القرآن، ومصادر التأريخ لبدايات الإسلام
في الدرس الاستشراقي
قراءة في كتاب «تأسيس الإسلام» لـ"بريمار"
شهدت الكتابة عن تاريخ الإسلام -وخصوصًا تاريخ بداياته وتاريخ تدوين القرآن- نقاشات موسعة في العقود القليلة الأخيرة، وهذا نتاج تَبلْوُر ما بات يُعرف بين الباحثين بـ(الاتجاه التنقيحي)[1] وبروزه على ساحة الدرس الاستشراقي المعاصر، وما طرحه هذا الاتجاه من استشكالات منهجيّة واسعة على المصادر التاريخية الإسلامية (السِّيَر، كتب التاريخ، كتب المصاحف)، فقد شكّك أعلام هذا الاتجاه في مدى مصداقية رواية هذه المصادر التاريخية الإسلامية عن (تاريخ الإسلام) و(تاريخ القرآن)، وقاموا بطرح عددٍ من المفاهيم المستقاة غالبًا من دراسات العهدَيْن: القديم، والجديد، مثل: (تاريخ الخلاص)، أو (قصص مقدسة من عيار رائع)؛ ليصفوا بها هذا (التأريخ الإسلامي)؛ مما أدى إلى مَوْضَعَتِه في مرتبة دنيا في سُلّم المعرفة التاريخية؛ وأضعف تمامًا من القيمة التاريخية لتلك المصادر الأساسية التي ظلّ (الاستشراق الكلاسيكي) يعتمد عليها طيلة قرنٍ كاملٍ من الكتابة عن تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن[2].
هذا التشكيك الجذري في المصادر الإسلامية جعل الباحثين الغربيين المعاصرين -أثناء محاولتهم بناء ملامح واضحة لتاريخ الإسلام وتاريخ القرآن- في وضعية جديدة لم يعرفها سابقوهم (المستشرقون الكلاسيكيون)، (الوصفيون)، أو حتى (النقديون) وفقًا لتقسيم (حياة عمامو)، والذين ظلوا على ثقة كبيرة في هذه المصادر[3]، وما يعقّد هذه الوضعية[4] ويجعلها صعوبة رئيسة أمام مقاربة القرآن وتاريخه، هو أن البدائل التي طرحها هذا الاتجاه أمام الباحثين، أي المصادر غير العربية المعاصرة لقرون بدايات الإسلام (السيريانية، والأرمنية، والقبطية، والإغريقية)، أو الأدلة المادية مثل النقوش والعملات، قليلةٌ بما لا يسمح ببناء سردية متماسكة حول هذا التاريخ أو حتى ما يقرب من هذا؛ مما جعل بعض التنقيحيين يصف الكتابة عن مساحات هذا التاريخ جرّاء هذه الإكراهات المنهجية المستجدة بالاستحالة[5].
والمستشرق الفرنسي ألفريد لويس دي بريمار هو أحد أهم الأسماء على ساحة الدرس المعاصر لتاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، وهو بطبيعة اهتمامه ينتج أعماله في هذا الحقل المعرفي في هذه الوضعية الجديدة التي أشرنا إليها لتوِّنا، أي: وضعية (ما بعد بروز الاتجاه التنقيحي) بتشكيكها في المصادر الأساسية لكتابة التاريخ الإسلامي وبالأخص لكتابة تاريخ القرآن[6]؛ لذا فإننا نجده في كتاباته يستعرض دومًا تلك الوضعية الجديدة، ويتناول هذه الإكراهات المنهجية المستجدة التي طرحتها هذه الانعطافة على الباحث الغربي[7]، كما يستعرض ويشتبك مع خيارات الباحثين في بنائهم سردية متماسكة حول التاريخ الإسلامي، وحول سيرة النبي، وحول تاريخ القرآن، في ظلّ هذا التعقيد المزدوج الذي ذكرنا: التشكيك في المصادر الإسلامية من جهة، وقلّة المصادر غير العربية والأدلة المادية الصلبة كالنقوش والعملات من جهة أخرى.
وهذا يجعل كتابات بريمار -والتي تحاول بناء ملامح عامّة للتاريخ الإسلامي ولتاريخ القرآن- نقاشًا مطولًا نظريًّا (منهجيًّا) وتطبيقيًّا مع رموز وأعلام الاتجاه التنقيحي، وكذا مع مختلف استجابات الباحثين الغربيين للإكراهات التي فرضها هذا الاتجاه.
ومن بين كتابات بريمار التي تتناول في معظمها التأريخ للقرآن ولبدايات الإسلام، كتابه «تأسيس الإسلام بين الرسالة والتاريخ» والذي كانت له أهمية خاصّة؛ حيث إن هذا الكتاب لا يحاول رسم ملامح عامة لتاريخ الإسلام فحسب، بل يتخطى هذا إلى محاولة اكتشاف كيفية (بناء هذا التاريخ) سواء في المصادر الإسلامية أو في المصادر غير العربية، وما يترتب على هذا من إمكانية الاعتماد علي هذه المصادر وكذا كيفية هذا الاعتماد، وهي النقاط المنهجية ذات الأهمية الخاصة في سياق الجدل الدائر حول التأريخ للإسلام أو للقرآن، كما سنوضح في ثنايا تناولنا للكتاب في هذه المقالة.
وتأتي أهمية هذا الكتاب لباحث الدراسات القرآنية من أكثر من جهة؛ فمن الجهة الأولى فإن نقاشات بريمار للبناء المنهجي للتنقيحيين وطريقة استخدامهم للمصادر العربية وغير العربية، مرتبط ارتباطًا وثيقًا ومبدئيًّا بتاريخ القرآن، حيث -وكما سنوضح تفصيلًا- إنّ هذا الاتجاه وما أسفر عنه من رؤى وفرضيات ومناهج نشأ أصلًا من التشكيك في التأريخ التقليدي لتاريخ القرآن. من جهةٍ ثانية فإن هذا الاتجاه يحاول رسم تاريخ جديد للقرآن معتمدًا على مصادر بديلة، ويناقش بريمار طيلة كتابه طريقة الاستناد إلى هذه المصادر ومدى قدرتها على كتابة هذا التاريخ. ومن جهةٍ ثالثة فإن ثمة عددًا من المساحات المهمّة والقضايا والمفاهيم الرئيسة المثارة على ساحة الدرس الاستشراقي المعاصر التي اشتغل عليها بريمار في كتابه لها تعلق أصيل بالدراسات القرآنية كما سنوضح، كلّ هذا يجعل كتاب بريمار في صلب اهتمام باحث الدراسات القرآنية رغم اتساعه وشموله لمساحات ربما يظنّ بداية ألَّا علاقة لها بهذا الحقل، فعبر هذه النقاشات المنهجية والتطبيقية التي يثيرها بريمار فإنه يكثّف النقاش حول الدرس الغربي المعاصر للقرآن في بُعده النظري وفي بُعده التطبيقي وكذا في علاقته بغيره من القضايا المهمّة المثارة على ساحة هذا الدرس.
ومن خلال ما ذكرنا تظهر أهميةٌ خاصّةٌ لكتاب بريمار؛ حيث إنه مفيدٌ جدًّا لكلّ مهتم بالمثاقفة مع "الاتجاه التنقيحي" وما أثاره على ساحة الدرس الاستشراقي من تشكيكات، فَعَبْرَ هذه النقاشات المنهجية والتطبيقية مع مختلف الباحثين الغربيين التي يثيرها بريمار فإنه يتشابك مع طروحات هذا الاتجاه في بُعديه النظري والتطبيقي، فيفيد في التعرف على إشكالاته وثغراته المنهجية، لا سيما وأن الاتجاه التنقيحي شكّك جذريًّا في المصادر الإسلامية وحاول طرح مصادرَ بديلة عنها وهو ما ناقشه بريمار نقاشًا مطولًا.
ومن هاهنا فإن التعرف على هذا الكتاب وبيان أسسه المنهجية في مناقشة الاتجاه التقيحي أمرٌ مهم جدًّا في فتح نقاش عربي إسلامي نفتقده بشدّة حول هذا الاتجاه.
ونحن في هذا المقال سنجتهد أن يكون نقاشنا الأكبر هادفًا إلى الوصول إلى الأسس النظرية والمنهجية التي يقوم عليها كتاب بريمار، والتي تبرز من خلال نقاشاته مع مختلف الباحثين الغربيين المقاربين لتاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، وكذا من خلال تطبيقاته منهجه على مساحات التاريخ الإسلامي، وسنركز اشتغالنا في الجانب التطبيقي على تطبيقاته على مساحة تاريخ القرآن وعلى تلك المساحات ذات التعلق الأصيل منهجيًّا ومفاهيميًّا بهذا التاريخ، والتي يتكثف فيها أبعاد درس القرآن في الواقع الغربي.
التعريف بالكاتب:
ألفريد لويس دي بريمار (1930م- 2006م) مؤرخ فرنسي، متخصص في اللغة والثقافة العربية وتاريخ الإسلام، وأستاذ فخري بجامعة إكس أون بروفانس- مارسيليا، وباحث ومعلم في معهد الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والإسلامي (IREMAM)، وقد قضى بريمار طفولته في المغرب، وتعلّم اللغة العربية ودرس آدابها في معهد الدراسات العليا المغربية وفي جامعة محمد الخامس، ومنذ عام 1963م وإلى عام 1965م تم الترحيب به في معهد الآباء الدومنيكان بالقاهرة، اهتمامه الأساس بالتاريخ العربي الإسلامي، وقد درس في جامعات عربية مثل جامعة قسنطينة (الجزائر)، والرباط (المغرب)، وقد أَوْلى جزءًا كبيرًا من اهتمامه أثناء تدريسه في جامعة إكس أون بروفانس ببدايات الإسلام والسيرة النبوية وتاريخ القرآن، من أشهر كتبه: كتاب (تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ) الذي نقدّم هذه القراءة له، وقد توفي بريمار عام 2006م.
أقسام الكتاب:
كتاب بريمار صدر في أصله الفرنسي عام 2002م، وقد ترجم للعربية، ترجمه: عيسى محاسبي، وصدر عن دار الساقي عام 2009م، والكتاب مقسم إلى: تمهيد، وثلاثة أقسام. التمهيد بعنوان: (حول الكتابة والتاريخ)، وهو التمهيد النظري الذي يعرض فيه بريمار القضايا المنهجية التي أثارها الاتجاه التنقيحي، ويناقش تلك الإكراهات المنهجية التي تواجه الباحثين في هذه الوضعية الجديدة، وخياراتهم تجاه هذه الإكراهات، ويشتبك مع بعض الطروحات النظرية (مثل طروحات وانسبرو[8] وجاكلين شابي[9] وغيرهم) في هذا السياق.
ثم يبدأ قسمه الأول بعنوان: (من التجارة إلى الفتح)، ويتناول فيه التجارة العربية عشية الإسلام، من خلال إخباريات القرن السابع الميلادي.
ويتناول القسم الثاني أخبار الفاتحين العرب، منذ دخول يثرب، ويتناول حروب الردّة وفتوحات تبوك وغزوة مؤتة، وهذا عبر مزاوجة بين المصادر العربية وغير العربية، ويركز بالذات على فتح غزة ثم بيت المقدس، ويركز في هذه المساحات على المصادر الخارجية ورواياتهم عن الفاتحين ومدى معرفتهم بالنبي وبالخلفاء خصوصًا عمر بن الخطاب.
أما القسم الثالث فيتناول الكتابة، وهو يستعرض تاريخ الكتابة العربية ومراحل تطور الخط؛ ليصل إلى جمع القرآن وكتابة الحديث ونقش النقوش وسكّ العملات، وهذا هو القسم الذي يتناول فيه تاريخ القرآن وتدوينه.
منهجية بريمار في التعامل مع المصادر، والاحترازان: الكيفي، والكمي:
يتركز جزءٌ كبيرٌ من أهمية الكتاب في تمهيده المعنون بـ(بين الكتابة والتاريخ)[10]، حيث يأتي هذا التمهيد بمثابة المقدمة النظرية التي توضح منهج سَيْر بريمار طوال كتابه، حيث لا يكون بقية الكتاب إلا تطبيقًا عمليًّا لهذه الأسس النظرية المنهجية على عددٍ واسعٍ من المساحات للخروج بنتائج حول تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، وكذا حول طريقة بناء هذا التاريخ والتأريخ له من قِبَلِ المصادر الإسلامية وغيرها من المصادر غير العربية كذلك.
ففي هذه المقدمة يبني بريمار ملامح منهجه القائم على ما سنسمّيه بـ(الاحترازين الكيفي والكمي) عبر إثارة نقاش شديد الجودة والأهمية، سيستمر طيلة الكتاب حول المصادر العربية وغير العربية، ومدى قدرة الباحث الغربي الاعتماد عليها في التأريخ للإسلام وللقرآن، حيث يقوم بريمار هنا بإظهار مدى تعقّد الحكم على المصادر العربية (حتى المتأخر منها عن القرن السابع الميلادي)، وغير العربية (حتى المعاصر منها للقرن السابع الميلادي)، والذي ينبني عليه مدى صعوبة الأحكام الكاملة حول الاستفادة من هذه المصادر أو عدمها.
فبالنسبة للمصادر العربية، فإننا نجد أن بريمار لا يقبل بهذا التبسيط الذي تنطوي عليه الأحكام العامة عن التأريخ الإسلامي، أي النظر له باعتباره كما يقول وانسبرو: «تاريخ خلاص»، أو كما تقول جاكلين شابي: «قصص مقدّس من عيار رائع» يجعلنا نعتبر الثقة فيه مستحيلة، حيث يرى بريمار في المقابل أن مؤرخي الإسلام العرب كان يحدوهم كذلك هَمُّ الحقيقة والتوثيق، «فالروايات ذات المقصد الديني والتي تشكّل (تاريخ الخلاص) أبعد ما تكون عن التغطية الكاملة لحقل الإنتاج الأدبي ذي الهدف التاريخي؛ فكثير من المرويات والمعلومات الأخرى يمكن أن تكشف لنا عن وجود فضول معرفي حقيقي لدى الناقلين، فالسيرة الشائعة لنبي الإسلام حتى لو كانت تضغط بكلّ ثقلها على الإنتاج الكتابي الخاصّ بتلك الفترة ليست هي الفضاء الوحيد الذي يتحرك فيه ناقلوا الأخبار والروايات»[11]، ولعلّ هذا التعليق الطويل من بريمار والذي يقول بأن: «كتابه بأكمله سيكون محاولة للبرهنة عليه»، يذكرنا بما قال المستشرق الألماني شتيفان فيلد حول أن الرفض التام لهذه المصادر العربية يستلزم أولًا إقناعنا بأنها (كاملة) مجرد تزييف وَرِعٍ[12]، حيث لا يمكن ببساطة اعتبار وجود سياقات خاصة لنشأة بعض هذه النصوص أو إكراهات مؤثرة على إنتاجها بالجملة -سببًا كافيًا في نفي أية حقيقة تاريخية لما ترويه[13].
أما بالنسبة للمصادر غير العربية، فإنّ بريمار كذلك يشكّك في كونها طوق نجاة للباحث بعد أن تخلّى عن المصادر العربية كما يصور بعض الباحثين، لا بسبب قلّتها وعدم كفايتها لإطلاق أحكام موثوقة متماسكة ذات اتساع وشمول معقول حول تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن فحسب، بل كذا -والأهمّ- بسبب أنها ليست كتابات ذات غرض وحيد هو كتابة التاريخ، فكتابة التاريخ ليست «الفضاء الوحيد الذي يتحرك فيه كاتبو هذه الأخبار» كما يعبر بريمار، بل ثمة سياقات أخرى، أيدولوجية ودينية وسياسية، تحكم نشأة هذه النصوص وتشكّل فضاءً لحركة كاتبيها، بل إنّ بعضها يعدّ -كما يمكن أن نعبّر لبلورة تعليقات بريمار- «استدخالًا تأويليًّا» للتجربة الإسلامية المعاشة في فعل الفتوحات الذي شاهده هؤلاء الكُتّاب غير العرب ضمن رواية الكِتاب المقدّس للتاريخ -كما سنوضح تطبيقيًّا بعد قليل-، وهذا يفقد كثيرًا من أخبار هذه المصادر الموثوقية التاريخية المباشرة التي يتسرع بعضهم بمنحها إيّاها، دون التفات إلى طريقة بناء هذه النصوص، خصوصًا في مساحات دينية بل و(خلاصية) تمامًا خَطّتها أقلام قساوسة وأحبار أحيانًا، وليس فحسب إخباريين.
وبهذا فإن بريمار وإن كان لا يعارض طروحات التنقيحيين تمامًا؛ حيث -على الأقل- ينطلق من نفس التشكيك في المصادر العربية بسبب تأخُّر تدوينها، إلا أن استفادته من الانعطافة التي أحدثها هذا الاتجاه تظل (استفادة حذرة) تدرك الإشكالات المنهجية الكامنة في التعميمات الكبرى حول تقاليد تأريخية طويلة ومتنوعة ومتراكبة.
ويبرز هذا الحذر بوضوح في تركيز بريمار على طريقة بناء النصوص وسياقات تشكّلها، مما يمكن التعبير عنه بكونه (احتراز كيفي) يدقّق منهجية التعامل مع المصادر بتعميق النظر في طريقة بنائها، كما أنه يحاول دومًا توسيع رقعة البحث؛ حتى لا يطلق تعميمات بتأخّر بعض الأحداث عن تاريخها في المدونات التقليدية وفقًا لبحث في قليلٍ جدًّا من المصادر، وهذا يمكن التعبير عنه بـ(الاحتراز الكمي) الذي يدقق منهجية التعامل مع المصادر غير العربية بتوسعة رقعة البحث عنها، بهذين الاحترازين[14]: التعميق، والتوسعة -واللذَين يمكن تجريدهما من نقاشاته التفصيلية في المقدمة- يواجه بريمار المصادر العربية وغير العربية من أجل بناء بعض الملامح -ولو العامة- حول تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن.
أهم المسائل على ساحة الاستشراق المعاصر من خلال منهجية بريمار:
من أهم هذه الموضوعات المطروحة حاليًا على ساحة الدرس الاستشراقي للإسلام والمتصلة تمامًا بتاريخ القرآن، هي مسائل: (هوية المسلمين الأوائل)، حقيقة (وجود النبي) التاريخية، حقيقة بروز (هويته كنبيّ منذ بداية الإسلام)، (نشأة التقويم الهجري)؛ فهذه القضايا نشأَتْ بالأساس من التشكيك التنقيحي في تاريخ القرآن ومصادره، وكيفية تدوينه، وعلاقته بالمسلمين الأوائل.
فبينما ظلّ (الاستشراق الكلاسيكي) -وحتى مع ازدياد الشك في المصادر الإسلامية وفي موثوقيتها- يعتمد القرآنَ ذاتَهُ كمصدر لكتابة تاريخ النبي وتاريخ بدايات الإسلام، فقد كان الحديثُ عن نُبوَّة النبي وعن هجرته، وعن هوية المسلمين الأوائل واختلافِهم الحاسم والمبدئي عن اليهود والنصارى والوثنيين -أمرًا منتهيًا لا يعرف عميق اختلاف، لكن مع التشكيك التنقيحي في تاريخ القرآن ذاته أصبحت تلك المرتكزات الرئيسة لتاريخ الإسلام والتي تعطي الهوية الخاصة للقرآن كـ(كتاب المسلمين الذي جاء به محمد) في مهبّ الريح[15]؛ لذا في مواجهة «غياب المصادر الموثوقة» -المفترض هذا- تم اقتراح تأخُّر بلورة هوية (المسلمين) في مقابل الجماعات الدينية الأخرى (نصارى، ويهود، ووثنيين)، وبالتالي تأخُّر إضفاء النُّبوَّة على محمد، وكذا تأخُّر إضفاء صفة الكتاب الخاصّ على القرآن -إلى حدود القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، وفي هذا الفراغ المفروض والمصنوع بفعل التشكيك الجذري تم اللجوء إلى مصادر أجنبية ثانوية ومجتزأة لإعادة تركيب هذا التاريخ؛ مما أدى في الأخير إلى بروز فرضيات مستغربة حول تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، من أهم هذه الفرضيات: افتراض وانسبرو القرآن عبارة عن مجموعة نصوص جمعت على مسيرة عقود طويلة من نصوص يهودية ومسيحية لتتحول في النهاية إلى كتاب خاصّ (قرآن) في سياق محاولة المسلمين إيجاد هوية خاصّة تفصلهم عن المسيحيين واليهود، وافتراض لكسنبرج القرآن نصًّا معرَّبًا لنصّ أصلي سيرياني آرامي كان عبارة عن كتاب صلوات مسيحية كان يستخدمها مسيحيو العرب في شعائرهم الدينية[16].
هذا يعني أنّ كلّ نقاش في كلّ قضية من هذه القضايا التي أصبحت قضايا أساسية مطروحة على ساحة الدرس الاستشراقي المعاصر، هو نقاش متصل اتصالًا وثيقًا بتاريخ القرآن وبمصادر تأريخه، وبمدى موثوقية الرواية الإسلامية حول جمعه وتدوينه، سواء في قيامها على أساس التشكيك فيه، أو فيما تسفر عنه من نتائج تتعلق بتصوّر جديد لهذا التاريخ.
ونحن نستطيع أن نطالع ملامحَ المنهج الذي يتبعه بريمار، والذي بدأ الإشارة لملامحه في تمهيده. والميزتان الكبيرتان اللتان يتميز بهما: تركيزه على الطريقة التي تُبنى بها هذه المصادر والتي تعدّ معيارًا في الحكم على قبول الأخبار ومصداقيتها، وتركيزه على توسعة البحث في المصادر فيما عبّرنا عنه بالاحترازَين: الكيفي، والكمي لمنهجية التعامل مع المصادر في كلّ قضية من هذه القضايا الرئيسة والمهمّة.
ولعلّ أبرز موضع يظهر فيه ملامح منهجه والمزايا الخاصّة التي توفّرها ركائزه هو تحليله لهذا الموضوع المهم في أطروحات بعض التنقيحيين، حتى إنه صار عنوانًا لكتاب لبعض أعلامهم، وهو موضوع تعريف المسلمين لأنفسهم في حدود نصف القرن السابع الميلادي (الأول الهجري)، حيث ورغم أن بريمار يميل لعدم وضوح تسمية المسلمين في وصف الجماعات المسلمة الأولى -على الأقل في كتابات غير العرب-، إلا أنه يختلف مع الطرح القائل بأن المسلمين كانوا يسمَّون بدايةً بـ(الهاجريين) نسبة إلى (هاجر)، والذي يدخل في سياق اعتبار أن هذه الجماعات كان لها هوية دينية يهودية أو مسيحية قبل بزوغ هوية إسلامية منفصلة لاحقة، وهو الطرح الذي بلغ أوجّه مع باتريشيا كرون ومايكل كوك في كتابهما (الهاجريزم)[17]، وإن كان يتلاقى مع طروحات غيرهم من الباحثين، ويُبنى عليه كون القرآن كان -غالبًا- نصوصًا مسيحية ويهودية لطائفة لم تكن قد انفصلت بهوية خاصة بعدُ كما ذكرنا بالأعلى.
ويعتمد هذا الطرح بالأساس على بعض المصادر غير العربية التي كانت تستخدم هذا الاسم في وصف الفاتحين العرب إلى جانب أسماء أخرى مثل (سارسين)، (طايين)، ولم تكن تستخدم اسم المسلمين الذي ظهر في بعض المصادر غير العربية في مرحلة متأخرة[18]، ويكمن خلاف بريمار مع هذا الطرح في كونه ينطلق مما تقوله هذه المصادر مباشرة كأنه تأريخ مباشر ومجرد للأحداث يتحرك في فضاء وحيد هو فضاء التوثيق التاريخي[19]، وهو ما لا يقبله بريمار بتفعليه (احترازه الكيفي) وتنبهه لسياقات تشكّل هذه النصوص وبحثه وتحليله لطريقة بنائها؛ لذا فإننا نجده -وعلى عكس هؤلاء- يتمهّل في تفسير ورود هذا الاسم كوصف للمسلمين في هذه المصادر -المعاصرة لتاريخ النبي وفقًا للتورخة التقليدية[20]-، فيعتبر أن المسلمين الأوائل كانوا يسمون بالمهاجرين (مهاجراي)؛ كونهم «هاجروا في سبيل الله»، وكذا لما يحمله هذا اللقب ذاته من دلالة حيث يشير لـ«من هاجروا مع النبي إلى يثرب»، وكانوا يسمّون في بعض النصوص غير العربية، مثل نصوص سيباوس الأرمني مؤلِّف الإخباريات المعاصر للفتح الإسلامي بالـ(هاقاراش)، أو (إسماعيليين)، أو (أبناء إسماعيل)، ويرى أن تحويل الاسم للـ"Agarenoi" وهي يونانية مشتقة من (هاجر)، مما يعني تحويله من (مهاجريين) إلى (هاجريين)[21]، جاء عبر قيام المؤلفين المسيحيين، ومنهم سيباوس في البلاد التي فتحها العرب -بمحاولة فهم وتفسير هذا الحدث وفقًا لرواية الكِتاب المقدّس للتاريخ، أي محاولتهم (الاستدخال التأويلي) للحدث، وفقًا لتعبيرنا، كما يُفْتَرض بنصوص رغم كونها تؤرخ إلَّا أنها تظلّ نصوصًا دينية ينطبق عليها بصورة أكبر تعبير وانسبرو «تاريخ الخلاص»، وهي نقطة مهمّة سنعود لها في نهاية المقال، حيث تم مَوضعة هؤلاء الفاتحين العرب باعتبارهم أبناء إسماعيل ابن هاجر الذين تحدث عنهم الكِتاب المقدّس «حمارًا وحشيًّا بشريًّا يده على الجميع ويد الجميع عليه»، فأصبحوا «الهاجريين»، هذه المَوْضعة تمت من قِبل المسيحيين الباحثين في «تاريخ خلاصهم» عن موضع هؤلاء!
بعد هذا (الاحتراز الكيفي)، فإنّ بريمار يحاول تدعيم رؤاه حول بدايات الإسلام عبر تكثير المصادر التي يلجأ إليها، وهو أمرٌ شديدُ الأهمية كما أسلفنا، حيث تعتمد كثيرٌ من الرؤى المعاصرة لتاريخ الإسلام وتاريخ القرآن على (غياب المصادر)، وهو حكم يبدو أن بريمار يعرف جيدًا كونه لا يمكن أن يطلق هكذا إلا بعد تكثيف هذا البحث وتوسعته، ولعلّ هذا (التكثيف الكمّي) الكامن في منهجية بريمار يظهر أكثر ما يظهر في موطنَيْن لا يقلّان أهمية من حيث موضعهما في تاريخ الإسلام أو في تاريخ القرآن عن هوية المسلمين الأوائل، أولهما: الوجود التاريخي لشخص النبي محمد ومعرفته باسمه ومعرفة كونه نبيّ صاحب كتاب جديد، في هذه المسالة نجد بريمار يتوسّع في استخدام المصادر غير العربية التي يمكن أن تشير لهذا الحضور، فيقف على عددٍ من النصوص التي تشير إلى تسمية العرب بعرب (محمت) إشارة إلى حضور محمد معهم كقائد لهم، وهذه النصوص تشير بوضوح إلى أن «رئيس السارسين كان يدَّعِي لنفسه صفة النبي»[22]. مما حَدَا -وفقًا لبريمار- بالنصوص الجدالية التي كتبت في هذا الوقت إلى تدشين المجادلة التي ستصبح لاحقًا كاللازمة المتكررة لدى المنافحين المسيحيين ضدّ الإسلام، أي تلك التي تطعن في نُبوَّة محمد انطلاقًا من كونه لا نبي يأتي مدججًا بالسلام وبِعُدَّة الحرب، كلّ هذه النصوص بتأكيداتها تلك كُتبت في الثلاثين سنة الأولى من القرن السابع الميلادي؛ مما يعني أنها مزامنة للتورخة التقليدية حول حضور النبي ووفاته.
وأما الموطن الآخر فهو مسألة التقويم الهجري، حيث يقف بريمار عبر توسعة بحثه على إيصال ثنائي اللغة: (يوناني- عربي) بمواشٍ جرت مصادرتُها من قِبَل أحد قواد عمرو بن العاص في مصر عام 22 هجريًّا، وكذا إلى العام 31 هجريًّا في خلافة عثمان[23]، مما ينهي تمامًا الادّعاء بتأخر التأريخ الهجري وكونه ليس إلا محاولة متأخرة لصرف دلالة الهاجريين إلى معنى تكوَّن لاحقًا عن هجرة مرتبطة بمجتمع ذي هوية خاصّة ونبي خاصّ وكتاب خاصّ، كما هو الافتراض التنقيحي.
لعلّ هذه التطبيقات التي ذكرنا تبيّن كيف أن هذَين الاحترازَين اللذَيْن ضمّنهما بريمار منهجية استخدامه للمصادر غير العربية خصيصًا -يمنحان مزايا كبيرة لمنهجيته عن غيره من الباحثين، بالطبع في سياق الدرس الغربي المعاصر للإسلام، وتحديدًا بعد بروز تشكيكات التنقيحيين.
وبالإضافة للمزايا المنهجية العامّة فهناك بعض المزايا التفصيلية التي تقود إليها منهجية بريمار، حيث إنّ هذا التوسّع الكبير من قِبَله في تعقّب الأدلة المادية والمصادر غير العربية؛ قام بسدّ الكثير من النقص في هذا الإطار، وَكَشَفَ الكثيرَ من المصادر التي لا يبرزها بعض المستشرقين الآخرين، أو لا يلجؤون إليها لمخالفتها أطروحاتهم، وهي الثغرة التي طالما كانت تُوَجَّهُ منها الانتقادات لأعلام الاتجاه التنقيحي، خصوصًا وانسبرو[24].
والآن وبعد أن عرضنا هذه الملامح النظرية لمنهجية بريمار، وكذا تطبيقاتها في بعض القضايا الحاسمة والهامة وذات الصلة بدراسات القرآن، يحسن بنا الانتقال لتناول تطبيقاته في مساحة جمع وتدوين القرآن[25].
منهج بريمار في دراسة جمع القرآن وتدوينه:
كما تحدثنا بالأعلى فإنّ مسألة تاريخ القرآن ومدى مصداقية رواية المصادر الإسلامية عنها هي مسألة مركزيّة في النقاش المعاصر للتاريخ الإسلامي وتاريخ بداياته؛ حيث إن هذا التأريخ الذي يموضع النصّ في سياق معاصرة الدعوة، ويموضع جمعه في فترة ليست بالبعيدة عن موت النبي، والذي كان قديمًا كافيًا من أجل بلورة تصور مقبول حول تاريخ بدايات الإسلام ينطلق من القرآن، أصبح هو ذاته محلّ التشكيك، فأضحى المصدر المركزي والمعاصر للدعوة الذي طالما اعتمد عليه المستشرقون هو ذاته في حاجة لمصادر أجنبية أو مادية لإثبات وتعيين تاريخ تشكّله.
هذا يجعل نقاش بريمار لتاريخ القرآن ليس نقاشًا لقضية تفصيلية أو لمساحة خاصة من مساحات الاشتغال على بدايات الإسلام فحسب، بل يجعله نقاشًا لقضية تقع في مركز التفكير المنهجي المعاصر حول تاريخ الإسلام وتاريخ بداياته.
وبريمار ينطلق في دراسته لتاريخ القرآن من محاولة أوليّة لتبرير التشكيك في المرويات الإسلامية حول هذا التاريخ، وهذا يتم عن طريق توصيفَيْن أساسَيْن لهذه المرويات:
الأول: هو اعتبار أنّ هذه المرويات تحمل في كثيرٍ منها أبعادًا سياسية وأيدلوجية، بمعنى أن كتابة تاريخ النصّ هي كتابةٌ (خلاصيّة) وليست (تاريخيّة)، كما أنها ليست خلاصيّة عامّة، بل خلاصيّة خاصّة تتعلق برؤية مجموعات محددة لموقعها السياسي والديني المفترض، وهذا عن طريق افتراض بريمار الأساس لكون جمع القرآن هو مسألة سياسية في كثيرٍ من أبعادها؛ مما يجعلُ كثيرًا من المرويات حولها تحمل هذا الطابع، ويمثّل بريمار لهذه المرويات بالمرويات الشيعيّة حول مصحف عليّ الذي يحوي سُوَرًا تروي فضائله تخلّص منها الخلفاء.
الثاني: هو غيومة بعض المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها تاريخ الجمع، مثل مفهوم المصحف ومفهوم الجمع ذاته ومثل العلاقة بين القرآن والحديث، حيث يرى بريمار أن مفهوم الجمع كان يتأرجح بين مجرد الاستظهار عن ظهر قلب وبين الكتابة والجمع في مجلدٍ واحدٍ، كما يشير بريمار إلى بعض المرويات المتأخرة عن تاريخ الجمع الذي تقرّه المصادر الإسلامية بشكلٍ يوحي كأنّ ثمة خلط بين القرآن وبين الحديث استمر لفترة متأخرة من التاريخ الإسلامي تصلُ إلى خلافة معاوية، مثلًا قول معاوية لمن أنكر انحصار الخلافة في قريش: «بلغني أن رجالًا منكم يحدِّثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤْثَر عن رسول الله».
وإن كان بريمار يعود فيقرر كون (الجمع) هو عبارة عن جمع كتابي في مصحف مترابط، وليس مجرد جمع بالحفظ في الصدور؛ وهذا لما تنطوي عليه الظاهرة القرآنية ذاتها من جدل بين الشفاهة والكتابة، وكذلك لشيوع الكتابة للنصوص الهامة في الجزيرة وعمومًا في الشرق في هذه القرون، كما أنه بالنسبة لخبر معاوية يكتفي بالإشارة لكون بعض الباحثين استندوا إليه للحديث عن كون القرآن ليس إلا انتخاب متأخر، إلا أنه يظلّ يعتمد على مجموعة السمات هذه وغيرها في محاولة تبرير الحيرة والتشكك من قِبَلِ الباحث المعاصر في هذه المصادر والاعتماد على مصادر أجنبية ومادية تضع تثبيت النصّ في مرحلة متأخّرة تصلُ للقرن الثاني الهجري.
وربما تحسُن هنا الإشارة لكون بعض الباحثين الآخرين مثل غريغور شولر يشيرون لكون هذا التناقض في الأخبار ذاته خصوصًا السنية/ الشيعية، وإن كان يشكّك في المرويات التفصيلية إلا أنه يثبت الروايات المجملة عن جمع أبي بكر وجمع عثمان، وأنّ جمع القرآن لم يتأخر عن هذه الفترة التي ظهرت فيها كلّ هذه المواقف المتباينة تجاه حدث صلب واقع هو حدث الجمع[26].
وبعد أن يكرّس بريمار هذا الشعور بالحيرة والتشكّك تجاه المصادر الإسلامية فإنه يلجأ لبعض المصادر المادية حول جمع النصّ، يقع في مركز هذه المصادر نقوش قبة الصخرة والعملات المسكوكة في عهد عبد الملك بن مروان، وبعض الشذرات القرآنية المكتشفة التي عمل عليها فرنسي آخر هو فرنسوا ديروش.
فبالنسبة لنقوش قبة الصخرة، والتي تجمع عددًا من النصوص التوحيدية، مثل «بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا شريك له»، و«قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن كفؤًا أحد»، كذلك: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون»؛ فإن بريمار يفسر هذا النصوص تفسيرًا قريبًا من تفسير إستل ويلان بكون هذه النصوص كانت عبارة عن دعايا عن الدين الجديد وانتصاره وهيمنته في وسط مسيحي[27]، كما يضيف تفسيرًا خاصًّا مستندًا لبعض الأخبار في كتب التاريخ الإسلامية وهو أن هذه النقوش على قبة الصخرة كانت في سياق محاولة خلفاء بني أميّة الاستئثار بحرَم جديد أو حرَم خاصّ في مقابل الحرَم المكّي.
أما بالنسبة إلى الشذرات التي عمل عليها ديروش وأرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) فتؤكد في نظره كون بعض النصوص القرآنية كانت ناجزة ومكتملة في هذا الوقت.
وبناء على كلّ هذه النتائج الجزئية وكذا بعض الأخبار التي تؤكد في ظنه تدخّل خلفاء بني أمية وعُمَّالهم مثل (الحَجَّاج) في عملية جمع النصّ وتثبيته، يبلور بريمار نتيجته الكلية، بكون النصّ القرآني كان قد بدأ مراحل تثبيته وجمعه من النصف الأول من القرن السابع الميلادي (الأول الهجري)، لكن تثبيت النصّ بصورة نهائية لم يتم إلَّا في عصر خلفاء بني أمية المتأخرين مثل عبد الملك بن مروان، أي إن هذه العملية استمرت إلى حدود القرن الثاني تقريبًا.
ربما ما يصل إليه بريمار من هذه النتائج الجزئية المعتمدة على النقوش هو ذاته كان يمكن أن يقوده لنفس الصورة التي ترسمها المصادر الإسلامية عن تاريخ القرآن، فقط لو تنبّه لما يعنيه كلّ تدخُّل في النصّ من وقت الجمع العثماني، فهذه التدخّلات الأموية التي يشير لها بريمار كانت بالأساس تدخّلات شكلية تتعلق بالنقط والرسم وغيرها من أمور تكميلية لا علاقة لها بتثبيت النصّ، حيث لا تعدو كونها إضافات تكميلية تتم لنصٍّ ثابتٍ أصلًا بل تفترض وجوده وثباته، تمامًا كتلك الانتخابات والانتقاءات التي تمّت من النصّ لتوضع وتُنقش على المساجد في سياقات سياسية ودينية ودعائية، والتي تدلّ على كون النصّ كان موجودًا ومعروفًا ومتقبلًا من الجماعة أي (مثبتًا) بالفعل كما تحتجّ إستل ويلان.
لذا فإننا نظنّ أن بريمار لم يكن محتاجًا لتغيير منهجيته للوصول لنتائج مقاربة للصورة التي ترسمها المصادر الإسلامية، بل إنّ منهجيته ذاتها -باحترازها الكيفي المفعّل تجاه الأخبار الواردة في النزاع الشيعي السني، واحترازها الكمّي بتوسعة الأدلة المادية- كانت تكفيه تمامًا للوصول لصورة شديدة القرب، لكن ما حال دون هذا في ظنّنا هو استمرار فعل (الإسقاط التاريخي) الذي يأبى أن يقرأ تاريخ النصّ القرآني إلا كنسخة من تاريخ الإنجيل.
بعض الملاحظات على كتاب بريمار:
رغم الفائدة الكبيرة التي ينطوي عليها كتاب بريمار لباحث الدراسات القرآنية، والتي عرضنا للكثير منها نظريًّا وتطبيقيًّا في مساحة تاريخ الجمع ومساحات أخرى ذات تعلق أصيل بتاريخ القرآن، إلَّا أن ثمة بعض الملاحظات التي يمكن تسجيلها على الكتاب؛ منها ما هو عام ومنهجي، ومنها ما يتعلق ببعض التفصيلات الجزئية التي نظنّ أن بريمار لم يضطرد في تناولها مع منهجه الذي حاولْنا توصيفه طيلة هذه المقالة، والتي لو فعَّلْنا فيها منهجية بريمار لخرجنا ببعض النتائج الهامة حول بعض المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها البناء المنهجي للاتجاه التنقيحي في مقاربته للتأريخ الإسلامي لبدايات الإسلام ولتاريخ القرآن.
فبالنسبة للملاحظات المنهجية العامة؛ فإننا نلاحظ أن بريمار ورغم عدم اقتناعه برفض المصادر العربية جملة وتفصيلًا، واعتماده عليها إلى جوار المصادر غير العربية، إلا أنه ظلّ يكرر من بعض تلك الأقوال عن تأخّر التدوين العربي، وبعيدًا عن مدى صحة هذا القول ذاته في كثير من المساحات؛ حيث إن ما تأخر هو التدوين الكلي الموجَّه برغبة الجماعة كلّها في التدوين وتأسيس العلوم وحفظ المصادر وليس التدوين نفسه، فحقيقة الأمر هو وجود بعض التدوينات بالفعل في فترات قريبة من بدايات الإسلام، مثل وثيقة عروة مثلًا في السيرة أو تدوين بعض الأحاديث، إلا أن النقطة الأهم التي نريد تسجيلها هاهنا هي تكرار بريمار لهذه الأقوال رافضًا أن يعتمد على منهجية تمكنه من التأكد من الحلقة ما بين الشفاهة والكتابة المتأخرة -وفقًا له-،أي منهجية (الرواية بالإسناد) التقليدية، فهو يذكر عدم اقتناعه بالموثوقية التي يضعها بعض الباحثين المعاصرين في مثل هذه المناهج والاعتماد عليها في إعطاء موثوقية للمصادر المتأخرة[28]، لكن دون أن يضع بديلًا أو منهجًا حديثًا لفحصها أو تصحيح مثالبها، بل يكتفي باعتبار هذا الاعتماد يقع في (حلقة مفرغة)، والقضية هنا تكمن في أن هذا لا يضطرد أبدًا مع منهجه؛ حيث إنه إذا كانت المصادر العربية تتحرى الصدق فيما تؤرخ له، مما يجعل من غير الإمكان تكذيبها بالجملة، كما يؤكد في منطلقاته التي اعتبر الكتاب بأكمله برهنة عليها؛ فإن هذه المصادر وضعت آلياتها من أجل هذا التحري، فإذا كان فيها صلاحية فلا بد أن يكون في هذا المنهج أية صلاحية، فلا يصير الاعتماد عليه مجرد حلقة مفرغة، وإذا لم يكن في هذا المنهج صلاحية فمن أين يا تُرى أتت صلاحية بعض نتائج هذه المصادر؟!
فظننا أن هذه المناهج التراثية كانت تحتاج لفحص من قِبَل بريمار قَبْل أن يقضي بعدم موثوقيتها؛ حيث عليها يتأسس قبول المصادر العربية المتأخرة أصلًا.
(الفاروق) عمر ومفهوم (تاريخ الخلاص):
أما الملاحظات التفصيلية التي يمكن أن نلحظها على الكتاب فهي عدم اضطراده في تطبيق منهجه المتميز في بعض المساحات، أبرزها قضية تلقيب عمر بالفاروق -ذات الدلالة الخاصّة-، حيث يعتبر بريمار أن لفظة (الفاروق) هي تعريب متأخر للفظة السيريانية (بوروقو) التي تعني المخلّص أو المعزّي، وأنّ هذه اللفظة قد أطلقها القساوسة والأحبار على عمر في الأخبار التي وردت عنهم حول فتح المسلمين لبيت المقدِس، وسبب هذه التسمية هو أن أوصاف عمر حين دخل المدينة كانت تماثل الصفات التي يذكرها الكتاب المقدّس حول (منقذ إيليا الداخل أورشليم على حمار)، وأن المسلمين عرَّبوا هذه الكلمة لاحقًا، ثم أعادوا بناء لقاء عمر بالأحبار في سياق كتابة أموية متأخرة مهتمة بإعطاء مركزية وأفضلية للإسلام على اليهودية.
إننا نتساءل هنا: أليس هذا الخبر مماثلًا تقريبًا لقضية تسمية (الهاجريين)؟ حيث يبدو أن هذا الحديث عن عمر كــ(بوروقو) هو استدخال شديد الوضوح لعمر في التاريخ العبراني حَدَثَ في هذه النصوص التي يصفها بريمار ذاته بأنها رؤيوية وقيامية[29]، ألا يمكن أن يكون هذا هو الفهم العبراني -بالأحرى (الاستدخال التأويلي) العبراني- لكلمة (فاروق) العربية وليس العكس؟!
بالطبع، فالمهم هنا ليس هذا الخبر التفصيلي وإنما تفعيل منهجية بريمار ذاتها في فهم أكثر لطبيعة الكتابة في هذه الفترة والصلة بين الكتابات العربية وغيرها، وأي هذه المصادر اعتمد على الآخر في الكتابة وحَبْك أحداث من أجل تأسيس تاريخ (خلاص)، وهذا ما يجعلنا نهتم لهذه المسألة التفصيلية، فلعلّ هذا الخبر التفصيلي لو قرئ وفقًا لمنهجية بريمار ذاتها يبرز الكفاءة الكبيرة للغاية لمفهوم (تاريخ الخلاص) الذي اقترحه وانسبرو، لكن في دراسة التأريخ العبراني والمسيحي للإسلام أكثر من كفاءته في دراسة تأريخ المصادر العربية له؛ هذا لأنه حتى الاستخدامات الأموية اللاحقة لحدث دخول عمر أورشليم والتي يفترضها بريمار تظلّ استخدامات بعيدة تمامًا عن أن تدخل في صلب التأريخ لبدايات الإسلام أو للقرآن، أو أنها بتعبير بريمار حول المصادر العربية جملة «أخبار تتحرك خارج فضاء التاريخ الديني»؛ مما يجعل هذه الأخبار حتى لو كانت غير دقيقة تاريخيًّا فهي أبدًا ليست جزءًا من (تأسيس تاريخ إسلامي مقدّس)، هذا يجعلنا نتشكك أكثر وأكثر في كون هذه السّمة للتأريخ (الخلاصيّة) هي سمة أساسية للكتابات التأريخية الإسلامية كما هي الحجة الأساسية لكلّ الرفض التنقيحي لمرويات تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن الإسلامية والتي تبرّر لهم التشكيك فيها بل ورفضها مبدئيًّا، كما يجعلنا هذا -وفي نفس الوقت- نرى بوضوح كيف أن هذه السّمة كامنة في التأريخ غير العربي هذا الذي يُفترض من قِبَلهم كبديل!
خاتمة:
حاولنا في هذه العُجالة أن نقدّم عرضًا بسيطًا لهذا الكتاب المفيد، علَّه يكون بداية لاهتمام الباحثين في الدراسات القرآنية به والاشتباك مع طروحاته وتقنياته ونتائجه.
وفي ظننا فإنّ هذا الكتاب يفتح الباب لآفاق عديدة في البحث: حيث يشير الكتاب لبابِ بحثٍ جديدٍ، هو البحث الإيبغرافي (دراسة النقوش والأدلة المادية) والاعتماد على المصادر الخارجية، فرغم الخلاف مع المنطلقات الأساسية والدوافع الرئيسة التي أعطت لهذا الباب كلّ هذه المركزية في البحث الغربي المعاصر للقرآن، إلا أنه يظلّ بصورة عامّة شديد الإفادة خصوصًا حين يدعم بمثل احترازات بريمار ويزاوج مع المصادر العربية، وهو باب بحث ربما غير مطروق عربيًّا بأي شكلٍ[30].
كذا يشير الكتاب لأهمية دراسة طريقة تَشَكُّل النصوص التأريخية حول حدثٍ ما، ومدى تحكم السياقات الدينية والسياسية واللاهوتية والصراعية في تَشَكُّلها، وهو باب بحث هام لو طُبِّقَ حتى ما بين تأريخات الفِرَقِ الإسلامية المختلفة لحدث تدوين القرآن.
كذا يلحُّ الكتاب في مجمله ومنطلقاته وثناياه على مدى شيوع افتراضات وتشكيكات الاتجاه التنقيحي وأثرها الكبير على ساحة الدرس الاستشراقي وما فرضته على الباحثين في مقاربتهم للقرآن من إكراهات منهجيّة مما يدعو للتعرف على هذا الاتجاه وأعلامه وكتبه وأثره؛ حتى لا تنقطع صلة الكاتب العربي بما يدور حول القرآن في الدرس المعاصر.
[1] وقد أنشأ قسم الترجمات بموقع تفسير ملفًّا حول الاتجاه التنقيحي في محاولة لبيان أهم أفكاره والتعريف بها ولفت النظر للرؤى المتباينة حوله في الدرس الاستشراقي المعاصر، يمكن الاطلاع على موادّه على هذا الرابط: tafsir.net/collection/662.
[2] تقسم المؤرخة التونسية حياة عمامو المقاربات الاستشراقية فيما قبل الاتجاه التنقيحي من حيث علاقتها بالمصادر الإسلامية إلى نوعين: (المقاربة الوصفية)، و(المقاربة النقدية)، وكما يتضح من اسم الأولى فإنها تميل إلى الاعتماد على المصادر الإسلامية مباشرة في بنائها سردية حول تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، مما يعني الثقة -ولو الإجمالية- في هذه المصادر، وهذه المقاربة حين تلجأ للنقد فإنها تعتمد كذلك على أخبار أخرى ترد في نفس المصادر، أما (المقاربة النقدية) فإنها لا تثق في المصادر الإسلامية بدعوى تأخّر كتابتها، وأهم أعلام هذا الاتجاه هم نولدكه وبلاشير وكايتاني، والمصدر الأساس المعتمد عليه بالنسبة لهذا الاتجاه هو القرآن الكريم كوثيقة تاريخية موثوقة ومعاصرة للنبي، هذا يعني أن المقاربات الاستشراقية الكلاسيكية على اختلافها كانت تتقبل التأريخ الإسلامي للقرآن وتدوينه وجمعه وتثق فيه كمصدر موثوق لكتابة تاريخ بدايات الإسلام، ولم يحدث التشكيك في تأريخ القرآن وبالتالي في موثوقية معاصرته إلا مع بروز الاتجاه التنقيحي؛ مما أدى إلى استبعاد أي مصدر عربي وإسلامي في عملية كتابة تاريخ الإسلام والقرآن، واللجوء بدلًا عن هذا لمصادر غير عربية، سيريانية وأرمنية وقبطية وإغريقية.
[3] عبّرت عن هذه الثقة بعض عبارات من مثل: «إنَّ صورة النبي محمد التي رسمها وما زال يرسمها المستشرقون الأوروبيون حتى الآن ترتكز على أسس سليمة، وإذا طالها شيءٌ من التعديل فما هو إلا تفصيل الكلام فيها، ولا يكاد يسفر التفسير الجديد والمنهجي للقرآن عن اكتشافات جديدة ومثيرة» كما قال بارت، أو: «إنّ محمدًا هو من بين جميع مؤسسي الأديان الكونية الكبرى الشخص الذي نعرفه بشكلٍ أفضلٍ» كما قال رودنسون. إنها وضعية جديدة تمامًا يعيشها هؤلاء الباحثون، انظر: ألفريد لويس دي بريمار، تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ، ص37.
[4] يصف فيلد هذه الوضعية بأنها: «فراغ يفضي لفتح الباب لفرضيات مثيرة»، انظر: تاريخ القرآن لماذا لا نحرز تقدمًا؟ شتيفان فيلد، ترجمة: حسام صبري، ص17، منشورة على قسم الترجمات بموقع مركز تفسير على هذا الرابط: tafsir.net/translation/7.
[5] الإشارة هنا للمقالة الشهيرة للمستشرقة الفرنسية جاكلين الشابي، والتي تصف فيها عملية كتابة السيرة النبوية بأنها عملية مستحيلة جراء عدم وجود مصادر موثوقة لكتابة هذا التاريخ.
[6] كما ذكرنا فالمستشرقون الكلاسيكيون بمن فيهم النقديون والمتشككون كانوا يعتمدون أصلًا على القرآن، باعتباره وثيقة صادقة ومعاصرة للقرن الإسلامي الأول، وكان هذا يعني ضمنيًّا القبول بالتأريخ الإسلامي لتدوين القرآن، لكن مع تشكيك التنقيحيين في هذا التأريخ أصبح لا يوجد أي مصدر يمكن من كتابة تاريخ الإسلام؛ حيث احتاج القرآن ذاته لمصادر غير عربية تؤرخ له.
[7] اعتبرت الباحثة آن سيلفي بواليفو مسألة تاريخ النصّ في ضوء التشكيك التنقيحي أحد الصعوبات الرئيسة التي تواجه الباحث الغربي المعاصر أثناء مقاربته للقرآن، انظر: مقاربة نص مؤسس، الصعوبات الحلول، الحدود، انطلاقًا من دراسة القرآن، ترجمة: خليل اليماني، ص6، منشورة ضمن ملف الاتجاه التنقيحي على قسم الترجمات بموقع مركز تفسير، ويمكن مطالعتها على هذا الرابط: tafsir.net/translation/8.
[8] جون وانسبرو (1928م – 2002م) مستشرق أمريكي، يعتبر هو رائد أفكار التوجه التنقيحي، وتعتبر كتاباته منعطفًا رئيسًا في تاريخ الاستشراق، حيث بدأت في تشكيك جذري في المدونات العربية الإسلامية وفي قدرتها على رسم صورة أمينة لتاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، ودعا لاستخدام مصادر بديلة عن المصادر العربية من أجل إعادة كتابة تاريخ الإسلام بصورة موثوقة، وأهم كتاباته: (الدراسات القرآنية، مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدسة)، 1977م.
[9] جاكلين شابي (1943- )، من أبرز المستشرقين الفرنسيين المعاصرين، وهي أستاذ الدراسات العربية في جامعة باريس-vii، باريس سان دوني، وهي صاحبة أطروحة شهيرة عن استحالة كتابة السيرة النبوية المحمدية بسبب عدم القدرة على الوثوق في مصادر أقرب للأسطورة منها للتاريخ، أشهر كتبها كتاب: (رب القبائل، إسلام محمد) والذي صدر عام 1997م.
[10] في الأصل الفرنسي فإن هذا الجزء هو تمهيد وليس جزءًا من القسم الأول كما نرى في الترجمة العربية للكتاب، حيث دمجت الترجمة هذا التمهيد في القسم الأول ليصير الفصل الأول فيه، وليصير القسم الأول في الأصل الفرنسي (التجار) فصلًا ثانيًا في نفس القسم.
[11] بريمار، ص26.
[12] شتيفان فيلد، تاريخ القرآن؛ لماذا لا نحرز تقدمًا؟ ص17.
[13] بعض المستشرقين الكلاسيكيين مثل ردونسون كانوا يملكون شكوكًا حول مدى المصداقية التفصيلية للمصادر الإسلامية، لكنهم كانوا يعتبرون أن هذه المصادر تستطيع في مجملها أن تقدم صورة قريبة للتاريخ الإسلامي إن لم تصل ليقين المعادلات الرياضية، كذلك نجد بعض المعاصرين مثل غريغور شولر الذي يكتب كذلك في الوضعية الجديدة التي برزت مع ظهور الاتجاه التنقيحي يعتبر أنه بالإمكان -وعبر الفحص التاريخي الدقيق والمتأني للمصادر الإسلامية في مجملها- الوصول لنواة حقيقية حول تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، ولشولر مقالة مترجمة حول هذا في السيرة النبوية، بعنوان: الأسس لسيرة جديدة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: دراسة نقدية لمرويات عروة بن الزبير، غريغور شولر، ضمن كتاب (مقالات في المناهج والنظريات)، ترجمة وتحرير: فهد الحمودي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2014م.
[14] هذه التكثيفات قد تكون طبيعية للغاية في أي تعامل تأريخي؛ فالمصادر أبدًا لا تواجه كمصادر غُفْل، كما لا تخضع للتأويل وفق رؤى مسبقة، بل تخضع لمحاولة استكشاف سياقاتها المتحكّمة في كتابتها من أجل الخروج بالحقيقة التاريخية، لكن مع ضعف التكوين التاريخي عند بعض الباحثين الغربيين المعاصرين في الإسلاميات، خصوصًا في مسألة الاعتماد على المصادر، وهو ما أشار إليه الكثيرون مثل: حياة عمامو، وهشام جعيط، أصبح لا بد من الإشارة لصنيع بريمار باعتباره تعديلًا لافتًا في التعامل الشائع المعاصر مع المصادر، انظر: حياة عمامو، السيرة النبوية، مناهج، نصوص، شروح، التنوير، بيروت، ط1، 2014م، ص67 .
[15] هذا التعبير لباتريشيا كرون أحد أعلام الاتجاه التنقيحي، انظر: شتيفان فيلد، ثلاث محاضرات حول القرآن، (1): تاريخ القرآن، لماذا لا نحرز تقدمًا؟ ص15، منشورة ضمن مواد الاتجاه التنقيحي على قسم الترجمات، على هذا الرابط: tafsir.net/translation/7.
[16] للتفصيل حول الافتراضَيْن، انظر عرض كتاب وانسبرو (الدراسات القرآنية: مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدسة) لكارول كيرستن، وعرض كتاب (البدايات المبهمة: بحث حول أصل الإسلام وتاريخه المبكر) لجيرالد هوتنج، ترجمة: هند مسعد، على قسم الترجمة بموقع مركز تفسير، ضمن مواد الملف الأول (ملف الاتجاه التنقيحي)، على هذه الروابط: tafsir.net/translation/10 - tafsir.net/translation/12.
[17] هناك كتاب عربي وحيد انشغل بالمثاقفة المنهجية مع الاتجاه التنقيحي، هو كتاب آمال الروبي (الإسلام المبكر والاستشراق الأنجلو ساكسوني الجديد، باتريشيا كرون ومايكل كوك نموذجًا)، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، بغداد، 2008م، وقد خصصت تناولها بأعمال كوك وكرون وخصوصًا كتاب (الهاجريون).
[18] بريمار، ص40.
[19] تشير آمنة الجبلاوي في كتابها (الاستشراق الأنجلو ساكسوني) لهذه الفكرة المهمة، وهي أن النصوص غير العربية في القرن السابع والثامن الميلادي ستظل محكومة بنفس إكراهات النصوص العربية في هذه الفترة، حيث تنتمي لنفس الإبستيمية، فإذا وافقنا رواد الاتجاه التنقيحي على كون النصوص الإسلامية مكتوبة بأقلام نخبة متواطئة مع السلطة الحاكمة وخاضعة للنظام المهيمن ومنضوية في المنظومة الإسلامية بغية تكريسها، فإنّ هذا نفسه يصدق على النصوص غير العربية، انظر: آمنة الجبلاوي، (الاستشراق الأنجلو ساكسوني)، ص28، إلا أننا نود أن نضيف أن هذه الإكراهات لا بد أن تكون موجودة بصورة أكبر في التأريخ غير العربي المسيحي واليهودي، حيث وإلى جانب إكراهات الواقع السياسي والأيدولوجي ثمة كتاب ديني راسخ منذ قرون يقدّم سردية تاريخية شاملة تستطيع استدخال كلّ الأحداث في طياتها لتفسيرها، وهو ما لا يتوفر لتقليد ما زال ينشأ ويستحدث كما هي النظرة التنقيحية للتاريخ الإسلامي.
[20] هذه النصوص غير العربية مؤرخة حول عام 630 ميلاديًّا مما يقارب التورخة الإسلامية التقليدية لتاريخ حياة النبي ووفاته، حيث تضع وفاة النبي عام 632م.
[21] بريمار، ص40.
[22] بريمار، ص164.
[23] بريمار، ص308.
[24] انظر، جوزيف لمبارد، تفكيك الاستعمار في الدراسات القرآنية، ترجمة: حسام صبري، منشورة ضمن مواد ملف (الاتجاه التنقيحي) على قسم الترجمات، على هذا الرابط: tafsir.net/translation/5.
[25] لبريمار كتاب آخر مخصص للقرآن بعنوان (Aux origines du Coran)، وهو غير مترجم للعربية.
[26]The Codification of the Qurʾan: A Comment on the Hypotheses of Burton and Wansbrough, Gregor Schoeler، وهي منشورة ضمن كتاب quran in context,Brill,2010.
[27] Forgotten Witness: Evidence for the Early Codification of the Qurʾān , Estelle Whelan, Journal of the American Oriental Society , Vol. 118, No. 1 (Jan. - Mar., 1998), pp. 1-14
[28] مثل فؤاد سزكين ومونتجمري وات، انظر: الأسس لسيرة جديدة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-؛ دراسة نقدية لمرويات عروة بن الزبير، غريغور شولر، ضمن كتاب (مقالات في المناهج والنظريات)، ترجمة وتحرير: فهد الحمودي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2014م، ص229.
[29] بريمار، ص178.
[30] من أجل إطلالة على تطبيق عملي لهذه المنهجية، يوصَى بقراءة مقالة فريدريك إمبرت؛ قرآن الحجارة (إحصائيات نقوشيّة، وتحليلات أوّلية)، ترجمة: مصطفى أعسو، والمنشورة على قسم الترجمات بموقع مركز تفسير، ضمن مواد الملف الأول (ملف الاتجاه التنقيحي)، على هذا الرابط: tafsir.net/translation/11.