ترتيب القرآن في المصحف
بين الرؤية الإسلامية والطرح الاستشراقي
قراءة وصفية تحليلية
مقدمة:
ارتبطتْ حياةُ الإنسان وجوديًّا منذ الخَلْق الأول بالنصّ الدِّيني، بالنظر إلى كونه عصب الحياة؛ إِذْ هو الذي يمدّ الإنسان بالمعنى في الوجود، بصرف النّظر عن ناظم الدِّين الكلّي؛ مُنَزَّلًا كان أو محرَّفًا أو وضعيًّا. وباعتبار مركزيته في الحياة، تعلّقت به أنظار واجتهادات شتى، دون النظر في محدّداتها المنهجية والمعرفية، هل هي موضوعية تبتغي إصابة الحقّ تجريدًا، فهي -بالتّبع- مرضية المسلك ولو أخطأتْ تقديرًا، أو هي ساعية لتسويغ المسبقات التحكّمية، أو غير عِلْمية في باب النظر، فهي غير معتبرة ولو تدثّرتْ بعباءة البحث العلمي. والنظر في النصّ الديني؛ سواء تعلّق بالبحث في دلالاته أو في آياته ونحوهما، حَكَمَه في الغالب على مستوى المنهج عِدّةُ اتجاهات فرعية، مردّها إلى الاتجاهين الكليّين السابقَيْن؛ سواء تعلَّقَا بالنصّ الديني التوراتي أو الإنجيلي أو القرآني، أو بغيرها من النصوص الدينية الأخرى عند الناس في مختلف السياقات الدينية التاريخية، وإن لم تكن لها شُبَه تنزيل في الأصل، وإن انبنَتْ على الدِّين المنزَّل في الأصل، كما هو شأن الكثير من الأديان الوضعية. وجملة الدراسات التي يكون موضوعها النصّ الديني، تعدّدَت أضرُبًا شتى باعتبار أهلها، ومردّها في الغالب إلى ضربين: ضرب منها أنجزه مَن آمن به واتخذه مرجعية له في النظر والعمل. وقسم آخر قام به من لم يؤمن به ابتداء، وإنما اتخذ منه موضوعًا للنظر، نظير أيّ موضوع آخر من مواضيع البحث. والقسمين معًا من الدراسات ناظمها المنهجي الكلي، التقسيم الثنائي السالف الذِّكْر.
في هذا السياق البحثي، لسنا ملزَمِين باتباع مسارات النظر في النصّ الديني وتحديد تطبيقات المسالك المنهجية في النظر فيه؛ إِذْ تحقيق هذا، هو بمثابة مشروع بحث مؤسّسي، وإنما الذي يهمّنا رأسًا، هو النصّ الديني القرآني عمومًا، وقضية من قضاياه الكبرى ومختلف ما يتعلّق بها خصوصًا، وهي: قضية ترتيب آيات القرآن دخل المصحف؛ إِذْ هي من أهم مواضيع البحث؛ سواء في الاجتهاد التراثي، أو في النظر الاستشراقي، أو في الدراسات القرآنية المعاصرة. وتفصيلها في هذه الفضاءات البحثية الثلاثة، موضوعٌ يطول الكلام فيه أيضًا، وطلبًا للاختصار، نقتصر على بعض الاجتهادات، خصوصًا في الفضاء الاستشراقي وساحة الفكر الإسلامي المعاصر. وتحقيق النظر في تلك الاجتهادات يتحدّد بناء على مَعلمين منهجيّين؛ أولهما: مراعاة خصوصية النصّ القرآني، خصوصًا ما يتعلّق بالمحدّد النصيّ المهمّ: محدّد الوحي المنزل[1]. ثانيهما: تحقيق النظر في جملة من الاجتهادات المتعلقة بتلك القضية وفق شرط مراعاة التقيّد بمسلك النظر الموضوعي، القائم على طلب الحقّ في نفس حقيقة الأمر، ولو جزئيًّا، فضلًا عن التجرّد عن معالم مسلك التسويغ المسبق التحكّمي قصد تحقيق أغراض شتى، أهمها التشكيك فيما لا يُقبل التشكيك فيه، أو نفي الصفة الذاتية الملازمة للمنظور فيه بما لا يرتقي إليها من الأدلة القاطعة، فقط توسّلًا بالاعتبارات الذاتية غير المعتبرة في البحث المحرّر؛ إِذْ أساس قيامها التوهُّم والتلفيق وليس التحري والتحقيق.
في سياق التوطئة للبحث في هذه القضية، وقبل إيراد التفصيل والتدليل والتمثيل، لا بدّ من التنبيه على جملة أمور أساسية محدّدة للنظر المنهجي، في صلتها بما يثار من (شُبَه) متّصلة بالنصّ القرآني بمكوّنيه معًا[2]، ومن أهمها:
أولًا: تحديد منهج النظر في (الشُّبَه) المتداولة في فضاء إعادة البحث والنظر؛ بحيث إن جملة من (الشبه)؛ سواء تبنَّتها الدراسات الاستشراقية، أو أهل إعادة القراءة والتأسيس وفق ناظم (القطيعة المطلقة) مع تأصيل التراث الإسلامي العربي، لا يتعيّن أن ينصرف الاجتهاد إلى الدفاع والردّ على مقرّرات محصول النظر في هذا الفضاء أو ذلك الكتاب، وإنما الواجب المنهجي يتحدّد بالدراسة الموضوعية وفق منهج نقدي جذري صارم لتحقيق الغربلة، وبالتّبع لتبيان ما له صلة معتبرة بالنصّ القرآني، وما يعدّ من انحراف وزيغ القول.
ثانيًا: التمييز في جملة (الشُّبَه) بين ما يستند إلى أصل منهجي أو معرفي معتبر في باب النظر، وتلك التي لا تتجاوز لغو القول؛ سواء صدرت عن الدرس الاستشراقي أو دعاة إعادة القراءة والتأسيس أو غيرهما، إِذْ يكون مدار الحكم، النظر في أصول ومقومات الاجتهاد والتأسيس، وليس جهة القول أو زمن انبثاقه، ذلك أنّ من أصول البحث ليس النظر إلى مَن قال بل إلى ماذا قال.
ثالثًا: تحقيق القول في مفهوم (الشُّبَه)، إِذْ ليس كلّ نظر اجتهادي خالف المعهود الاجتهادي، أو أتى باجتهاد غير مسبوق، يُرمى بحكم إثارة (الشُّبُهات)، ويرفض محصول اجتهاده، إِذْ إنّ إمكانات الاجتهاد لا تُحصر في معهود اجتهاد سابق أو لاحق في أيّ زمن، فضلًا عن أنه قد ثبت بالبرهان القاطع أن جملة من (الاجتهادات) السابقة أو المتزامنة التي ظنّها أهل الولع بالتقليد صائبة؛ تبيّن أنها ليست كذلك، بالنظر إلى مراعاة خصوصية النصّ القرآني وما تفرِض من الاحتكام إلى جملة من المحدّدات المعيارية المنهجية والمعرفية، إِذْ كانت في أصلها مجرّد استجابة لحدث وفعل تاريخي متحوّل. وفي المقابل فإنّ العديد من (الاجتهادات) التي أُلْصِقَت بها تُهَمٌ شتى بدعوى مخالفة المعهود الاجتهادي، تبيَّن بالدليل الساطع أنّ بعضًا منها صائبة وفق محدّد النظر السابق نفسه؛ سواء صدرتْ عن أهل العلوم الشرعية من خريجي الجوامع الإسلامية، أو عن غيرهم من أهل التجديد؛ سواء كانوا من خريجي تلك الجامعات أو من الجامعات الغربية. فيكون -بالتّبع- مدار الأمر كلّه ليس سياق القول أو زمن انبثاقه، وإنما صحة منهج النظر.
رابعًا: إنّ الدعوة إلى إعادة التأسيس لجملة قضايا منهجية ومعرفية متصلة بالنصّ القرآني، لا يستلزم ضرورة إثارة (الشبهات) حول القرآن، باعتبار أنّ إعادة التأسيس فيما يقبل ذلك، يندرج ضمن إمكانات الاجتهاد المتعدّدة، والتي يكون مدار النظر فيها منوطًا أساسًا بالمنهج صحةً واعتلالًا. وإعادة التأسيس وفق المنهج المعتبر في الباب، هو خيرٌ وأقوم قيلًا من تقليد معهود إمكاني سابق أو متزامن؛ إِذْ إنّ الأول ينطلق من أصل معتبر في باب الاجتهاد، وهو الإمكان، فيكون مناط النظر التقويمي فيه يتعلّق بمنهجه ومحصوله. أمّا الثاني، فينطلق من أصل غير معتبر شرعًا في الباب، وهو التقليد؛ إِذْ هو بصرف النظر عن منهج النظر ومحصوله، فإنه يرسخ التقليد ويرفعه إلى مقام الوجوب، والذي لا يتعلّق إلّا بالقول المعصوم، والاجتهاد الإنساني المجرّد ليس كذلك[3].
بناء على ما تقدّم، يكون هذا المقال متعلِّقًا بترتيب القرآن في المصحف، بين توقيف الوحي المعصوم وتعدّد مسالك النظر الاجتهادي المتعاقبة لا سيما في الطرح الاستشراق.
ولتناول هذه القضية اخترنا مجموعة ممن نظر فيها من الفضاء البحثي الاستشراقي؛ سواء كانوا من النظار المؤسسين، كـ«أجنس جولدتسيهر» و«تيودور نولدكه» وغيرهما، أو كانوا من الدارسين العاديين كـ«كلود جيليو» و«غيرهارد بويرينغ» وغيرهما، وكذا من نظر فيهما وفق منظور المحصول الاستشراقي من فضاء الفكر الإسلامي المعاصر بالصورة أو بالروح، كـ«محمد عابد الجابري» و«محمد أركون» و«هشام جعيط» وغيرهم، أو كانوا ممن انتقد المحصول الاستشراقي وسعى لتأسيس منظور اجتهادي لنظر المأصول الإسلامي فيهما كـ«أبي يعرب المرزوقي» و«محمد أبو القاسم حاج حمد» وغيرهما.
من خلال مقاربة هذه القضية في هذين الفضاءين المعرفيين، نسعى لكشف منهج البحث والنظر، لنتبيّن إلى أيّ حدّ كان منهج البحث فيهما موضوعيًّا، وإلى أيّ مدى تمّت مراعاة خصوصية آيات وحي نصّ القرآن في المصحف، دون تحكيم للمسبقات، التي ليست مما هو مخمّر، ولا جري وراء إطلاق العنان للظنيّات الاحتمالية، التي لا تتجاوز حدّ الفرضيات والاعتبارات الذاتية. لذا، فإنّ المنهج الذي نسير على هَدْيه في هذا المقال؛ يقوم على العرض الموضوعي (الدراسة التحليلية)، ويُقصد بها: تقديم الاجتهادات المتعلقة بموضوع النظر موضوعيًّا ما أمكن؛ سواء كان موافقًا للمنظور الإسلامي الأصيل أو مخالفًا، بعيدًا عن أيّ تسويغٍ للمسبقات أو تأويلٍ مُفرط أو تَشَهٍّ تحكّمي، عرضًا نسقيًّا من باب الإحاطة الممكنة بمنظورات اجتهادات النظّار منهجيًّا ومعرفيًّا، دون تزهيد أو إقصاء بوصف حكم ديني أو معرفي[4]، مع تضمينها أو تذييلها بملاحظات وإشارات عامة كاشفة عن المعالم المنهجية.
بناء على ما تقدّم، نجتهد في هذا المقال في بيان معالم ومقوّمات النظر الاستشراقي في إعادة ترتيب القرآن في المصحف، فنقول:
إنّ القرآن -حدًّا- يعدُّ مجموعة (آيات) أو (عبارات) استغرق نزولها مدة ثلاث وعشرين سنة على القول المختار في الباب، موزّعة بين (العهد المكي) و(العهد المدني)، إِذْ هي قد أُنْزِلَتْ وفق سُنّة التدرج، عكس ما سبق من آيات النصوص الدينية الأخرى، كما هو منصوص عليه في العديد من الآيات القرآنية، منها قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان: 32]. وقوله سبحانه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء: 106].
بناء على هذه الخصيصة القرآنية، ثبت في العديد من الأحاديث الصحيحة، أنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- باعتباره هو المتلقِّي الأول لنزول آيات القرآن والمبلِّغ لها، فضلًا عن كونه هو المبيِّن =قد عمل -عليه السلام- في زمن النبوّة والنزول على تحقيق أمرين متلازمين؛ أولهما: كتابة نزول آيات القرآن بمجرّد نزولها عليه فيما كان متوفّرًا زمنئِذ. ثانيهما: أن أمر كتابتها أو جمعها داخل المصحف أُنجز وفق ما يسمى بـ(الترتيب التوقيفي)، المنوط بالوحي ابتداء وانتهاء، ذلك أنّ الرسول -عليه السلام- لم يَمُت حتى كانت آيات القرآن كلّها مجموعة مكتوبة في نُسخ متفرّقة دون جمع لها في كتاب. أمّا التدوين أو (الجمع التقني) اللاحق في عهد أبي بكر وعثمان -رضي الله عنهما- فقد استند أساسًا إلى (الجمع النبوي الأصلي)، خصوصًا في عهد عثمان، الذي جمعه في مصحف جامع. ومما يدلّ على الأمرين السابقين في العهد النبوي، نورِد الأحاديث الآتية من باب التمثيل:
1. عن البراء قال: «لمّا نزلَت الآية: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قال النبيُّ -عليه السلام-: ادعُ لي زيدًا ولْيَجِئ باللوح والدّواة والكتف -أو الكتف والدّواة- ثم قال: اكتب {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ}، وخَلْفَ ظَهْرِ النبيّ -عليه السلام- عمرو بن أُمّ مكتوم الأعمى، فقال: يا رسول الله فما تأمرني؛ فإني رجلٌ ضريرُ البصر، فنزلَت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: 95][5].
2. عن عبد العزيز بن رفيع قال: «دخلتُ أنا وشداد بن معقل على ابنِ عباس، فقال له شداد بن معقل: أتَرَكَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- من شيء؟ قال: ما ترَك إلّا ما بين الدفّتين». قال: «ودخَلْنَا على محمد بن الحنفية فسألناه، فقال: ما ترَك إلّا ما بين الدفتين»[6].
3. في حديث أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قَدِم على عثمان بن عفان، وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح الأرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزعه اختلافُهم في القراءة، فقال لعثمان: «يا أمير المؤمنين، أَدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أنْ أرسلي إلينا بالصُّحُف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليكِ» الحديث[7].
4. عن أنس بن مالك قال: «مات النبيّ -عليه السلام- ولم يجمع القرآنَ غيرُ أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قال: ونحن ورثناه»[8].
5. أنّ زيد بن ثابت أَرسل إليه أبو بكر -رضي الله عنهما- بعد مقتل أهل اليمامة فقال له: «إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله -عليه السلام-، فتتبّع القرآن فاجمعه. فقال زيد: فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللّخاف وصدور الرجال»[9].
6. عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «جمعتُ المحكَم في عهد رسول الله -عليه السلام-، فقلتُ له: وما المحكَم؟ قال: المفصّل»[10].
بناء على ما سلف، استقر نظر مأصول الاجتهاد في تاريخ الفكر الإسلامي على القول بأنّ (ترتيب الآيات) داخل المصحف (توقيفي). لذلك، فهو بقدر ما يحقّق مفهوم (التعبد) بالمعنى الديني، هو أيضًا المعتبر في باب النظر في آيات القرآن تفسيرًا وتأصيلًا للأحكام ونحوه، عكس (ترتيب السور) الذي عُدّ -جمعًا بين الأقوال- أنه (توفيقي). وعلى الرغم من المقومات الصريحة لتأسيس هذا الأمر في النظر إلى آيات القرآن في المصحف خصوصًا، والذي عزّزته اجتهادات متوالية في مراحل عديدة من تاريخ الفكر الإسلامي، فقد كثرت الدعوات في السياق الحديث والمعاصر إلى «إعادة ترتيب آيات القرآن» داخل المصحف من جديد، فضلًا عن سورِه، وفق مسالك التوفيق الاجتهادي، بناء على اختيارات منهجية متعدّدة، خصوصًا الأنظار الاجتهادية في فضاء الدراسات الاستشراقية، تحقيقًا لأغراض شتى كما نبيّن لاحقًا، ونمثّل لتلك الأنظار من الفضاء البحثي الاستشراقي بما يأتي.
الدراسات الاستشراقية المتعلقة بالنصّ القرآني، من باب الرسم المنهجي، انتظمَتْ في سياق ثقافي عام، متعلّق بتلك الصراعات الحادّة التي دخل فيها بعض المفكرين الغربيين ضدّ التسلُّط الديني الكنَسيّ، الأمر الذي جعلهم يتعاملون مع النصّ القرآني مثل تعاملهم مع نَصَّي التوراة والإنجيل وغيرها من النصوص الدينية الأخرى، وأحيانًا أخرى تم التعامل معه مثل تعاملهم مع النصّ البشري، إِذْ تم النظر فيه بوصفه «مادة لغوية» أو «وثيقة تاريخية»، بصرف النظر عن أيّ أمر آخر كمصدره أو قائله أو خصائصه ونحو ذلك[11]. وجملة الدراسات الاستشراقية المنوطة بالنصّ القرآني إذا نظرتَ فيها وجدتها تنظر فيه من أحياث مختلفة، منها؛ الحيْثُ الأول متعلّق بنصّه اللغوي جمعًا وترتيبًا، والحيْثُ الثاني متّصل بمحيطه التاريخي تأثيرًا وتأثُّرًا.
إنّ الناظر في الأبحاث المتعلقة بالنصّ القرآني من المنظور الاستشراقي الغربي، يلاحظ أنها تتعدّد تكوثرًا من حين لآخر، وفق مناهج بحثية مختلفة. نجتهد في هذا السياق لتركيز الحديث على ما يتصل بالحيْثِ الأول، المتعلّق بإعادة «ترتيب آيات القرآن» داخل المصحف، فضلًا عن سوره، وفق الترتيب التسلسلي الزمني التأريخي للنزول زمن النبوّة، ولبيان الموضوع على وجهه نأخذ من باب التمثيل لا الحصر الأنظارَ الاستشراقية الآتية بنوعيها[12]، من أجل إيراد بعض معالم منهج إعادة الترتيب بصورة مجملة.
أولًا: النظر البحثي الاستشراقي التأسيسي:
كثيرة هي الأنظار الاستشراقية التأسيسية المتعلقة بـإعادة «ترتيب القرآن في المصحف»، وطلبًا للاختصار، نمثّل لهذا النوع من البحث في الفضاء الاستشراقي بالمنظور الاستشراقي التأسيسي لتيودور نولدكه (1836-1930). ونعتمد في تحديد منظوره لهذه القضية على كتابه: (تاريخ القرآن).
ترتكز المحاولة التأسيسية لتيودور نولدكه الساعية لإعادة «ترتيب آيات القرآن» خصوصًا، و«سوره في المصحف» عمومًا، المخالف لـ«ترتيب المصحف»، على مجموعة من المقومات المنهجية والمعرفية، علمًا أنّ الأول توقيفي، في حين الثاني اجتهادي كما هو متقرّر في مأصول الفكر الإسلامي، ومما اعتمده في سبيل تحقيق ذلك، نورِد الأمارات المنهجية والمعرفية التعريفية الآتية:
1. اعتبر نولدكه أنّ إعادة «ترتيب القرآن» الذي اجتهد في تحقيقه، لم يسبقه إلى مثل هذا العمل المبتكر إلّا القليل من الباحثين الأُوربيين في مجال الدراسات النقدية والتاريخية واللغوية للنصّ القرآني، على الرغم مما احتفّت به محاولته من نقائص وأعطاب، بالنظر إلى طبيعة النصّ القرآني وما تعلّق به منذ بداية نزوله[13].
2.إن إعادة «الترتيب الزمني التاريخي للقرآن» الذي اجتهد في إنجازه نولدكه، هو في حقيقة أمره عبارة عن (ترتيب بصورة عمومية)، وليس (ترتيبًا بصورة قطعية دقيقة) كما نبين لاحقًا، بالنظر إلى أنّ المعتمد عليه في إعادة (الترتيب)، هو أمر الاجتهاد الظني، ولو كان معتبرًا، فهو لا يحقّق أمر (القطع) المعتبر أساسًا في هذا الباب، فضلًا عن جملة من (الروايات) الظنية إنْ صحّت[14].
3. في سبيل إعادة «ترتيب القرآن»، لم يتوسّل نولدكه بما سماه بـ«الترتيب التراثي»[15]، بالنظر إلى أنه تخلّلته أعطاب واعتلالات منهجية ومعرفية عديدة، أفقدته اعتباره الموضوعي في الباب، ومن أهم ذلك، أنه يخلو من (الدقّة) المعتبرة في موضوع البحث، وأن (الروايات) المؤسّسة للترتيب تختلف وتتضارب، بل (تتناقض) في الموضوع الواحد، وأنه ترتيب أو تصنيف يفتقر إلى أيّ (قاعدة نقدية موثوق بها) في الباب، فضلًا عن أنه قائم على مبادئ غير ثابتة. فبهذا وغيره، اعتبر نولدكه أن (الترتيب التراثي) غير موثوق به ألبتة، فمن العبث -بالتبع- الاكتفاء به أو الاستناد إلى مقوّماته البنائية لتحقيق ترتيب زمنيّ مَرْضِيّ لآيات القرآن[16].
4. بعد نقد ورفض «الترتيب التراثي» المعهود للقرآن في المصحف، أقام نولدكه «الترتيب الجديد» الذي ينشده على مجموعة من المحدّدات، نجمل أهمها فيما يأتي:
أ. الاعتماد على مجموعة من الروايات المتعلقة أساسًا بـ(أسباب النزول)، شرط كونها خالية من العيوب اللازمة لمرويات «الترتيب التراثي»؛ إِذْ هي في جوهرها كما في التراث الإسلامي تعكس «الخلط الرهيب»، الذي لا يصح على أيّ أساس بحثي موضوعي، ولا يثمر مقاصد مرضيّة في الباب[17].
ب. المصدر المعتمد في اجتهاد نولدكه هو الاستناد إلى «النقل التاريخي» و«التفسيري»، وإن كان أغلبه غير «موثوق» به، فضلًا عن كونه يتعلّق أساسًا بالقرآن المدني، بالنظر إلى أنّ الرسول -عليه السلام- في العهد المكي لم تكن تصدر عنه أحداث كبرى شارك فيها الكثير من الصحابة، عكس آيات القرآن في الزمن المدني[18].
ج. الاستناد إلى (لغة) و(أسلوب) آيات القرآن؛ إِذْ من بين الوسائل المفصلية في الباب، التتبع والمراقبة الدقيقة لمعنى ولغة استعمال آيات القرآن. بناء على (لغة) و(أسلوب) تدرُّج نزول آيات القرآن، نَصَّ نولدكه مثلًا على أنّ «الآيات التي لغتها ومضامينها متأججة»، فهي «أقدم من القصيرة والهادئة»، وأنّ العديد من الدرجات المختلفة تظهر بين الصفتين. فيكون -بالتبع- مراعاة «اختلاف الأسلوب» أساسيًّا في إعادة «ترتيب القرآن»، مع أن الغالب على أسلوب لغة القرآن أنه ذو «طابع قافز». تعزيزًا لهذا المعيار في «الترتيب الجديد» لاحظ نولدكه مثلًا أن مواضيع آيات الفترة الثالثة من آيات نزول القرآن المكي كما نرى لاحقًا، أسلوب معالجتها يتسم بـ«الإطناب والوهن النثري والتكرار اللانهائي والبراهين التي تفتقر إلى الدقّة والوضوح والقصص الذي لا يأتي إلّا بالقليل من التنوّع»، مما يجعل هذه المقاطع من آيات القرآن «مملّة». في مقابل آيات الفترة الثالثة، لاحظ أن آيات الفترة الثانية من القرآن المكي من حيث طبيعة لغة أسلوبها، تتسم بـ«الانتقال من الحماس العظيم والخيال العنيف والإثارة، فضلًا عن الأسلوب الذي تطغى عليه السكينة والتأمّل الهادئ»، خصوصًا في الآيات ذات «الطابع النثري»، مما جعل هذه الآيات تهيمن عليها صفة «تكديس الأمثلة التاريخية والطبيعية إلى حدّ الإطناب»، دون «ترتيب منطقي»، وهذا «الانتقال الأسلوبي» من منظور نولدكه «لم يحصل دفعة واحدة»، وإنما تكوّن «تدريجيًّا»، وقد كان أحد أهم أسباب هذا «التعديل الأسلوبي» هو سعي محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى تعطيل الشكّ بأنه (شاعر) أو (كاهن) ونحو ذلك من التّهم، التي وجّهها إليه أهل مكة[19].
د. اعتماد «التطوّر التاريخي التدريجي» في تصنيف وترتيب آيات القرآن، خصوصًا ما يتعلّق بالأسلوب والأفكار ومدى تناسبها وتماسكها وإيقاعها وترتيبها ونحو ذلك. تعزيزًا لهذا الملحظ، تبيّن لنولدكه أنّ الفترة الأولى من القرآن المكي التي يطغى عليها طول الآيات والحديث الإيقاعي والعاطفي الذي يقترب من «السجع الصحيح» كثيرًا، يخالف الفترة المتأخّرة التي يتحول الحديث فيها شيئًا فشيئًا إلى «نثر بحت»[20].
5. أفضتْ محاولة إعادة «ترتيب القرآن» في المصحف الذي قام بها نولدكه إلى جملة نتائج، نورِد منها على سبيل التمثيل الإجمالي ما يأتي:
أ. بناء على مراعاة اختلاف (اللغة) و(الأسلوب) والمضمون المعرفي، أفضى به إلى تقسيم آيات القرآن إلى التقسيم الثنائي للقرآن المعهود، المكي والمدني، إلا أن المكي منه قسمه إلى ثلاث فترات متتالية، في حين القرآن المدني عَدّه فترة واحدة[21]. وكلّ فترة من الفترات الأربع لتوالي نزول آيات القرآن محدّدات تخصّها وتميّزها عن غيرها. ونورِد فيما يأتي بعض خصائص كلّ فترة على حدة على وجه الإجمال والتمثيل فقط، وليس على وجه الاستغراق والتفصيل:
محدّدات آيات الفترة الأولى: تتحدّد بمجموعة من المميزات في مقابل ما يليها، الأمر الذي جعل نولدكه يقرّر أنّ ترتيبها يمكن أن يكون يقينيًّا بسبب فرادة أسلوبها، ومما تتميز به: أنها من حيث الزمن تستغرق السنوات الأربع الأولى من النزول. أنّ آياتها قصيرة؛ إِذْ تعكس الحركة الشفوية التي تتقطع مرارًا بسبب تعاليم بسيطة وهادئة، إلّا أنها زاخرة بالقوة. يَرِدُ الكلام فيها مفعمًا بالصور الصارخة والنبرة الخطابية؛ بحيث إنها تحتفظ بلونها الشعري الكامل. الكلام فيها أيضًا يتحرك وفق إيقاع، وذو جرس عفوي جميل. أنّ آياتها تعمّ كلمات القَسَم (30)، في مقابل مرة واحدة في آيات الفترة الرابعة، إذ القسَم يتمّ فيها بمجموعة من الأشياء أو الكائنات الأنثوية، ولهذا النوع من القسم حسب نولدكه «ما يحاكيه خارج القرآن». السجع الوارد فيها «أُخِذ عن الكهّان الوثنيين» كما يرى نولدكه أيضًا[22].
محدّدات آيات الفترة الثانية: تتحدّد بدورها بعدّة علامات مميزة لها عن الآيات السابقة واللاحقة، الأمر الذي جعل نولدكه يقرّر بأن ما نزل في هذه الفترة الذي يعمّ السنة الخامسة والسادسة من البعثة، يسمح بقدر من السهولة لإخضاعه لشيء من الترتيب الزمني، إلّا أنه لا يتحقّق إلّا بصورة عمومية، أمّا التحديد الدقيق فمستبعد، ومما يتوسّل به لتحقيق ذلك ما يأتي: أنّ مقاطع وآيات هذه الفترة ليس لها «طابع مشترك»؛ إِذْ بعضها يشبه آيات الفترة الأولى، والآخر يشبه آيات الفترة الثالثة. في مقاطع هذه الفترة يتم الانتقال من الحماس العظيم إلى أسلوب يتّسم بقدر من السكينة في الآيات الأخيرة من هذه الفترة التي يغلب عليها «الطابع النثري»، وهذا الانتقال من منظور نولدكه بقدر كونه «حصل تدريجيًّا»، فهو يعكس «إحباطات الواقع». حلّ التأمّل الهادئ محلّ الخيال العنيف والإثارة والحماس الشديد، كما كان عليه الأمر في آيات الفترة الأولى. الاستناد إلى أمثلة كثيرة ومتنوّعة من الطبيعة والتاريخ، إلّا أنها ترِد فيها مكدَّسة بعضها فوق بعض بدون «ترتيب منطقي»، مما يفضي إلى «الإطناب»، ويصبح الأمر مُمِلًّا، وخلوّها من هذا الأمر لا يعني أنها تخلو من «المواضيع الجميلة» و«الجليلة» حسب تقدير نولدكه. حلّ محلّ الإعلانات النارية مناقشات مستفيضة للعقائد والأفكار ونحوها، لا سيما معرفة الله تعالى، من خلال النظر في الآيات المنتشرة في الطبيعة. تعكس آيات هذه الفترة ما يسمى بـ«القصص القرآني»، الذي يستخدم لإثبات التعاليم الجديدة ومواساة الأتباع وإنذار الأعداء. كثرة العبارات الدالة على أن ما جاء به محمد -عليه السلام- هو «وحي»، خصوصًا مفردة {قُلْ}، التي لا توجد في آيات الفترة الأولى. ما يميز هذه الآيات حسب نولدكه، أنّ محمدًا -عليه السلام- أطلق على إلهه «اسم الرحمن» إضافةً إلى «اسم الله»؛ إذ «اسم الرحمن» ورَد في آيات الفترة الأولى مرّة واحدة، ويرِد في هذه الآيات أكثر من «اسم الله» المعتاد، ثم يتقلَّص أكثر في آيات الفترة الثالثة إلى أن يغيب في آيات الفترة المدنية[23].
محددات آيات الفترة الثالثة: ما يخصّ آيات هذه الفترة من منظور نولدكه -التي استغرق نزولها ما لحق السنة السادسة من البعثة إلى الهجرة للمدينة- أنّ ما تكوّن في آيات الفترة الثانية تدريجيًّا من المعالم الأسلوبية واللغوية لمعالجة جملة من المواضيع، قد برز في صورته النهائية في آيات هذه الفترة؛ بحيث إنّ لغتها ظهرت في صورة «مطنبة واهية نثرية»، «التكرار لا نهاية له»، «البراهين المقدّمة» تفتقر حسب تقدير نولدكه إلى «الوضوح» و«الدِّقّة» و«الحِدّة»، ولا تقنع إلّا من يؤمن سلفًا بالنتيجة النهائية، فضلًا عن أن قصصها «لا يأتي إلّا بالقليل من التنوّع»، كلّ هذه التوصيفات تجعل ما أُنزل في هذه الفترة من الآيات «مملًّا» في كثير من الأحيان. تتحدّد هذه الفترة بـ«الطول» المتزايد للآيات، الذي له «علاقة وثيقة بالأسلوب الذي أصبح أكثر نثرية»، و«لا يبقى من القالب الشعري سوى الفاصلة». أنّ آيات هذه الفترة تستهل بعبارة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}. نظرًا لاختفاء «التطور» نسبيًّا في آيات هذه الفترة تضعف حسب تقدير نولدكه إمكانية «القيام بترتيب تاريخي» جدير بالاعتبار، عكس ما تسمح به محددات آيات الفترة الأولى والثانية[24].
محدّدات آيات الفترة الرابعة: تتعلّق آيات هذه الفترة بالعهد المدني، التي ارتكزتْ أساسًا على موضوع «التشريع»؛ بالنظر إلى أنّ «آيات القرآن تميل إلى اتّباع ما تمليه الظروف الراهنة»، أكثر من اتّباعه لنظام محدّد في التشريع. آيات هذه الفترة نادرًا ما تتضمن عبارة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ بالنظر إلى أنّ النبي لا يتوجّه إلى الناس عمومًا كما في العهد المكي؛ لذلك يستعمل عبارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وأندر منها عبارة: (يا أيها اليهود)، و(يا أيها المنافقون). تطوّر اللغة في قرآن العهد المكي، لا يلاحظ في قرآن العهد المدني إلّا في آثار متفرِّقة، مع تضمّنه أيضًا لمواضيع مفردة قويّة الأسلوب وشعرية أيضًا. بالنظر إلى كون آيات القرآن المدني تشمل أحداثًا تاريخية كبرى، نستطيع كما يؤكد نولدكه من «إعداد ترتيب زمني» عكس القرآن المكي، الذي تقلّ فيه الأحداث الكبرى، فضلًا عن طغيان «الحكايات الخرافية». وعلى الرغم من هذا الفارق، فإنّ «الترتيب الزمني للقرآن المدني» متحقّق على وجه التقريب أو القول الإجمالي فقط[25].
ب. اختلف «الترتيب الجديد» الذي توصّل إليه نولدكه عن «الترتيب التراثي» المعهود، بالنظر إلى اختلاف المسالك المتبعة في تحقيق الترتيب، فضلًا عن كثرة النقد وتنوّعه الموجّه إلى العديد من الروايات والأخبار والاجتهادات التراثية، بالنظر إلى كونها لا تصح من منظور نولدكه في إقامة الترتيب التاريخي[26].
ج. حديث نولدكه عن آيات القرآن في سياق السعي لـ«إعادة الترتيب»، اعتبرها من «تأليف محمد» -عليه الصلاة والسلام-، والتي تخضع في بنيتها التعبيرية والتركيبية لتقلباته البشرية، خصوصًا في علاقته بأمّة الدعوة من كفار قريش في مكة أو غيرهم في المدينة. فمراعاة هذا التلازم من بين أهم ما يستند إليه نولدكه في إعادة «ترتيب آيات القرآن». لذلك، يكثر من إيراد عبارة: «تأليف القرآن»، أو عبارة «وَضَعَها» أو «كَتَبَها محمد» ونحو ذلك[27].
د. يكرّر نولدكه مُسَلَّمة متداولة كثيرًا في فضاء «إعادة الترتيب» و«القراءة لآيات القرآن»، وهي أنّ القرآن ناقص غير كامل، إِذْ إن جزءًا منه غير مقدّر تحديدًا قد «سقط» أو «ضاع» من القرآن، أو ما أدرج فيه لاحقًا وليس منه، بدليل «مخالفة السياق» و«الفاصلة» و«التطوّر اللغوي» و«الأسلوبي» لآيات القرآن[28].
هـ. يكثر نولدكه في سياقات متعدّدة من إيراد النصوص والإيحاءات والاستنتاجات، الدالة بالأصل الأول على نفي «أصالة القرآن»[29]، بالنظر إلى أنّ محمدًا -عليه السلام- قد أخذ عن غيره كثيرًا مما كان سائدًا قبله، كـ«قصص سورة الكهف؛ إِذْ هي أساطير من صُلب الأدب العالمي الذي كان معروفًا في ذلك العصر. وربما اتبع محمد تسلسل المقاطع والروايات المنقولة»، أو ما أخذه عن اليهود، بدليل موافقة ما ورَد في القرآن لما عند اليهود، ونحو ذلك[30].
و. في سياق إعادة «ترتيب آيات القرآن»، أطلق نولدكه عدّة أحكام كلية مطلقة على مجموعة من أخبار القرآن وروايات الحديث النبوي ومعهود التراث الإسلامي بـ«الحكاية الخرافية السخيفة»، ومنها: «انشقاق القمر»، و«الإسراء والمعراج»، و«سؤال أهل مكة الرسول -عليه السلام- الأسئلة الثلاثة المعروفة قصد التعجيز وبيان كذبه» وغيرها[31]، عكس «قصة الغرانيق»، التي اعتبرها تعكس «الخوف الذي اعترى في ذلك الحين محمدًا الذي فتّش عن حلّ وسطٍ مع الدِّين القديم باعترافه بتلك الإلهة ككائنات جيدة خاضعة لله»[32].
بناء على جملة ما اعتمده نولدكه في سبيل إعادة «ترتيب آيات القرآن»، وجملة النتائج التي أسفرتْ عنها محاولته التأسيسية في الباب، يمكن القول:
1. إنّ الأساس الناظم والعصب المنهجي الكلي لاجتهاد نولدكه، هو التقدير العقلي، وهو وإن كان صائبًا ومعتبرًا في باب الظنيّات المعرفية، إلّا أنه لا يحقق القطع واليقين في الباب الذي لا يعتدُّ بالقول إلّا إذا كان قطعيًّا ويقينيًّا، كهذا الباب، بالنظر إلى توقف التعبد والتكليف عليه، فضلًا عن أن محاولته احتفت بها مجموعة من الاعتلالات، التي جعلته يتردّد في إثبات يقين وقطع الترتيب الذي ارتضاه لآيات وسور القرآن[33].
2. إن نظر نولدكه في النصّ القرآني رأسًا، بالنظر إلى منهج النظر فيه وما توصل إليه من خلاصات، حكم بالمحدّدات المنهجية والمعرفية الآتية:
أ. النظر فيه باعتباره مجرّد «نصّ لغوي» أو «وثيقة تاريخية» من مصدر أرضي محايث بصورة خالصة، مفصول عن قائله أو منزله الأعلى سبحانه، إن كان من عند الله تعالى حسب منطلقه، ومن شأن هذا المحدّد المنهجي أن يجعل الناظر جريئًا غير مقدّر لحقائق الأمور ومقاصدها. لذلك، لم يتورّع عن القول بأن النصّ القرآني كما هو في المصحف محرّف.
ب. جعل ما يحدّد منهج النظر في النصّ القرآني، هو نفسه ما يحدّد منهج النظر في النصّ التوراتي والإنجيلي، فضلًا عن أنه هو نفسه ما يحدّد منهج النظر في أيّ نصّ بشري تاريخي آخر مطلقًا؛ تجسيدًا للمفعول المنهجي القائم على «التسوية الدينية» و«التداخل النصّي» بين مطلق النصوص الدينية، علاوة على «المماثلة الدينية»، هناك أيضًا «المماثلة اللغوية» بين مطلق النصوص البشرية.
3. إنّ المعيار المنهجي الكلي الذي توسّل به نولدكه لتحقيق «الترتيب لآي القرآن»، هو تغير «لغة» و«أسلوب» المقاطع القرآنية، إلا أنه لا يتحقّق به المطلوب وفق منهج مرضيّ في الباب، بدليل أنّ ذلك خاضع للتوقيف وليس للاجتهاد والتقدير العقلي، وإلّا لكانت لآيات ومقاطع القرآن ترتيبات متعدّدة تكوثرًا بعدد أنظار النظّار، وهذا أساس مدخل العبث الذي يتنزّه عنه أهل التحقيق والنظر الدقيق.
4. يجنح نولدكه في العديد من اجتهاداته إلى «النقل التاريخي»، المتعلّق بـ«الروايات»، إلّا أن هذه «الروايات» على الرغم من تعدّدها وتضاربها، وأحيانًا أخرى تناقضها، لا يتسنى بها تحقيق القطع؛ إِذْ هي وإن صحّت وتجرّدت عن الأعطاب والاعتلالات لا يتحقق بها القطع واليقين في الباب، إِذْ أقصى ما يتحقّق بها الظنّ والاحتمال المتنافي مع أصل الباب.
5. إنّ مراعاة الحيثيات التاريخية لأحداث الدعوة والنبوّة في زمن النزول لتكون أساسَ تحقيق الترتيب للآيات والمقاطع القرآنية، فهو بقدر كونه يخالف خصائص القرآن التي لا تقبل بطبيعتها الارتهان التاريخي، بقدر أنّ تلك الأحداث لم تَسْلم بدورها من التزييف والوضع ونحوه.
وعليه، فإنّ الأُسس المنهجية والمعرفية التي توسّل بها نولدكه لإعادة «ترتيب آيات» و«مقاطع القرآن» ترتيبًا جديدًا، تجدها قد تتخلّلها العديد من الأعطاب والاعتلالات المنهجية والمعرفية، التي تتنافى مع أصل منهج الباب. وبالتبع فالتعويل عليها أو الاعتماد على نتائجها غير معتبر في الباب.
ثانيًا: النظر البحثي الاستشراقي العادي:
في مقابل النظر البحثي الاستشراقي التأسيسي، وجدت جملة دراسات استشراقية اتخذت «إعادة ترتيب القرآن» موضوعًا للبحث، إلّا أنه ليس من باب التأسيس، وإنما هو وارد من باب الدراسات العادية، التي سعت إلى توسيع وتكميل وتطوير النظر الاستشراقي التأسيسي، خصوصًا منظور نولدكه. ونمثّل في هذا السياق لهذا النوع من البحث بما يأتي:
1. المنظور الاستشراقي لكلود جيليو (1940-):
من أكثر ما تعلّق به البحث الاستشراقي -كما سلف القول- إعادة (ترتيب القرآن)، قصد تحقيق أغراض شتى، تسليمًا بأنّ ما عليه القرآن في المصحف ليس سليمًا ولا صحيحًا، فضلًا أنّ مطلق (ترتيبات القرآن) بقدر كونها مجرّد (فرضيات)، فهي أيضًا تُصَنّف ضمن مبدأ الإمكان الاجتهادي الذي بطبيعته متعدّد. يندرج اشتغال المستشرق كلود جيليو في هذا الهمّ الاستشراقي التلازمي عمومًا، وعلى وجه الخصوص في موضوع: «إعادة النظر في موضوع تأليف القرآن، هل القرآن -جزئيًّا- نتيجة عمل متتابع وجماعي؟». ولتقريب البناء التصوري لاجتهاد المستشرق جيليو، نقدّمه وفق ما يأتي:
أ. إنّ آيات القرآن في المصحف كليًّا أو جزئيًّا إذا كانت «ثمرة عمل جماعي متتابع»، كما تم التسليم بذلك من منظور «النظرة اللاهوتية العربية الإسلامية»، فإنها من المنظور الاستشراقي «محلّ نظر»، وذلك راجع إلى محورية «الدرس النقدي التاريخي» في البحث الاستشراقي، عكس النظر التراثي الإسلامي؛ إذ النسبية والنقد يعمّان كلّ شيء، أمّا المطلق والمتعالي عن النقد فهو لا وجود له في المنظور الغربي، خصوصًا في تعلّق ذلك كلّه بالنصّ الديني[34].
ب. في سياق مقابل، يعتبر جيليو أنّ إمعان النظر والاطلاع على «المصادر العربية والإسلامية»، تجعلك تقتنع بـ«الفرضية القائلة بأنّ الآيات الصادرة عن محمد -عليه الصلاة والسلام-، يمكن أن تكون -جزئيًّا- إنتاج عمل جماعي في فترات إعلانها المختلفة، قبل أن تجمع وتعدّل لتصبح تلاوة أو قراءة». ذلك أنّ النظرة الاستشراقية عمومًا تسلِّم منهجيًّا بمبدأ «جماعية تأليف آيات القرآن» خطابًا كان أو نصًّا في فترات متلاحقة؛ لذلك تراه يتحدّث عن «رواة محمد»، أو «أعوان محمد الذين جعلوا منه نبيًّا»، أو «جماعة طالبي الله»، كـ«ورقة بن نوفل» و«خديجة» وغيرهما، و«يمكن أن يكونوا قد اشتركوا في المشروع العام تحت إرشاد محمد أو شخص آخر»[35].
ج. استعمال مفهوم (الفرضية) في هذا الإطار البحثي، القصد منه الدلالة على أن هناك إمكانات عديدة لإعادة «ترتيب آيات القرآن»، على غير ما هو معهود في «النظرة اللاهوتية الإسلامية»، على الأقل، توجد فرضية مخالفة للفرضية التراثية الإسلامية[36].
د. إنّ عملية تثبيت أو ترسيم آيات القرآن في المصحف، جعلته -حسب تأكيد جيليو- يتعرّض لعمليات تعديل مستمرّة من حين لآخر، الأمر الذي يفرض إنجاز دراسات للتحقّق وكشف الأمر على وجهه وظهوره التاريخي[37].
هـ. يعتبر جيليو أنّ إعادة النظر في آيات القرآن وكذا في «الروايات التراثية الإسلامية التقليدية»، يمكن استثمار العديد من الإشارات فيها الدالة على أنّ هناك «إمكانية أخرى لتاريخ آخر لترتيب آيات القرآن»، أو «آثار تاريخ آخر للقرآن» قبل أن يصبح على هيئة النصّ الذي نعرفه، وهو مختلف عن «الترتيب اللاهوتي الإسلامي الرسمي».
و. المنهج الذي يتوسّل به جيليو لتحقيق «فرضية إعادة ترتيب جديد للقرآن»، قائم على جملة من المرتكزات، نسوق منها ما يأتي:
- ينطلق من التلازم بين مبدأ الإمكان الاجتهادي وتعدّد الفرضيات لإعادة «ترتيب القرآن» بصورة مخالفة لما استقرت عليه «النظرة اللاهوتية العربية الإسلامية» في مختلف مراحل تاريخها منذ أن تم الإجماع عليها بعد ترسيمها، ما دام أنّ طبيعة النصّ التاريخي، شأن النصّ التاريخي، تسمح بذلك.
- إعادة النظر في «الروايات التراثية الإسلامية التقليدية» المتعلقة بـ«تاريخ القرآن»، مع تحليل موادها للتحقّق من مدى صحّتها أولًا من منظور مخالف، وهل تمكننا من إعادة بناء منظور سليم يتجرّد عن الاعتلالات والاضطرابات ثانيًا[38].
- الاجتهاد في تقديم أدلة على فرضية- إمكانية «التأليف الجماعي» لآيات القرآن، من خلال التوسّل بالروايات التراثية الإسلامية أولًا، ومن القرآن نفسه ثانيًا، توسلًا بكون القرآن قد تأثّر بما كان سائدًا قبله أسلوبًا ولفظًا ودلالة[39]، ويُعزى التسليم بهذا الأمر من منظور جيليو إلى عدّة أمور، منها:
أولًا: كون «أعوان محمد» -عليه الصلاة والسلام- قد امتلكوا معلومات من «الكتاب المقدّس» السابق على القرآن، و«يمكن أن يكونوا قد اشتركوا معه في مشروعه العام تحت إرشاده»[40].
ثانيًا: كون «زيد بن ثابت أمين سرّ الوحي وكاتب ومحرّر القرآن»، من الأقرب أن يكون أخذ «فقرات من كتابات يهودية أحبّها محمد أو آخرون واستُخدمت في تأليف القرآن»[41].
ثالثًا: الذي يُعزّز هذه الفرضية من منظور جيليو أمران أساسيان؛ أولهما: كون آيات القرآن تتضمّن مفردات وغيرها ليست من معهود الكلام العربي الأصلي، أو كونها مستعارة، كمفردة (السورة)، (القرآن)، (آية) ونحوها. هذا الأمر جعله يدحض الفكرة اللاهوتية الإسلامية حول (عربية القرآن)؛ تعزيزًا لفرضية المستعربين[42]. ثانيهما: الأخذ الجاهز عن التوراة والإنجيل، وأمارة ذلك، كون القرآن يتضمن «ألفاظًا غامضة بسبب التشويه الطارئ عليها في القرآن»، فضلًا عن كون علماء التفسير قد ارتبكوا في تفسير فقرات وعبارات قرآنية[43].
- يميّز في سياق إعادة بناء القرآن بين مستويين؛ أولهما: «إعادة بناء القرآن صاعدة نحو الذروة»، وتعني «كتاب قراءة نصوص مقدّسة (قرآن) أو أجزاء من كتاب قراءة، قبل القرآن الإسلامي. سينصبّ اهتمامنا أكثر من أيّ شيء آخر على كتاب القراءة ذلك». ثانيهما: «إعادة بناء القرآن منحدرة من الذروة»، وتعني «القرآن بعد جمع وترتيب ما يسمى بالقرآن العثماني». وهاتان الإعادتان النقديتان لبناء القرآن، يجب من منظور جيليو «أن يتقدَّمَا في انسجام»[44].
ز. من أهم النتائج التي توصّل إليها كلود جيليو بناء على نظره في ترتيب آيات القرآن في المصحف، أو ما سعى إلى تحقيقه، نورد ما يأتي:
- يعتبر القرآن من منظوره نصًّا محرفًا تحريفًا لفظيًّا، بدليل «نسيان» أو «فقدان» آيات وسور بكاملها، أو وجود «إقحامات» و«تعديلات» في النصّ القرآني، خصوصًا بعد موت محمد -عليه الصلاة والسلام-[45].
- إنّ النصّ القرآني يُعَدُّ «تأليفًا جماعيًّا» على مستوى مادته، إِذْ يعود في أصله إلى أفراد عديدين؛ سواء أثناء زمن محمد -عليه السلام- أو بعده[46].
- إنّ النصّ القرآني ليس جديرًا بالأصالة، ما دام أنه قام في أصله الأساس على ما سبقه، خصوصًا على التوراة والإنجيل، إِذْ محمد -عليه السلام- بقدر ما كان له «معاونون» كان له «معلِّمون»[47].
- نفي أصالة نبوّة محمد -عليه السلام-، بالنظر إلى أنّ خديجة وورقة بن نوفل هما اللذان جعلا منه نبيًّا، أو جهّزاه ليكون نبيًّا[48].
بهذا يكون صلب منهج النظر الذي يتوسّل به كلود جيليو، بقدر كونه يقوم على النفي وإطلاق الأحكام الكلية بدون تعليل ولا تأسيس محكَم، بقدر أنّ حديثه يساق ضمن ناظم القول بالفرضيات الاحتمالية، التي لا تتوافق مع أصول النظر في هذا الباب.
2. المنظور الاستشراقي لغيرهارد بويرينغ:
في سياق إعادة النظر في النصّ القرآني كما هو في المصحف، وظّف البحث الاستشراقي العديد من المناهج في شتى الحقول المعرفية والعلمية، من أجل إعادة بناء أو ترتيب آيات وعبارات القرآن من جديد. محاولة المستشرق غيرهارد بويرينغ تعلّقتْ رأسًا بـ«البحث الأحدث حول بناء القرآن»، وذلك من خلال الاستناد على الاجتهاد الشخصي تارة، أو التوسّل بالاجتهادات والبحوث الاستشراقية السابقة تعزيزًا وتطويرًا، أو تفنيدًا وتصحيحًا تارة أخرى. نبيّن في هذا السياق أهم المعالم المنهجية والمعرفية التي تنبني عليها محاولة غيرهارد في النظر في بناء وترتيب آيات القرآن في المصحف، أو السعي لتقديم محاولة أخرى للترتيب والبناء، ونورِد منها ما يأتي:
أ. ينطلق غيرهارد من حيث الوصف الذي لا ينكر في الظاهر على الأقل، من أن «ترتيب القرآن» أثناء دعوة محمد -عليه الصلاة والسلام- كان يختلف عن «الترتيب الموجود داخل المصحف»، القائم في عمومه على مبدأ «تناقص السور»[49].
ب. إنّ كلّ أنواع الترتيب للقرآن من المنظور التراثي الإسلامي لم تُتلقَّ بالقبول والاتفاق والاجماع في السياق الحديث والمعاصر، خصوصًا من منظور البحث الاستشراقي، بالنظر إلى اختلاف مناهج النظر، فضلًا عن تباين المقاصد[50].
ج. النقطة المحورية في جدل إعادة ترتيب القرآن في المصحف، ترجع من منظور غيرهارد بالأساس إلى السؤال الآتي: هل الرسول -عليه السلام- أثناء مدّة النبوّة والنزول دَوّن ما كان ينزل عليه تدريجيًّا، أم أنّ ذلك تم بعد وفاته بزمن؟ المستشرق غيرهارد تناقضت أقواله في الموضوع؛ فمرّة يُثبت، وإن كان على سبيل الفرضية الملازمة للإمكان، وهي أنّ بدايات الانتقال من الشفهي إلى المكتوب، يمكن أن ترجع إلى زمن محمد -عليه السلام-. ومرة ثانية يفترض بأن محمدًا -عليه السلام- لم يترك نصًّا مكتوبًا كاملًا للقرآن، وإنما تركه محفوظًا شفهيًّا وفي الصدور[51].
د. يعتمد البحث الاستشراقي في سعيه لإعادة ترتيب القرآن على مجموعة من المصنفات التراثية، أهمها حسب المستشرق غيرهارد (الإتقان) للسيوطي (ت: 911هـ)، الذي اعتبره المصدر الأساس لإعادة بناء القرآن من منظور البحث الاستشراقي، بالنظر إلى كونه جامعًا للروايات والأخبار ونحوها.
هـ. انصبّ الاهتمام الاستشراقي من منظور غيرهارد على الاجتهاد في سبيل خلق «نظام ترتيبي زمني» للقرآن، فضلًا عن «الفقرات التي تكون مرتبطة مع الحالات والظروف المتنوعة لحياة محمد وسيرته» -عليه السلام-.
و. في سياق الإشادة، اعتبر غيرهارد المقاربة الترتيبية الزمنية الكرونولوجية للنصّ القرآني بلغت الإتقان التام في عمل نولدكه في كتابه المرجعي: (تاريخ القرآن)، فمحاولته قائمة على الفهم التطوري الداخلي التدريجي لوعي محمد النبوي ونشوء سيرته السياسية، ذلك أن ترتيبه الرباعي استنبط على أساس طريقتين:
الأولى: الربط السببي بين فقرات قرآنية وحوادث تاريخية معروفة من أدب قرآني إضافي.
الثانية: التحليل بالنظام المنهجي الطبيعة الفيلولوجية والأسلوبية للنصّ القرآني فقرة فقرة[52].
ز. في سياق الإشادة أيضًا، اعتبر غيرهارد أن المستشرق «ريتشارد بيل» قام بتنسيق أكثر جذرية في سياق البحث الاستشراقي الغربي لآيات القرآن وسوره، الأمر الذي جعله يقترح أن تأليف القرآن تَبِعَ ثلاث مراحل أساسية؛ وهي على التوالي: «مرحلة الآية» و«مرحلة القرآن» و«مرحلة الكتاب»؛ فالأولى تمثّل القسم الأساسي من دعوة محمد في مكة، ولم يصل إلينا منها سوى قدر قليل من الشذرات. والثانية تتضمّن المحطات التالية للأولى في مكة وسنتين في المدينة، وهي مرحلة وجّه فيها محمد مهمّة إنتاج مجموعة تلاوات ليتولوجية. والثالثة تشمل نشاطه في المدينة بعد السنة الثانية، حيث شرع في صياغة سِفْرٍ مقدّس مكتوب. وإن كان من منظور بيل أن في القرآن الحالي لا يمكن الفصل بين هذه المراحل الثلاث[53].
ح. من أهم النتائج التي أسفر عنها النظر من المنظور الاستشراقي لغيرهارد القائم على إعادة النظر والترتيب الزمني التاريخي للقرآن كما هو في المصحف، نورد ما يأتي:
- أنّ آيات القرآن تكشف العلاقة الجوهرية بالتراث الديني اليهودي والمسيحي؛ إِذْ يوجد صداه فيها، فهو وإن لم يكن مترجمًا إلى اللغة العربية زمن محمد، فقد تلقاها من مصادر شفهية وطيدة الصلة بلغته الأُمّ. ومن أهم ما يعكس ذلك حسب غيرهارد، وجود مفردات أعجمية الأصل في القرآن العربي، وقد فُهمت من مخاطَبيه في مكة والمدينة دون سؤال؛ إِذْ هي كانت من المعهود التداولي وقتئذ، وهذا بقدر ما يدلّ على كونه يشكّل العمدة الأساس في البحث في «كيف أُلِّف القرآن وكيف نُسِّق في نهاية المطاف؟»، وأهم ما يدلّ على نفي أصالة كون القرآن من الوحي المنزل، فهو أيضًا كان وما يزال من أهم القضايا التي ولّدَت جدالات حادة بين المسلمين والمستشرقين[54].
- النفي أو التشكيك على الأقل في أصالة نبوّة محمد -عليه الصلاة والسلام-، خصوصًا من خلال التركيز على أنه كان له «معلمون»، كورقة بن نوفل[55].
- التركيز على أنّ النصّ القرآني قد تعرّض للتحريف اللفظي؛ إِذْ قد خضع في مراحل شتى حسب غيرهارد إلى «تنقيحات مادية» متتابعة شتى؛ سواء في المرحلة الشفهية أو في المرحلة الكتابية التي كانت بـ«أسلوب بدائي»[56].
خاتمة:
بناء على هذه النماذج الثلاثة من الاجتهادات الاستشراقية المتعلّقة بإعادة ترتيب وتأليف وبناء النصّ القرآني، يمكن أن نصوغ الخلاصات الآتية:
أ. إنها قصدت رأسًا تحقيق «ترتيب زمني تاريخي» آخر لآيات القرآن ومقاطعِه فضلًا عن سوره، مخالف لما هو في المصحف، أو ما يسمونه بـ«الترتيب التراثي».
ب. التعامل مع القرآن بوصفه «مادة لغوية» أو «وثيقة تاريخية» محكومة بسياق ثقافي وتاريخي بصورة جدلية، دون الاحتكام إلى مصدر القول، الله تعالى، أو كونه وحيًا منزلًا أو ما شابه ذلك، الأمر الذي يمكن لك أن تفسّر به هيمنة (الجرأة) في النظر دون تمييز بين القول الوحياني والقول التاريخي في الفضاء الديني؛ سواء على مستوى النصّ المؤسّس أو ما نشأ في ظلاله من نصوص واجتهادات متزامنة أو تالية.
ج. المنهج المتوسّل به لتحقيق إعادة البناء والتركيب والترتيب، أنه اجتهادي في أصله وفصله، خاضع للتقدير والانتقاء؛ تارة بالاعتماد على المحصول التراثي، سواء تعلّق بالروايات أو بعض الاجتهادات، وتارة أخرى بالاستناد إلى مناهج ومفاهيم المعارف والعلوم المعاصرة في السياق الغربي.
د. في موضوع «إعادة الترتيب للقرآن»، تعتبر محاولة المستشرق تيودور نولدكه ورجيس بلاشير (1900-1973) مؤسستيْن[57]، بالنظر إلى أن كثيرًا من محصول اجتهادهما أصبح عبارة عن مرجعين تأسيسيين في النظر والاجتهاد في الباب؛ سواء في الفضاء الاستشراقي الغربي، أو في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر.
هـ. تمكّن الاجتهاد الاستشراقي من تركِ العديد من محاولات إعادة الترتيب للنصّ القرآني في المصحف؛ سواء تعلّق الأمر بإعادة تأليف الآيات، أو بإعادة تركيب السور، خصوصًا محاولة نولدكه وبلاشير. والناظم لذلك جميعًا، أنه لا يتجاوز عتبة الفرضيات أو الظنّ الاعتباري، وذلك راجع إلى أصول مقومات الاجتهاد في إعادة التركيب والبناء.
و. بالتزامن مع محاولات إعادة التركيب والبناء، توصّل أو أطلق الاجتهاد الاستشراقي مجموعة من الأحكام الكلية، أو قُل: صاغ جملة من المسلَّمات المتعلقة بالنصّ القرآني، نُورِد من ذلك ما يتعلق رأسًا بالنصّ القرآني: النفي أو التشكيك في أصالة وحي القرآن. وكذا النفي أو التشكيك في أصالة نبوّة محمد -عليه الصلاة والسلام-. الادّعاء بأن النصّ القرآني؛ سواء أثناء المرحلة الشفهية -مرحلة التلاوة أو مرحلة الكتابة- مرحلة القراءة أو ما بعدهما، تعرّض للتحريف اللفظي زيادة ونقصانًا، وذلك من خلال التوسُّل بمجموعة من المداخل.
[1] تفكّر في قول الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}[النساء: 163].
[2] الأول يتصل بلغة النصّ القرآني، والثاني يتعلّق بدلالته؛ نصيّة كانت أو اجتهادية.
[3] يقول الشريف الجرجاني معرّفًا مفهوم (التأسيس): «عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن أصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد؛ لأنّ حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة». التعريفات، دار الفكر، بيروت. لبنان، ط1، 1997، ص38. يقول طه عبد الرحمن في سياق بيان أفضلية (التحقّق بالاجتهاد) على (التمسك بالتقليد)، فكلّ: «تأصيل هو اجتهاد، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، فليس كلّ تأصيل صحيحًا، ولا كلّ تأصيل فاسدًا؛ بيد أن هناك حقيقة دامغة ضَلَّ الكثيرون سبيلها أو موّهوا فيها، وهي أنّ التأصيل على خطئه أفضل من التقليد على صوابه؛ لأن فضله عليه هو فضل الاجتهاد على التقليد؛ فالمؤصِّلُ -أصاب أو أخطأ- مجتهدٌ، فيكون مأجورًا، أمّا المقلِّد فلا اجتهاد معه، وحتى لو أصاب فإنّ صوابه معدود في حكم الخطأ؛ لأنه صواب بغير عقل مصيب». فقه الفلسفة، القول الفلسفي كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. المغرب، ط2، 2005، (2/ 33، 34).
[4] يسود بين العديد من النظّار، أنّ المخالف في النظر يُوصف بأوصاف شتى، والتي تصل تلك الأوصاف حدّ (الكفر). مع العلم أن (حد الكفر) كما حدّد أبو حامد الغزالي لا يتعلّق بما يخالف المذهب أو السائد الاجتهادي؛ إِذْ من يقول بهذا ما هو إلا «غِرّ بليد قد قيّده التقليد»؛ ذلك أن الحقّ ليس وقفًا عليه لا يتعدّاه، وإنما يتعلّق حصرًا بـ«تكذيب الرسول -عليه الصلاة والسلام- في شيء مما جاء به»، و(الإيمان) يتعلّق بـ«تصديق الرسول -عليه السلام- في جميع ما جاء به». فَيْصَل التفرقة بين الإسلام والزندقة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة. مصر، ط1، 2004، ص9، 10، 15. وقد بيّن الشاطبي أيضًا أن مسمّى اجتهادات (الفِرَق) في تاريخ الفكر الإسلامي وإن كانت (ضالّة) أو (مبتدعة) كنظر الخوارج والقدرية أو غيرهما، فليس في الإسلام ما يدلّ دلالة قاطعة على الحكم عليهم بالكفر المخرِج من الدِّين، بدليل صيغة حديث التفرّق: (تفترق أُمّتي). الموافقات في أصول الشريعة، شرح وتخريج: عبد الله دراز، وضع التراجم: محمد عبد الله دراز، تخريج الأحاديث وفهرست الموضوعات: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، ط8، 2011، (4/ 139، 140). وعليه، فإن الاختلاف في الاجتهاد بين النظّار لا أصل له لتكفير المخالف، ما دام مناط الأمر الاجتهاد في الفهم، لا الإنكار أو التكذيب بما جاء به -عليه السلام- من أمور الوحي. والناظم للاختلاف بين الناس، سُنّة الله في الخلق، ليس الاختلاف في الاجتهاد فحسب، بل في الاختيار الديني أيضًا. يقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود: 118، 119].
[5] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كاتب النبي عليه السلام، حديث رقم (4990).
[6] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من قال: لم يترك النبي -عليه السلام- إلّا ما بين الدفتين، حديث رقم (5019).
[7] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث رقم (4987).
[8] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي -عليه السلام-، حديث رقم (5004). وفي صحيح البخاري استبدال أبيّ بن كعب بأبي الدرداء. حديث رقم (5003). صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبيّ بن كعب وجماعة من الأنصار، حديث رقم (2465).
[9] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث رقم (4986).
[10] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم الصبيان القرآن، حديث رقم (5036).
[11] خصوصًا بعد طغيان مقولة «موت المؤلِّف»، فضلًا عن جعل دلالة النصّ المقروء رهينة بسياقات القارئ وتحولاته لا بغيره.
[12] يقصد بالاجتهادات التأسيسية، جملة الأنظار التي وضعت الأسس المنهجية والمعرفية الكلية في باب النظر؛ بحيث اعتبرت لاحقًا بمثابة الأصول المعتمدة في النظر. أمّا الدراسات العادية فيقصد بها جملة الآراء التابعة التي تفتقت عن الاجتهادات التأسيسية، تبعية الفرع للأصل، تمثيلًا كانت تلك التبعية أو تفسيرًا أو تسويغًا ونحو ذلك.
[13] تاريخ القرآن، تعديل: فريدريش شفالي، ترجمة: جورج تامر وعبلة معلوف وخير الدين عبد الهادي ونقولا أبو مراد، منشورات الجمل، كولونيا. ألمانيا، ط2008، ص60. يقول نولدكه: «نستطيع بواسطة الدراسة الدقيقة للوسائل التي يقدّمها لنا الحديث والقرآن نفسه، أن نتوصل إلى معلومات كثيرة أكيدة حول نشوء أقسام القرآن المفردة. لكن هذه المعلومات ما زالت تتضمن بالطبع ثغرات تدعو إلى مزيد من التفكير». نفسه.
[14] تاريخ القرآن، ص108. إذا كان أمر التعبد والتكليف بآيات القرآن لا يتحقّق بدون قطع ويقين، فإن هذا متحقّق في الترتيب التوقيفي النبوي حصرًا كما هو في المصحف، ولا يتحقّق في أيّ محاولة اجتهادية أخرى، إسلامية عربية كانت أو استشراقية غربية حداثية، إِذْ مردّ محصول المحاولات، ولو كانت صائبة، أنها لا تتجاوز عتبة الظنّ الاعتباري.
[15] إن كان قصده به «ترتيب المصحف» فهو غير معتبر بإضافة صفة «التراثي»، أمّا إن كان القصد به محاولات العلماء في تاريخ التفسير أساسًا، فهو وصف معتبر، على الأقل ظاهريًّا.
[16] تاريخ القرآن، ص54، 59، 61، 62، 64، 65، 81، 115، 118، 119، 124، 134، 144، 174، 175، 177، 182، 184، 185، 189، 195، 202. أكثر نولدكه من النقد الموجه إلى الكثير من الاجتهادات التراثية؛ سواء تعلّقت بالروايات المعتمدة، أو تعلّقت بالأنظار المجرّدة، إلّا أنه في المقابل يقدر ويعترف بصواب وصحة بعض روايات واجتهادات التراث الإسلامي، كونها تنتظم في سياق منظوره البحثي. نفسه، ص198. يقول في سياق نقد الاجتهاد الإسلامي، الذي يمهد به لتأسيس ترتيب زمني جديد لآيات القرآن: «علينا أن نرى في هذا التراث، حتى ولو كان قديمًا جدًّا، أو يعود إلى ابن عباس، فقط محاولة غير ناضجة لوضع تسلسل زمني للقرآن بواسطة استخدام بعض الروايات الجيدة، وذلك بحسب مبادئ نقدية ضعيفة جدًّا ومحض الخيال». نفسه، ص57.
[17] تاريخ القرآن، ص53، 81.
[18] تاريخ القرآن، ص53. يقول نولدكه: «لكنّ الأكثرية الساحقة من الروايات حول أصل القرآن مريبة للغاية. فمعظم الوحي القرآني، كما يظهر، ذو طابع عام، ولا يشير بشيء إلى أنه يملك أسبابًا متفرّقة تتعلّق بمناسبات معيّنة، مع أن التفسير الإسلامي لا يقرّ بهذا إلا في أندر الحالات». نفسه، ص389. تجد أهم ما يحدّد المنظور البحثي لنولدكه، أنه ينتقد الروايات والاجتهادات ويرفضها إذا خالفت منظوره في البحث، ويقبلها ويعترف بجدواها إذا وافقته، ولا شك أن هذا المسلك في البحث والنظر لا يعتبر في باب البحث المحرر، إِذْ مردّ قبول الرواية أو الاجتهاد أو رفضهما، هو الصحة والصواب، أو الضعف والفساد، وليس موافقة الرأي الذاتي أو مخالفته.
[19] تاريخ القرآن، ص58، 65، 66، 97، 105، 107، 125، 128، 138. يقول نولدكه: «ولأن محمدًا يكرّر الكلام في كثير من الأحيان، يمكن التمييز بوضوح بين الموضع الأصل والموضع الذي يحاكيه. وكما هي حال كلّ كاتب، تتميز لغة محمد المستعملة في فترات مختلفة بواسطة عبارات متفق عليها وكلمات معينة مستحبة ومصطلحات تسعفنا على ترتيب زمني، بواسطة مراقبة النظم واللغة بالمعنى الأوسع، ولا سيما مراقبة تماسك الأفكار». نفسه، ص58، 59.
[20] تاريخ القرآن، ص62، 65.
[21] يقول نولدكه: «اختلاف الأسلوب يؤدي بنا إلى التعرّف على مجموعات مختلفة من السور يقارب بعضها البعض الآخر زمنيًّا». تاريخ القرآن، ص66. ويقول أيضًا: «لهذا نودّ أن نوزعها بحسب مضمونها على مجموعات مختلفة، معتمدين في ترتيبها بقدر المستطاع على التطور التدريجي للأسلوب وللأفكار». نفسه، ص82.
[22] تاريخ القرآن، ص68- 70.
[23] تاريخ القرآن، ص105- 108.
[24] تاريخ القرآن، ص128، 129.
[25] تاريخ القرآن، ص153- 155.
[26] يقول نولدكه: «ويُعتقد أن محمدًا حاول بواسطة سورة فصلت (1- 4) أن يقنع الوجيه المكي عتبة بن ربيعة باعتناق الإسلام. حتى لو صح ذلك، ما استفدنا منه إلا أن السورة أقدم من تلك المحاولة. ابن هشام يضع هذه المحاولة مباشرة بعد إسلام حمزة. لكن هذا الكاتب لا يعير اهتمامًا للتسلسل التأريخي الدقيق للأحداث التي وقعت قبل الهجرة. يضاف إلى ذلك أننا لا نعلم بدقة موعد إسلام حمزة». تاريخ القرآن، ص129، 130.
[27] تاريخ القرآن، ص105، 107، 143، 144، 170.
[28] تاريخ القرآن، ص83، 85، 116، 117، 118، 122، 125، 129، 160، 188، 190، 192.
[29] مع العلم أنه ينصّ على «أن محمدًا لم يكن يعلم بالكتاب المقدّس». نفسه، ص74.
[30] تاريخ القرآن، ص69، 70، 89، 128، 164.
[31] تاريخ القرآن، ص108، 122، 124.
[32] تاريخ القرآن، ص89، 92- 98.
[33] يقول نولدكه: «كلما طالت دراستي للقرآن وتعمّقت، انجلى لي بوضوح أكبر أن من بين السور المكية مجموعات متفرّقة يمكن الفصل بينها، وذلك مع انعدام إمكانية القيام بأيّ ترتيب تأريخي دقيق للسور. وكم من دليل وجدته من قبل مناسبًا لهذا الغرض، بدا لي لاحقًا غير موثوق به، وكم من زعم أبديته قبلًا بقدر كبير من الثقة، بدا لي من بعد فحص متكرّر وأدقّ، أنه زعم غير أكيد». تاريخ القرآن، ص68.
[34] القرآن في محيطه التاريخي، إعداد: جبرئيل سعيد رينولدز، ترجمة: سعد الله السعدي، منشورات الجمل، بيروت. لبنان، ط1، 2012، ص143.
[35] القرآن في محيطه التاريخي، ص143، 145- 147، 161.
[36] القرآن في محيطه التاريخي، ص144. مع العلم أن المقدّس لا ينسجم مع استعمال مفهوم (الفرضية)، خصوصًا إذا كان نصًّا عبارة عن وحي منزل، كشأن وحي نصّ آيات القرآن، إلّا أن هذا التلازم في المنظور الاستشراقي لا يقام له وزن معتبر.
[37] القرآن في محيطه التاريخي، ص160، 161.
[38] القرآن في محيطه التاريخي، ص144، 145. الأساس في تحقيق هذا وذاك هو المنظور التاريخي النقدي، القائم على تحقيقات بعض النصوص التراثية، فضلًا عن التوسّل بما أبعد عن ساحة الاستدلال والاعتماد عليه لشذوذه وخروجه عن الإجماع ونحو ذلك.
[39] القرآن في محيطه التاريخي، ص143، 144، 146.
[40] القرآن في محيطه التاريخي، ص146، 149.
[41] القرآن في محيطه التاريخي، ص148- 150. توقّف جيليو عند تعلّم زيد بن ثابت اللسان اليهودي لمّا هاجر الرسول -عليه السلام- إلى المدينة، وهل كان ذلك بأمر من الرسول لزيدٍ من أجل أن يأمنَ اليهودَ، أم أن زيدًا كان قبل ذلك عالمًا باللسان اليهودي، وأن أمر الرسول له كان من أجل أن ينقل له ما عندهم لإضافته إلى القرآن. جيليو يؤكد على الفرضية الثانية. نفس المسلك نهجه مع تميم الداري. نفسه، ص149.
[42] القرآن في محيطه التاريخي، ص150- 152.
[43] القرآن في محيطه التاريخي، ص149، 157، 158. بالنسبة للإنجيل، يستدل على ذلك بمجموعة من الأفكار في العديد من السور؛ كسورة مريم، آل عمران، الفتح، النساء وغيرها، بدعوى وجود تشابهات ظاهرية في التعبير والوصف والأحداث على الأقل. نفسه، ص157- 159.
[44] القرآن في محيطه التاريخي، ص144، 161.
[45] القرآن في محيطه التاريخي، ص144، 155، 160، 161. بدليل وجود مفهوم (الكوثر) في سورة الكوثر. يقول: «ارتباك المفسّرين حيال هذا اللفظ وحيال السورة كلّها يؤكّد رأينا في أن هذا النصّ له قليل من المعنى أو لا شيء من المعنى في حالته الحاضرة». نفسه، ص156، 157.
[46] القرآن في محيطه التاريخي، ص143- 150.
[47] القرآن في محيطه التاريخي، ص146- 148، 155، 161. يقول في سياق النظر فيما ورد من روايات في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}[النحل: 103]: «ليس بمستطاعنا أن نستبعد إمكانية أن تكون أقسامًا كاملة من القرآن المكي متضمّنة عناصر أسّست أصلًا بواسطة، أو ضمن جماعة طالبي الله وجماعة المحرومين أو المعدَمين الذين امتلكوا معلومات من الكتاب المقدّس، أو ما بعد الكتاب المقدّس، أو معلومات أخرى». نفسه، ص146.
[48] القرآن في محيطه التاريخي، ص156، 157، 161.
[49] القرآن في محيطه التاريخي، ص121.
[50] القرآن في محيطه التاريخي، ص120.
[51] القرآن في محيطه التاريخي، ص118، 121.
[52] القرآن في محيطه التاريخي، ص119، 120.
[53] القرآن في محيطه التاريخي، ص120.
[54] القرآن في محيطه التاريخي، ص117، 118. 123- 127، 129، 130- 135. يقول: «إنّ تحقيقًا تاريخيًّا نقديًّا في روايات من التراث اليهودي والمسيحي تشكّل طبقة تحتية للقرآن، هو متمم ضروري لعمليات السبر الفيلولوجي. هذه الروايات المتناثرة يجب أن تكشف، في المقام الأول، في تراثات تلك الجماعات الدينية التي يشير إليها القرآن... هناك أيضًا وفرة من الإحالات من خارج القرآن مما يمكن العثور عليه في الأدب الإسلامي الديني، ومن ضمنه تفاسير القرآن والتراثات النبويّة والكتابات التاريخية. هذه الإحالات تشير إلى رواة متنوّعين، خدموا كمصادر محتملة للمعرفة الدينية التي استلهمها القرآن، هناك ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث والراهب بحيرا وزيد بن عمرو وزيد بن ثابت». نفسه، ص132- 134.
[55] القرآن في محيطه التاريخي، ص130- 134.
[56] القرآن في محيطه التاريخي، ص121.
[57] لم نتوقف عند دراسة اجتهاد المستشرق بلاشير، طلبًا للاختصار وتجنبًا للإطالة، وإن كان في عمومه لا يختلف عن النظرة الاستشراقية العامة للقرآن، بالإضافة إلى أن اجتهاداته سنتحدث عنها في سلسلة مقالات لاحقة متعلقة بـ(ترجمة آيات القرآن).