مصحف الملك الأشرف قايتباي في مدرسته التي أنشأها في المدينة النبوية عام (887هـ)
عرض وتوصيف
مقدمة:
حمدًا لمن أَنزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وصلاة وسلامـًا على أوّل مَن حفظه وصانه، وقام به وأقامه، أمّا بعدُ:
فقد عُرض بمزاد في لندن عام 1440هـ مصحف كامل برسم السلطان قايتباي، خَطَّه تِـــنِـم النَّجمي الملكي الأشرفي عام 894هـ، وبِيع بما يعادل 17 مليونًا و860 ألف ريال سعودي[1].
والتراث لا يقدَّر بثمن، إلا أنّ هذا المزاد عكَسَ أهمية أنواع من المخطوطات ومنزلتها في الحضارات؛ مما يستدعي بذل كلّ ما يمكن من إمكانات ووسائل للحفاظ عليها وحمايتها وفق أعلى المستويات والمعايير الدولية.
وهناك مصحف مشابـه للسابق -إلا أنه غير تام- محفوظ بمجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية في المدينة المنورة، أهداه الملك الأشرف قايتباي عام (889هـ= 1484م)، وجعله وقفًا في مدرسته التي بناها ملاصقة للمسجد النبوي، في غَرْبِه عند باب السلام.
قال عنه أ.د. مساعد الطيار: «وهو تحفة فنية فريدة» ا.هـ[2].
وتأتي هذه المقالة للتعريف بهذا المصحف وبيان بعض المعطيات التاريخية والفنية الخاصّة به.
الملك الأشرف قايتباي (826- 901هـ)[3]:
الملك الأشرف قايتباي أبو النصر بن عبد الله المحمودي الظاهري (نسبة إلى الملك الظاهر جقمق).
هو السلطان السابع عشر من ملوك الجراكسة، وُلِد سنة (826هـ)، وجلس على سرير الملك في القاهرة سنة (872هـ)، وحَكَم (29) سنة، وكانت وفاته سنة (901هـ).
بنى بمكة المكرمة مدرسةً لصيقة بالحرم الشريف مما يلي المقام، وبنى بالمدينة المنورة رباطـًا ومدرسةً لصيقة بالمسجد النبوي من جهته الغربية عند باب السلام.
وله أعمال أخرى من بناء المدارس والجوامع وغير ذلك في بعض مدن العالم الإسلامي، كالقاهرة والقدس وغيرهما.
مناسبة إهداء المصحف ووقفه:
تعرَّض المسجد النبوي في شهر رمضان عام (886هـ) إلى حريق بسبب صاعقة رعدية أصابت هلال إحدى مناراته.
ونقل السمهودي أنّ الحريق استولى «على جميع سقف المسجد وحواصله وأبوابه وما فيه من خزائن الكتب والربعات والمصاحف، غير ما وقعت المبادرة لإخراجه أولًا وهو يسير»[4].
فأمر الأشرف قايتباي بإعادة إعمار المسجد النبوي، وعمَّر الحجرة الشريفة، والقبة المبتناة عليها، وتغيير المنبر[5] والمآذن التي كانت بالحرم، وانتهى منه العمل في أواخر سنة (887هـ)[6]، وبنى المدرسة الأشرفية غربي المسجد.
قال ابن إياس في حوادث شهر شعبان سنة (887هـ): «وفيه جاءت الأخبار من المدينة المشرفة، بأنّ السلطان أنشأ هناك مدرسة وجعل لها شبابيك مطلّة على الحرم النبوي»[7].
وقام الأشرف قايتباي عام (888هـ) بإهداء مصحف كبير وقَفَه على المسجد النبوي.
قال ابن إياس في حوادث عام (888هـ): «وفي شوال خرج الحاجُّ من القاهرة... وخرج معهم شاد بك أمير آخور ثاني... وأرسل معه السلطانُ المقصورةَ الحديد التي صنعها للحجرة الشريفة، ثم أرسل معه مصحفًا كبيرًا حُمل على جَمَل بمفرده، وكان من النوادر، كتبه شاهين النوري، ومات ولم يكمله، فأكمله الشيخ خطاب بأمر السلطان، وهو باقٍ إلى الآن في الحجرة الشريفة»[8] ا.هـ.
كما قام عام (889هـ) بوقفِ مصحفٍ آخر في مدرسته المدرسة الأشرفية، وهو المصحف الذي بين أيدينا.
نصّ وقفية مصحف الأشرف قايتباي على المدرسة الأشرفية بالمدينة النبوية:
جاءت وقفية المصحف في وجه الورقة الأُولى منه، التي في ظهرها سورة الفاتحة، ونَصُّها:
«وقَفَ هذا المصحف الشريف مولانا المقامُ الشريف السلطانُ المالك الملك الأشرف أبو النَّصْرِ قايتباي نصره الله تعالى وتقبّل منه؛ ليُقرأ فيه ويُهدى ثواب القراءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم في صحيفة مولانا الواقف نصَرَهُ الله، ثم في صحيفة ذرّيته وأموات المسلمين.
وجعل مقرّه بالمدرسة الأشرفية التي أنشأها بالمدينة الشريفة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
وشرط أن لا يخرج منها برهن ولا بغيره.
وقفًا شرعيـًّا، لا يُباع ولا يُوهب ولا يُملك، ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّـمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
بتاريخ العاشر من شهر شوال المبارك سنة تسع وثمانين وثمانمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
شهدتُ على الواقف -نَصَره الله تعالى- بذلك، وكتب: خطاب بن عمر الدنجاوي».
وقفية مصحف الأشرف قايتباي على المدرسة الأشرفية بالمدينة النبوية
طرَأَت على ورقة الوقفية ثلاثة أختام: اثنان في أسفل الورقة للحجرة النبوية، أحدهما مربع يظهر فيه تأريخ (1256)، والآخر بيضاوي لا يظهر فيه تأريخ، والثالث دائري في أعلى الورقة للروضة الشريفة؛ مما يعني أن المصحف خرج من المدرسة الأشرفية إلى داخل المسجد النبوي في وقتٍ ما، والأقرب أنه عند تجديد المدرسة عام (1237هـ)، ثم عاد إلى مكتبة المصحف الشريف بالمجمع مع بعض المصاحف التي كانت في الروضة الشريفة.
توصيف المصحف:
المصحف محفوظ بمكتبة المصحف الشريف بمجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية، برقم (5).
نسخة نفيسة، ذات رونق جمالي من حيث الزخرفة والتذهيب والضبط، ومتانة الورق، تعكس فنّ العصر المملوكي.
الموجود منه من أول القرآن إلى أوائل سورة فصلت، وسقطت أوراق من بعض السور.
كُتب المصحف بخط الثلث المحقّق. مذهَّب في أوّله ومزخرف بالزخارف النباتية، باللون الذهبي والأزرق والأبيض ويسير من الأحمر والأخضر في الإطار المحيط بالنصّ، في دوائر ومستطيلات، وزخارف متعدّدة الألوان امتلأت بها ورقة النصّ.
ظهر الورقة الأولى من مصحف الأشرف قايتباي المُوقف على المدرسة الأشرفية بالمدينة النبوية
وجه الورقة الثانية من مصحف الأشرف قايتباي المُوقف على المدرسة الأشرفية بالمدينة النبوية
وكُتب لفظ الجلالة (الله) في كلّ موضع من المصحف بماء الذهب، محدّد باللون الأسود، وضبط شكله باللون الأزرق تارة وبالأحمر تارة.
وكُتبت الآيات باللون الأسود وشُكِّلَت به.
ويضع عليها رموزًا بالحروف لأحكام التجويد والوقوف، ويضع علامة المدّ. فعل هذا في الورقات السبع الأُولى ولم يستمر.
وكُتبت أسماء السور بماء الذّهب في إطار بدون زخرفة، وتارة بلا إطار، وضبط شكلها باللون الأزرق. ويذكر اسم السورة، وعدد آياتها، ومدنية أو مكية. ويذكر في الحاشية -بإيجاز- الخلاف في ذلك إن كان.
وجعل فواصل الآيات بشكلِ وردة مستديرة مذهّبة، في وسطها نقطة حمراء، وفي أطرافها نقط حمراء وزرقاء.
وجعل حُلًى (كريمات) للأحزاب والأرباع: فجعل لنهاية الربع دائرة مستديرة في الحاشية بالخطّ الأبيض والأزرق والمذهَّب، ولونها الداخلي أحمر، زخرفها بالأزرق وماء الذهب، وكتب فيها (ربع) باللون الأبيض.
ولنهاية نصف الحزب دائرة بيضاوية، مواصفاتها مشابهة، لكن جعل لونها الداخلي أزرق وزخرفها بماءِ الذّهب ويسيرٍ من الحُمرة.
ولنهاية الحزب نصف دائرة يعلوها امتداد أخذت به شكل القنديل، بمواصفات نصف الحزب، وكتب في داخلها (حزب) باللون الأبيض.
وجعل لمواضع السجود علامة جعلها في الحاشية، وهي عبارة عن دائرتين رأسيتين متداخلتين مزخرفتين بزخارف نباتية بماء الذهب واللون الأزرق، وكتب فيهما بماء الذهب (سجدة).
ولم يلتزم تلوينًا موحّدًا في الأشكال السابقة، بل ينوِّع الألوان في الشكل الواحد.
أُحيطت صفحات المصحف بإطار، وهو عبارة عن خطّين أحمرين مواليين للنصّ وخط أزرق خارج.
وفي حواشيه اختلاف القرّاء بإيجاز، وقد نال قصُّ الورق من أحرف أو كلمات بأوائل أسطر الحواشي أو أواخرها.
مقاسه: 40×54 سم. وعدد الأسطر في كلّ صفحة 11 سطرًا.
عدد ورقاته (304) ورقة، من الورق المشرقي الصقيل.
عليه نصّ الوقفية السابقة على المدرسة الأشرفية، وهي المدرسة التي جدّدها فيما بعد السلطان محمود الثاني ابن السلطان عبد الحميد، سنة (1237هـ)، فسميت المحمودية.
خطاط المصحف:
خَطَّه -بغلبة الظنّ-: خطَّاب بن عمر الدنجاوي.
فقد فُقِدَت الملازم الأخيرة من المصحف وفُقِد معها اسم الخطّاط، إلا أنّ الدنجاوي قد نسخَ نَصَّ وقفيته، فيغلب على الظنّ أنه هو مَن خطَّ المصحف، وهناك قرينة أخرى، وهي أنه هو -في العام السابق- مَن أكمل مصحف قايتباي الذي أهداه إلى المسجد النبوي بعد وفاة مَن بدأ به وهو شاهين النوري، كما مضى آنفـًا.
ترجم له السخاوي فقال: «خطَّاب بن عمر الدنجيهي ثم القاهري الأزهري الشافعي المكتب. حفظ القرآن وجوَّد الكتابة على يس الجلالي والشمس ابن الحمصاني والجمال الهيتي، ومِن قبلِهم على ابن سعد الدين، وكتب بخطّه زيادة على خمسين مصحفًا، وصار أحد الكُتّاب، ممن استكتبه يشبك الدوادار القاموس وغيره، بل والسلطان في مصحف، وتنزَّل في كثير من الجهات، وكان كثير العيال ذا زوجات ثلاث، وأبواه وعمّته وغيرهم في كفالته، ومن وظائفه التصدّر للتكتيب بالجامع الأزبكي مع قراءة مصحف فيه، وكذا قراءة البخاري وقراءة مصحف بتربة السلطان، وبلغني أنه كان يتعلّق بالأدب ويشارك في العربية مع دِين. مات في شوال سنة إحدى وتسعين عن نحو الأربعين»[9].
تجليد المصحف:
لا يحمل التجليد الحالي خصائص العصر المملوكي، فالذي يظهر أنه جرى استبدال جلده الأصل خلال القرن الأخير.
والتجليد الحالي الذي غُلِّف به المصحف عبارة عن غلاف كرتوني مكسوّ بجلد أحمر، خالٍ من الزخرفة والتزيين والتذهيب. وله لسان مثلث الشكل، بعرض 11 سم في زواياه، و17 سم في وسط المثلث[10].
صورة الجلد الحالي (البدل) لمصحف قايتباي بمجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية
وفي المجمع صندوق يحتوي على جلود كثيرة انتُزعت من مخطوطاتها في فترة سابقة -ربما في العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري تقريبـًا- ولعلّ جلد هذا المصحف معها.
وفيما يلي صورة جلد مصحف مماثل -خارج مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية- كتبه خطَّاب بن عمر الدنجاوي برسم السلطان قايتباي عام 890هـ[11]:
جلد مصحف آخر للسلطان قايتباي ضمن مجموعة جعفر غازي
خاتمة:
قدَّمت هذه المقالة وصفًا لمصحف من المصاحف التاريخية المملوكية المهمَّة المحفوظة الآن بمكتبة المصحف الشريف بمجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة، أهداه إلى المدرسة الأشرفية بالمدينة النبوية الأشرف قايتباي عام (889هـ)، كتبه الخطّاط خطَّاب بن عمر الدنجاوي، جرى تغيير جلده الأصل وجُلِّد بجلد متأخِّر.
اللهم اجعلنا مستمسكين بكتابك، معتنين بخطابك
والحمد لله رب العالمين
[1] ينظر موقع دار كريستيز (صاحبة المزاد): www.christies.com/en/lot/lot-6195211
[2] ينظر حسابه في تويتر:twitter.com/mattyyar/status/1537895739388403712
[3] ينظر: بدائع الزهور في وقائع الدهور، محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، تحقيق: محمد مصطفى، (فيسبادن: ألمانيا، دار فرانز شتايـنـز، 1395هـ)، (3/ 3- 5، 196، 334)؛ والنور السافر عن أخبار القرن العاشر، محيي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروس، (بيروت، دار الكتب العلمية، 1405هـ)، ص15.
[4] وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، عليّ بن عبد الله بن أحمد السمهودي، (بيروت، دار الكتب العلمية، 1419هـ)، (2/ 176)؛ وينظر: بدائع الزهور في وقائع الدهور (3/ 187).
[5] تسلّمت هيئة تطوير منطقة المدينة المنورة -خلال السنوات القريبة الماضية- قطع منبر الأشرف قايتباي من مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية، وقد كانت محفوظة فيه عقودًا زمنية، وتمت إعادة بنائه، وهو معروض حاليـًّا في معرض عمارة المسجد النبوي بالمدينة.
[6] بدائع الزهور في وقائع الدهور، (3/ 188).
[7] بدائع الزهور في وقائع الدهور، (3/ 196).
[8] بدائع الزهور في وقائع الدهور، (3/ 204).
[9] الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، (بيروت، دار الجيل، د.ت)، (3/ 181).
[10] نشر د. مصطفى الرزاز دراسة عن هذا المصحف بعنوان: دراسة فنية توصيفية لمصحفين شريفين من العصر المملوكي؛ أحدهما للسلطان قايتباي، (المدينة المنورة، مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية، 1442هـ). وهي دراسة عُنيت بالنواحي الفنية في المخطوط من زخرفةٍ وتذهيب ونحوهما، من واقعِ صور المصحف دون أن يباشر الأصل، وأشار فيها إلى وصف جلد مصحف قايتباي، حيث وصف الزخرفة على جلد المصحف في سطرين وبضع كلمات وكأنّه يصف مصحفًا غير مصحف قايتباي؛ لأنَّ وصفه لا يصح منه شيء، إذ تجليد المصحف خالٍ من الزخرفة تمامًا، وفيما يبدو أنه اعتمد على صورة جِلْد ليست له، إلا أنه قدَّم بعده -في نحو سطرين- وصفًا جيدًا لدفتي المصحف وكعبه ولسانه بدون قياسات.
هذا الاستدراك مهمّ لئلّا يقال: كان الجلد الأصل لمصحف قايتباي موجودًا خلال دراسته عام 1442هـ.
[11] كان في مجموعة جعفر غازي المتوفى عام 1428هـ، وبعد وفاته بيع المصحف بلندن عام 1433هـ في مزاد دار كريستيز. ينظر حساب تويتر الآتي، وصورة جلد المخطوط منه: