حديث (الغرور) في القرآن
حديث (الغرور) في القرآن[1]
الغُرور داءٌ مُهلِك، كَمْ قَصَمَ مِن ظهورٍ، وكم أردَى مِن رقاب، وكم حفر من قبور. وهو أنواع وألوان؛ فهناك الغُرور بالعِلْم، وهناك الغُرور بالمال، وهناك الغُرور بالصحة والشباب، وهناك الغُرور بالمنصب والجاه، وهناك الغُرور بالأولاد والعشيرة...
ونحن بحاجة إلى تحذير أنفسنا وغيرنا من التعرّض لمواطن الاغترار فضلًا عن الإغراق فيه، وإذا كانت الحياة تحتاج منّا إلى أن نشجِّع الناشئين، وأن نحرِّض القادرين، وأن ندفع بالصالحين إلى خير الميادين، فهذه الحياة تحتاج أيضًا -لتكون طاهرة شريفة- إلى التحذير من بلوى الغرور، وإلى ملطِّفات الاعتزاز بالنفس والاعتزاز بالذات، ولا بدّ لكلّ منّا من ساعات تذكار للتدبّر والاعتبار، يعرف فيها قيمة نفسه، ويعرف فيها قيمة غيره، ويسلك الطريق المعتدل المستقيم.
وقبل أن نعرض لحديث القرآن الكريم عن الغرور نعرض لحديث اللغة عنه، فنرى القاموس المحيط يقول: «غرَّه: خَدَعَهُ، وأطْمَعَهُ بالباطلِ، فاغْتَرَّ هو. والغَرُورُ: الدُّنْيا، وما يُتَغَرْغَرُ به من الأدوية، وما غَرَّكَ، أو يُخَصُّ بِالشَّيْطانِ، وبالضمّ: الأباطيل... وغَرَّرَ بنَفْسِه: عَرَّضَها لِلْهَلَكَةِ، والغَرِيرُ والغِرُّ: الشابُّ لا تَجْرِبَةَ له، والغارُّ: الغَافِلُ، واغْتَرَّ: غَفَلَ»[2]، وفي لسان العرب: «والغَرورُ ما غَرّك من إِنسان وشيطان وغيرهما... والغُرور: ما اغْتُرَّ به من متاعِ الدنيا»[3]، وفي أساس البلاغة: «وصبَّحَهُم الجيشُ وهم غارُّونَ، أي: غافِلُون، ويُقال: أغَرُّ مِن ظبيٍ مُقمِرٍ؛ لأنه يخرج في الليلة المقمِرة يرى أنه النهار فتأكله السباع، واغترَّه الأمرُ: أتاهُ على غِرَّة»[4]، وفي مفردات القرآن: «يُقال: غَرَرْت فلانًا: إذا أَصَبْت غِرَّتَه ونِلْت منهُ ما أُريده، والغِرَّة: غفلةٌ في اليقظة، والغِرَار: غفلةٌ مع غفوةٍ. فالغَرُورُ: كلُّ ما يغرُّ الإنسانَ من مالٍ وجاهٍ وشهوةٍ وشيطان، وقد فُسِّر بالشيطان؛ إِذْ هو أخبثُ الغَارِّين، وبالدُّنيا لما قيل: الدُّنيا تَغُرّ وتَضُرّ وتَـمُرّ...»[5].
ونلاحظ أنّ اللغة تريدُ بالغرور في كثيرٍ من المواطن: الغفلة، وقد عُني الصوفية بمحاربة الغرور والغفلة والتنبيه على خطرهما؛ فنرى أحمد بن أبي الحواري يقول: «مَن لم يعرف نفسه فهو من دينه في غرور»، ويقول أبو سليمان الداراني: «إذا سكنَ الخوفُ القلبَ أحرقَ الشهوات وطرَدَ الغفلةَ من القلب»، ويقول أبو عليّ الثقفي: «الغفلة وسَّعت على الخَلْق الطُّرُقَ في معايشهم وأفعالهم، والورع واليقظة ضيَّقت عليهم ذلك»، ويقول ابن أبي الحواري: «ما ابتلَى اللهُ عبدًا بشيء أشدّ من الغفلة والقسوة»، ويقول: «لا نومَ أثقلُ من الغفلة، ولا رِقَّ أملكُ من الشهوة، ولولا ثِقَلُ الغفلة ما ظَفِرَتْ بك الشهوة».
وحينما نستعرض حديثَ القرآن المجيد عن الغُرور نلاحظ بعض السِّمات العامة؛ أوّلها أنّ الغُرور ليس من شيمة المسلمين ولا من خُلُق المؤمنين، بل هو شيمة المنافقين والكافرين، وشيمة الضالِّين من اليهود والنصارى، ومنها أن الاغترار عمل الشيطان الرجيم، ومن هناك سمَّى القرآنُ الشيطانَ (غَرُورًا) كما سيجيء، ومنها أن هذه الحياة الدنيا بلذّاتها وشهواتها وآفاتها هي التي تسبب الغرور، وتثير في نفس الأغرار عنصر الاغترار، فيَضِلُّون ويُضِلُّون. وما هذه الحياة إلا متاعٌ قليل ضئيل زائل؛ ولذلك وصَفَها التنزيل المجيد بأنها: ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، وما الغُرور إلا غفوة غافلة أو مكابرة، لا يلبث صاحبها إلا قليلًا ثم يستفيق فإذا اللّواذع والفواجع، وإذا الغُصَّة بعد فوات الفرصة، وإذا أليمُ الفكرة بعد عاجل السَّكرة.
ومن السِّمَات في حديث القرآن الكريم عن الغرور النعي على الإنسان المغترّ بكرم الله وحِلْمه، أو المغترّ بدنياه، مع النهي عن الاغترار بسلطان الغير؛ إِذْ كلّ سلطان -مهما كان جليلًا- لا ثباتَ له ولا كيان أمام سلطان القاهر الديّان.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: 22]، والحديث عن آدم وحواء إِذْ جاءهما الشيطان اللعين فأزلّهما إلى الأكل من الشجرة، وخدعهما بأنْ أقسمَ لهما بالله أنه من الناصحين، فأوقعهما في الهلاك. قيل: وقد يُخْدَع المؤمنُ بالله؛ ولذلك كان بعض العلماء يقول: مَنْ خَادَعَنَا باللهِ خُدِعْنَا[6]. وهنا نرى كيف قام الشيطان بدور الخداع والتغرير فبرعَ في التضليل والتخسير.
ويقول عزّ من قائل: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء: 120- 121]، أي: إنّ الشيطان يَعِدُ أولياءَه بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كَذَبَ وافترى في ذلك؛ إِذْ هو يَعِدُهُم بأباطيله وتُرَّهَاتِه من المال والجاهِ والرياسة، وأنْ لا بَعْثَ ولا عِقاب. قال ابن عرفة: «الغُرور ما رأيتَ له ظاهرًا تحبّه وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غَرُور لأنه يحمل على محابّ النفس، ووراء ذلك ما يسوء. ومن هذا بيعُ الغَرَر: وهو ما كان له ظاهر بيع يغرُّ وباطن مجهول»[7].
ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: 64]، والخطاب للشيطان، أي: استَزِلَّهُم واستَخِفَّهُم بصوتك -وصوته كلّ داعٍ إلى المعصية- واجمع عليهم كلّ ما تستطيع من مكايدك، واجعل لنفسك شركة في أموالهم وأولادهم، واخدعهم بالأماني الكاذبة، فأنت لا تَعِدُهُم إلا باطلًا وزُورًا.
وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [الحديد: 13- 14].
أي: فتنتم أنفسَكم باللّذات والمعاصي والشهوات، وتربصتم بالحقّ وأهله، أو أخّرتم التوبة من وقتٍ إلى وقت، وارتبتم بالبعث وشككتم فيه، وغرّتْكُم الأماني، أي: قُلتم: سيُغْفَرُ لنا، أو غرّتكم الدنيا حتى جاءكم الموت، وغرّكم بالله الغَرُور، وهو الشيطان، حتى قذفكم في النار[8].
قال بعض العلماء: إنّ للباقي بالماضي مُعتبَرًا، وللآخِر بالأوّل مُزدَجَرًا، والسعيد مَن لا يغترّ بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومَن ذكر المنيّة نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجَل.
وقريب مما سبق قوله سبحانه: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ [الملك: 20]، أي: ما الكافرون إلا في غرور من الشياطين، تغرّهم وتخدعهم حين توهمهم بأنه لا بعث ولا حساب، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
وقد رأينا في الآيات السابقة أنّ الغرور قد نُسب إلى الشيطان، فهو صفة له، وهو يحاول بثّه في سواه، وهو بخبثه يعمل على التغرير بطوائف من الخَلق فيهلكهم ويرديهم، ويسوقهم إلى شرّ المعاطب؛ ولذلك حذّر الله عباده من ذلك الغرور، فقال في سورة فاطر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5].
ويقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: 40]، أي: إنما اتّبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي يتمنونها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزُور، والغرور هنا مطلق على المشركين الظالمين، وقريب من هذا قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأنعام: 130]، قيل: إنّ هذا الخطاب يكون يوم الحشر، والمعنى: أنّ هؤلاء الكفار قد خدعتهم هذه الحياة العاجلة، وظنوا أنها تدوم، فاغتروا ثم اعترفوا بكفرهم، قال مقاتل: هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك[9].
وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112]، وهذا الزخرف عبارة عمّا يوسوس به شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس؛ وسُـمِّيَ وحيًا لأنه إنما يكون خُفية، وقد ورَدَ أن شيطان الإنس شرٌّ من شيطان الجن، وقال مالك بن دينار: إنّ شيطان الإنس أشدّ عليَّ من شيطان الجن، ذلك أني إذا تعوَّذتُ بالله ذهب عني شيطان الجنّ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانًا[10].
وهنا تشترك شياطين الجنّ وشياطين الإنس -وهم الضَّالُّون الـمُضِلُّون منهم- في الغرور والاغترار والتغرير.
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 23- 24]، هذا عن اليهود والنصارى الذين يتظاهرون بالتمسُّك بالتوراة والإنجيل، ومع ذلك لا يقبلون التَّحاكُم إليهما، وقد غرّهم في دينهم وخدعهم ما خَدعوا به أنفسهم مِن زعمِهم أنّ النار لا تمسّهم بذنوبهم إلا أيامًا قليلة معدودة، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم، ولم يُنزِل الله به سلطانًا.
وبعد أن رأينا نسبة الغرور إلى الشيطان وإلى المنافقين والمشركين، وإلى شياطين الإنس الملاعين، وإلى الفاسقين من اليهود والنصارى، نرى نسبته إلى الحياة الخادعة الزائفة، فيقول القرآن عن الكافرين: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 51]، وفي سورة الأنعام يقول: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأنعام: 70]، ويعود في سورة الحديد فيقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20]، أي: هي متاع حقير صغير فانٍ، يغرّ مَن يركن إليه مع أنها حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة، وفي الحديث: (لَـمَوضِعُ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها)، وفي التنزيل: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 16- 17]، ويقول قتادة: هي متاع متروكة أَوْشَكَت واللهِ الذي لا إله إلا هو أن تضمحلّ عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعةَ الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله. وعن سعيد بن جبير: إنّما هذا لِـمَن آثرها على الآخرة، فأمّا مَن طلبَ الآخرة بها فإنها متاع بلا غرور.
ويقول تبارك وتعالى في سورة الانفطار: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: 6]، قال ابن عمر وغيره: غرَّه واللهِ جهلُه. وقال قتادة: ما غرّ ابنَ آدم غيرُ هذا العدوّ الشيطان، وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال: ﴿بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ دون سائر أسمائه وصفاته كأنّه لقّنَه الإجابة؛ وهذا الذي تخيّله هذا القائل ليس بطائل؛ لأنه إنّما أتى باسمه الكريم لينبّه على أنه لا ينبغي أن يُقابَل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور[11]. وفي هذا توبيخ وتبكيت للعبد الذي يأمنُ مَكْرَ الله ولا يخافُه.
ويخاطب الله نبيّه بقوله في آل عمران: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 196- 197]، أي: لا تتطلّع إلى ما يتقلب فيه هؤلاء الكافرون من النعمة والغِبطة، فعمّا قليل يزول هذا كلّه عنهم، ويصبحون بلا شيء، ثم يؤخَذُون بأعمالهم السيئة، ونحن نمهلهم ولا نهملهم، وما هذا الذي في أيديهم إلا شيء حقير قليل، ولهم من ورائه جهنم، وهي أسوأ مستقرّ ومصير. وفي الحديث: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدُكُم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بِمَ يرجع). وقريبٌ من هذا قوله في سورة المؤمن: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ [غافر: 4].
هذا ما تيسَّر من استعراضٍ لحديث القرآن الكريم عن الغرور والمغترِّين، وهو حديث -كما ترى- يُوحِي بالاحتياط والحَذَرِ، ويُوصِي بالابتعاد عن مواطن الغرور وأسباب الاغترار، ويحذِّر من صُحبة الغارِّين الـمُخادِعِين؛ جنَّـبَنَا اللهُ آفةَ الغُرور، وجمَّلَنَا بفضيلة التواضُع والذِّكرَى، وباعَدَ بيننا وبين المغترِّين والغافلين، إنه نِعم الـمُعِين.
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (الأزهر)، المجلد السابع والعشرون، الجزء الخامس، جمادى الأولى سنة 1375هـ، ص486. (موقع تفسير)
[2] القاموس المحيط (2/ 101).
[3] لسان العرب (6/ 315).
[4] أساس البلاغة (2/ 160).
[5] مفردات القرآن، ص364.
[6] تفسير القرطبي (7/ 180).
[7] تفسير القرطبي (4/ 302).
[8] تفسير ابن كثير (4/ 309).
[9] تفسير القرطبي (7/ 87).
[10] تفسير القرطبي (7/ 67 و68).
[11] تفسير ابن كثير (4/ 481).