بحث: الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام
لـ أوري روبين
"عرض وتقويم"

المؤلف : محمود عماد
أوري روبين واحدٌ من أهم المستشرقين المعاصرين، له نتاج واسع حول القرآن والتفسير، خصوصًا ترجمته للقرآن إلى العِبرية، ودراساته حول التفسير المبكّر. هذه المقالة هي عرض وتقويم لإحدى دراساته التي تتناول الصورة المقدمة لنبي الإسلام في الرؤية الإسلامية.

  نُشرتْ مؤخّرًا ترجمة ورقة بحثية لأحد الباحثين الغربيين، والتي تناوَل فيها الباحث أحد الموضوعات المهمّة، وهي ورقة: (الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبيّ الإسلام)[1]، للباحث: أوري روبين[2]، وفي هذه المقالة سنحاول تقويم ورقة روبين وبيان الموقف منها، وستأتي معالجتنا النقدية مقسومة لقسمين؛ أحدهما لعرض أفكار البحث باختصار لا يخلّ به. والثاني لتقويمه، وذلك بعد تمهيد نعرِّجُ فيه أولًا حول مجهودات الباحث، ونأمُل أن تكون هذه المقاربة النقدية منصِفةً وشارحةً لما قدّمه الباحث قدر الاستطاعة، واقفةً على أهم أفكاره وأبرز ما اعتراه من نقص وإشكال.

تمهيد:

التعريف بالباحث:

أوري روبين هو أستاذ الدراسات القرآنية والتراث الإسلامي القديم في جامعة تل أبيب قسم الدراسات الإنسانية والاجتماعية، والحاصل على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية حول النبي محمد في التاريخ الإسلامي المبكّر، في عام 1976، وقد قام بتأليف بعض الأعمال، مثل:

- في عين الناظر: حياة محمد كما يراه المسلمون 1995.

- بين الكتاب المقدّس والقرآن: أبناء إسرائيل والصورة الذاتية الإسلامية 1999.

- محمد النبي والجزيرة العربية 2011.

ويُعَدّ أبرز أعماله ترجمته للقرآن الكريم بالعِبرية عام 2005م التي تُعتبر من الترجمات المهمّة والرئيسة في تقديم القرآن الكريم لدى الغربي اليهودي، ولعلّ أهمّ ما تميّزت به هذه الترجمة عن الترجمات السابقة اعتماده على بعض التفاسير المبكّرة للمسلمين؛ كما أوضح في مقدّمته من الاستعانة ببعض التفاسير كزاد المسير لابن الجوزي 597هـ، وأنوار التنزيل للبيضاوي 685هـ، وقد حاول روبين أن يزاوج بين منهج الاستشراق الإسرائيلي الذي يعتمد على نظرية اقتباس الإسلام من المصادر اليهودية وبين البحث في التراث الإسلامي نفسه واعتماده على الإسرائيليات الموجودة داخل كتب التفاسير الإسلامية، وقد أشار إلى استبعاده للاقتباس الكامل للقرآن من الكتب السابقة، وقال بأنّ للغة القرآن تميُّزها ولتركيبه طابعه الخاصّ، إلا أنه ما زال يدور في فلك الفكرة السائدة لدى الاستشراق وهي أنّ أفكار الإسلام تم اقتباسها من الكتاب المقدّس وتقديمها بصورة مغايرة[3].

القسم الأول: بحث الصورة القرآنية لأوري روبين؛ عرض وبيان:

هدف البحث:

يهدف البحث إلى انتقاد الصورة اللاحقة للإسلام في العصر المبكّر من أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يمتلك قدرات إعجازية لها تأثيراتٌ أنيّة تستطيع تغيير الواقع بشكلٍ فوري، وتتمثّل هذه النظرة في إزالة الفوارق الزمنية بين الفترة المكية والمدنية في التعامل مع الكفار؛ حيث إنّ الصورة المعروفة عن الرسول أنه كان في الفترة المكية يصبر على إيذاء المشركين ولا يردُّ إلا من خلال الوعيد الأخروي، والصورة اللاحقة: تَعتبر الرسول له قُوًى حية تضرب المشركين وتهزمهم بعواقب وكوارث طبيعية مثل الجفاف والرياح وغيرها من الكوارث التي تصيب أعداء الرسول، ويجادل الباحث أن هذه الصورة اللاحقة قد تكوّنت نتيجة فهم المفسِّرين في الفترة التالية لفترة الصحابة، وهم مَن روّجوا لتلك الفكرة بتفسير آيات الفترة المكية التي تتحدّث عن وعيد المشركين بعذاب دنيوي يصيبهم قبل قيام الساعة، بتفسيرها أنها قد حدثت في حياة الرسول وتم تعذيب المشركين بهذه الآيات.

يحاول روبين عرض فكرته من خلال تطبيق عملي لآيات من سورة الدخان كمثال للتدليل على هذه الأطروحة، وهو ما سنتعرّض له تفصيليًّا في النقاط الآتية:
أولًا: عرض السياق القرآني لآي الدخان.
ثانيًا: عرض تفاسير الآية للمفسِّرين المسلمين تاريخيًّا.
ثالثًا: استعراض لتفسيرات معاصرة.

أولًا: عرض السياق القرآني لآي الدخان:

يَعرض الباحث سياق آيات سورة الدخان ويبدأ بالآية 10 التي يخاطب فيها الله رسوله ويقول: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾، مشيرًا إلى حدثٍ إسكاتولجي وشيك يسبق يوم القيامة، ويَعتبر هذه الآية تنتمي إلى سلسلة الآيات المكية التي تقدّم تحذيرات بالعذاب يوم القيامة للكفار الذين لا يتبعون المرسلين، ويحاول التدليل على ذلك بتحليل كلمات الآية، ويعرض كلمة (يوم) التي جاءت مع الدخان ويقابلها مع نظائرها في بعض مواضع القرآن التي تأتي مع الحديث عن الأحداث الإسكاتولوجية/ الأخروية، ويضرب بعض الأمثلة؛ منها سورة العنكبوت: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، وسورة إبراهيم: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾، وغيرها من الأمثلة الكثيرة[4].

كما يحاول تحليل كلمة (الدخان) وهي الكلمة التي ليس لها تناظر في حالة التهديد بالعذاب الأخرويّ، والمُناظِر الوحيد لها كان في الآية 11 من سورة فصلت: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، والتي تشير إلى السماء مما يعطي إيحاءً بالعودة مرّة أخرى للحالة الأولى التي كانت عليها السماء في آخر الزمان، ويحاول الربط بين كلمة الدخان وكلمة الظلّ في سورة المرسلات ويقرّر أنّ الظلّ هو الدخان المتصاعد فوق نار جهنم.

ومن المقاربات القرآنية للدخان ينتقل للمقاربة في الكتاب المقدّس حيث يتم ذِكْر الدخان في سفر الرؤيا الذي يمثّل عذاب الأشرار في أبد الآبدين، وأنّ هذا الدخان المتصاعد فوق فوهة الجحيم مثل دخان آتون عظيم يُظلم الشمس والسماء حين صعوده.

وأيضًا في العهد الجديد (متّى 24) حيث تمّ ذِكرُ الدخان أيضًا وربطُه بالأحداث الإسكاتولوجية التي تحدث في يوم الحساب، ويضيف روبين أنّ هذا التجاور بين الدخان والسماء والأحداث الواردة في الكتاب المقدّس قد سبقت الأحداث القرآنية، وهذا يدعو روبين لتفسير الدخان في السورة بالتفسير الأخرويّ.

ثانيًا: عرض تفاسير الآية للمفسرين المسلمين تاريخيًّا:

يقدِّم روبين نظريةً تقول بأنّ المفسّرين بعد حياة الرسول تأثّروا بحياة الرسول المدنيّة، حيث أسّس دولته وانتصر على المشركين في جزيرة العرب، فهذه الصورة حلّت محلّ الصورة القديمة التي كان فيها الرسول مبشرًا للمؤمنين ومنذرًا للكافرين، وهذا أدّى إلى إعادة تفسير الآيات المكية التي تتحدّث عن الوعيد الأخروي بأنها آيات قد وقعت بالفعل في حياة الرسول، وانتقال الصورة من محمد النذير/ الفترة المكية - إلى محمد المنتصر/ الفترة المدنية (الذي يسميها الصورة ما بعد القرآنية)، حيث تحوّل تفسير آية الدخان مِن علامةٍ من علامات قيام الساعة إلى حدثٍ في الماضي قد أصاب مشركي مكة في حياة النبي.

ويبدأ عرض المفسّرين زمنيًّا من الأقدمِ إلى الأحدثِ كما هو موضح بالجدول الآتي:

المفسِّر

التفسير الأخروي

التفسير الدنيوي

تنوير المقباس 817هـ

(نقل عن ابن عباس)

يُذكر كخيارٍ ثانٍ

يُذكر أولًا

مقاتل بن سليمان 150هـ

 

يُذكر فقط

الفراء 207هـ -

أبو عبيدة 210هـ

 

يُذكر فقط

عبد الرزاق 211هـ

يُذكر أولًا

يُذكر كخيارٍ ثانٍ

ابن قتيبة 267هـ

 

يُذكر فقط

الهواريّ 280هـ

يُذكر كخيارٍ ثانٍ

يُذكر أولًا

الطبري

يُذكر كخيار ثانٍ

يُذكر أولًا

من الزجّاج 311هـ إلى الواحديّ 468هـ

يُذكر كخيار ثانٍ

يُذكر أولًا

الزمخشري 538هـ

يُذكر أولًا

يُذكر كخيار ثانٍ

ابن عطية 546هـ

يُذكر أولًا

يُذكر كخيار ثانٍ

ابن الجوزيّ 597هـ

يُذكر أولًا

يُذكر كخيار ثانٍ

الرازي 607هـ

يُذكر فقط

 

القرطبي 671هـ

يُذكر أولًا

يُذكر كخيار ثانٍ

البيضاوي 716هـ

يُذكر كخيار ثانٍ

يُذكر أولًا

ابن كثير

يُذكر أولًا

يُذكر كخيار ثانٍ

الآلوسي 1270هـ

يُذكر كخيار ثانٍ

يُذكر أولًا

المفسِّرون الشيعة

يُذكر بدون ترجيح

يُذكر بدون ترجيح


ثالثًا: استعراض لتفسيرات معاصرة:

يعرض روبين مثالين كنموذج للتفسير في الوقت الراهن، وهما: الشيخ محمد إسماعيل المقدّم، ومحمد هشام قباني صاحب كتاب مقاربة هرمجدون 2003م، حيث يقدِّم إسماعيل المقدّم تفسير آية الدخان بالخيار الدنيوي والأخروي، ويشير بعدم ترجيح أحد القولين على الآخر نظرًا لاحتمالية القراءة لكِلَا التفسيرين من خلال سياق الآيات، والتي تُعتبر من أهم مميزات النصّ القرآني.

بينما يقدِّم قباني قراءة أخرى مغايرة؛ حيث يثبت التفسير الأخروي، ومع ذلك يضيف إليه قراءة أخرى بأحداث مستقبلية صالحة لتفسير ظواهر وأحداث تاريخية تحدث في التاريخ الحديث؛ مثل انفجار هيروشيما النووي عام 1945م، وإضفاء صورة تفسيرية للقرآن تتناص مع أيّ حدث في التاريخ الحالي أو المستقبلي[5].

نتائج البحث:

يصل روبين إلى نتيجة أن الأجيال الأولى من المفسِّرين إجمالًا أظهرت ميلًا صريحًا نحو التفسير الدنيوي لآيات الدخان، لكن رغم الرغبة في تصوّر النبي بصورة إعجازية/ بعد قرآنية استعادَ التفسير الأخروي زخمه مرّة أخرى، بينما احتفظت القراءة الدنيوية بمكانتها الحصرية في مصنفات دلائل النبوّة؛ حيث إنها تستعرض كلّ القوى الإعجازية للرسول، ومن بينها آيات الدخان[6].

وبذلك نكون قد انتهينا من عرض بحث روبين، والآن ننتقل لمراجعة ما قرّره في بحثه وبيان أهم الأخطاء التي وقع فيها الباحث.

القسم الثاني: بحث الصورة القرآنية لأوري روبين؛ نقد وتقويم:

أهم إشكالات البحث:

ينطوي البحث على بعض الإشكالات، وأهمها ما يأتي:

أولًا: إشكالات من داخل منهج البحث:

1- الخطأ في ربط تفسير الآيات لوجود تشابه مع آيات أخرى:

أخطَأ روبين خطأً جسيمًا حين حاول تفسير الآية بتحليل سياق الكلمات المذكورة بالآية مع نظائرها في بعض آيات القرآن، وهذا من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض من يقوم بتفسير القرآن بالقرآن، وتكمن إشكالية ذلك في تقرير معنًى واحدٍ لكلمةٍ معينةٍ بدلالةِ وجودها في موضعٍ آخرَ من القرآن؛ بالرغم من وجود موضع آخر توجد فيه ذات الكلمة بمعنى مختلف؛ مثلما فعل الباحث في تحليل كلمة (يوم) واختار أن تكون بمعنى يوم القيامة لوجود مواضع لها في القرآن تأتى بهذا المعنى، مثل سورة القارعة الآية 4: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، ولكن مما غَفَلَ أو تَغافَلَ عنه أنها أيضًا تأتي في مواضعَ أخرى بمعنى فترة زمنية، مثل سورة المؤمنون الآية 113: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾.

فعندما تكون كلمة لها أكثر من معنى، لا بدّ أن نذكر كلّ الاحتمالات الواردة ولا نترك معنى إلا بوجود قرينة معيّنة، أمّا أن نختار معنى دون المعاني الأخرى لبناءٍ مسبَقٍ فهو خللٌ في عملية البحث.

2- الانحياز التأكيدي لديه في إبراز وجهة نظره:

يبدو أنّ روبين يحاول الوصول إلى نتيجة مسبَقة قبل الدخول في تفاصيل البحث، مما جعله يقرّر بوجود معنى تامٍّ مكتمِلٍ لا يقبل النقاش، وهو أنّ الدخان بمعنى العقاب الأخروي ولا يوجد احتمالية لمعنى آخر، ومن النقاط التي تُحْدِث الدهشة، عندما بدأ يستعرض التفاسير التقليدية للمسلمين من الأقدم زمنيًّا إلى الأحدث ووضَعَ في أول القائمة تفسير (تنوير المقباس) للفيروزآبادي المتوفى عام 817هـ، في حين أنّ البداية لا بد أن تكون من تفاسير التابعين المطبوعة، والذي دفع الباحث ليبدأ بهذا التفسير نقله لرأي -ضعيف- منسوب لابن عباس يقول فيه أنّ الدخان مقصودٌ به حادثةُ المجاعة، في حين أنّ الرأي القائل بالتفسير الأخروي هو أكثر صحةً في نَسَبهِ لابن عباس، وهو موجود في تفاسير أقدم كالطبري وغيره[7]؛ لكن الباحث آثر هذه البداية لانحيازه التأكيدي الذي وضعه هدفًا للبحث وراح يبحث عنه داخل مادة التحليل، وهذا الانحياز التأكيدي دافِعُه أنّ الباحث على قناعة أن المسلمين بعد عصر الصحابة قد رسموا أساطيرَ خياليةً عن النبي محمد، وفهموا القرآن بفهمٍ يُسوِّغ لهم هذه الصورة. وتلك الصورة عن عصر التابعين وما تلاها صورة مغلوطة، وسنناقشها بالتفصيل فيما سيأتي.

3- إهمال الخلاف المبكِّر للآية (مغالطة رجل القشّ):

التفسيرات المبكِّرة للآية نجدها على قولين؛ وهما القول بأنّ الدخان هو الجوع الواقع لمشركي مكة، والقول بأنّ الدخان من أشراط الساعة التي لم تقع بعد، والناظر في كتب التفاسير سيجد أنّ الخلاف في هذا مبكّر جدًّا[8].

 ويظهر هذا الخلاف بين صحابة رسول الله واستمراره للتابعين -رضوان الله عليهم جميعًا- وهكذا قد انتقل الخلاف من عصر التنزيل إلى ما بعده من القرون؛ مما ينقض دعوى الباحث من أساسها، ولكن السؤال: لماذا يصوِّر روبين أنّ هناك صورتين قد تكوَّنتا واحدة بعد الأخرى؟ بالطبع هو الانحياز الذي لا يدفعه بقوّة للحكم على رأي التفسير الدنيوي بالبطلان وحَسْب، بل يَعْتَبِرُ المفسِّرين الأوائل لهذا القول لا يُعتَدّ بهم ولا يُعِيرُ لخلافهم وزنًا، وهو الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن جدوى بحثه، فهو قد مارَسَ مغالطةَ رجلِ القَشّ -نوع من أنواع الحجج التي يتم فيها إعطاء الانطباع بدحض حُجّة الخصم، في حين أنّ ما تم دحضه هو حُجّة لم يقدّمها الخصم- فهو يقوم بإيهام القارئ أن التفسير الدنيوي غير موجود منذ البداية، ومن ثم فقد تكوّن في وقتٍ لاحقٍ، مع أنّ القول موجود وقد عُرِف منذ الصحابة والتابعين، ويحاول جاهدًا أن يثبت سيادة التصوّر الدنيوي على التصوّر الأخروي في القرون التالية لوفاة الرسول، رغم أنّ الخلاف المبكِّر على تفسير الآية موجود منذ البداية.

4- عدم فهم الدوافع الحقيقية للتفسيرات الأخرى في آية الدخان:

يبني أصحابُ الرأي القائل بأنّ الدخان يُمثّل فترة من القحط والجوع قد عاشها كفّار مكة على واقعة تاريخية ذكرها ابن مسعود: «أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رأى من النَّاسِ إدْبَارًا، قال: اللهمّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يوسف، فأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كلّ شيء، حتّى أكلُوا الجُلُودَ والمَيْتَةَ والجِيَفَ، ويَنْظُرَ أحَدُهُم إلى السماءِ، فَيَرَى الدُّخَانَ من الجُوعِ، فأتاهُ أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنَّكَ تَأْمُرُ بطاعةِ الله، وبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وإنّ قَوْمَكَ قدْ هَلَكُوا، فادْعُ الله لهم، قالَ الله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَومَ تَأْتي السَّمَاءُ بدُخَانٍ مُبِينٍ[الدخان: 10] ...إلى قوله: ﴿إنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَومَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ[الدخان: 15- 16]، فَالْبَطْشَةُ: يوم بَدْرٍ، وقد مَضَتِ الدُّخَانُ والبطشةُ واللِّزَامُ وآيةُ الرُّومِ»[9].

فإذا كانت هذه الواقعة قد حدثت بعد الهجرة فهذا لا ينفي أنّ المقصود بالدخان هذا الحدث، ومن جهة أخرى فإنّ سياق الآيات يَذكُر تخفيفًا للعذاب: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، مما يعطي إشارةً لكونه عذابًا دنيويًّا؛ لأن العذاب يوم القيامة لا يُخفف كما هو معلوم، أي أنّ التفسير الدنيوي له قرائن علمية يقوم على أساسها وليس كما يعتقد روبين.

ثانيًا: إشكالات خارجة عن منهجية البحث:

أولًا: النظر لتفسير القرآن باعتباره أداة وليس منهجًا:

بعد أن بينّا أخطاء وقعت من روبين في المنهج الذي اتّبعه في تحليل البحث نتعرّض لإشكالات للتصوّرات الأصيلة عند الباحث، وأوّل هذه التصوّرات تتمثّل في النظر لمنهج المفسِّرين كونه أداة يطوِّعها المفسِّر لأيّ تفسير يريده بِغَضّ النظر عن دلائل أو براهين، وبالطبع هذا التصوّر قد هدمته تمامًا العيّنة البسيطة من التفاسير المستعرضة في هذا البحث، والذي كشف عن أمانة في نقل الآراء المختلفة للصحابة والتابعين من قِبَل المفسِّرين، حتى لو اختار المفسِّر رأيًا مغايرًا فقد ذكرَ مَن خالفه في ذلك. كذلك منهج الجمع بين الآراء، وهو منهج معروف وله وجاهته ويفتح الباب لنموّ التصوّرات الذهنية والدلالية لدى المفسِّر، حيث يَعتبِر الأقوالَ المختلفة في الآية الواحدة محتملةَ الورود، ولا نستطيع أن ننفي هذه المزية عن لغة القرآن.

ونفهم من هذا: «أنّ الخلاف التفسيري يصدر عن قرائن ومسوِّغات علمية تقوم عند المفسِّر ابتداءً، وليس لرغبة بعضهم في تمرير تصوّرات معيّنة»[10].

ثانيًا: الصورة الذهنية عند المسلمين للرسول:

يبدو أنّ روبين لم يقرأ مطلقًا عن تصوّر المسلم للرسول، وعليه فهو لا بدّ له من قراءة كتب الحديث التي تذكرُ عشرات الفضائل والمعجزات التي تجري على يد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فأوّل رجل دخل في الإسلام هو أبو بكر الصدِّيق الذي قال حينما سمع عن رحلة الإسراء والمعراج، قال: أَوَقَالَ ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلكَ لقد صَدَق، قالوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أنَّه ذهب الليلةَ إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يُصبِح؟ فقال: نعم؛ إني لَأُصَدِّقُهُ فيما هو أبعدُ من ذلك، أُصدّقهُ في خبر السماء في غدوةٍ أو روحة[11].

هذا مثال بسيط يقرِّب الصورة لغير المسلم عن تصوّره عن نبيّه الذي يصدِّقه في قدرته على اتصاله بالملائكة وتلقِّي الوحي، فما هو التصوّر الأسطوري البَعد قرآني يا أيها المتعجِّبُ من تصديق المسلمين -أوائل ومعاصرين، علماءَ وعامِّيين- لنبيّهم؟ وما الشيء الذي يعجز عن فعله رسولُ الله بعد تصديقنا وتسليمنا أنه رسول الله؟ فالصحابة الذين عاصروا النبيَّ كانوا يؤمنون بقدرته على الدعاء على الكفار وقدرته على تحطيم الجبلَيْن على أهل الطائف، وكلّ مسلم يؤمن بذلك ولا يَعُدّ ذلك خيالًا أو انتفاءً للمنطق، بل إنّ عين المنطق تقتضي التسليم لقدرة الرسول الموكَّل من الله بإيصال رسالته، وهذا جزء من الإيمان بأنّ الله خالقُ الكون وقادرٌ على كلّ شيء ومُستَحِقٌّ للإيمان والعبادة.

ثالثًا: المقدمات لا تؤدِّي للنتائج:

يقوم البحث على مقدّمات تؤدّي لنتيجة معيّنة، بيدَ أنّ ما حدث هو مخالفة صريحة لمعطيات البحث؛ فقد استنتج روبين في آخر بحثه أنّ التصوّرات ما بعد القرآنية قد انتشرتْ في أجيال المفسِّرين الأوائل بوجه عامّ، لكن ما عرضه البحث من أقوال للمفسِّرين يقطع بوضوح أنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- قد اختلفوا فيما بينهم على القولين، وانتقل هذا الخلاف إلى التابعين والمفسِّرين من بعدهم، ولم يَسُد تفسير معيّن على الآخر بل استمر الخلاف من عصر الصحابة وحتى وقتنا هذا، كما جاء في مادة التحليل الخاصّة بالبحث دون تدخّلات أو تعليقات، لكن ما وجدناه هو إضفاء التصوّراتِ لمحاولة إثباتٍ لغيرِ موجودٍ من الأصل. وأمّا ما يقوله عن اندثارِ تفسير الدخان بأنه حدثٌ إسكاتولوجي، وإعادةِ إحيائه مرّة أخرى في عصر متأخّر =فغير صحيح؛ فهو لم يندثر من الأساس بل ظلّ يُتناقل في كتب التفاسير جنبًا إلى جنبِ التفسير الدنيوي، وإن كان قد اندثر فَلِمَ استعاد زخمه مرة أخرى؟ ما المبررات والدوافع لذلك؟! بالطبع لا يوجد؛ لأنّ هذا لم يحدث ابتداءً. وأدعوك أيها القارئ بمراجعة التفاسير المذكورة في البحث ليتبيَّنَ لك زيفُ ما تمّ استنتاجُه وتقديمُه في هذا البحث.

خاتمة:

وبعد هذا النظر في فحص هذه الدراسة التي قدّمها روبين، وتمحيص هذه البناءات منهجيًّا تبيَّن لنا عدةُ أخطاءٍ تنالُ من موضوعية البحث وتشكّك في معطياته، كما عرَضْنا تطبيقَ روبين لعرضِ إحصاءات المفسِّرين زمنيًّا والذي لم يَخْلُ من انحيازات وانتقائية لمادة التحليل، على الرغم من عدم تمكّنه من إثبات ما يصبو إليه من خلال هذه الإحصائية، وتبيّن أن معطيات بحثه قد خالفت النتائج التي ذكرها في نهاية بحثه، وقد ناقشنا الفكرة المحورية لهدف البحث وهي وجود صورتين لنبي الإسلام = صورة بشرية وصورة إعجازية قد تشكّلَت لاحقًا في أذهان المفسرين الأوائل، وأوضحنا أنّ هذا التصوّر فاسدُ الأساس وأنّ صورة النبي معلومة لدى كلّ مسلم، وهي صورة واحدة موجودة منذ بداية عصر التنزيل إلى يومنا هذا، والتراث التفسيري يدعم ذلك ولا يعارضه، بل روبين هو مَن حاوَل رَسْمَ الصورة وإيجادَ مسوّغات لها باستنطاق النصوص والتفسيرات.

 ونسأل اللهَ أن يكون قد وُفِّقنا في عرض وتقويم هذا البحث، وأن يغفر لنا الزّلل الذي لا نُبرئ أنفسنا من الوقوع فيه ولا بد.

 

 


[1] الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ترجمة: مصطفى الفقي، مركز تفسير للدراسات القرآنية، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/113

[2] الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص2.

[3] يراجع في التعرّف على هذه الترجمة لروبين: العرض المنشور حولها (عرض كتاب القرآن؛ ترجمة من العربية مع هوامش وملاحق ومفتاح موضوعات)، مائير بر-اشير، ت: صلاح البهنسي، والعرض منشور على موقع تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/74

[4] الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص9.

[5] الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص46.

[6] الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص44.

[7] يراجع: الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص18، تعليق قسم الترجمات.

[8] يراجع: الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص15، تعليق قسم الترجمات.

[9] صحيح البخاري، (1/ 1007).

[10] الصورة القرآنية وما بعد القرآنية لنبي الإسلام، أوري روبين، ص29، تعليق قسم الترجمات.

[11] أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ شخصيته وعصره، (1/ 20).

المؤلف

محمود عماد

باحث في التفسير وعلوم القرآن

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))