عرض كتاب
الاستشراق اليهودي المعاصر... المنهج والغايات
لـ د/ محمود كيشانة
![](https://tafsir.net/uploads/papers/%D8%B9%D8%B1%D8%B6%20%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%20%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1.jpg)
باتَ من غير المشكوك فيه أنّ (المدرسة اليهودية في الاستشراق) تعدّ واحدة من أهمّ وأخطر المدارس الاستشراقية، علاوة على كونها أكثرها تعقيدًا؛ للعديد من الأسباب، والتي من أبرزها: تداخل مراحلها المختلفة: (الاستشراق اليهودي العالمي، والاستشراق الصهيوني، والاستشراق الإسرائيلي)، مع العديد من المدارس الاستشراقية الغربية التي إمّا نشَأت في كنفها المدرسة اليهودية في الاستشراق بمراحلها المختلفة، أو تقاطعت معها في الأهداف أو الموضوعات أو الاهتمامات نفسها.
في ضوء ذلك، يبرز مدى أهمية الاستشراق اليهودي المعاصر وأهمية دراسته؛ نظرًا لكونه ليس رديفًا أو امتدادًا للاستشراق الغربي وحسب، بل لدوره الكبير في التأثير في الاستشراق الغربي وما يستتبع ذلك من تأثير في تلك الدوائر العلمية والفكرية والسياسية الغربية التي يؤثر فيها الاستشراق الغربي؛ إِذْ من غير المبالغة القول أنّ الاستشراق اليهودي المعاصر يمثِّل (بوصلة للاستشراق الغربي)، وليس أدلّ على ذلك من أنّ كتاب المستشرق اليهودي الألماني أبراهام جايجر الذي حمل عنوان: ماذا أخذ محمد من اليهوديّة؟
?Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen، كان أوّل كتاب استشراقي في العصر الحديث يبحث المطابقة بين القصص القرآني وقصص العهد القديم، وقد أثَّر هذا الكتاب بشكلٍ بالغٍ في معظم الكتابات الاستشراقية عامة واليهودية خاصّة التي أعقبته، والتي بحثت التشابه بين الإسلام واليهودية من جانب وبين الإسلام والنصرانية من جانبٍ آخر.
في هذا السياق، تأتي أهمية كتاب (الاستشراق اليهودي المعاصر... المنهج والغايات) للدكتور محمود كيشانة[1] والذي يدلّل على موقع وأهمية الاستشراق اليهودي بين المدارس الاستشراقية الغربية المختلفة، لا سيما فيما يتعلّق بتشكيكه في المصادر الرئيسة للإسلام: (القرآن الكريم، السُّنَّة النبوية الشريفة)، علاوة على وقوفه على واحد من أهمّ جوانب العقل الإستراتيجي الإسرائيلي؛ وذلك بتعريفه بالمؤسّسات العلمية المهتمة بالدراسات الاستشراقية في إسرائيل، وتقديمه وصفةً لكيفية مواجهة الفكر الصادر منها المعادي للمقدَّسات الإسلامية والـمُناهِض للثوابت القومية العربية، ومن هاهنا فإننا سنحاول في هذه المقالة أن نقدم عرضًا تعريفيًّا لهذا الكتاب، فنبين أهدافه وأهميته ومحتوياته وأفكاره الرئيسة ومنهجه.
أهداف الكتاب وأهميته ومحتوياته:
وفقًا لمقدّمة الكتاب فإنّ أوّل أهدافه ما وصفه بـ(فَضْح الاستشراق اليهودي المعاصر)، ونقده النقد العلمي والموضوعي، وبيان دوره اللاعلمي كحلقة من حلقات الاستشراق اليهودي القديم والاستشراق الغربي أيضًا، وما يستتبع ذلك من فهم الاستشراق اليهودي المعاصر في سياق الاستشراق الغربي العام، واستبيان موضوعاته لا سيما المتعلقة بالقرآن الكريم والسُّنّة الشريفة.
كما يهدف الكتاب إلى الكشف عن مناهج المستشرقين اليهود ونقدها، وتحليل غايات هذا النوع من الاستشراق، المتمثّلة في غايات عقدية وسياسية وثقافية، وتقديم نقد علمي لها.
أهمية الكتاب:
تنحصر أهمية الكتاب في إلقائه الضوء على واحد من أخطر مدارس الاستشراق المعاصرة، لا سيما وأنها مرتبطة بالاستشراق الغربي العام وخرجت من عباءته، واتّسمت بالعدائية الشديدة للإسلام ومصادره الرئيسة وفي مقدمتها القرآن الكريم، ما استوجَب الوقوف على غاياتها ومناهجها وتحليل موضوعاتها ونقدها نقدًا علميًّا موضوعيًّا، علاوة على تقديمه سردًا وصفيًّا لأهمّ المؤسّسات الاستشراقية داخل إسرائيل؛ للوقوف على أهمّ مجالاتها واهتماماتها.
محتويات الكتاب:
أمّا عن محتويات الكتاب؛ فقد قسَّمه مؤلِّفه إلى ثلاثة فصول؛ صدَّرها بمقدمة اشتملت على أهداف الدراسة، والدراسات السابقة، وإشكالية الكتاب ومحاوره، والمنهج المعتمد به، علاوة على تعريفٍ بالاستشراق اليهودي المعاصر وعلاقته بالاستشراق الغربي؛ أمّا فصول الكتاب فهي:
الفصل الأول: (نقد مناهج الاستشراق اليهودي المعاصر): ويُعرِّف فيه بمناهج الاستشراق اليهودي التي حصرها في: المنهج الشكّي، ومنهج التأثير والتأثّر، ومنهج المقابلة والمطابقة، والمنهج الإسقاطي، والمنهج التحليلي، والمنهج التأريخي؛ وقدّم لها نقدًا.
الفصل الثاني: (نقد غايات الاستشراق اليهودي المعاصر): والتي حصرها في: الغايات العقدية، والسياسية، والثقافية غير الخالصة؛ وقدّم لها نقدًا كذلك.
الفصل الثالث: (الاستشراق اليهودي المؤسَّسي): ويُعرِّف في هذا الفصل بأهمّ مراكز البحوث والدراسات الاستشراقية الإسرائيلية، واقفًا على غايات هذه المراكز، مقدّمًا عدّة وسائل لمواجهتها.
الأفكار المركزية للكتاب:
الاستشراق اليهودي المعاصر وعلاقته بالاستشراق الغربي:
يرى مؤلِّف الكتاب أنّ الاستشراق اليهودي المعاصر هو صورة من صور التعصب العقدي، ما يفسّر أنه هدفَ إلى تشويه الإسلام ومصادره، سائرًا في ذلك على منهج الاستشراق الغربي الذي يُعَدّ الاستشراقُ اليهودي ركنًا ركينًا من أركانه؛ إِذْ كان المستشرقون اليهود مشاركين بصورة كبيرة في الحركة الاستشراقية الغربية.
وفقًا للكتاب، فإنّ العلاقة بين الاستشراقين (الغربي واليهودي) قائمة حتى الآن، حتى وإِنْ أفصح الأخير عن هويته مؤخرًا، إلا أن هذه العلاقة تترسّخ يومًا بعد يوم مدفوعة بمصالح السياسة العالمية التي تبني مواقفها غالبًا على المراكز الاستشراقية الغربية مستعينة بآراء المستشرقين اليهود المعاصرين، ومن أبرزهم: (برنارد لويس).
يضيف الكتاب أنّ غاية الاستشراق الغربي واليهودي واحدة؛ فكلاهما يخدم عقيدته وكيانه السياسي على حساب العلم والحقيقة المعرفية، وغلبت عليهما القراءة العقدية اليهودية والنصرانية، وخير مثال على ذلك المستشرق اليهودي الألماني (أبراهام جايجر)، الذي اتّجه اتجاهًا عقديًّا بالأساس فحاول أن يُثبِت أنّ الإسلام مقتبس من اليهودية، وذلك في كتابه: (ماذا أخذ محمد من اليهودية؟)، وكذا المستشرق (سانت كلير تسيدال)، الذي حاول إرجاع النصوص القرآنية إلى التوراة والإنجيل، وهو ما يعني أنّ منطق الاستشراق الغربي واليهودي كان واحدًا.
كما يجمع الاستشراقَ الغربيَّ واليهوديَّ غايةٌ سياسيةٌ واحدة؛ فالاستعمار الغربي كان الابن البكر للاستشراق، وهذا الأمر لا يمكن إغفاله في الاستشراق اليهودي المعاصر الذي لا تخفى دوافعه لخدمة الكيان الصهيوني. علاوة على أنّ هذه التوأمة بين الاستشراق الغربي واليهودي تظهر في مناهجهما المعتمدة، فهي واحدة تقريبًا تنطلق من منطلقات عقدية وفكرية، وتهدف لتحقيق أهداف متقاربة سواء فكريًّا أو سياسيًّا.
وفي هذا الجزء من الكتاب يسرد مؤلِّفه أنواع الاستشراق اليهودي، وهي كالآتي:
1- (الاستشراق اليهودي)، والذي نشَأ مع البواكير الأُولى للاستشراق الغربي، وكان يهدف لغاية عقدية واضحة، بدليل استخدام منهج التأثير والتأثر في معظم كتاباته، ومن ثَمّ فإن روّاده كانوا يركّزون على البحث في أوجه التشابه بين القرآن والمصادر اليهودية والنصرانية.
2- (الاستشراق الصهيوني)، والذي نشَأ لتحقيق المطامع الصهيونية في امتلاك أرض فلسطين والسيطرة عليها، وإقامة مملكة كونية يكون فيها اليهود السادة؛ تحقيقًا لفكرة أنهم شعب الله المختار.
3- (الاستشراق الإسرائيلي)، وهو حركة علمية إسرائيلية على أساس من اللغة العبرية، يقوم بها مستشرقون يحملون الجنسية الإسرائيلية؛ خدمةً لأهداف عقدية وسياسية ومعرفية تكرّس للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ماديًّا ومعنويًّا، ومن أبرز أعلامه: (شالوم زاوي)، و(أوروي روبين)، و(مائير بر اشير)، وغيرهم من المستشرقين.
مناهج الاستشراق اليهودي ونقدها:
1- المنهج الشكّي ونقده:
رأى مؤلِّف الكتاب أنّ هذا هو المنهج الأُمّ الذي تعود إليه كلّ المناهج الاستشراقية اليهودية التي درست النصّ القرآني، واستخدمه المستشرقون اليهود للتشكيك في أصالة القرآن، وضربَ المؤلِّف المثال بالمستشرق الإسرائيلي (أوري روبين) الذي استخدم هذا المنهج في ترجمته لمعاني القرآن للعبرية، والتي لم تكن ترجمةً بل نقدًا لموضوعات قرآنية في كثير من جوانبها، ومنها محاولته ردّ القصص القرآني لمصادر يهودية ونصرانية ووثنية، وهو ما يظهر من خلال حواشي الترجمة وهوامشها.
كما رأى مؤلِّف الكتاب أنّ هذه الترجمة كانت غريبة وغير معهودة؛ حيث جمعت بين كونها تعليقات تفسيرية تقدّم مرئيات المترجم، وكونها تعليقات شارحة مكمّلة للترجمة، علاوة على احتوائها على إسقاطات لمفاهيم فكرية وسياسية معينة على الآيات القرآنية تخدم الأيديولوجيا الاستشراقية الإسرائيلية.
2- منهج التأثير والتأثر ونقده:
يقوم هذا المنهج على نفي الأصالة عن النصّ القرآني، لا سيما ما يتعلّق بقصص القرآن والزعم أنه نتيجة التأثّر بالكتب السابقة يهودية ونصرانية، وهو من المناهج الشائعة في دراسة القرآن لدى المستشرقين عامة واليهود منهم خاصّة، لكن لم يُستخدم بشكلٍ علمي نتيجة تعصّبهم واستنادهم لأفكار مُقَوْلَبة تزعُم تأثّر القرآن بالتوراة والإنجيل، وهو ما تكشف عنه الدراسات الاستشراقية الإسرائيلية المعاصرة باعتبارها امتدادًا للدراسات الاستشراقية الغربية.
يسرد مؤلِّف الكتاب بعض الشواهد على استخدام المستشرقين اليهود لهذا المنهج، ومنها اعتمادهم على التشابه الظاهري بين النصَّيْن القرآني والتوراتي، ما أدّى إلى نتائج عكسية، علاوة على استخدام المستشرقين لهذا المنهج بشكلٍ هامشي غنيّ بالقشور دون الجوهر وبالشكل دون المضمون، وبالتالي كانت نتائجه كارثية من الناحيتين العلمية والمنهجية.
ويشير مؤلِّف الكتاب إلى المستشرق الإسرائيلي (أوري روبين)، وهو من أبرز المستشرقين اليهود الذين استخدموا هذا المنهج، وهذا ما يتضح في كتابه: (بين الكتاب المقدّس والقرآن)؛ إِذْ يتطرّق لأجزاء من قصة موسى محاولًا التدليل على وجود تأثير توراتي في القصة القرآنية.
3- منهج المطابقة والمقابلة ونقده:
هو من المناهج الشائعة في الاستشراق قديمًا وحديثًا ويقوم على مقابلة النصوص بعضها ببعض ومطابقتها. ورأى مؤلِّف الكتاب أنّ أبرز مَن يمثّله من المستشرقين اليهود المعاصرين هو أوري روبين، وأنه منهج لا يخلو من تعصّب، غير أنّ الاستشراق الإسرائيلي يستخدمه لخدمة أغراض دينية وسياسية في آنٍ، تتمثّل في التشكيك في النصوص القرآنية من جانب، والقول بوجود حقوق سياسية يهودية في الأراضي المقدّسة من جانب آخر.
يضيف المؤلِّف أنّ الإشكالية الرئيسة في هذا المنهج تكمن في أنّ بعض المستشرقين لديهم قناعات راسخة وفروض متعسّفة واعتقادات شبه يقينية أنّ الإسلام نُسخة مكرّرة من الديانات السابقة، وأنّ الرسول اقتبس أغلب مبادئه وتعاليمه من الكتب المقدّسة اليهودية والنصرانية، ما يدفع المستشرق اليهودي للتنقيب عن النظائر المتشابهة بين القرآن والتوراة والإنجيل ليصبح محمد -قصرًا- مُستمِدًّا القرآن من التوراة والإنجيل.
يرى المؤلِّف أنّ هذا المنهج لا تصمد أدواته ونتائجه أمام النقد العلمي السليم وفق المعطيات العقلية والعلمية والدينية، فليس معنى وجود تشابه نتيجة مقابلة ومطابقة النصوص هو وجود اقتباس أو تأثّر، لكن يعني وجود مصدر واحد مع استقلالية وخصوصية النصّ القرآني والتي تبدو -على سبيل المثال- في اختلاف قصص القرآن عن نظيره التوراتي والإنجيلي في الغايات والأسلوب والسياق، ما يعني أن الأمر محض افتراء على النصّ القرآني نتيجة تأثّر المستشرقين بروح تعصبية شديدة.
4- المنهج الإسقاطي ونقده:
يقوم هذا المنهج على تصوّرات ذهنية في عقل المستشرق، لا وجود لها في الحقيقة، ومن ثَمّ يحاول أن يُوجِد لها سندًا بطريقة إسقاطية، وبالتالي لا يؤدي إلى طرق علمية؛ إِذْ إنه منهج تعسّفي تنتج عنه أحكام عامة لا تراعي خصائص الحضارة الإسلامية ومبادئها وخصوصيتها، وذلك عن طريق ليّ عنق النصوص وتطويعها وتفسيرها وتحليلها لتتوافق مع أحكامهم المسبقة؛ من أجل الوصول إلى نتائج افتراضية لا تتفق مع البحث العلمي النزيه.
يرى مؤلِّف الكتاب أنّ من أبرز المستشرقين اليهود المعاصرين الذين يستخدمون هذا المنهج، هو (شالوم زاوي) في كتابه: (مصادر يهودية بالقرآن)، حيث تعامَل مع النصّ القرآني تأويلًا وتفسيرًا وفهمًا بالاستناد إلى خلفيات مُسبَقة؛ بهدف إسقاط ما في نفسه على المادة التي يتناولها بالدراسة، فيحكم فيها بناء على هذا الإسقاط.
5- المنهج التحليلي ونقده:
يرى مؤلِّف الكتاب أنه رغم أن هذا المنهج يتّصف بالدقّة والموضوعية إلا أنّ استخدام المستشرقين اليهود له أبعده عن ذلك؛ بسبب تعصّبهم وأهوائهم وأفكارهم المسبقة.
يقوم هذا المنهج على تحليل القضية وتجزئتها إلى مجموعة من المكوّنات، ثم إعادة تجميعها وبناء الأفكار المستوحاة منها، إلا أنّ المستشرقين اليهود طبقوه على النصّ القرآني بشكل تعسّفي، فجعلوه مكونات وعناصر متباعدة الأجزاء ليحلوَ لهم بعدها أن يقولوا ما شاؤوا، وهو ما ظهر بشكل بارز في الاستشراق المؤسَّسي اليهودي المعاصر أو ما يُطلق عليها (خزانات التفكير)، وتعتمد على تحليل الواقع العربي السياسي والثقافي من خلال بحوث معدّة لذلك لخدمة المخطط الصهيوني.
6- المنهج التأريخي ونقده:
يستهلّ مؤلِّف الكتاب حديثه عن هذا المنهج بالقول أنّ استخدامه لدى المستشرقين كان استخدامًا منقوصًا؛ كونهم يعتمدون على بعض الروايات الثابتة تاريخيًّا، فيعمدون إلى تفسيرها حسب هواهم لإثبات شيء هم يريدونه ليُضخِّموا الحدث ثم يبنوا عليه نتائج لا يتحمّلها، كما في حادثة (ورقة بن نوفل)، أو (بحيرا الراهب)، والأغرب أنهم يركّزون على بعض الحوادث دون غيرها وبعض الروايات دون بعض، فيكون (المنهج التأريخي) لديهم منهجًا مصابًا بالعوار؛ لأنه لم يشمل كلّ الأحداث التاريخية حول القضية حيّز الدراسة.
أضاف مؤلِّف الكتاب أنّ هذا المنهج التاريخي طبَّقه (أوري روبين) من خلال طرق ومناهج (علم الإسكتالوجيا)؛ وهو علم يبحث عن لاهوت البدايات ونهاية الكون أو الأحداث الأخيرة قبل نهاية الكون على بعض الآيات القرآنية التي تتضمّن قصصًا قرآنيًّا، وتحديدًا الآيات من 103 إلى 106 من سورة الكهف: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾، في كتابه: (بين الكتاب المقدّس والقرآن)؛ إِذْ فسّر هذه الآيات على أنها تتحدّث عن الكفار باعتبارهم أكبر الخاسرين في الفِرقة الإسرائيلية، مع العلم بأنها تشير غالبًا إلى اليهود والنصارى الذين لم يستجيبوا لأوامر الإسلام وتعاليمه.
غايات الاستشراق اليهودي:
الغاية العقدية:
وَصَفَ مؤلِّف الكتاب موقف الاستشراق اليهودي المعاصر من القصص القرآني تحديدًا بـ(الـمُتربّص والتعصبي، وتغلب عليه النزعة الانتقامية)؛ وهو ما يفسّر أنّ هذا الاستشراق له نزعة عقدية واضحة، مقتبسًا قول أحد الباحثين حول الاستشراق الإسرائيلي بأنّ هدفه الأول هو هدف ديني بحت، لا ريب فيه على الإطلاق، ويتمثّل في محاولة إضعاف الإسلام وتشويهه والتشكيك في قيمه، عن طريق إثبات فضل اليهودية عليه، والزعم بأنّ اليهودية هي مصدر الإسلام الأوّل.
يذهب مؤلِّف الكتاب أيضًا إلى أنّ الآراء الاستشراقية اليهودية المنبثقة من القراءة العقدية كان لها نفوذها في الحركة الاستشراقية قاطبة، بل تحكّمت في الذهنية الاستشراقية إلى وقتنا الحالي، وأضاف أنّ هذه النزعة العقدية تنطلق أولًا لإثبات مجموعة من المعلومات السابقة التي يحاول فيها الباحث تأكيدها بشتى السبل، دون مراعاة الأدبيات ومنطلقات وأُسس المنهج العلمية؛ لتمرير قراءته الدينية ومحاولة إجبار الآخر على الانصياع لها، وكسب تعاطف وتأييد تلك العقيدة التي ينتسب إليها.
ضربَ المؤلِّف مثالًا بكتاب: (مصادر يهودية بالقرآن)، للمستشرق الإسرائيلي المعاصر (أندريه شالوم زاوي)؛ إِذْ رأى أنّ غايته العقدية التشكيكية واضحة، وتتبدّى في محاولة (زاوي) مقارنة سورة الفاتحة وآيات من سورة البقرة بكتب اليهود الدينية، زاعمًا أنّ ما جاء في القرآن مأخوذ عن هذه الكتب؛ لمجرّد وجود بعض التشابه أحيانًا في بعض الآيات، إضافةً إلى عدم الاعتراف بوحيانية آيات القرآن؛ وهو ما يمثّل محاولة منه للانتصار العقدي لديانته اليهودية.
الغاية السياسية:
أمّا عن الغاية السياسية في كتابات الاستشراق اليهودي المعاصر، فقد أشار مؤلِّف الكتاب إلى أنها تتضح أكثر في إنتاج المراكز البحثية الإسرائيلية أو حتى اليهودية حول العالم، وما يتعلق بها من توجّهات المستشرقين الذين يسعون لتنفيذ مخطط صهيوني عالمي.
ضربَ المؤلِّف مثالًا بالمستشرق الإسرائيلي (أوري روبين) وترجمته معاني القرآن الكريم للعبرية، والتي رأى أنها تشويهٌ لمعانيه لهدف سياسي يخدم أغراض دولته المحتلة، أكثر من كونها لأغراض علمية، معتبرًا أن ترجمة (روبين) بكاملها عنوانها الرئيس هو خدمة السياسة الإسرائيلية، وتلميع صورة الكيان المحتل أمام العالم، وإظهار الإسلام في صورة الدين المُعتدي الذي جاء لهلاك العالم بمفاهيم الجهاد والقتال التي يحتويها.
استشهد المؤلِّف بقول أحد الباحثين بأنّ (الاستشراق الإسرائيلي تميّز بغلبة الطابع السياسي عليه، حيث إنّ معظم اهتماماته وموضوعاته التي تناولها بالدراسة كانت سياسية وحتى الدينية واللغوية منها أو الأدبية أو التاريخية تم استخدامها وتطويعها لخدمة أغراض سياسية).
أكّد المؤلِّف على أنّ الغاية السياسية كانت محركًا في كثير من الأحيان لبعض مترجمي القرآن، على نحو معيّن، يخدم ميولهم السياسية وهو ما ظهر عند (روبين) الذي حاول الترسيخ للكيان الإسرائيلي من خلال شرعنة وجوده، وفي سبيل ذلك راح (روبين) يتلاعب بلغة القرآن ويُفسّرها تفسيرًا يخدم كيانه السياسي المنتمي له، لا سيما في الآيات التي تتعلق باستحقاقية الوجود على الأرض، ومنها ترجمته للآية 21 من سورة المائدة: ﴿يَـا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـاسِرِينَ﴾، والتي ترجمها (روبين) بشكل يخدم أهدافه السياسية وليس بما يخدم الترجمة ذاتها؛ فقد علَّق في الحاشية على الآية قائلًا: «إنّ هذه الأرض هي التي وعدها لهم الله»، وهذه الترجمة التفسيرية التي يقدّمها (روبين) تُبنى على مغالطة واضحة؛ لأنّ معنى الآية هنا هو: (ادخلوا الأرض التي فرض الله تعالى عليكم دخولها).
الغاية الثقافية:
رأى مؤلِّف الكتاب أن هناك غاية ثقافية في كتابات الاستشراق اليهودي المعاصر، وهي تلك التي تبحث عن قنوات اتصال بين الإسلام والكتب السابقة من خلال النصّ القرآني أو مجال من مجالات العلوم الإسلامية كالتاريخ والتصوّف، وقسَّم هذه الغاية إلى نوعين؛ الأول: ثقافية غير خالصة، كونها تختلط بأهداف عقدية أو سياسية من قِبَل المستشرق. والثاني: قراءة ثقافية خالصة، وهي التي لا تختلط بأيّة أهداف أيًّا كان نوعها باستنثاء الهدف الثقافي، والتي تنظر للقصص القرآني، على سبيل المثال، على أنه من مصدر واحد، ومِن ثم تعمد إلى تثقيف القارئ -أيًّا كانت جنسيته- بحقيقة القضايا القرآنية وأهدافها السامية.
وفقًا لمؤلِّف الكتاب فإنّ بعض المستشرقين اليهود المعاصرين درسوا القصص القرآني في سياق عملية التبادل الثقافي والحضاري بين المسلمين واليهود في العصور الوسطى، وهو ما ظهر عند المستشرقة الإسرائيلية حافا لازروس يافيه، والتي عمدت إلى إبراز تأثير تفسير بعض القصص القرآني أو تفسير أسماء بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في القرآن، ومن أبرزها (عُزير)، على اتجاهات ومدارس نقد العهد القديم اليهودية في فترة العصور الوسطي، وما ينسحب على ذلك من وجود حالة تبادل ثقافي وحضاري وديني بين اليهود والمسلمين خلال هذه الحقبة التاريخية.
مواجهة الاستشراق اليهودي المؤسّسي:
أشار مؤلِّف الكتاب إلى أن الاستشراق اليهودي المعاصر يقوم بالأساس على مراكز البحوث والدراسات، وهذه المراكز البحثية التي تهتم بدراسة العرب والمسلمين لمرامٍ عقدية وسياسية بالأساس، هي العلامة المميزة لهذا النوع من الاستشراق، وهي المراكز التي تمدّ كيانها السياسي بمعلومات وتُبلور له المواقف والقرارات.
صَنَّف مؤلِّف الكتاب هذه المراكز البحثية إلى أربعة اتجاهات، وهي:
1- مراكز تُعنى بالشؤون الداخلية الإسرائيلية، مثل: (المعهد الإسرائيلي للديمقراطية).
2- مراكز تُعنى بالأمن الإستراتيجي، مثل: (معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي).
3- مراكز تُعنى بالمجتمع الإسرائيلي والفلسطينيين في الداخل، مثل: (معهد فان لير) بالقدس المحتلة.
4- مراكز تُعنى بدراسة إسرائيل والشرق الأوسط وإفريقيا، مثل: (مركز موشيه ديان).
انطلاقًا من ذلك، يرى مؤلِّف الكتاب أن الاستشراق الإسرائيلي المعاصر يقوم على الاستشراق اليهودي ويؤطره في إطار علمي ورسمي، من خلال مجموعة من معاهد الأبحاث والدراسات المرتبطة بالجامعات الإسرائيلية ومجموعة الدوائر البحثية العاملة في الوزارات.
سردَ مؤلِّف الكتاب عدّة سبل لمواجهة هذه المراكز البحثية الاستشراقية الإسرائيلية؛ وأوّلها إنشاء المراكز البحثية العربية والإسلامية التي تواجه هذه المراكز الإسرائيلية وتعمل على تفنيد آرائها والردّ عليها بالدليل العقلي والمعرفي فضلًا عن الدليل العقدي الديني، حيث إنّ هذا يضمن لنا تحجيم دور هذه المراكز وتأثيرها في الفكر الغربي المعاصر، كما يضمن لنا فهم نواياها ومخطّطاتها المستقبلية.
كما يجب أن يتكاتف العلماء والمفكّرون على تدشين علمٍ جديد معاصر على غرار علم الكلام، يدافع عن الإسلام قرآنًا وسُنّة وعن العلوم والتاريخ الإسلامي، ويَذُود عنه ويردّ الشبهات والأباطيل التي تطرحها هذه المراكز الاستشراقية الإسرائيلية، على أن تتمحور موضوعات هذا العلم حول تفنيد الشبهات والأباطيل التي تطرحها هذه المراكز، وبيان الرأي الصحيح إسلاميًّا ونقد العقائد والآراء المخالفة.
خلاصات الكتاب:
اختُتم الكتاب بسرد عدّة خلاصات ونتائج توصَّل إليها؛ أولها: أنّ الاستشراق اليهودي المعاصر هو ربيب الاستشراق اليهودي القديم، كما أنه الابن الـمُدلَّل للاستشراق الغربي منذ أن نشأ في كنفه وشرب من مَعينه، وأنّ الاستشراق اليهودي حلقة من حلقات الصراع الغربي اليهودي الإسلامي؛ ذلك أنه واحد من المخطّطات التي اختطها الغرب للقضاء على الإسلام.
خلص الكتاب كذلك إلى مرور الاستشراق اليهودي بثلاث مراحل؛ هي: الاستشراق اليهودي القديم، والاستشراق الصهيوني، والاستشراق الإسرائيلي. لكنها مراحل متداخلة بعض الشيء نتيجة الخصائص التي تجمعها، وكذا نتيجة بعض الأشخاص الذين مارسوا الاستشراق فيها، مثل: (برنارد لويس)، الذي عاش مراحل الاستشراق اليهودي الثلاث.
كشف الكتاب كذلك عن المناهج غير العلمية التي يستخدمها الاستشراق اليهودي المعاصر؛ إذ استخدمها بطريقة شخصانية وغير علمية خرجت بها عن السياق المنهجي ومالت إلى سياق فوضوي مُضلِّل، واختلطت بها غايات عقدية وسياسية وثقافية.
كما رأى مؤلِّف الكتاب أنّ أخطر ما توصَّل إليه من نتائج هي بيان الخطورة الناتجة عن مراكز الأبحاث الاستشراقية الإسرائيلية، لا سيما وأنها وضعت الاستشراق في إطار مؤسَّسي سواء حكومي أو غير حكومي، وهو ما اتضح من خلال الوقوف على طبيعة هذه المراكز وبيان اهتماماتها وإنتاجها المختلف.
خاتمة:
في ختام هذا العرض للكتاب المذكور، فنشير إلى تقديمنا له بالإشارة إلى أهمية الاستشراق اليهودي المعاصر وبيان علاقته بالاستشراق الغربي وتأثيره فيه، ثم استعرَضْنا أهم بيانات الكتاب من حيث مؤلِّفه ومكان وسَنَة وجِهة نَشْره. كما استعرَضْنا بإيجاز أهمّ محتويات الكتاب، التي تمحورت حول نقد مناهج الاستشراق اليهودي المعاصر، وكذا نقد غاياته، علاوة على استعراض أهم المؤسّسات المعنية بالاستشراق داخل إسرائيل.
كما عرَّجنا على أهداف الكتاب، والتي في مقدّمتها ما اعتبره مؤلِّفه فَضْحَ الاستشراق اليهودي المعاصر، ونقده النقد العلمي الموضوعي، والكشف عن مناهجه وغاياته ونقدها. علاوة على ذلك، أشرنا إلى أهمية الكتاب المتمثّلة في إلقاء الضوء على واحدة من أهمّ وأخطر المدارس الاستشراقية المعاصرة؛ لاتّسامها بالعدائية الشديدة للإسلام ومصادره.
أمّا الأفكار المركزية للكتاب فقد حصرناها في: (الاستشراق اليهودي وعلاقته بالاستشراق الغربي)؛ إِذْ أشار مؤلِّف الكتاب إلى أن هذه العلاقة بينهما قائمة حتى الآن ومدفوعة بمصالح سياسية عالمية. وكذا: (مناهج الاستشراق اليهودي)، ومن أبرزها منهج التأثير والتأثر الذي يقوم على نفي الأصالة عن النصّ القرآني، والزعم بأنّ ذلك نتيجة التأثّر بالكتب السابقة؛ اليهودية والنصرانية.
بالنسبة لغايات الاستشراق اليهودي، فكان من أبرزها الغاية العقدية؛ إِذْ رأى مؤلِّف الكتاب أنّ الاستشراق اليهودي المعاصر له موقف متربص وتعصّبي، وتغلب عليه النزعة الانتقامية من القرآن، وبالتالي فإنّ هدف هذا الاستشراق هو هدف ديني بحت يتمثل في إضعاف الإسلام وتشويهه والتشكيك في قيمه، عن طريق إثبات فضل اليهودية عليه، والزعم بأن اليهودية هي مصدر الإسلام الأوّل.
ونظرًا لأنّ الاستشراق اليهودي المعاصر يقوم على مراكز بحوث ودراسات، فقد أفرد مؤلِّف الكتاب جزءًا لمواجهة الفكر الاستشراقي الصادر من هذه المؤسّسات، وقد صنّفها إلى أربعة اتجاهات؛ منها التي تُعنى بالشؤون الداخلية، ومنها ما يعنى بالأمن الإستراتيجي، ومنها ما يُعنى بالمجتمع الإسرائيلي والفلسطينيين بالداخل، وكذا ما يُعنى بدراسة إسرائيل والشرق الأوسط وإفريقيا.
ورأى مؤلِّف الكتاب أن من سُبل مواجهة هذه المراكز إنشاءَ المراكز البحثية والعربية والإسلامية التي تواجه هذه المراكز، وتعمل على تفنيد آرائها والردّ عليها بالدليل العقلي والمعرفي فضلًا عن الدليل العقدي الديني، وكذا تكاتُف العلماء والمفكرين على تدشين علمٍ جديد معاصر على غرار علم الكلام، يدافع عن الإسلام قرآنًا وسُنَّة وعن العلوم والتاريخ الإسلامي ويذود عنه ويردّ الشبهات والأباطيل التي تطرحها هذه المراكز الاستشراقية الإسرائيلية، على أن تتمحور موضوعات هذا العلم حول تفنيد الشبهات والأباطيل التي تطرحها هذه المراكز، وبيان الرأي الصحيح إسلاميًّا ونقد العقائد والآراء المخالفة.
[1] الكتاب من تأليف: د/ محمود كيشانة، ونشره مركز براتا للدراسات والبحوث، بغداد/ بيروت، عام 2024، ويقع في 177 صفحة.