مادة المفردة القرآنية وأثرها في توجيه مشكل القرآن

وظّف بعضُ أهل العلم مادة المفردة القرآنية في توجيه بعض المواطن من مشكل القرآن الكريم، وهذه المقالة تستعرض عدة نماذج لهذا التوجيه مع بيانها وذكر كلام أهل العلم فيها، بعد تمهيد حول المفردة القرآنية، والمقالة مستلّة من كتاب: (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن).

مادة المفردة القرآنية وأثرها في توجيه مشكل القرآن[1]

  اللغة العربية من أغنى لغات العالم في المفردات، قال الشافعي: «لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع عِلْمه إنسانٌ غير نبيّ»[2]. وهذه المادة الواسعة من المفردات فيها المستحسن والمستكَره، والمأنوس والحوشي، والمستعمل والمهجور؛ ولذا كان لاختيار المفردة شأنٌ، فالكلام البليغ تبدأ بلاغته من اختيار مفرداته؛ ولذلك جعل البلاغيون من شروط بلاغة الكلام فصاحةَ مفرداته[3].

بل إنَّ الكلام لا يُفهم إلا بعد فهمِ مفرداته، ففهم التركيب فرع عن فهم المفردات، ومَن أساء فهم الوحدة أساء فهم البناء، وضرب في عَمَاء.

وفي أيِّ نقدٍ يوجّه إلى اللغة تكون الكلمة عرضةً لأنْ يُنْظَرَ إليها على أنها السبب الأساسي في هذا النقد[4]، ومن ذلك أنَّ طَرَفَة سمع بيت المتلمِّس:

وقد أتلافَى الهَمَّ عند احتضارِه .. بِنَاجٍ عليه الصَّيْعَرِيَّةُ مُكدَمِ

فقال: استنوق الجمل. لأنَّ الصيعرية سمةٌ في عنق الناقة لا البعير[5].

وفي الشرع جاء التنبيه على مكانة المفردة، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: 104]. وكثيرًا ما يوجّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى اختيار لفظةٍ أو ترك أخرى، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقولنَّ أحَدُكُم: الكَرْم؛ فإنما الكَرْم قلبُ المؤمن). متفق عليه[6].

وأشرف المفردات وأفصحها مفردات القرآن بالإجماع[7]، فهي «لُبّ كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحِكَمهم، وإليها مفزع حُذّاق الشعراء والبلغاء في نَظْمِهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرّعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنّوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحُثالة والتِّبن بالإضافة إلى لبوب الحِنْطة»[8].

ومع شرفها في نفسها فقد وضعت أحسن موضع فازدادت شرفًا، قال ابن عطية: «كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظةٌ ثم أُدِيرَ لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبيَّنُ لنا البراعةُ في أكثره، ويَخفى علينا وجهُها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذَّوْق، وجودة القريحة، ومَيْز الكلام»[9].

فقد اجتمعت لألفاظ القرآن الفضيلتان: فضيلتها في نفسها، وفضيلتها بمجاورتها لأخواتها، «كالعقد من الدُّرِّ فُصِّلَتْ أسماطه بالجواهر واللآلئ، فخلص على أتمّ تأليف، وأرشق نظام»[10].

قال ابن القيم: «وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين»[11].

والكلمة العربية من ناحية البنية تشتمل على ثلاثة عناصر[12]:

1- المادة الأصلية، أو الجذر.

2- الصيغة أو الوزن، كاسم الفاعل واسم المفعول وأوزان الأفعال وغيرها.

3- الدلالة، أي: المعنى، وهي نتيجة لوجود العنصرين السابقين.

فالجذر: المادة الخام، والصيغة هي القالب الذي تُصَبُّ فيه المادة، والدلالة نتيجتهما.

وسيكون الحديث عن مفردات القرآن من جهة مادتها.

ومعرفة المادة هي الخطوة الأولى لكشف قيمة المفردة، ومناسبتها للسياق، وسرّ اختيارها بين مرادفاتها، ودفع المشكل حولها، فإنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره.

وإنَّ «الخطأ في كلمةٍ واحدةٍ ربما أنشأ مذهبًا باطلًا، وأضلَّ قومًا، وجعل الملّة الواحدة بددًا»[13].

وقد وردت في كتب المشكل شواهد كثيرة تبيّن أهمية معرفة المادة وأثرها في التوجيه، ونقتصر على بعض الأمثلة التي توضّح المقصود:

1- قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 17].

الإشكال ووجهه[14]:

المطابق لقوله: ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ في الظاهر أن يقال: (ذهب الله بنارهم)، والمطابق لقوله: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾، أن يقال: (ذهب الله بضيائهم)، فلِمَ عُدِل عنهما إلى النور؟

توجيه الإشكال:

وردَ في معاجم اللغة تفسير النُّور بالضياء[15]، لكن من المعلوم أنَّ «كتب اللغة والغريب لا تعطيك حدود الكلمات حَدًّا تامًّا»[16]، بل لا بدّ من النظر في استعمالات الكلمة وتدبّر سياقاتها في القرآن والسُّنّة وكلام العرب.

وقد لحظ الزمخشري الفرق بينهما، فقال: «النور: ضوء كلِّ نَيِّر، وهو نقيض الظُّلْمة، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر؛ لأنَّ فيها حركةً واضطرابًا. والإضاءة: فرط الإنارة. ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: 5]»[17]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي مالك الأشعري: (الصلاة نور، والصبر ضياء)[18]، لِمَا في الصبر من مشقّةٍ على النفس ومجاهدةٍ للهوى[19].

وهذه الآية مَثَلٌ ضربه اللهُ للمنافقين؛ إِذْ شبّههم في خروجهم من الإسلام بعد أن دخلوا، وإنكارهم بعد أن عرفوا، بحال مستوقد النار، استضاء بها حينًا ثم خمدت وزالت.

إذا علم ذلك فنقول: ذِكْرُ (النور) في قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، له نُكَت:

الأولى: أنَّ غرض التشبيه إزالة النور عنهم بالكلية، لقوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾، فناسب للدلالة على ذلك ذكرُ النور؛ لأنّه أعمّ من الضوء، ولو قيل: (ذهب الله بضوئهم)، لأوهم أنَّ المنفي هو الزيادة لا أصل النور؛ فإنَّ نَفْي الخاصّ لا يستلزم نَفْي العام[20].

الثانية: أنَّ المقصود باستيقاد النار: نورها، بدليل قوله: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾، وقوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾؛ فلذلك عُبِّر بالنور دون النار، ولو كان المقصود من الاستيقاد الاستدفاء لعُبِّر بالنار[21].

الثالثة: الدلالة على أنَّ الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين، بدليل التعبير بضمير الجمع في ﴿بِنُورِهِمْ﴾، قال ابن عاشور: «وفي هذا تنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة، وهو إيجاز بديع، كأنه قيل: فلما أضاءت ذهب اللهُ بناره فكذلك ذهب اللهُ بنورهم، وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله، فهو من أساليب الإعجاز»[22]. وجه ذلك: أنَّ المعهود أن يعود التشبيه كلّه إلى المشبَّه به، فيقال: (ذهب الله بنوره)، وهنا عاد آخره إلى المشبه فقيل: ﴿بِنُورِهِمْ﴾.

وفيما ذكره الشيخ بيان للسرّ البلاغي في التعبير بالجمع؛ حيث رُوعي معنى (الذي) فقيل: ﴿بِنُورِهِمْ﴾. وأمّا قوله: «وهو أسلوبٌ لا عهد للعرب بمثله» ففيه نظر؛ فهو معهود عندهم، كما في قول السَّمَوْأَل:

فإِنَّ بَنِي الدَّيَّانِ قُطْبُ لقومهم .. تدور رحاهم حولهم وتَجُولُ[23]

حيث رَدَّ التشبيه إلى المشبَّه وهم بنو الديَّان فقال: (حولهم). ونكتة الردّ إلى المشبه: أنه الغرض من التشبيه.

2- قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 16].

الإشكال ووجهه[24]:

كيف قال: ﴿اشْتَرَوُا﴾، والثمن ليس حاصلًا في أيديهم؟

المعنى: أنَّ الآية تصوّر حال المنافقين الذين زهدوا في الحق وحرصوا على ضدّه، فليس ثمة مبايعةٌ حقيقةً، هذا لا إشكال فيه، وإنما موضع السؤال عن الثمن الذي هو (الهدى)، كيف يكون ثمنًا، ولم يكن في يد المشتري؟

توجيه الإشكال:

يُجاب عنه من أوجه:

الأول: قال الزمخشري: «جُعِلوا لتمكُّنِهم منه وإعراضِه لهم كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطَّلوه واستبدلوها به»[25].

الثاني: قال العِزُّ: «أُطلق عليهم لفظُ الشراء وإن كان الثمن ليس حاصلًا في أيديهم، نظرًا إلى الميثاق المأخوذ عليهم وهم ذَرٌّ، فاستُصحِب عليهم حُكْمًا»[26]. يعني قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى...﴾ [الأعراف: 172]. ويتأيّد ذلك بدليل الفطرة، فإنَّ كلَّ مولود يولد على الفطرة، وهي الإسلام.

الثالث: أن يُقال: إنَّ الآية تتحدّث عن المنافقين، ومن المعلوم أنَّ طائفةً من المنافقين قد آمنوا حقيقةً ثم كفروا، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [المنافقون: 3].

فعلى التوجيه الثالث يكون الثمن حاصلًا في أيديهم حقيقةً، وهو مجاز على التوجيهين الأُوليين.

وباستقراء مادة (شرى) في القرآن نجد أنها استُعملت في أكثر من عشرين موضعًا؛ تارةً يكون الثمن غير حاصل حقيقةً، وذلك كما في الآيات التي تتحدث عن الكفار، كقوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ [البقرة: 90]، وقوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ...﴾ إلى قوله: ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [التوبة: 7- 9].

وتارةً يكون موجودًا حقيقةً، كقوله تعالى عن علماء أهل الكتاب: ﴿فَنَبَدُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: 187].

والآية المذكورة على الأظهر من النوع الأول، وهو أنّ الثمنَ غيرُ حاصل حقيقةً، وهو من تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ونكتته البلاغية هي التي ذكرها الزمخشري.

3- قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].

الإشكال ووجهه[27]:

كيف قال: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، ومفهومه: أنه لم يكن راضيًا بالتوجيه إلى بيت المقدس، مع أنَّ التوجيه إليه كان بأمر الله تعالى وحُكْمِه؟

توجيه الإشكال:

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي قِبَل بيت المقدس منذ مقدمه المدينة، ويقلِّبُ بصَرَهُ في السماء، يحبُّ أن يُصرَفَ إلى الكعبة، فأنزل الله عليه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا...﴾ الآية. وذلك بعد سنةٍ وستة أشهر أو سبعة[28] من مقدمه المدينة.

فقوله تعالى: ﴿تَرْضَاهَا﴾ أي: تحبُّها وتهواها[29]. ولا مفهوم له؛ فإنه وإن كان مفهومَ صفةٍ، وهو حجةٌ عند جمهور الأصوليين، إلا أنَّه هاهنا غيرُ مُعتبر؛ لأمرين:

الأول: أنه مخالف لمنطوق صريح، بل مخالف للإجماع الضروري على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرضى بما يرضى الله به.

الثاني: أنَّه وارد في سياق الامتنان.

وهذان الأمران من موانع اعتبار المفهوم عند الأصوليين[30].

ثم يقال ثانيًا: سرُّ التعبير بـ﴿تَرْضَاهَا﴾ دون تحبُّها أو تهواها، الإشعار بأنها محبة ناشئة عن تعقُّل، «فإنَّ مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يربو عن أن يتعلّق ميلهُ بما ليس بمصلحةٍ راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس، ألَا ترى أنه لـمّا جاء في جانب قِبْلَتِهم بعد أن نسخت جاء بقوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ الآية [البقرة: 120]»[31].

كما أنَّ التعبير بالرِّضَا يدلُّ على أنَّ ميله -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة ميل لقصد الخير، من أجلِ دفعِ تلبيس اليهود وافترائهم، حيث قالوا: (يَتَّبِعُ قِبْلَتنا ويُخالِفُنا في ديننَا)، وقالوا أيضًا: (واللهِ ما دَرَى محمد وأصحابه أين قِبلتهم حتى هديناهم). فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وقال لجبريل: (وددتُ أن يَصرف الله وجهي عن قبلة اليهود). وقيل: بل كان يهوى ذلك من أجلِ أنها كانت قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام[32]. ولا مانع من اجتماع السببين.

4- قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141].

الإشكال ووجهه[33]:

لِمَ سُمِّي ظَفَرُ المسلمين فتحًا وظَفَرُ الكافرين نصيبًا؟

توجيه الإشكال:

الفتح: نقيض الإغلاق[34]، ومنه سُمِّي النَّصْرُ فتحًا، لأنَّ مساكن الأعداء تُفتح، وسُمِّيَت انتصارات المسلمين فتوحات، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1]. وفي حديث نافع بن عتبة قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تغزون جزيرةَ العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله). رواه مسلم[35].

والنصيب: الحظ والحِصة[36]، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ [النساء: 53]. وقال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...﴾ [النساء: 7].

إذا عُلم ذلك تبيَّن أنَّ التعبير بهاتين الكلمتين هنا في غاية المناسبة:

فقد سُمِّي ظَفَرُ المسلمين فتحًا: «إشارةً إلى أنَّ هذا النصر هو فتحٌ لمغالق الخير وطرق الهدى»[37]، وهو نُصْرةٌ لدين الله، وإعلاءٌ لكلمته، ولذلك نُكِّر تعظيمًا له، وأضافه -سبحانه وتعالى- إليه تشريفًا له، و«تذكيرًا للمؤمنين بأنَّ ما كان لهم من نصرٍ فهو من عند الله، بتأييده للمؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين»[38]، ثم خاطبهم فيه بخطاب الحاضر رفعةً لهم وعنايةً بهم.

وسُمِّي ظَفَرُ الكافرين نصيبًا إشارةً إلى أنه من جملة الحظوظ التي لا تعني فضل صاحبها، فهو كما يكون للإنسان نصيب من مالٍ أو دنيا، ثم نُكِّر تحقيرًا له، ثم خوطبوا فيه بخطاب الغائب تحقيرًا لهم وإعراضًا عنهم، فظفرهم اتباعٌ لأهوائهم، وحربٌ لأولياء الله، وصدٌّ عن سبيله، ولا يكون ذلك إلا حينًا ثم سرعان ما يزول، ولذلك ذيّل الكلام بقوله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.

يقول الزمخشري: «فإن قلتَ: لم سُمِّي ظَفَرُ المسلمين فتحًا، وظَفَرُ الكافرين نصيبًا؟ قلتُ: تعظيمًا لشأنِ المسلمين وتخسيسًا لحظّ الكافرين؛ لأنّ ظَفَر المسلمين أمرٌ عظيمٌ تفتَّح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أوليائه، وأمّا ظَفَر الكافرين، فما هو إلا حظّ دَنِيٌّ ولُمْظَةٌ من الدنيا يصيبونها»[39].

5- قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: 23].

الإشكال ووجهه[40]:

كيف قال ذلك، والوارثُ مَن يتجدَّدُ له المُلْكُ بعد فناءِ المورِّث، والله تعالى لم يتجدّد له مُلْكٌ، لأنه لم يزل مالِكًا للعَالَم؟

توجيه الإشكال:

للجواب عن هذا الإشكال لا بدّ من تحرير معنى مادة (ورث)، وهنا مسلکان:

1- فإمّا أن تُرَدّ المادة كلّها إلى أصل واحد، فيقال كما قال ابن فارس: «الواو والراء والثاء: كلمة واحدة، هي الورث، وهو أن يكون الشيءُ لقومٍ ثم يصير إلى آخرين بنسبٍ أو سبب»[41].

ويتأيّد هذا المعنى بأنَّ مادة (ورث) في القرآن ورَدَت في خمسة وثلاثين موضعًا، وبتتبّعها تبيَّن أنَّها على المعنى الذي ذكره ابن فارس، وهي في التوارث الجاري بين الخَلْق، باستثناء سبعة مواضع محتملة أُسنِد الإرث فيها إلى الله سبحانه وتعالى، كآية (الحِجْر) المذكورة.

على أنَّ قول ابن فارس: (بنسبٍ أو سبب)، فيه نظر؛ فليس هو مِن حدِّ الإرث لغةً، وإنما أخذه عن الفقهاء، فإنَّ سبب الإرث مُعتبر عندهم لتسميته إرثًا، بخلاف اللغويين فمعنى الإرث عندهم أوسع؛ ولذلك فما يتركه الجارُ لجاره أو الصديقُ لصديقه من مالٍ بعد الوفاة، قد يُسمّى إرثًا لغةً، وإن كان ليس بإرثٍ شرعًا؛ إِذْ ليس بينهما نسبٌ، أو سببٌ من نكاح أو ولاء.

2- وإمّا أن يُقال: الإرث: البَقاء بعد فناء الخَلْق[42]. أي: وإن لم يَتَجَدَّد له مُلك.

ويختلف التوجيه بناءً على اختلاف المعنى:

فنقول على المعنى الأول: قوله: ﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾، أي: «الباقون بعد هلاك الخَلْق كلهم، وقيل للباقي: (وارِث)، استعارة من وارِث الميت؛ لأنه يبقى بعد فنائه»[43]. وسِرُّ التعبير بذلك: أنَّ الخلق يعتقدون أنهم مالكون، وإن كان مُلْكُهم يعتريه النقص، بين الحاجة إليه مِن قبلُ، ومفارقته لهم أو مفارقتهم له مِن بعدُ، فإذا ماتوا انتفت شُبهة المُلْك، وخلصَت الأملاكُ كلّها لله تعالى، فبهذا الاعتبار سُمِّي وارثًا، ونظيره قوله تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]. والمُلْكُ له أزليٌّ وأبديّ.

على أنَّه -سبحانه وتعالى- يرث الخَلْق أيضًا كما يرث ما تركوا، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم: 40].

ويمكن أن يُقال: إنَّ في تعريف ابن فارس قصورًا، فهو صادقٌ على جزء من معنى الإرث، وليس مطابقًا لتمام معناه، فيصلح للإرث المُسنَد إلى الخَلْق، أمّا المُسنَد إلى الخالق فله معنى آخر.

ونقول على المعنى الثاني: ﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾، أي: ونحن الباقون بعد فناء الخلائق.

وأيًّا ما كان، فـ«الوارث: صفةٌ من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم»[44]ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 58]. وكثيرٌ من أهل العلم يعدُّ (الوارث) من أسماء الله تعالى[45].

هذه نماذج من أثر مادة المفردة في توجيه المشكل، والأمثلة كثيرة، لكنَّ المقصود تقرير أصل المسألة لا استقصاء أمثلتها[46].

 

[1] هذه المقالة من كتاب: (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1444هـ، ص41 وما بعدها. (موقع تفسير).‏

[2] الرسالة، ص42.‏

[3] ينظر: التلخيص للقزويني، ص11.‏

[4] دور الكلمة في اللغة، ص12.‏

[5] کتاب الصناعتين، ص85.‏

[6] البخاري (6183)، ومسلم (2247). ‏

[7] شرح الفصيح لابن خالويه، ص402.‏

[8] مفردات الراغب، ص55.‏

[9] المحرر الوجيز (1/ 521).‏

[10] الطراز (2/ 224).‏

[11] جلاء الأفهام، ص262.‏

[12] الكلمة لحلمي خليل، ص70.

[13] مفردات القرآن للفراهي، ص98.‏

[14] الفوائد في مشكل القرآن، ص37.‏

[15] مفردات القرآن للفراهي، ص98.‏

[16] مفردات القرآن للفراهي، ص98. وينظر: البرهان (1/ 297)، (2/ 172)، المزهر (1/ 59)، نمط صعب ‏ونمط مخيف، ص135- 143، الدين لمحمد دراز، ص28.‏

[17] الكشاف (1/ 73).‏

[18] رواه مسلم (454)‏.

[19] ينظر: جامع العلوم والحكم، ص414.‏

[20] الكشاف (1/ 74)، الفوائد في مشكل القرآن، ص37.‏

[21] تفسير أبي السعود (1/ 50)، حاشية الكازروني على البيضاوي (1/ 93).‏

[22] التحرير والتنوير (1/ 309).‏

[23] ديوان السموأل، ص92.‏

[24] الفوائد في مشكل القرآن، ص34.‏

[25] الكشاف (1/ 69).‏

[26] الفوائد في مشكل القرآن، ص34.‏

[27] أنموذج جليل، ص30، الروض الريان (1/ 16)، فتح الرحمن، ص44.‏

[28] رواه البخاري (40)، ومسلم (525).‏

[29] تفسير الطبري (2/ 659).‏

[30] ينظر: إرشاد الفحول (2/ 40).‏

[31] التحرير والتنوير (2/ 27).‏

[32] ينظر: الطبقات الكبرى (1/ 241)، تفسير الطبري (2/ 656)، التحرير والتنوير (2/ 27).‏

[33] أنموذج جليل، ص102، فتح الرحمن، ص126.‏

[34] مقاييس اللغة (4/ 469).‏

[35] صحيح مسلم (2900).‏

[36] لسان العرب (نصب)، المصباح المنير (نصب).‏

[37] التفسير القرآني (3/ 940).‏

[38] التفسير القرآني (3/ 940).‏

[39] الكشاف (1/ 577).‏

[40] فتح الرحمن، ص296.‏

[41] مقاييس اللغة (6/ 105).‏

[42] ينظر: تهذيب اللغة (15/ 117)، لسان العرب (ورث)، القاموس (ورث).‏

[43] الكشاف (2/ 575).‏

[44] تهذيب اللغة (15/ 117).‏

[45] ينظر: معتقد أهل السنّة والجماعة في أسماء الله الحسنى (186).‏

[46] ينظر: الفوائد في مشكل القرآن (30، 34، 37، 45، 48، 51، 74، 87، 91، 101، 116، 119، 127، 134، 166، 183)، أنموذج جليل (40، 75، 133، 144، 153، 226، 267، 271، 299، 360، 364، 392، 403، 418، 444، 530)، الروض الريان (1/ 43، 45، 52، 60، 61، 68، 93، 97، 110، 203، 214، 234، 240)، (2/ 321)، فتح الرحمن (51، 69، 60، 104، 143، 160، 181، 271، 276، 296، 309، 314، 316، 339، 401، 449، 464، 497، 584).

الكاتب

الدكتور ياسر بن حامد المطيري

حاصل على الدكتوراه من قسم البلاغة بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعضو هيئة التدريس بجامعة الأمير سطام بن عبد العزيز.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))