حرف (بل) في القرآن الكريم
![](https://tafsir.net/uploads/articles/%D8%AD%D8%B1%D9%81%20(%D8%A8%D9%84)%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85.jpg)
حرف (بل) في القرآن الكريم[1]
يدلّ حرف (بل) على الإضراب في قول عامة النحاة[2]، ومعنى الإضراب في اللغة الكفّ والإعراض عن الشيء[3].
ويدخل هذا الحرف على المفرد والجملة، فإنْ وقع بعده مفرد فهو حرف عطف لتدارك الغلط[4]، ولم يجئ ذلك في القرآن[5]. وإن وقع بعده جملة فالإضراب فيه على نوعين: إبطالي، وانتقالي.
ومعنى الإضراب الإبطالي نفي الحكم الذي قبل (بل) والقطع بأنه غير واقع[6]. ومَثَّل له جماعة بقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [المؤمنون: 70][7]. والإضراب هنا ليس «إضرابًا عن اللفظ المقول؛ لأنه واقع لا محالة، وإنّما عن النسبة التي تضمّنها قولهم: بهِ جِنَّة»[8].
وأمّا الإضراب الانتقالي فعبّر عنه النحاة بعبارات متقاربة[9]، أحسنها قول سيبويه: «وأمّا (بل) فلترك شيء من الكلام وأخذٍ في غيره»[10].
وجعله ابن مالك «للتنبيه على انتهاء غرض واستئناف غيره»[11]. وعند ابن هشام للانتقال من غرض إلى آخر[12].
ومذهب البصريين أنّ (بل) يُعطف بها في الإيجاب والنفي، ومذهب الكوفيين أنها لا يُعطف بها غير النفي وشبهه، ولا يُعطف بها في الإيجاب[13].
والظاهر من كلام الإمام الطبري أنه يقول بمذهب الكوفيين، فما جاء من مواضع (بل) في الإثبات تأوّله على النفي، وكلامه في هذه المسألة ظاهر جدًّا، ودعوى ابن الأنباري إجماع البصريين والكوفيين على أنّ (بل) يُعطف بها بعد النفي والإثبات لا يصح[14]، بل الخلاف بينهم في هذه المسألة ثابت حكاه جماعة من العلماء، وأثبتوه في مصنفاتهم[15]، ونصوص الإمام الطبري الدالة على أنّ (بل) لا يُعطف بها إلا بعد النفي متوافرة، كقوله: «(بل) في كلام العرب مفهومٌ تأويلُها ومعناها، وأنها تُدخِلُها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقَضَّى، كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك؛ وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام...»[16]، وقوله عن بلى: «وأصلها (بل) التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: (ما قام عمرو بل زيد). فزيد فيها الياء ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت (بل) لا يصلح عليها الوقوف؛ إذ كانت عطفًا ورجوعًا عن الجحد»[17]، وتقديره النفي لـ(بل) الواردة في سياق الإثبات في مواضع كثيرة يدلّ على هذا القول، ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ [الأنبياء: 5]: «وقال تعالى ذكره: ﴿بَلْ قَالُوا﴾ ولا جحد في الكلام ظاهر فيحقق بـ(بل)؛ لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فاجْتُزِئ بمعرفة السامعين بما دلّ عليه قوله: (بل) من ذكر الخبر عنهم»[18].
وكذلك قوله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 88]: «في قول الله تعالى ذكره: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ تكذيب منه للقائلين من اليهود: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾؛ لأن قوله: (بل) دلالة على جحده -جلّ ذِكْره- وإنكاره ما ادّعوا من ذلك؛ إِذْ كانت (بل) لا تدخل في الكلام إلا نقضًا لمجحود. فإِذْ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ أنّ معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنَّة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذِكْرُه: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته...»[19].
ومما يحسن ملاحظته والتنبّه له أن الإمام الطبري عند ذِكْره التقدير والمعنى للآية الوارد فيها (بل) يجعل محلّ (بل) (لكن)؛ لأن (بل) بعد النفي والنهي بمعنى (لكن)؛ فهي للإضراب والاستدراك، كما قال ابن مالك -رحمه الله- في الخلاصة:
وبل كلكن بعد مصحُوبَيْها .. كَلَمْ أكن في مَرْبعٍ بل تَيْها[20]
قال ابن عقيل: «يعطف بـ(بل) في النفي والنهي، فتكون كـ(لكن) في أنها تقرر حكم ما قبلها وتثبت نقيضه لما بعدها نحو: (ما قام زيد بل عمرو، ولا تضرب زيدًا بل عمرًا)، فقرّرت النفي والنهي السابقين، وأثبتت القيام لعمرو والأمر بضربه»[21].
وقال ابن هشام: «قولهم: (بل) حرف إضراب، والصواب حرف استدراك وإضراب، فإِنَّها بعد النفي والنهي بمنزلة (لكن) سواء»[22].
واختلف النحاة في (بل) الداخلة على الجمل: أهي حرف عطف أم حرف ابتداء واستئناف[23]؟ صحح ابن هشام في (مغني اللبيب)، وعباس حسن في (النحو الوافي)، وغيرهما، أنها حرف ابتداء وليست عاطفة[24]. وهو قول أبي حيان في كتابه: (ارتشاف الضَّرَب)[25].
وذهب ابن مالك إلى أنها عاطفة[26]. واختار الزركشي في (البرهان) أنها في الإضراب الإبطالي حرف ابتداء وفي الإضراب الانتقالي عاطفة[27]، وذهب المالقي في كتابه: (رصف المباني في حروف المعاني) إلى أنّ (بل) للابتداء إذا لم يكن بين الجملة التي قبل (بل) والجملة التي بعدها تشريك في المعنى، ومثّل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا﴾ [ق: 1- 2]، وقوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 1- 2]، وأمَّا إذا كان بين الجملتين تشريك في المعنى فـ(بل) عاطفة جملة على جملة، كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص: 8].
والذي يظهر لي أن تقسيم المالقي حَسَن، وأن الحكم على (بل) بالعطف أو الاستئناف ينظر فيه إلى سياق الكلام ومعناه، وكثيرًا ما يأتي الإضراب في القرآن عن جملة مقدّرة، فتكون (بل) عاطفة على هذه الجملة المقدرة الجملة التي تلي (بل)، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ [البقرة: 259][28]، التقدير كما ذَكَر أبو حيان: ما لبثتَ يومًا أو بعض يوم بل لبثتَ مائة عام[29]، وفي قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [لقمان: 11]، التقدير كما نصّ عليه الطبري: ما عبد هؤلاء المشركون الأوثان والأصنام من أجلِ أنها تخلق شيئًا، ولكن دعاهم إلى عبادتها ضلالهم[30].
وقد وقفتُ على عدّة مواضع صرّح فيها جماعة من المفسِّرين بأن (بل) عاطفة؛ فالزمخشري صرّح به في قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ [القيامة: 5][31]، وأبو حيان صرّح به في قوله تعالى: ﴿قَالَ بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ [البقرة: 259][32]، وقوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100][33]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: 170][34].
ومعنى الابتداء ظاهر في بعض الأمثلة التي ذكرها المالقي، نحو: قام زيد بل عمرو منطلق، وما فعلت هذا بل عبد الله منطلق[35]. ومثل هذا مما لا يجيء في القرآن.
والقول بأن (بل) في قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 1- 2]، وقوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا﴾ [ق: 1- 2]، عاطفة على جملة مقدرة كما قال جماعة من المفسِّرين أحسن من قول من قال إنّها للابتداء.
والتقدير على قول من قال إنّ (بل) للابتداء في آية سورة (ص): ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون، بل هم في عزة وشقاق. وهذا اختيار الطبري وابن عطية[36].
وقدَّر البيضاوي الجملة قبل (بل) بقوله: ما كفرَ من كفرَ لخلل وجده في القرآن بل الذين كفروا في استكبارٍ عن الحق وخلافٍ لله ورسوله[37].
وقدَّر الطبريُّ الجملة قبل: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنذِرٌ مِنْهُمْ﴾ [ق: 2]، بقوله: «ما كذَّبك يا محمد مشركو قومك أن لا يكونوا عالمين بأنك صادقٌ مُحِقّ، ولكنهم كذَّبوك تعجبًا من أنْ جاءهم منذر ينذرهم عقاب الله منهم، يعني بشرًا منهم من بني آدم، ولم يأتهم ملَك برسالة من عند الله»[38].
وقدَّره ابن عطية: ما ردَّ أمْرَكَ المشركون بحجة، أو ما كذَّبك المشركون ببرهان بل عجبوا...[39].
ويلاحظ أنّ كلًّا منهما جعل جواب القسم هو الجملة التي يقع الإضراب عنها[40].
وحذف الجُمل المضرب عنها كثير في القرآن، وفيه دلالة على «الإيجاز الذي هو من حلية القرآن»[41]. وأمّا مجيء (بل) للابتداء فقد يقال به في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ [الفجر: 17].
وأحسن منه قول من قال (بل) عاطفة على جملة محذوفة تبيِّن السبب في خذلان الكافرين[42].
وقد وردَ حرف (بل) في القرآن في مائة وسبعة وعشرين موضعًا، وكان وروده في السور المكية أكثر منه في السور المدنية، كما أشار إلى ذلك الدكتور مصطفى حميدة في كتابه: (أساليب العطف في القرآن)، وعلّل ذلك بأنّ من أهمِّ أغراض السور المكية دحض أكاذيب المشركين وافتراءاتهم، وإثبات وحدانية الله سبحانه وصِدق الرسالة والبعث وغير ذلك؛ ولذا حَسُن فيها مجيء الإضراب عن أقوالهم وأفعالهم[43].
ومن الفوائد البديعة التي ذكرها العلّامة ابن القيم أنّ هذا الحرف يرِد لتقرير وتحقيق ما بعده، وعمله هذا شبيه بعمل (قد) الداخلة على الفعل[44]، ففي قوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [الأعلى: 16]، المقصود تقرير هذه الجملة لا الإضراب عن قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14- 15].
وكذلك إذا وقعت بين جملتين متضادتين أفادت تقرير كلّ جملة منهما، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: 169]، المقصود تقرير الطلب والخبر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ [الأنعام: 40- 41]. المعنى: أنكم إذا نزل بكم هذا الأمر العظيم لا تدعون غير الله بل تدعونه وحده، فهو تقرير لترك دعائهم آلهتهم، ولدعائهم الإله الحقّ وحده، فدخلت (بل) على مقرّر بعد مقرّر. وما قبل هذا الحرف تارة يكون توطئة للثاني، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44]، فقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾، مقرِّر وموطِّئ لقوله: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾، وتارة لا يكون توطئة، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31]، وتارة يدخل على مقرّر بعد مردود، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26]، وفي مِثل هذا يظهر معنى الإضراب عن المذكور ونفيه وإبطاله.
وإذا أتى مع التكرار كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: 5]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: 65- 66]، فإنها لا تكون للإبطال، وإنما لبيان أولوية المتأخر، بالقصد إليه والاعتماد عليه مع ثبوت ما قبله[45].
ويستفاد من كلام ابن القيم -رحمه الله- فوائد:
الفائدة الأولى: أنّ (بل) في الإضراب الانتقالي تفيد التقرير والتحقيق لِما بعدها، سواء كان ما بعدها مثبتًا أو منفيًّا.
وإفادة هذا الحرف معنى التقرير نصّ عليه من النحاة ابن مالك في شرح التسهيل[46]، وأمّا إفادته لمعنى التحقيق فقد ألمح إليه من النحاة ابن السراج في (الأصول في النحو) بقوله: «ما يقعُ بعد (بل) يقين، وما يقع بعد (أم) مظنون مشكوك فيه»[47]. ونَصّ عليه من المفسِّرين الإمام الطبري بقوله: «العرب تُحَقِّق بـ(بل) ما بعدها، لا تنفيه»[48]، وقوله: «ولا جحد في الكلام ظاهر فيُحقَّق بـ(بل)»[49].
وذهب الواحدي في تفسيره: (البسيط) في أكثر من موضع إلى أنّ (بل) تؤذِن بتحقيق ما قبلها، وتؤكّد ما بعدها[50]، وفي هذا القول زيادة لمعنى التوكيد لِما بعد (بل)، وبيان أن (بل) تحقِّق ما قبلها أيضًا.
وهذه فائدة جليلة، فيها إضافة لمعنى صحيح لهذا الحرف غير معنى الإضراب المنصوص عليه في قول عامة النحاة، واستعمال هذا المعنى في الكلام على مواضع هذا الحرف في القرآن أحسن من استعمال معنى الإضراب الذي يشمل نوعَي الإضراب الانتقالي والإبطالي.
الفائدة الثانية: أنّ (بل) إذا وقعت بين جملتين متضادتين أفادت تقرير كلّ واحدة منهما. قال ابن مالك -رَحِمَهُ اللهُ- مبينًا هذه الفائدة: «فما بعد (بل) مقرّر على كلّ حال؛ فإن كان قبلها نهي أو نفي، فهي بين حكمين مقرّرین، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: 169]»[51].
وإذا كان ما قبل (بل) موجَبًا فما بعدها على حالتين بيَّنهما ابن مالك بقوله: «وإن كان ما قبل (بل)، موجَبًا فما بعدها إمّا مقرّر بعد مقرّر على سبيل التوطئة، كقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44]، وكقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (ربِّ إنّا كنّا على عمل أهل النار كالأنعام بل أضل سبيلًا)[52]، وإمّا مقرّر بعد مردود، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26]، وكقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ﴾ [المؤمنون: 70]»[53].
الفائدة الثالثة: أنّ الإضراب الإبطالي هو الذي يظهر فيه معنى الإضراب أكثر من الإضراب الانتقالي، وأنه يجيء في القرآن كما هو قول أكثر العلماء، وخالف في ذلك ابن مالك في (شرح الكافية الشافية) وقال: «إنّ (بل) لا تقع في القرآن إلا لانتهاء غرض واستئناف غيره»[54]. وقد ردَّ هذا القولَ المراديُّ في (توضيح المقاصد بشرح ألفية ابن مالك)، وابن هشام في (مغني اللبيب)، والزركشي في (البرهان)، والأشموني في (شرح ألفية ابن مالك)[55].
وإلى قريب من قول ابن مالك ذهب السمين الحلبي، وقال: إنّ كلّ إضراب في القرآن لا يكون إلا للانتقال، إلا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: 170]، وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [السجدة: 3]، فإن (بل) تحتمل فيهما الإضراب الانتقالي والإضراب الإبطالي[56].
وأمّا شيخه أبو حيان فقد قرّر في تفسيره قاعدةً حسنةً، وهي: أنّ الإضراب في كتاب الله تعالى لا يكون في أخبار الله تعالى إلا للانتقال، ويجيء للإبطال إذا كان على سبيل الحكاية عن قوم[57].
وقد تأملتُ مواضع هذا الحرف في كتاب الله تعالى فوجدتُ أن المواضع التي صح فيها القول بالإضراب الإبطالي لا تخرج عن قول أبي حيان هذا، فكلّ إضراب قيل إنّه للإبطال لا يخرج عن كونه واردًا في معرض حكاية الأقوال وإبطالها، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 88]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: 170]، وقوله تعالى: ﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ [ص: 59- 60]. ويمكن أيضًا حمل (بل) في هذه الآيات على الإضراب الانتقالي، بتقدير العطف على جملة محذوفة.
وسبق تقرير مذهب الإمام الطبري في هذا الحرف، وأنه لا يعطف به إلا بعد النفي؛ وعلى قوله فإنّ كلّ إضراب في القرآن انتقالي؛ لأن (بل) في قولك: ما كان كذا بل كذا «ليست للإبطال، وإنما لتقرير الجملتين التي قبلها والتي بعدها، كما سبق ذكره»[58].
وفي المواضع التي يقدر المفسّرون جملة منفية عطفت عليها (بل)، فإن هذه الجملة المنفية هي التي تبطل الحكم السابق لها[59]، وليست (بل) هي التي تبطل ذلك الحكم؛ لأن (بل) في الإضراب الإبطالي هي التي تبطل الحكم السابق لها، وهي بمعنى (لا) النافية[60]. وهذا القول من الإمام الطبري يوافق ما ذهب إليه ابن مالك القائل بأن كلّ إضراب في القرآن للانتقال.
والذي يظهر -والله أعلم- أنّ الإضراب الإبطالي واردٌ في القرآن، ولكنّ وروده أقل من ورود الإضراب الانتقالي[61]، ولا يرِد إلا في معرض حكاية الأقوال وردِّها. وليس كل ما جاء من حكاية الأقوال يصح فيه ذلك. وقد وقفتُ على بحث بعنوان: (أساليب الإضراب والاستدراك في القرآن الكريم)، ووجدت الباحثة قد ذكرت في قسم الآيات الدالة على الإضراب الإبطالي جملة وافرة من الآيات، بعضها لا يصح بحال أن يكون من هذا القسم، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: 135]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]، وقوله تعالى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 97]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: 72- 74]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ [الصافات: 30]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 65- 66][62].
وفي تفسير العلّامة ابن عاشور عدّة مواضع قال إنّ الإضراب فيها للإبطال، ووافقته الباحثة في بعضها، والصحيح أن الإضراب فيها للانتقال، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ [البقرة: 154][63].
وقوله تعالى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا ويْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 97][64].
وقوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 1- 2][65].
وقوله تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15][66].
وقد يظنّ الظانّ أنّ الإضراب في قوله تعالى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 97]، من قبيل الإضراب الإبطالي.
والذي يظهر -والله أعلم- أنّ الإضراب في الآية انتقالي؛ إِذْ كيف يبطل الكفار قولهم: ﴿قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾، وهو قول صحيح، فقد كانوا في الدنيا في غفلة من الذي يرونه ويعاينونه من البلاء في يوم القيامة[67].
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: 39]، وقوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 1]، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ﴾ [ق: 22]. ولا شكّ أنهم من أهل الغفلة عن تلك الأهوال العظيمة، ولكن الإضراب جاء ليقرّر ويبيّن السبب الحقيقي في المصاب الذي هم فيه، وهو ظلمهم لأنفسهم بعبادتهم غير الله وطاعتهم الشيطانَ[68].
وعليه فالصحيح أنّ الغفلة ثابتة لهم، ولكنهم انتقلوا من وصف أنفسهم بالغفلة إلى ذِكْر السبب الذي أوقعهم في المصاب الذي هم فيه، وهو ظلمهم لأنفسهم بالكفر والإعراض عن ذكر الله تعالى[69].
وكلام العلّامة ابن عطية وغيره يدل على هذا المعنى[70].
وأمّا الآيات التي جاءت فيها (بل) بعد النهي أو النفي فلا ينبغي أن يقال: إنّ (بل) فيها للإضراب الإبطالي؛ لأنه سبق أن ذُكر أنّ (بل) في هذا التركيب تفيد تقرير ما قبلها على حالته[71]، وهي بمعنى (لكن)، ولا تفيد إضرابًا[72].
ومن أمثلة ذلك بعد النهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]. وبعد النفي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ [الصافات: 30]. وما بعد (بل) في قوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ جملة، والتقدير: بل هم أحياء[73]. وهو حكم قصد إثباته وتقريره، وأمّا الحكم الذي قبل (بل) وهو جملة: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾، فهو باق على حاله، ولم تبطله (بل).
ومما يدخل في حكم ما سبق الاستفهام الذي يجيء بمعنى النفي، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ﴾ [المؤمنون: 80- 81]؛ ولهذا قال البقاعي: «ولـمّا كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي حَسُن بعده كلّ الحسن قوله: (بل)»[74]. ومن أمثلة ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: 25][75].
وللإضراب بعد النفي حُسن في الكلام نبّه عليه البقاعي[76]، وأشار إلى أنّ (بل) في الإثبات يُفهم منها الردّ بالنفي[77]، واستعمل هذه القاعدة في مواضع كثيرة من تفسيره[78]، ويظهر من تلك المواضع أنّه يؤيد القول بأنّ (بل) لا تقع إلا بعد النفي كما هو قول الإمام الطبري ومذهب الكوفيين من النحاة[79].
والفائدة الرابعة التي تستفاد من كلام ابن القيم السابق: أنّ (بل) إذا تكررت فهي تفيد التنبيهَ على أولوية ما بعدها والقصد إليه والاعتماد عليه، وثبوت ما قبلها وبقاءَه على حالته دون إبطال[80].
وابن القيم مسبوق في ذِكْر هذه القاعدة بابن مالك رحمه الله[81]، وقد استدل كلٌّ منهما على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: 65- 66].
وزاد ابن مالك على ذلك أنّ (بل) قد تكرّر فيكون ما بعدها مقصود الانتفاء، وذكر دليلًا على ذلك قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: 5].
والاستدلال بقوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: 66]، على أنّ (بل) إذا تكررت تفيد التنبيه على أولوية ما بعدها =استدلالٌ ظاهرٌ وصحيح، فلا يقال بأنّه أُضْرِب عن وصف الكفار بأنهم في شكّ من الآخرة إلى وصفهم بأنهم في عماية عنها، بل كلٌّ من هاتين الصفتين والصفة التي قبلهما هم متّصفون بها، ولكن قُصِدَ الترقي إلى وصفهم بالوصف الذي هو أَوْلى ما يوصفون به؛ لأنّ العمى عن الشيء أعظم من الشكّ فيه[82].
وأمّا الاستدلال بقوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: 5]، على القاعدة السابقة فمحلّ خلاف بين ابن مالك وابن القيم؛ فابن القيم يجعلها داخلة في القاعدة السابقة.
والذي يظهر من كلام ابن مالك في (شرح التسهيل) أنه يجعل (بل) الثانية والثالثة للإبطال[83].
وهذا القول منه -رحمه الله- يخالف قوله في (شرح الكافية الشافية) بأنّ (بل) لا ترِد في القرآن إلا للتنبيه على انتهاء غرض واستئناف آخر[84].
وعلى قول ابن القيم فإنّ (بل) الثانية والثالثة للانتقال مثل (بل) الأُولى.
والخلاف في دلالة (بل) الثانية والثالثة على الانتقال أو الإبطال سببه أن جملة مقول القول: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ فيها احتمالان:
الأول: أن تكون من كلام الله تعالى الذي ذكر فيه أقوال طوائف المشركين في وصف القرآن، وانتقل في ذكرها من قول إلى قول. والتقدير: بل قالوا أضغاث أحلام بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر، وحذف فعل القول بعد (بل) الثانية والثالثة لدلالة القول الأول عليهما[85].
وعلى هذا الوجه تكون (بل) الأولى والثانية والثالثة جميعها للانتقال؛ وهي من كلام الله تعالى، ولا يجوز أن يقال بأن الله أضرب عن قول إلى آخر؛ لأنّ الإضراب الإبطالي لا يكون منه -جل وعلا- كما سبق بيانه. واختار هذا الوجه الراغب الأصفهاني وابن القيم، وعلّل الراغب ذلك بأن لفظ الشاعر في القرآن يراد به الكاذب بالطبع[86]؛ فالكفار قصدوا اعتماد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف الأخير. وجوّز هذا الوجه الزمخشري وجعل الترتيب في حكاية الله تعالى لأقوال المشركين بحسب درجاتها في الفساد، فالقول بأنّ القرآن سحر فاسدٌ، وأفسدُ منه القول بأنه أضغاث أحلام، وأفسدُ منه القول بأنه مُفترًى وهكذا[87]. وهذا الوجه في الترتيب عكس ما قرّره ابن القيم.
والاحتمال الثاني: أن تكون هذه الأقوال حكاية لقول فريق من المشركين ذكر اللهُ مقالتهم هذه التي وصفوا فيها القرآن بأنّه أضغاث أحلام ثم أضربوا عن هذا الوصف إلى وصفه بأنه كلام مفترًى، ثم أضربوا عن هذا الوصف إلى وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر، و(بل) الثانية والثالثة على هذا الوجه من كلام الكفار.
وقول ابن مالك بأنّ (بل) الثانية والثالثة للإبطال يصح على هذا الاحتمال. وهذا الوجه يدل عليه ظاهر كلام الزجّاج[88]، وصرّح بالقول به الآلوسي[89].
وقد جوّز كِلا الوجهين السابقين الكرماني والزمخشري والبيضاوي وابن عاشور[90].
ويظهر من كلام الطبري وابن عطية أنّ هذه الأقوال حكاية من الله لمقالة طوائف المشركين في وصف القرآن، وعلى هذا القول فإنّ (بل) الثانية والثالثة للانتقال، وهما من كلام الله تعالى[91].
والذي يظهر -والله أعلم- أن جملة مقول القول من كلام الله تعالى، ذكر الله تعالى فيها أقوال المشركين في وصف القرآن، وأُخِّر من تلك الأوصاف ما يعتمده الكفار ويولونه عناية أكثر من غيره[92].
وعلى هذا الوجه فإنّ كلّ قول من هذه الأقوال قالته طائفة[93]، كما قال الله تعالى عن الكفار ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: 91][94]، و(بل) الثانية والثالثة ليست للإبطال، ولكن لترتيب هذه الأوصاف، وتأخير وصف المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر لأنّه من الأوصاف التي يعتمدونها، ويدلّ على ذلك إقسام الله تعالى في سورة الحاقة بكلّ ما يُبْصَر وما لا يُبْصَر بأنّ القرآن ليس بقول شاعر ولا بقول كاهن، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْانٌ مُبِينٌ﴾ [يس: 69].
ومن فوائد البقاعي أنّ الله تعالى ذكَرَ (بل) بين كلّ وصف مما يصف به الكفار القرآن ليفيد هذا الحرف تنبيه كلّ ذي لُبٍّ على بطلان هذه الأقوال جميعًا وتناقضها؛ وأنّ في ذلك أيضًا «إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله، وأنه مما يُضرب عنه لكونه غلطًا ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل»[95].
والفائدة الخامسة التي تستفاد من كلام ابن القيم: أنّ (بل) إذا جاءت بعد القَسَم الذي لم يُذكر جوابه فإنّها تتضمّن تحقيق ما بعدها وتقريره، وتحقيق ما قُصد بالقسَم وتقريره[96].
ولم يستشهد ابن القيم على هذا القول بشيء من القرآن، والظاهر أنه يقصد بذلك مجيء (بل) في نحو قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 1- 2]، وقوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٍ عَجِيبٌ﴾ [ق: 1- 2]. وسبق الكلام على هاتين الآيتين.
وأختم الكلام على هذا الحرف ببيان أهم الأغراض التي ترِد لها (بل) الانتقالية في القرآن، وللمفسِّرين في ذلك إشارات، كشف عن جملة منها الدكتور مصطفى حميدة في كتابه: (أساليب العطف في القرآن)[97]، وذكر أن المعنى العام الجامع لهذه المعاني كلّها أنّ (بل) الانتقالية يأتي الانتقال فيها إلى ما هو أهمّ وأجدر بالذِّكْر على جهة اليقين والتحقيق، وهذا قول الرضي في (شرح الكافية)[98].
وسأذكر فيما يأتي هذه الأغراض التي جمعها الدكتور مصطفى مع ذكر الأدلة التي استدلّ بها على كلّ معنى منها متعقبًا من تلك المعاني ما يحتاج إلى تعقُّب:
الأول: الانتقال من الكلام في الشيء إلى بيان سببه.
وهذا المعنى لم يقدّمه الدكتور مصطفى، وقدّمته لأنه من أكثر المعاني التي وردَت عليها (بل) في القرآن، ومن الأدلة الظاهرة في الدلالة عليه قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ أَمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾ [المدثر: 52- 53]، قال ابن عطية: «قوله تعالى: ﴿كَلَّا﴾ ردٌّ على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال تعالى: ﴿بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾، المعنى: هذه العلّة والسبب في إعراضهم، [فكأنّ][99] جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم للهدى حتى هلكوا»[100].
ومن الأدلة التي لم يوردها الدكتور مصطفى وتصلح دليلًا على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [يس: 19]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السجدة: 10]، وقوله تعالى: ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: 55]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: 40]، وقوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلَفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155].
الثاني: الانتقال إلى ما هو أبلغ في الوصف، واستدلّ على هذا المعنى بأدلة؛ الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السجدة: 10].انتقل من مقالة المشركين الدالة على إنكار البعث إلى وصفهم بما هو أبلغ في الكفر من مقالتهم تلك[101].
والظاهر -والله أعلم- أنّ (بل) وما بعدها تقرير وتحقيق للسبب الباعث للمشركين على مقالتهم الواردة في الآية، وأنه ليس إنكارًا لقدرة الله على البعث، ولكنّه جحود لقاء الله تعالى في الآخرة، وإنكار الجزاء على الأعمال، وإلى ذلك أشار الإمام الطبري[102].
ومن الآيات التي استدلّ بها الدكتور مصطفى أيضًا قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ [الفجر: 15- 17]، وذكر قول الزمخشري أنّ هناك أمرًا هو شرّ من مقالة الإنسان تلك، وهو أن الله يكرمهم بكثرة المال ثم هم لا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين، وغير ذلك من أعمالهم التي تدلّ على حبّهم للمال وشحّهم به[103].
وأحسن من قول الزمخشري السابق قول مَنْ قال إن (بل) وما بعدها انتقال لبيان السبب للإكرام والإهانة، وتوضيح ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى بعد ذِكره لمقالة الإنسان عند الابتلاء بالسعة والابتلاء بالضيق قال رادًّا على تلك المقالة ومبطلًا لها: (كَلَّا) أي «لا أُكرم مَن أَكرمتُ بكثرة الدنيا، ولا أُهين من أَهنتُ بقلّتها، ولكن إنما أُكرم من أَكرمتُ بطاعتي، وأُهِينُ من أَهنتُ بمعصيتي»[104]، ثم ذكر -جلّ وعزّ- السبب الذي من أجله أُهين من أُهين، وهو أنه لا يُكرِم اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين، إلى غير ذلك من الصفات التي عددها الله تعالى[105]، والمعنى: بهذا «أُهين من أهنتُ؛ لأنه مرتكب لمعصيتي، مخذول ممنوع عن طاعتي»[106]. وهذا قول الإمام الطبري ومكي بن أبي طالب[107]. وهو الأقرب؛ لأن الله تعالى إنما يُكرِم من أَكرمَ بسبب طاعته، ويُهين من أَهان بسبب معصيته[108]. وهو المعنى الذي جاءت (بل) وما بعدها لتقريره وتحقيقه.
والدليل الثالث: قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُولُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: 44- 46].
والقول بأن المعنى في هذه الآية هو الانتقال إلى ما هو أشد أقربُ من القول بأنه انتقال إلى ما هو أبلغ؛ لأنّ الله -جل وعز- أخبر عن قُرب هزيمة المشركين، ثم انتقل الحديث في الآية ليقرّر أمرًا أشدّ وطأة على المشركين من هزيمتهم، وهو أمر الساعة وما فيها من أنواع العذاب السرمدي فقال: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: 46][109].
والدليل الرابع: قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 12- 14]، والظاهر أنّ الانتقال في قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾؛ لتحقيق أمرٍ هو أشدّ وأشقّ على النفس من أن يُنبَّأ الإنسان بما قدّم وأخّر، ألا وهو شهادة الإنسان على نفسه يوم القيامة، كما قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه»[110].
الثالث: الانتقال إلى ما هو أعجب، واستدل الدكتور مصطفى على هذا المعنى بثلاثة أدلة:
الأول: قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾ [الفرقان: 10- 11]، والقول بأن الانتقال في هذه الآية إلى ما هو أعجب هو قول الزمخشري[111].
والظاهر -والله أعلم- أنّ الانتقال لبيان السبب، والمعنى: ما منعهم من الإيمان إلا التكذيب بالساعة، ولم يمنعهم منها أكْلُكَ الطعام ولا مَشْيُكَ في الأسواق، ولم يمنعهم منه كذلك أنك لم تؤتَ الكنوز والجنان في الدنيا[112]. وجوّز البقاعي أن يكون المعنى في الآية: دع التفكر فيما قالوه من هذا، فإنهم لم يقتصروا في التكذيب عليه بل ﴿كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ﴾ أي: بقدرتنا عليها...»[113]. والانتقال على هذا القول إلى ذِكْرِ أمرٍ أعظم من مقالتهم التي ذُكرت، وهذا الأمر هو التكذيب بالساعة وبقدرة الله عليها، وهو وجهٌ حسنٌ.
والدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ أَمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ [المدثر: 49- 52].
والظاهر أن الانتقال في قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ أَمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾، انتقال لبيان سببٍ من أسباب إعراض جماعة من المشركين عن التذكرة، وهو أنّ كلّ واحد منهم يريد أن يؤتى كتابًا من السماء ينزل عليه يؤمرون فيه باتباع النبي صلى الله عليه وسلم[114].
ويؤيد هذا القول أن الآية التي تلي هذه الآية جاء فيها بيان السبب الحقيقي لإعراض هؤلاء المشركين، فقال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾، والمعنى كما قال الإمام الطبري: «ما الأمر كما يزعمون من أنهم لو أُوتوا صحفًا منشَّرة صَدّقوا... لكنهم لا يخافون عقاب الله، ولا يصدّقون بالبعث والثواب والعقاب؛ فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله»[115].
والدليل الثالث: قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ [البروج: 17- 19].
قال الزمخشري: «ومعنى الإضراب: أنّ أمرهم أعجب من أمر أولئك؛ لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا، وكذّبوا أشدّ من تكذيبهم»[116].
والذي يظهر أنّ (بل) جاءت لتقرير حقيقة ثابتة وهي أن الذين كفروا من كلّ الأمم في تكذيبٍ مستمرّ لأنبيائهم[117]؛ ولهذا جاء التهديد في الآية التي تليها ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: 20].
قال الرازي: «والمقصود بيان أَنَّ حال المؤمنين مع الكفَّار في جميع الأزمنة مستمرة على هذا النهج، وهذا هو المراد من قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾»[118].
وأمّا قول الزمخشري إنّ تكذيب المشركين من أهل مكة أعجب من تكذيب فرعون وثمود؛ لأجل سماعهم بقصصهم وما جرى لهم؛ فقول له وجه من النظر، كما قال شعيب -عليه السلام- لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُم بِبَعِيدٍ﴾ [هود: 89].
الرابع: الانتقال من جدل الخصم إلى إثبات القول الفصل فيه.
واستدلّ الدكتور مصطفى على هذا المعنى بعدة أدلة، منها قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 24]،وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 42]، وقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهُ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60]، وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: 25].
والذي يظهر أنّ الإضراب الانتقالي في هذه الآيات وقع بعد الاستفهام الذي أبطل اللهُ به عقائد المشركين من خلال أسلوب الاستفهام، فجاءت (بل) بعد عرض السؤال عليهم لتقرّر وتؤكّد وتبيّن حقيقة المخاطبين بتلك الآيات، وسبب عدولهم عن الحقّ، وهو أسلوب بليغ من أساليب القرآن البديعة.
الخامس: الانتقال من الاستدلال بآية من آيات قدرة الله إلى الحديث عن موقف أهل الباطل.
واستدلّ عليه الدكتور مصطفى بآيتين؛ الأولى: قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 1- 2]، والآية الثانية قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٍ عَجِيبٌ﴾ [ق: 1- 2].
وتعبير الدكتور مصطفى عن هذا المعنى بقوله: «الانتقال من الاستدلال بآية من آيات قدرة الله» فيه نظر لا يخفى؛ لأنه ليس في الآيتين ذِكْر لشيء من آيات قدرة الله تعالى، والصواب أن يُقال: إنّ بل جاءت للانتقال من بيان عظمة القرآن وشرفه إلى بيان موقف أهل الكفر منه، وسبب إعراضهم عنه[119].
السادس: تقوية التشبيه، واستدلّ عليه الدكتور مصطفى بآيتين؛ الأولى: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أَولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، والثانية: قوله تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44].
ففي هاتين الآيتين تشبيه لأهل الكفر بالأنعام من الإبل والبقر والغنم، والوصف المشترك بين كلّ منهما عدم الفقه لِما يُقال لهم، وعدم السماع للحقّ[120]، أو «عدم قبول الهدى والانقياد له»[121]، وقيل: الشبه بينهما أن الأنعام لا هَمَّ لها إلا الأكل والشرب، ولا نظر لها في الآخرة، وهم كذلك[122].
وأمّا الزيادة في الضلال التي خُصَّ بها أهل الكفر، وأكّدها اللهُ وقرّرها بقوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾، فأحسنُ ما قيل فيها أنّ الأنعام لا قدرة لها على ما يترتب على مدارك السمع والبصر من القبول للحقّ والانقياد له، والكافرون مع قدرتهم على ما يترتب على هذه المدارك أَهملوا وقَصّروا[123].
وأيضًا الأنعام أعطاها الله من الهداية التي تجتنب بها ما يضرّها، وتحصِّل بها ما ينفعها، فهي «تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها»[124]، و«تهرب إذا سمعت صوتًا منكرًا فرأت بعينها أنه يترتب عليه ضرّها، وتنتظر ما ينفعها من الماء والمرعى فتقصده»[125]،والكفار لا ينزجرون بما يسمعون، ولا يرغبون في الثواب، ولا يخافون العقاب[126]، ويتركون ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم[127].
وبهذا يظهر أن الإضراب في الآيتين السابقتين انتقال من وصف أو تشبيه إلى وصف أشد منه، وذهب ابن عاشور إلى أنّ الانتقال للترقي في التشبيه[128]، وهذا القول أحسن من القول بأن الانتقال لتقوية التشبيه.
ومن الآيات التي انتقل فيها للوصف الأشد قوله تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [الأنبياء: 39- 40][129]. فقوله: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهتُهُمْ﴾، انتقال لصفة شديدة وُصِفَت بها نارُ جهنم، وهي أنها لا تأتي أهلها عن علمٍ بوقتها[130]، ولا تأتي بالتدريج كغيرها بل تأتي مفاجأة فتدع أهلها حائرين[131].
[1] هذه المقالة من كتاب: (حروف المعاني التي يحتاج إليها المفسّر ودلالاتها وأثرها في التفسير)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1442هـ، تحت عنوان: (الحرف السادس: بل)، ص302 وما بعدها. (موقع تفسير)
[2] انظر: المقتضب للمبرد (1/ 12)، والأصول لابن السراج (2/ 57)، وشرح المفصل لابن يعيش (5/ 27)، وشرح الكافية الشافية لابن مالك (1/ 350)، والجنى الداني للمرادي، ص235، ومغني اللبيب لابن هشام، ص130.
[3] انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 399)، ولسان العرب (8/ 38). قال ابن فارس: «وأضرب فلان عن الأمر، إذا كفَّ، وهو من الكفّ، كأنه أراد التبسط فيه ثم أضرب، أي: أوقع بنفسه ضربًا فكفّها عما أرادت».
[4] انظر: کتاب حروف المعاني للزجاجي، ص14، والمقتصد في شرح الإيضاح للجرجاني (2/ 946)، وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب (6/ 188).
[5] انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (2/ 186).
[6] انظر: النحو الوافي لعباس حسن (3/ 623). بتصرف يسير.
[7] انظر: الجنى الداني للمرادي، ص235، ومغني اللبيب لابن هشام، ص130، والبرهان للزركشي (4/ 258)، وجواهر الأدب في معرفة كلام العرب للأربلي، ص223.
[8] انظر: البحر المحيط (1/ 436) عند قوله تعالى: ﴿بَل لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 88].
[9] انظر: أساليب العطف في القرآن للدكتور مصطفى حميدة، ص354.
[10] الكتاب (4/ 223).
[11] شرح الكافية الشافية (3/ 1233).
[12] انظر: مغني اللبيب، ص130. وعرّفه عباس حسن في كتابه: النحو الوافي بقوله: «والانتقالي هو: الذي يقتضي الانتقال من غرض قبل الحرف (بل) إلى غرض جديد بعده مع إبقاء الحكم السابق على حاله، وعدم إلغاء ما يقتضيه». (3/ 623).
[13] حكى الخلاف بين البصريين والكوفيين في هذه المسألة الرماني وابن فارس وأبو حيان والمرادي وابن هشام والسيوطي وغيرهم.
انظر: معاني الحروف، ص94، والصاحبي، ص103، وارتشاف الضَّرَب (2/ 644)، والجنى الداني، ص237، وتوضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (3/ 1021)، ومغني اللبيب، ص131، وهمع الهوامع (5/ 256). وخالف ابن الأنباري في كتابه: (الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين)، وادّعى إجماع البصريين والكوفيين على أن (بل) يُعطف بها بعد النفي والإيجاب، وقال بهذا القول الرضي في شرح الكافية، ورجحت الباحثة إنجا إبراهيم اليماني في بحثها (أساليب الإضراب والاستدراك في القرآن الكريم) هذا القول؛ استنادًا على حكاية ابن الأنباري الإجماع على ذلك، وما نقلته عن الإمام الطبري -وهو معدود من أئمة نحاة الكوفة- يقوي صحة الخلاف بين البصريين والكوفيين في هذه المسألة. وقد حكى الخلاف في هذه المسألة الرماني وابن فارس، وكلاهما سابق لابن الأنباري.
انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف (2/ 484)، وشرح الكافية (6/ 189)، وأساليب الإضراب والاستدراك في القرآن الكريم، ص26- 27.
[14] انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف (2/ 484)، ووافقه الرضي في شرح الكافية (6/ 189).
[15] سبق ذكر مَن حكى الخلاف في ذلك.
[16] جامع البيان (1/ 227).
[17] جامع البيان (2/ 179).
[18] جامع البيان (16/ 226- 227).
[19] جامع البيان (2/ 232).
[20] انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/ 216).
[21] انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/ 216).
[22] مغني اللبيب، ص752.
[23] انظر: الجنى الداني للمرادي، ص236.
[24] انظر: ص130.
[25] انظر: (2/ 643). وهو أيضًا قول عباس حسن. انظر: النحو الوافي (3/ 623- 624).
[26] انظر: شرح التسهيل لابن مالك (3/ 367)، الجنى الداني للمرادي، ص236.
[27] انظر: البرهان (4/ 258).
[28] انظر: دراسات لأسلوب القرآن لعضيمة (2/ 56). وقد عنون -رحمة الله- بقوله: «الإضراب عن جملة محذوفة كثير في القرآن»، ثم ذكر أكثر من عشرين شاهدًا على ذلك.
[29] انظر: البحر المحيط (2/ 470)، والدر المصون (2/ 561).
[30] انظر: جامع البيان (18/ 545). والطبري جعل بل بمعنى لكن للإضراب والاستدراك.
[31] انظر: الكشاف (4/ 497).
[32] انظر: البحر المحيط (2/ 470).
[33] انظر: البحر المحيط (1/ 467).
[34] انظر: البحر المحيط (1/ 683). وممن صرح بذلك أيضًا البقاعي في (نظم الدرر). انظر: (21/ 405).
[35] انظر: رصف المباني، ص155.
[36] انظر: جامع البيان (20/ 11)، والمحرر الوجيز (12/ 416).
[37] انظر: تفسير البيضاوي (5/ 23).
[38] انظر: جامع البيان (21/ 402).
[39] انظر: المحرر الوجيز (13/ 525).
[40] انظر: المحرر الوجيز (13/ 525).
[41] الكشاف (1/ 84).
[42] انظر: نظم الدرر للبقاعي (22/ 34).
[43] انظر: أساليب العطف في القرآن، ص360- 361. بتصرف يسير.
[44] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (4/ 1656).
[45] انظر: بدائع الفوائد (4/ 1656- 1657). بتصرف يسير.
[46] انظر: شرح التسهيل (3/ 368).
[47] (2/ 58).
[48] جامع البيان (18/ 108).
[49] جامع البيان (16/ 226).
[50] انظر: البسيط (14/ 41)، (19/ 24).
[51] شرح التسهيل (3/ 368).
[52] لم أعثر على من خرّج هذا الأثر.
[53] شرح التسهيل (3/ 367).
[54] انظر: (3/ 1233). ونسب الزركشي في (البرهان) هذا القول إلى صاحب البسيط، ولم يُسَمِّه، وذكر السيوطي في (الإتقان) أن صاحب البسيط سبق ابن مالك إلى هذا القول. وصاحب البسيط هذا مختلف فيه، وقد حقق الدكتور حسن موسى الشاعر -رحمه الله- في بحث له بعنوان: (الكشف عن صاحب البسيط في النحو)، أن صاحب البسيط الذي ينقل عنه الزركشي هو ضياء الدين محمد بن عليّ الإشبيلي، المعروف بابن العِلْج، وهو من نحاة القرن السابع. وعلى هذا القول يكون ابن مالك سابقًا له. انظر: مجلة الجامعة الإسلامية: السنة (20)، العددان: 77- 78، جمادى الآخرة 1408هـ.
[55] انظر: توضيح المقاصد والمسالك (2/ 1021)، ومغني اللبيب ص130، والبرهان (4/ 259)، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (2/ 391).
[56] انظر: الدر المصون (2/ 226).
[57] انظر: (4/ 137) عند تفسير قوله تعالى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: 28].
[58] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (4/ 1657).
[59] انظر: الموجز في قواعد اللغة العربية لسعيد الأفغاني، ص364.
[60] انظر: النحو الوافي لعباس حسن (3/ 623). قال الأستاذ عباس حسن -رحمه الله- في التمثيل للإضراب الإبطالي: «نحو: الأجرام السماوية ثابتة، بل الأجرام السماوية متحركة. فالحرف (بل) بمعنى (لا) النافية أفاد الإضراب الإبطالي الذي يقتضي نفي الثبات ونفي عدم الحركة عن الأجرام السماوية؛ لأن هذا الثبات أمر غير حاصل، ومن يدعيه كاذب، فكأنّ المتكلم قال: الأجرام السماوية ثابتة. لا، فالأجرام السماوية متحركة وليست ثابتة؛ فأبطل الحكم الأول ونفاه، وعرض بعده حكمًا جديدًا».
[61] قال الآلوسي مثبتًا لمجيء الإضراب الإبطالي في القرآن: «ووهم ابن مالك في شرح الكافية فنفاه، والحقُّ أن الإبطال إن كان لِما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن، وإن كان لِما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال؛ لأنه بداء». (روح المعاني: 10/ 16).
[62] انظر: أساليب الإضراب والاستدراك في القرآن الكريم، ص37- 62.
[63] انظر: التحرير والتنوير (2/ 53).
[64] انظر: التحرير والتنوير (17/ 152).
[65] انظر: التحرير والتنوير (23/ 204).
[66] انظر: التحرير والتنوير (26/ 297).
[67] انظر: جامع البيان (16/ 410).
[68] انظر: جامع البيان (16/ 410).
[69] انظر: المحرر الوجيز (10/ 209)، وتفسير النيسابوري (5/ 54).
[70] انظر: المحرر الوجيز (10/ 209)، وتفسير البيضاوي (4/ 60)، وتفسير النسفي (3/ 136). قال ابن عطية: «وقوله: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ تقديره: يا ويلنا لقد كانت بنا غفلة عمّا وجدنا الآن وتبينَّا من الحقائق، ثم تركوا الكلام الأول ورجعوا إلى نقد ما كان يُداخلهم من تعمّد الكفر وقصد الإعراض فقالوا: ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
[71] انظر: النحو الوافي لعباس حسن (3/ 626).
[72] انظر: النحو الوافي لعباس حسن (3/ 626).
[73] انظر: المحرر الوجيز (2/ 31)، والبحر المحيط (1/ 638).
[74] نظم الدرر (13/ 174).
[75] نظم الدرر (19/ 119).
[76] نظم الدرر (13/ 179)، (13/ 174).
[77] نظم الدرر (2/ 127).
[78] نظم الدرر (2/ 34)، (7/ 87)، (14/ 182)، (15/ 81)، (15/ 247)، (18/ 309)، (19/ 131)، (21/ 78)، (21/ 95).
[79] يؤيد هذا أن العلّامة البقاعي يقول بتقدير النفي إذا جاءت (بل) في سياق الإثبات، وسبق ذكر طرف من أقواله، ومن الآيات التي وردت فيها (بل) في سياق الإثبات وقدّر فيها النفي، قوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [الأعلى: 16]، قال -رحمه الله-: «ولما كان التقدير: وأنتم لا تفعلون ذلك، أو وهم لا يفعلونه -على القراءتين- عطف عليه قوله بالخطاب في قراءة الجماعة على الالتفات الدال على تناهي الغضب...». (نظم الدرر: 21/ 405). ومن الشواهد أيضًا قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرُهَ انْ مجِيدٌ﴾ [البروج: 21]، قال -رحمه الله-: «التقدير: ليس الأمر كما يزعم الكفار في القرآن (بل هو) أي: هذا القرآن...». (نظم الدرر: 21/ 367).
[80] انظر: بدائع الفوائد (4/ 1657).
[81] انظر: شرح التسهيل (3/ 369).
[82] انظر: المحرر الوجيز (11/ 235)، بتصرف يسير.
[83] قال ابن مالك -رحمه الله- بعد ذكره للآية: «فما بعد الأول من الإخبار بالأضغاث مقصود الانتفاء؛ لأنه مرجوع عنه، وكذا ما بعد الثانية». (شرح التسهيل: 3/ 369).
[84] انظر: (3/ 1233).
[85] انظر: البسيط للواحدي (15/ 17). بتصرف يسير.
[86] انظر: مفردات ألفاظ القرآن، ص142.
[87] انظر: الكشاف (3/ 77).
[88] انظر: معاني القرآن وإعرابه (3/ 384).
[89] انظر: روح المعاني (10/ 15).
[90] انظر: غرائب التفسير وعجائب التأويل (2/ 734)، والكشاف (3/ 77)، وتفسير البيضاوي (4/ 46)، والتحرير والتنوير (17/ 15).
[91] قال ابن عطية: «عدّد الله في هذه جميع ما قالته طوائفهم، ووقع الإضراب بكلّ مقالة عن المتقدمة لها ليتبين اضطراب أمرهم» (المحرر الوجيز: 10/ 125).
[92] انظر: أضواء البيان (4/ 390).
[93] انظر: جامع البيان للطبري (16/ 225).
[94] انظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/ 390).
[95] نظم الدرر (12/ 386- 387).
[96] انظر: بدائع الفوائد (4/ 1658).
[97] غالب ما يذكره الدكتور مصطفى من معانٍ مقتبسٌ من كلام الزمخشري. انظر: أساليب العطف في القرآن، ص357- 367.
[98] انظر: شرح الرضي على كافية ابن الحاجب (6/ 191). قال الرضي: «وأمّا (بل) التي تليها الجمل ففائدتها الانتقال من جملة إلى أخرى أهمّ من الأُولى...».
[99] كذا في المطبوع. ولعلّ الصواب بغير همز كما هو في بعض الطبعات الأخرى.
[100] المحرر الوجيز (15/ 201).
[101] أخذ هذا المعنى من كلام الزمخشري. انظر: الكشاف (3/ 385).
[102] انظر: جامع البيان للطبري (18/ 603).
[103] انظر: الكشاف (4/ 564).
[104] هذا قول قتادة -رحمة الله- في تفسير هذه الآية، وهو اختيار الإمام الطبري. انظر (24/ 377- 378).
[105] انظر: جامع البيان (24/ 378). بتصرف يسير.
[106] الهداية إلى بلوغ النهاية (12/ 8252).
[107] انظر: جامع البيان (24/ 378)، والهداية إلى بلوغ النهاية (12/ 8251).
[108] انظر أيضًا: معالم التنزيل للبغوي (8/ 421)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (22/ 277).
[109] انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي (11/ 7204)، والمحرر الوجيز لابن عطية (14/ 170)، والبحر المحيط لأبي حيان (8/ 260)، نظم الدرر للبقاعي (19/ 131). قال ابن عطية: «وأضرب عنها تهممًا بأمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كلّ هزيمة وقتل»، وبنحو قوله قال أبو حيان.
[110] جامع البيان (23/ 491).
[111] انظر: الكشاف (3/ 203). والمعنى عنده: بل أتى المشركون بأمر أعجب مما سبق حكايته عنهم في الآيات، وهذا الأمر هو تكذيبهم بالساعة. قال الآلوسي بعد ذكره هذا القول: «وتعقب بأنه لا نُسلّم كون الجراءة على التكذيب بالساعة أعجب من الجراءة على القول السابق» (روح المعاني: 10/ 354).
[112] انظر: جامع البيان للطبري (17/ 408)، والتفسير الكبير للرازي (8/ 436)، والبحر المحيط لأبي حيان (6/ 586).
[113] نظم الدرر (13/ 353).
[114] انظر: جامع البيان (23/ 460- 461).
[115] انظر: جامع البيان (23/ 461).
[116] الكشاف (4/ 550). وانظر أيضًا: تفسير البيضاوي (5/ 302).
[117] انظر: أضواء البيان للشنقيطي (9/ 69).
[118] التفسير الكبير (11/ 115)، وانظر: نظم الدرر للبقاعي (21/ 365).
[119] سبق الكلام على هاتين الآيتين. انظر: جامع البيان (20/ 11)، والمحرر الوجيز (12/ 416)، والتحرير والتنوير (23/ 205). قال ابن عاشور: «ولك أن تجعل بل إضراب انتقال من الشروع في التنويه بالقرآن إلى بيان سبب إعراض المعرضين عنه؛ لأن في بيان ذلك السبب تحقيقًا للتنويه بالقرآن».
[120] انظر: جامع البيان (10/ 595)، والكشاف (2/ 134)، وتفسير ابن كثير (3/ 514).
[121] أمثال القرآن لابن القيم (2/ 12).
[122] انظر: البسيط للواحدي (9/ 477)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9/ 390).
[123] انظر: نظم الدرر للبقاعي (8/ 174). بتصرف يسير.
[124] جامع البيان (17/ 460).
[125] نظم الدرر (8/ 174).
[126] انظر: نظم الدرر (13/ 395). بتصرف يسير.
[127] انظر: جامع البيان (10/ 595).
[128] انظر: التحرير والتنوير (9/ 184). قال -رحمه الله-: «وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم، بمداركهم ثم تشبيههم بالأنعام، ثم الترقي إلى أنهم أضل من الأنعام، ثم قصر الغفلة عليهم».
[129] انظر: مفردات ألفاظ القرآن، ص142.
[130] انظر: جامع البيان (16/ 276- 277).
[131] انظر: نظم الدرر (12/ 423). بتصرف يسير.