كيفية التعامل مع أسانيد التفسير

تمثِّل أسانيد التفسير والتعامل معها بالمنظور الحديثي إحدى القضايا الجدلية في ساحة الدراسات القرآنية، وتطرح هذه المقالة مقاربة لبيان كيفيات تعامل العلماء مع مرويات التفسير، مسلِّطةً الضوء على عددٍ من المسائل المتعلقة بذلك.

كيفية التعامل مع أسانيد التفسير[1]

  لا يَخْفَى أنّ التفسير قد نُقِلَ بروايات يحكم علماء الحديث عليها بالضّعف أو ما هو أشدّ منه، لكن الذي قد يَخْفَى هو كيفية تعامُل هؤلاء العلماء مع هذه الروايات في علم التفسير.

ولتصوير الحال الكائنة في هذه الروايات، فإنك ستجد الأمر ينقسم بين المعاصرين وبين السابقين.

فالفريق الأول: بعض المعاصرين يدعو إلى التشدُّد في التعامل مع مرويات السَّلَف في التفسير.

والفريق الثاني: جمهور علماء الأمة من المحدِّثين والمفسِّرين وغيرهم ممن تلقَّى التفسير واستفاد من تلك الروايات، بل قد اعتمدها في فَهْم كلام الله.

هذه صورة المسألة عندي، والظاهر أنّ الاستفادة من هذه المرويَّات، وعدم التشدُّد في نقدها إسناديًّا هو الصواب، وإليك الدليل على ذلك:

1- أنك لا تكاد تجد مفسِّرًا من المفسِّرين اطَّرَحَ جملةً من هذه الروايات بالكليَّة، بل قد يَطَّرِحُ إحداها لرأيه بعدم صحة الاعتماد عليها، ومن أشهر الروايات التي يُمَثَّل بها هنا رواية محمد بن مروان السُّدِّي الصغير عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس.

2- أنّ المفسِّرين اعتمدوا اعتمادًا واضحًا على هذه المرويات، سواءً أكانوا مِن المحرِّرين فيه: كالإمام الطبريّ وابن كثير، أم كانوا مِن نَقَلَة التفسير: كعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وهؤلاء قد أطبقوا على روايتها بلا نَكِير، مع عِلْمهم التامِّ بما فيها من الضعف.

ولا يُقال -كما قد قال مَنْ قال-: إنَّ منهجَ الإمام الطبري في هذه الروايات الإسنادُ، وإنه ليس من منهجه الصحة؛ اعتمادًا على قاعدة: (مَن أَسْنَد فقد أَحالك).

ففي هذه المقولة غفلة واضحة عن منهج الإمام الطبري الذي لم ينصَّ أبدًا على هذا المنهج في تفسيره، والذي اعتمد على هذه المرويات في بيان معاني كلام الله، وفي الترجيح بين أقوال المفسِّرين، ولم يتأخر عن ذلك إلَّا في مواضع قليلة جدًّا لا تمثِّل منهجًا له في نقد أسانيد التفسير، أعني أنَّ الصِّبغةَ العامّة روايةُ هذه الآثار والاعتمادُ عليها في بيان كلام الله.

وقِس على الإمام الطبري غيرَه من المفسِّرين الذين اعتمدوا هذه المرويات في التفسير.

3- أنَّ أئمة المحدِّثين لهم كلام واضح بَيِّن في قَبُول هذه الروايات واحتمالها والاعتماد عليها؛ لأنهم يفرقون بين أسـانيد الحلال والحرام وأسانيد غيرها من حيث التشديد والتساهُل، ونصوصهم في ذلك واضحة، ومن ذلك:

قال عبد الرحمن بن مهدي: «إذا رَوَيْنا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال تَساهَلْنا في الأسانيد وتَسامَحْنا في الرجال، وإذا روَيْنا في الحلال والحرام والأحكام تشدَّدْنا في الأسانيد وانتقَدْنا الرجال»[2].

وقد انجرَّ هذا التساهُل على روايات التفسير، فاحتملوا قومًا معروفين بضعفهم في نقل الحديث، فقَبِلُوا عنهم -من حيث الجملة- رواياتهم، قال يحيى بن سعيد القَطَّان: تساهلوا في التفسير عن قومٍ لا يوثِّقونهم في الحديث، ثمَّ ذكر: ليث بن أبي سليم، وجويبر بن سعيد، والضحاك، ومحمد بن السائب؛ يعني: الكلبيّ.

وقال: «هؤلاء يُحمد حديثهم (كذا، ولعل الصواب: لا يُحمد)، ويُكتب التفسير عنهم»[3].

وقال البيهقيُّ (ت: 458هـ): «… وأما النوع الثاني من الأخبار، فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف مَخْرَجها، وهذا النوع على ضَرْبَين:

ضَرْب رواه مَن كان معروفًا بوَضْع الحديث والكذب فيه، فهذا الضرب لا يكون مستعمَلًا في شيء من أمور الدّين إلا على وجه التليين.

وضرب لا يكون راويهِ متَّهمًا بالوضع، غير أنه عُرِفَ بسوء الحفظ وكثرة الغلط في روايته، أو يكون مجهولًا لم يَثْبُت مِن عدالته وشرائط قَبُول خبره ما يوجب القبول.

فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملًا في الأحكام، كمـا لا تكون شهادة مَن هذه صفته مقبولةً عند الحكَّام. وقد يُستعمل في الدعوات، والترغيب والترهيب، والتفسير، والمغازي؛ فيما لا يتعلق به حُكمٌ»[4].

4- ومما يُعلَم من نقد الأسانيد أنَّ المحدِّثينَ قد فرَّقوا في نقدِهم لبعض الأعلام، فجعلوه في نقل الحديث من المجروحين المتكلَّمِ فيهم، وأثنوا عليه في عِلْمٍ برعَ هو فيه، بل قد يكون فيه إمامًا يُؤخَذ قولُه في ذلك العِلم، وهذا يعني أنَّ تضعيفه في رواية الحديث لم ينجرَّ إلى تضعيفه في ذلك العِلم الآخر، ومن الأمثلة التي يمكنُ أن تُضرَب في هذا ما يأتي:

1- عاصم بن أبي النَّجود الكوفي (ت: 128هـ)، قال عنه ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ): «صدوق له أوهام، حُجَّة في القراءة، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ»[5].

2- حفص بن سليمان الأسدي (ت: 180هـ) الراوي عن عاصم بن أبي النَّجود (ت: 128هـ)، قال عنه الذَّهبي (ت: 748هـ) -بعد أن ذَكر جرح علماء الحديث فيه-: «قلتُ: أمَّا في القراءة فثقةٌ ثَبتٌ ضابطٌ، بخلاف حاله في الحديث»[6]، وقال ابن حـجر العسقـلاني (ت: 852هـ): «مـتروك الحـديث مع إمامته في القراءة»[7].

3- نافع بن أبي نعيم المدني (ت: 169هـ): «صدوق ثَبتٌ في القراءة»[8].

4- عيسى بن ميناء المدني، المعروف بقالون (ت: 220هـ)، أحد راويَي نافع المدني (ت: 169هـ)، قال عنه الذهبي: «أمَّا في القراءة فثبَتٌ، وأما في الحديث فيُكتَب حديثه في الجملة. سئل أحمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك، وقال: تكتبون عن كلِّ أحدٍ!»[9].

5- حفص بن عمر الدُّوري (ت: 246هـ)، قال ابن حجر (ت: 852هـ): «لا بأس به»[10]، وقال ابن الجزري (ت: 833هـ): «إمام القراءة، وشيخ الناس في زمانه، ثقة ثَبت كبير ضابط»[11].

ولا يبعد أن يكون بعضُ المتميِّزينَ في عِلمٍ من العلوم لا يكاد يُعرَف لهم روايةٌ للحديث؛ كعثمان بن سعيد الملقَّب بورش (ت: 197هـ) أحد راويَي قراءة نافع المدني (ت: 169هـ).

فإذا كان ذلك واضحًا في عِلم القراءة، فإنَّ عِلم التفسير لم يُوجَد له كتبٌ تخصُّ طبقات المفسِّرين وتَنْقُد روايتهم على وجه الخصوص، بخلاف ما وُجِدَ من علم القراءة الذي تميَّزَ تميُّزًا واضحًا عند الترجمة لأحد القُرَّاء، كما تلاحظُ في الأمثلة السابقة.

ولذا لا تجد في الكلام عن المفسِّرين سوى الإشارة إلى أنهم مفسرون، دون التنبيه على إمامتهم فيه وضعفهم في غيره كما هو الحال في نقدِ القرّاء، وإذا قرأتَ في تراجم المحدِّثين ستجد مثل هذه العبارات: (المفسّر، صاحب التفسير)، ومن ذلك:

قال الذهبي (ت: 748هـ): «مجاهد بن جبر، الإمام، أبو الحجاج، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، المكي، المقرئ، المفسِّر، أحد الأعلام»[12].

قال الخليلي: «...ورواه شيخ ضعيف، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، وهو إسماعيل ابن أبي زياد الشامي صاحب التفسير»[13].

وقال: «مقاتل بن سليمان صاحب التفسير، خراساني، محلُّه عند أهل التفسير والعلماء محلٌّ كبير، واسع العلم، لكنَّ الحفَّاظ ضعَّفوه في الرُّوَاة»[14].

قـال ابن سعـد:  «أبو مالـك الغـفاري صاحب التـفسير، وكـان قلـيل الحديث»[15].

قال ابن سعد: «أبو صالح واسمه باذام، ويقال باذان، مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس، ورواه عن أبي صالح الكلبيُّ محمدُ بن السائب»[16]، قال ابن سعد: «إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي صاحب التفسير، مات سنة سبع وعشرين ومائة»[17].

قال ابن سعد: «أبو روق واسمه عطية بن الحارث الهمداني، من بطن منهم يقال لهم: بنو وَثَنٍ من أنفـسِهم، وهـو صـاحب التفـسير، ورَوى عن الضـحاك بن مـزاحم وغـيره»[18]. قال ابن سعد: «مقاتل بن سليمان البلخي صاحب التفسير، رَوى عن الضحاك بن مزاحم وعطاء، وأصحابُ الحديث يتَّقون حديثه ويُنكرونه»[19].

قال الخطيب البغدادي: «قال يحيى بن مَعِين: السُّدِّي الصغير صاحب التفسير محمد بن مروان مولى الخطّابيين، ليس بثقة»[20].

قال الخطيب البغدادي: «يزيد بن حيان الخراساني، أخو مقاتل بن حيان صاحب التفسير»[21].

ويظهر أنَّ سبب عدم تمييز نقد المفسرين على وجه الخصوص أمران مشتركان لا ينفكَّان عن بعضهما:

الأول: أن رواية التفسير كانت مختلطةً برواية الحديث في كثير من الأحيان.

الثاني: أنّ كثيرًا من رجال الإسناد في التفسير هم مِنْ نَقَلَة السنة النبوية، فكان الحديثُ في نقدهم والحكم عليهم من جهة التفسير والحديث واحدًا.

لكن المحدِّثين لم يجعلوا مقاييس قبولهم لروايات الحديث كمقاييس قبولهم لروايات التفسير، وإن كانوا حكموا على بعض روايات التفسير بالضعف، كما سبقت الإشارة إلى كلام بعضهم في هذا التفريق.

لكن قد يقع أنَّ بعض روايات التفسير تكون متمحِّضةً فيه، ولا تكادُ تجدُ أسانيدها إلَّا في علم التفسير، وقد لا ترى بواسطتها روايةً لحديث نبويٍّ، وإن وُجِدَ فهو قليلٌ، ومن أمثـلةِ ذلك روايـة العوفيِّين التي تنتهي بعطيَّة العوفي (ت: 111هـ) عن شيخه ابن عباسٍ (ت: 68هـ)، وهي روايةٌ مسلسلةٌ بالضُّعفاءِ، وأمرها مشهورٌ معروفٌ في التفسيرِ، لكن لا تجدُ روايةَ أحاديث بهذه السلسلةِ العوفيَّةِ[22].

5- ولعلَّ مما يبيح تساهُل التعامُل مع أسانيد المفسرين من جهة الإسناد أن كثيرًا من روايات التفسير روايات كتُبٍ، وليست روايات تلقينٍ وحفظٍ؛ لأنك لا تكاد تجد اختلافًا بين ما رواه نَقَلة هذه المرويات بهذه الأسانيد.

ولذا تجدهم ينسُبون التفسير إلى مَنْ رواه مدوَّنًا كتفسير عطية العوفي (ت: 111هـ) عن ابن عباس (ت: 68هـ)، وتفـسير السُّدِّي (ت: 128هـ) عن بعض أشياخه، وتفسير قتادة (ت: 117هـ) الذي يرويه سعيد بن أبي عروبة ومعمر بن راشد، وتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ت: 68هـ)، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ)، وغيرها من صحف التفسير.

وإذا كان كثيرٌ من هذه الروايات رواية الكِتاب فإنّ هذا يجعلها صالحة للاعتماد، أو الاستئناس بها من حيث الجملة.

ومن باب المناسبة أَذْكُر أنّ صحف التفسير من البحوث التي لم تطرح حتى الآن، فيا حبَّذا لو تولَّاها أصحاب هذا الشأن.

6- إنه مما يتبع هذه المسألة أنه قد اشتهر بعض هؤلاء الأعلام في التفسير: إمّا رواية، وإمّا دراية. ويجب أن لا ينجرَّ الحكم عليه في مجال الرواية إلى مجال الدراية، بل التفريق بين الحالَين هو الصواب، فتضعيف مفسِّر من جهة الرواية لا يعني تضعيفه من جهة الرأي والدراية؛ لذا يبقى لهم حكم المفسِّرين المُعتبَرِين، ويُحاكَم قولُهم من جهة المعنى، فإن كان فيه خطأ رُدَّ، وإن كان صوابًا قُبِلَ.

إذا تأمَّلْتَ هذه المسألة تأمُّلًا عقليًّا، فإنَّه سيظهر لك أنَّ الرأي لا يوصف بالكذب إنما يوصف بالخطأ، فأنت تناقش قول فلان من جهة صحته وخطئه في المعنى، لا من جهة كونه كاذبًا أو صادقًا؛ لأن ذلك ليس مقامه، وهذا يعني أنَّك لا ترفضُ هذه الآراء من جهة كون قائلها كذَّابًا في الرواية، إنما من جهة خطئها في التأويل.

وهذا يعني أنَّ الحكم على الكلبيِّ (ت: 146هـ)، ومقاتل بن سليمان (ت: 150هـ) بالكذب من جهة الرواية، لا يعني أنَّك لا تأخذ بقولِهما الذي هو من اجتهادهما في التفسير، بل إذا ظهرَتْ عليه أَمارات الصِّحّةِ من جهة المعنى يُقبَل، ولا يُرَدُّ لكون صاحبه كذَّابًا. وكذا الحال في مَن وُصِفَ بالضَّعف في روايته؛ كعطيَّةَ العوفي (ت: 111هـ)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ)، وغيرهما.

وغياب هذه القضيةِ يُوقِع في أمرَين:

الأول: طرحُ آراء هؤلاء المفسرين، وهم من أعلام مفسِّري السلَف.

الثاني: الخطأ في الحكم على السنَد الذي يُروَى عنهم، فيُحكَم عليه من خلال الحُكم عليهم، وهم هنا ليسوا رواةً فيجرى عليهم الحُكم، بل القول ينتهي إليهم، فأنت تبحث في توثيق مَن نَقَل عنهم، ومن الأمثلة التي وقع فيها بعض الباحثين الفضلاء:

- قال ابن أبي حاتم: «حدثنا أبي، قال: حدثنا الحسن بن الربيع، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، ثنا محمد بن إسحاق، قوله: {الحَيُّ القَيُّومُ}[آل عمران: 2]: القائم على مكانته الذي لا يزول، وعيسى لحمٌ ودمٌ، وقد قضَى عليه بالموت، زال عنه مكـانه الذي يُحدِثُ به»[23].

ولمَّا درس المحقّق رجال الإسناد خرج بما يأتي:

الحسن بن الربيع ثقة، وعبد الله بن إدريس ثقة، ومحـمد بن إسحاق صدوق، ثمَّ قـال في نتيجة الحكم: «درجة الأثر: رجاله ثقات، إلا ابن إسحاق صدوق، فالإسناد حسنٌ»[24].

فجعل الإسناد حسنًا بسبب ابن إسحاق، وهذا الحكم فيه نظر، إذ الصحيح أن يُحكَم على الإسناد بأنه صحيح؛ لأنَّ الذين نقلوه عن ابن إسحاق هم الذين يتعرَّضون للتعديل والتجريح، أما قائل القول، فلا يدخل في الحكم.

7- إنَّ مَنْ تشدَّد في نقد أسانيد التفسير، فإن النتيجة التي سيصل إليها أنَّ كثيرًا من روايات التفسير ضعيفة، فإذا اعتمد الصحيح واطَّرح الضعيف فإنّ الحصيلة أننا لا نجد للسلَف إلا تفسيرًا قليلًا، وهم العُمْدَة الذين يُعتمَدون في هذا الباب، فإذا كان ذلك كذلك فمن أين يؤخذ التفسير بعدهم؟!

لقد طَرَحْتُ هذه المسألة على بعض مَنْ يرى أنه يجب التشدُّد في أسانيد التفسير، وتنقية كتُب التفسير من الضعيف والإسرائيليات، والخروج بتفسيرٍ صحيحِ الإسناد عن السلَف يُحتَكَم إليه، فقلتُ له: أنت تَعْلم أنَّ اتِّباع هذا المنهج سيُخرِج كثيرًا من روايات التفسير، وأنه قد لا نجدُ في بعض الآيات تفسيرًا محكيًّا عن السلف سوى ما طرَحْتَهُ، فمن أين ستأخذ التفسير؟!

قال: نرجع للُّغة؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب.

قلتُ له: فمِمَّن ستأخذ اللغة؟

قال: مِن كتُبِها وأعلامها؛ من الخليل بن أحمد والفرّاء وأبي عبيدة وغيرهم.

فقلتُ له: أنت طالبْتَ بصحة الإسناد في روايات التفسير، فلِمَ لم تَعمل بها في نقل هؤلاء وحكايتهم عن العرب، فأنا أطالبُك بأن تصحِّح الإسناد في نقلِ هؤلاء أنَّ معنى هذه اللفظة هو كذا عند العرب نقلًا صحيحًا متصلًا من الفرّاء وغيره إلى ذلك العربيّ الذي علَّمه ذلك.

فهل يا تُرى أنَّ هذا المنهجَ صحيحٌ؟

إنَّ طبيعة العلوم تختلف؛ فإثبات السُّنة النبوية، وإلزام الناس بها ليس كإثبات اللغة، فاللغة تَثبُت بما لا يَثْبُت به الحديث، وكذا الحال في التفسير، فإنه يثبت بما لا يثبت به الحديث، والاعتماد على هذه الروايات جزءٌ أصيل من منهجه لا ينفكُّ عنه، ومن اطَّرحها فقد مسَخ عِلْم التفسير.

8- إنّ التفسير له مقاييس يُعرف بها عدا مقاييس الجرح والتعديل؛ إذ التفسير يرتبط ببيان المعنى، وإدراك المعنى يحصل من غير جهة الحُكم على الإسناد؛ لذا فإنَّ عَرْضَ التفسير على مجموعة من الأصول تُبيِّنُ صحيحه من ضعيفه: كالنظر في السياق، والنظر في اللغة، والنظر في عادات القرآن، والنظر في السُّنة...إلخ.

وقد أشار البيهقي إلى هذا الملحظ، فقال: «وإنما تساهلوا في أَخْذِ التفسير عنهم؛ لأن ما فسَّروا به ألفاظَهُ تَشْهَد لهم به لغاتُ العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط»[25]، ومَن قرأ في كتب التفسير ومارَس تدريسه أدرك هذا المعنى، وإلا لرأيته يقف كثيرًا حتى يتبين له صحة هذه المرويات ليعتمد عليها، وفي هذه الحال أنَّى له أن يفسِّر.

9- ومما يَحسُن ملاحظتُه هنا أنَّ التفسير المنقول بطرق فيها ضعف له فوائد، منها أن يكون المعنى الذي يحمله التفسير مما قد اشتهر بين السّلف فيستفاد منه في حال الجدل مع المعارضين، خصوصًا إذا كان في مجال الاعتقاد؛ لذا ترى بعض العلماء ينصّ على أنَّ بعض المعاني الباطلة في التفسير المرتبطة بالمعتقد لم تثبت لا بالطرق الصحيحة ولا الضعيفة.

10- وأخيرًا، فإني أرى في هذه المسألة التي يطول فيها الجدل أن يُفرَّق بين الاعتماد التامّ على منهج أهل الحديث في نقد الروايات وبين الاستفادة منه، فالصحيح أن يُستفاد منه، ويأتي وجه الاستفادة منه في حالات معيَّنة؛ كأن يكون في التفسير المرويّ غرابةٌ أو نكارةٌ وشذوذٌ ظاهرٌ.

ومن أمثلة ذلك ما تراه مِن فِعْل الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون}[المائدة: 55]، حيث تَتبَّع أسانيد المرويَّات ونَقَدَها، لكنك تجده في مواطن أخرى يرويها ولا يَنقُدُها، وما ذاك إلَّا لِمَا في الخبر المنقول في هذه الآية من النكارة التي جعلَتْه يَتتبَّع الإسناد، أما في غيرها فالأمر محتمل من جهة المعنى وليس فيها ما يُنكَر فقَبِلَهُ، والله أعلم.

وهذا الموضوع له جوانب أخرى، وهو يحتاج إلى تأصيل وتمثيل، وأسأل اللهَ لي ولكم التوفيق والصواب في القول والعمل.

 

 

[1] نُشرت هذه المقالة بملتقى أهل التفسير بتاريخ 7/ 3/ 1424هـ.، وقد نشرناها كما هي، إلا أننا حذفنا من صدرها سطرًا لعدم تعلقه بالموضوع. (موقع تفسير).

[2] دلائل النبوة، للبيهقي، تحقيق: الدكتور عبد المعطي قلـعجي (1: 34).

[3] دلائل النبوة، للبيهقي، تحقيق: الدكتور عبد المعطي قلعجي (1: 35- 37).

[4] دلائل النبوة، للبيهقي، تحقيق: الدكتور عبد المعطي قلعجي (1: 33، 34).

[5] تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: صغير أحمد الباكستاني (ص: 471).

[6] معرفة القراء الكبار، للذهبي (1: 140).

[7] تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: صغير أحمد الباكستاني (ص: 257).

[8] تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: صغير أحمد الباكستاني (ص: 995).

[9] ميزان الاعتدال (3/ 327).

[10] تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: صغير أحمد الباكستاني (ص: 259).

[11] غاية النهاية، لابن الجزري: (1/ 255).

[12] معرفة القراء الكبار: (1/ 66).

[13] الإرشاد للخليلي: (1/ 448).

[14] الإرشاد للخليلي، (3/ 928).

[15] الطبقات الكبرى، (6/ 295).

[16] الطبقات الكبرى، (6/ 296).

[17] الطبقات الكبرى، (6/ 323).

[18] الطبقات الكبرى، (6/ 369).

[19] الطبقات الكبرى، (7/ 373).

[20] تاريخ بغداد، (3/ 292).

[21] تاريخ بغداد، (14/ 332).

[22] ينظر في رجال إسناد تفسير العوفي: تفسير الإمام الطبري، تحقيق: محمود شاكر (1: 263).

[23] تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: حكمت بشير ياسين (ص: 27).

[24] تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: حكمت بشير ياسين (حاشية ص: 28). وقد سار على تحسين هذا الإسناد في تحقيقه، ينظر مثلًا (ص: 71).

[25] دلائل النبوة للبيهقي (1: 37).

الكاتب

الدكتور مساعد بن سليمان الطيار

أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الملك سعود، له العديد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))