنيا والآخرة، فالكفار لا يريدون خيرًا للمسلمين، بل هدفهم الدائم والمعلن في كثيرٍ من الأحوال هو القضاء على الإسلام، ومن ثم فإن طاعتهم لا تدلّ إلا على الهزيمة الروحية والنفسية التي تقود إلى الهلاك والدمار: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} } [آل عمران: 149]، وهذا المعنى أكّد عليه القرآن في غير موضع كما في قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. وذلك بخلاف تولي الله تعالى والتمسك بحبله -جل وعلا- فهو السبيل إلى النصر وتحقيق الأمن والأمان والسلامة والسلام: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} [آل عمران: 150]، وقد قيل:

واشدُدْ يَدْيـكَ بحَبـلِ اللهِ مُعتَصِمـًا        فإنَّـهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْـكَ أركـانُ

وقد أشار القرآن في كثير من المواضع إلى هذه الحقيقة:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، لما أصاب المسلمين الذّعر بعد تحوّل سير المعركة وانهزامهم، قال بعضهم: (لو كلمنا عبد الله بنأبّي يأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان)[13]، فكانت تلك الآية تسفيهًا لهذا القول ودعوة للاعتصام بالله وحده فهو الناصر لهم والحامي لبيضتهم دون سواه، قال الطاهر بن عاشور[14]: أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم؛ لأن في ذلك إظهار الضعف أمامهم، والحاجة إليهم، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويدًا رويدًا، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم، حتى يردوهم عن دينهم؛ لأنهم لن يرضوا عنهم حتى يرجعوا إلى ملتهم، فالرد على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة.

  • التذكير بضعف الكفار، فهم ضعفاء مهما تظاهروا بالقوة؛ لأن الرعب يملأ قلوبهم من المسلمين جراء شركهم وخراب قلوبهم من الإيمان، ومن ثم فإنهم لا يفيدون شيئًا: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ...} [آل عمران: 151]، وعلى العكس فيجب الاعتماد عليه تعالى والاعتصام به وحده، فهو النافع والضار والمقدّم والمؤخّر، وهو كما قال: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150]، قال الطبري: أَيْ فَاعْتَصِمُوا بِهِ وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بِغَيْرِهِ[15].

إنَّ الاعتصام بالله وحده واللجوء إليه والتوكل عليه لهو من أوجب الواجبات، ويتأكد ذلك في وقت الشدائد والمحن والفتن والابتلاءات، فهو سبحانه وتعالى بكلِّ جميلٍ كفيل وهو حسب المؤمنين ونعم الوكيل، وإنّ هذا التعلق بالله تعالى هو الذي يعصمُ المؤمنين من السماع لأباطيل الكافرين التي لا تهدف إلا إلى ردِّ المسلمين عن دينهم وبشتى السّبل، مما سيكون سببًا في إلحاق الخسران بهم في الدنيا والآخرة. فما أجدر المسلمين بالتمسك بحبل الله تعالى، فهو المخرج من الأزمات، وقد روي عن النبي -صـلى الله عليه وسلم- أنه قال: ألا إنها ستكون فتنة. فقيل له: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله[16].

إنّ التخفيف عن المؤمن الذي اعترته لحظةُ ضعفٍ أو أصابته حالةُ انكسارٍ رغم صدقه وإخلاصه لهو من أهم ما يُقدم له؛ فيثبت على الحقّ عندئذٍ، ويقوى على مواصلة السير في طريق الله، معتمدًا عليه وحده، غير سامعٍ لأباطيل المرجفين من الكفار والمنافقين؛ مما سيكون له أثرٌ كبيرٌ على المجتمع المسلم كله، ولهذا كان الاهتمام البالغ من القرآن الكريم في تعليقه على غزوة أحد بالتخفيف عن المنكسرين الذين أصابهم في أحدٍ بلاءٌ كبيرٌ من قتلٍ وجراحاتٍ، فبغير التخفيف عن المؤمن الصادق المصاب قد يسير في اتجاهٍ معاكسٍ، فالنفوس مجبولة على حبّ الرفق بها خاصةً في وقت الأزمات والشدائد. وبغير الاعتماد الدائم على الله تعالى وطاعته وموالاته والتوكل عليه، خاصةً في وقتِ المحن؛ يكون المؤمن فريسة لأعداء الله الذين يبذلون الغالي والنفيس في صدِّ المسلمين عن طريق الله، بل ويحاولون ردّهم عن دينهم بكلّ ما أوتوا من قوة. فما أحرى بنا أن نتدبر كتاب الله وتعليقه على هذه الغزوة لاستخراج ما فيها من دروس، والعمل بما يكمن ورائه من عبرٍ وفوائدٍ.

 

 


[1]صحيح البخاري، 3231.

[2] المرجع السابق، 1482.

[3] لمعرفة أحداث الغزوة بالتفصيل يراجع كتاب السيرة النبوية لابن هشام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955م، م 2، ص60.

[4] الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، دار الفكر - بيروت، م 5، ص88.

 [5]أشار إلى هذا المعنى محمد الغزالي -رحمه الله- في كتابه «فقه السيرة»، طبعة دار الدعوة، 2008، ص231.

[6] صحيح البخاري، 2893.

[7]الدرر في اختصار المغازي والسير، ابن عبد البر، الطبعة: الثانية، 1403هـ، ص156.

[8] تفسير الطبري، دار هجر، الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م، م، 6، ص، 80.

[9]  في ظلال القرآن، 1/480.

[10]تفسير الطبري، دار هجر، م 16، ص16.

[11]السيرة النبوية لابن هشام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، م 2، ص382.

[12]زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الأولى - 1422هـ، م 1، ص333.

[13]سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، الصالحي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1414هـ - 1993م، م 4، ص196.

[14] التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984م، م 4، ص122.

[15]تفسير الطبري، مرجع سابق، م 6، ص126.

[16]سنن الترمذي، دار الغرب الإسلامي - بيروت/ 2906.

الكاتب

علي عبد الحكيم

مدرس مساعد بقسم الدراسات الإسلامية بكلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر، وله بعض الكتابات عن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي المبكر.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))